من الناقد الحق؟؟؟
أحسن الكلام ماكان فحلا ومعناه بكرا...
والبلاغة مارضيته الخاصّة.... وفهمته العامة....
النقد من إرهاصاته الأولى ... عند الشرق والغرب في صيرورةٍ دائمة... يهبط حيناً ويعلو حيناً آخر... ومحاولة مني لطرح أفكار جديدة لنقد عادل حديث...
يقول كانط: (إنَّ مذاق الخمر لا يعود الى الميّزات الطبيعية فيها بل للتركيب الخاصّ في الحسّ لدى المتذوّق...)
إنّ الناقد الحق هو مبدع جديد في عالم الجمال والفن تأكيداً للتنزيل الحكيم
( بديع السموات والأرض) فأبدع الكون بالجمال ... فثقافتنا عانت غربةً عاتيةً من اغتراب النفس والروح... فالكتابات التي تناولت شعر نازك الملائكة... وفدوى طوقان على أيدي بعض النقاد انطلاقاً من نظريات فرويد ويونغ وغيرهما اعتبروها نظريات مسلّمات أو حقائق ثابته وما نشره (فرويد) عن ليونارد دافنشي ويونغ وغوتيه عن سيكولوجية العقل الباطن... فإننا نحكم على المحلّلين النفسانيين بأنهم قضاة فاشلون... وتستذكر أثر النقد في توجيه بعض المؤلفين والشعراء إلى السّبيل القويم هؤلاء النقاد كحجر السّن تشحذ الحديد ولا تقطع أيا حجر السّنّ أما تستحي تسنّ الحديد ولا تقطع.
يقول أناتول فرانس:( إنَّ الناقد يستطيع أن يحكم وهو يطوف روائع الفنّ).
والناقد الجيد هو الذي يروي مغامرات النفس وسط روائع المؤلفات....
يقول قدَامة بن جعفر 948م ( الشعر كلامٌ موزونٌ مقفّى ويدلّ على معنى وليس كلّ من عقد وزناً بقافية كان شاعراً...) وأنا أرى بمنظار آخر أن الناقد المبدع هو من يفكّ رموز الأدب وإدراك مواطن الجمال أو الرديء فيه... يسلك درب الفنان المتبصّر الذي يرى بعينيه مالم يره الآخرون... وهو يصدر أحكامه متجرداً من التعصب الإثني والطائفي والمذهبي... وأهوائه الذاتية... يسلك طريق العالم الذي لايهتم إلا بإدراك الحقيقة...
فالناقد الحقيقي يحب أن يتجنب الهجاء والتجريح والمديح بعيداً عن غروره الذاتي... وتطبيق علم الجمال على الأدب بدروب المعرفة... فالنقد الصائب هو فن خالص خال من الهوى والتطرف ...
الناقد في العصر الجاهلي كان يقيّم النص على ذوقه الخاصَ لأنه كان لا يملك ذهنا علميا... كما تميز ذهن الخليل الفراهيدي وسيبويه... وكلاهما ينحدران من سليل العرق الآري المتميزان بالتنقيب والعلمية... والعمق العامودي أكثر من الشمولية والسطحية الأفقية المتصف بها العرق السامي...ولست منحازا بقولي إلى عرق أو مذهب أو طائفة ...
نقد الخليل... وسيبويه صادر عن رجلين عرفا مصطلحات العلوم... لكن الجاهلي على فطرته كان ذوّاقه ... يعرف بحدسه الجيد وإن كان ضعيفا في شرح الرَّداءة والجودة... ولا يعرف كيف يفصل بين حيثيات كل منهما ممّا جعل نقده قائماً على الإنفعال... والوجدان العاطفي والتأثر بالبيئة المكانية والاجتماعية السائدة...... فنقّاد العرب كانوا يفضّلون شاعراً على غيره كما حصل مع النابغة الذبياني وعنتره بن شداد ... فكان نقداً يميل الى العصبية الفطرية أو البيئة المحلية.... وقد تجاوز النقد في العصر الأموي إلى التفرقة بين إحساس وآخر ولكن.. بقيت العصبية المنحازة سيّدة الموقف... وفي العصر العباسي فقد اشتدَّ الخلاف بين أصحاب اللفظ من النقَّاد وأهل المعنى....
ففريقٌ يحصر البلاغة في اللفظ أمثال: الجاحظ و أبو هلال العسكري، وابن رشيق.... ورهطٌ يرها محصورةً في المعنى.... ومن زعماء المعنى عبد القاهر الجرجاني وابن الأثير... وفي هذا السبيل يقول ابن رشيق في القرن الخامس الهجري: المعنى روح واللفظ جسمٌ له... وانتقل هذا الصراع الى المدرستين الكلاسيكية والرّومانتيكية في أوربا إبّان القرن السّابع العاشر والثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر حيث كانت الكلاسيكية تهتم بالشكل الخارجي.... والرومانتيكية تفضل المحتوى أو المضمون على الشكل.... ويتحكمّون إلى جانب ذلك في طبيعة المضمون نفسه... والفرق بين النقدين العربي والأوربي فنقًّاد العرب يعتبرون النقد الأدبي أو الجمالي جزءاً من علم البيان ويعدّ الجاحظ واضع نظرية الموافقة لمقتضى الحال فقال: إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني....)
هذه النظرية أطلق عليها قدّامة مصطلحاً خاصاً هو الإئتلاف ائتلاف المعنى مع اللفظ... وأتلافهما مع الوزن والقافية...
فيقول الجرجاني: اللفظة المفردة ليست بنفسها جميلة ولا قبيحة...وانما تكتسب حسنها من وجودها في الموضع الملائم... ومناسبتها للمعنى المقصود)
ولا شكّ أن الجرجاني يعدّ من أهم نقّاد العرب ومنظريه في العصر العباسي... إن لم يكن أهمهم على الأطلاق .... فهو ينفرد ببحثه مفصّلاً في أسرار البلاغة... حيث يسمّي الغموض المترف لطاقة ودقّةً في التعبير يجعله إلى جانب الموضوع... وقد ترك لنا الجرجاني في مطتولاته النقدية نظريتين... نظرية الايماء أو المعنى البعيد.... الإستعارة... وأهمية الجدة والطّرافة في التصوير لأن النفيس يبتذل بكثرة الإستعمال...
ونظريتهُ ردّدها د.لويس فقال:( إنّ الشاعر يحرص على اختيار الصفات او الاستعارات الجديدة لأن القديم لفرط تداولها أصبحت عاجزة عن الإثارة والمتعة واكتسبت صفة المعاني المجرّدة...) أمّا الاوربيون منهم جيرار جينيت فقد توسّعوا في تعريف النقد والنقّاد .... فالنَاقد في نظره نوعان: الأول يهتم بتحليل الأعمال الأدبية إلى أقصى حدّ ممكن... والثاني هو طاقة ابداعية خلاّقه أمثال: سانت بوف ورولان بارت، وجان بيار... أما النقد فأنوعه كثيرة... نقد الدعاية الأدبية وهو نقد هجاء وتجريح.... ونقد رومانسي... ونقد رمزي... ونقد طبيعي... ونقد مخفي... ونقد نزيه..... ومهما تعددت أنواع النقد إنطلاقا من المذاهب الادبية فإنني أرى النقد أوالناقد على اربعة أنواع....
ناقد يشرح بدور والوسيط أو الشارح بين المنتجات الأدبية والقارئ المتلقي... والناقد الأكاديمي ينطلق من نقاط ثابتة، ومسلّمات معروفة للوصول إلى النتائج الثابتة ... والناقد الإبداعي الذي يصبح عمله النقدي عملاً ابداعياً قائماً بذاته.... والناقد المختزن يملك خلفية ثقافية غنية جداً هو قارئ شمولي، ومطّلع على مختلف العلوم الإنسانية من ميثولوجيا... وفلسفة....وأدب.... وتاريخ..... وعلم اجتماع واتقان لغات عديدة.... ودراسات في روائع آداب الشّعوب....
وفي عرف ر.ب- بلاكمور: النقد شيءٌ قائم بحد ذاته... وهذا ما يؤكده ت- س. اليوت: بأن النقد فنٌّ غايةٌ في نفسه... ويقول فاليري: الإلهام شيءٌ... والإبداع شيءٌ آخر .... أمّا باشلار دعا الى منهج مزدوج التعليق ايديولوجي وحلمي...وهذا يعني أن يحكم النّاقد من وجهة النظر اللا شعور ... أو اللاّوعي....
أما النّاقد رولان بارت في كتابه: مقدّمة للنقد.... دعا الى بنية وجود... وأن يعيد الإنسان ترابطه بواقعه...ويؤكد ماثيو ارلوند: في الشعر الفكرة كل شيء وتتبعها العاطفة اللاحقة... ويرى ارنولد في حديثه المسترسل.... مستطرداً قائلاً: الناقد يجب أن يجيد عدة لغات من هوميروس الإغريقي.... فرجيل اللاتيني....ودانتي الايطالي ....وغوتيه الالماني....وصولا الى جوسر وشكسبير.... وميلتون... و....و....... ويركز كلود أدموند ماني النّاقد أن لا ينظر إلى الأثر الأدبي مجرد تسلية عابرة إنما ينظر إليها إنطباعاً وعلامةً... وشهادةٌ عن حياته الروحية
التي تركها الكاتب...) فإني أرى بعد عرض أقوال النقًّاد أن يبتعد النقد الأدبي عن الإختلاف حول تقدير المعايير النقدية ليأخذ صورة التحليل العلمي للأدب في حدود النظرية العلمية الموضوعية.... مستخلصاً حكم وتقويم صريحين بعيدين عن المجاملة واللّطافة... وهذا مايقربنا إلى المنهج العقلي الصحيح الواقعي ... أما النقد الماركسي فقد كان مبنيا على الفردية والإنحياز الى المبالغة والتعصب... وتفسير الأثر الأدبي بوساطة السيكيولوجية الفردية... فلا يخلو من التحيز ... والعامل النفسي الذي هو مرتبط بالعامل الاجتماعي والسّلطوي|
فقد كرَس النقاد الماركسيون الأدب بالمجتمع البروليتاري.... وهذا عصيٌّ عن التطبيق الايديولوجي... فلم ينجحوا في متابعة مناهج السوسيولوجيا المعاصرة في تقصي البحث والمعرفة بأساليبها المختلفة... أمّا النقّاد الانطباعيون اعتمدوا على الحواس في النقد وبرهنوا على ذلك بأن عنصر اللذة الحتمي مسكون في نفس كل إنسان...
إن نظرية النقد يجب أن تنطلق من تحليل النصوص وتذوقها والكشف عن مكنوناتها وفنيتها والتميز الذوقي غير المنحاز..... والتمايز بين الأجناس الأدبية وأصالة الأعمال التي نتناولها... فالنقد الأوربي منذ القرن التاسع عشر بدأعمله فعلاً... وواقعاً... لأنه قبل ذلك كان هناك نقّاد ولم يكن هناك نقد...
القيمة الجماليّة هي فعل الوجود القائم على كيان الإنسان وكينونته وبذلك يكون الناقد حكيما... فالناقد هو أديب... وكل أديب ناجح هو ناقد جيد كما يقول تول فرانسن... فالناقد قد يضفي على دراسته جمالا أخاذاً بديعاً.... فإليوت يرى أن غاية النقد هي تكوين موروث أو اتباعية إنشاء صلة مستثمرة بين أدب الماضي وذوقه.... وأدب الحاضر وذوقه... فنحن قد نجد في أسلوب ابن المقفع شبهاً بأسلوب عبد الحميد بن يحيى... ونلمح صلةً بين نثر أمين نخله في ( المفكرة الريفية) ونثر الجاحظ في رسائله وكما بين أسلوب جبران وأساليب الكتب المقدسة.... إلاّ أنّ الحقيقة لا تقبل الردّ من هؤلاء الأدباء ... وأنّ هؤلاء الأدباء أضافوا شيئاً من ذاتيتهم... وعُرِف كلّ واحد منهم بأسلوبه الخاصّ المتميز.... وهذا النوع من التشابه يدعى تأثراً أو استلهاماً أو قاسماً مشتركا بين الأدمغة العبقرية المبدعة...
يقول أرمسترونغ : لا يتفق شاعران في عنقودٍ واحدٍ من الصور ولكن هذا ليس تقليدا...) إنّه من المؤسف حقاً أن يلتجئ بعض نقّادنا إلى الغربال... يغربلون الفضلات والقشور... ويهملون اللب والجوهر... فنقدنا اليوم يعيش أزمة الإبداع بشكل عام يتأرجح بين النقد المهرطق، والنقد الفانتازي... ويعرج قليلا على الموضوعية الأكاديمية لكنه لم يقترب من النقد الابداعي.... والأسباب عديدة... الوعي الاجتماعي والهوية الوطنية والإنسانية... والهوية الفكرية... والقضايا المذهبية... والإثنية والطائفية..... وهزالة المجتمعات المدنية.... والبؤر السياسية.... والتقليد الأعمى... والضّياع الفارق بين البداوة والحضارة....
إنًّ الأدب والنقد متلازمان كالنزوح من الجسد.... وحينما ندرك موقع أدبنا حيئذٍ نعرف مستوى نقدنا.. وأين ابداعنا؟؟
ذلك هو مفتاح النّاقد الحقّ...!!!
امرأة متمردة...!!! قصة قصيرة
( زليخة السوداوي ) إمرأةٌ وُلدت من أبٍ بائسٍ فقير عُرفَ عنه بأنه كان صاحب كلمة حق في المجالس والمناسبات الشّعبية... غير آبه بالمخاطر ...و الزخارف المغريه.. وتقول الروايات عن يوم مولدها بأنها خرجت من رحم أمها إلى رحاب الحياة عصر يوم ثلجي عاصف ... ومات أبوها وهي في الثالثة من عمرها... ورحلت أمها إلى دار الآخرة وهي في السابعة من طفولتها... ودّعت أبويها وهي طفلة بريئة مقهورة... فتولى عمها رعايتها...فعانت شقاء قلّ نظيره من زوجة عمّها وأولادها... فتصرفوا معها بعنجهية ماكرة... واستبداد مخيف غريب.... كانوا يلقبّونها بالعبدة أو الخادمة...فهي تخدم أفراد الأسرة من أصغرها سناً إلى أكبرها عمراً...ولمّا يسدل الليل ستاره تأوي ألى فراشها القميء الشّوكي... وهي تبكي بصمت، وتذرف الدّموع سّراً خوفاً من أعين الرّقباء... وتدعو الله بالرحمة على أبويها... وتقول في أسرار أعماقها يا أبتاه!!! يا أمّاه!!! لماذا رحلتما؟؟؟ وتركتماني وحيدة في هذه الغابة الموحشة... وتحت تسلط أيدٍ لا تعرف الرحمة والشّفقة.. والحنان... وفي الصّباح الطّالع ترفس الأسرة بأقدامها على فراشها الهزيل... قومي إلى الخدمة يا خادمة... لولانا لكنت تحت أطباق الثّرى في قاع قبر سحيق.... فتنسحب من فراشها كما تخرج الحشرة من جحرها... مبدية الطّاعة العمياء لكل عمل تكلّف به من غير شكوى...!!! وكان أكلها من فتات طعام الأسرة كغداء الدّواب سواء بسواء... ولمّا بلغت سنّ الزّواج زوّجها عمّها براع من رعيان القرية التي تقع في صدر جبل أشمّ... تزوّجت مكرهةً...!!! فعاشت في عشّ الزوجية خمس سنوات فأنجبت منه ولدين... وفي ليلة من ليالي الخريف الحزينة أطلق الرّاعي تأوّهاً واستغاثةً... وألماً غير طبيعي في صدره... وكأنّ صدره ساحة كرّ وفرّ بسهام الطعن والطّعان، والسّيوف السمهريّة... وهو يئن أنين المحتضر... يطلب النجدة... مرتبكاً... متحيزاً بين الحياة والمودة ويهذي هذياناً بكلمات غامضة... فهرولت نحوه زليخة فرأته شاحب الوجه... والعرق يتصبّب منه... وعيونه تدور في فضاءات باحثة عن قبر يأويه... وفجأة ودّع الحياة بوجه حزين... فمات موتا سريعا لم يكن في الحسبان وفي صباح اليوم التالي دفنه أهل القرية إلى مثواه الأخير...
قال عنه شيخ القرية بأن الموت المباغت غير محمود يبتلى به تارك الصلاة والعبادات... وقال عنه مختار القرية بأنه أبله أحمق...!!! ولم يبكِ عليه غير شريكته... وحماره وأغنامه... وحتى قراءة الفاتحة كانت حملا ثقيلا لأهل القرية... ومن هنا أسدل السّتار عن الماضي... وشرعت زليخة السوداوي مسيرة جديدة من حياتها ... شمّرت عن ساعديها... ولبست لباس الرجال... وبدأت رعي الأغنام... وتسلّحت بمسدس حربي من النوع (برابيلا) آلماني الصنع دفاعا عن النفس ... والأغنام من الوحوش الضواري... والذئاب البشرية... مكوّرة رأسها بلفاحة حمراء كتيجان الثّوار...
مسرحةً أغنامها في المراعي الخصبة... والمروج الخضراء... وتنشد بمزمارها العتيق الفولكلوري أغاني حزينة.... ومواويل الفصول باكية حزينة لعمرها الشّقي... وأيامها الغاشيات بنقاب ليل أسود مهيب... تطرب الأغنام لأنغامها الشّجية...
فاقتحمت بجسارتها ومعنوياتها العالية جدار اليأس... فاتحة عهداً جديداً من العزّ والكرامة... بعدما ارتوت من علقم السّموم حتى الثّمالة... واطلعت على أسرار الحياة مدركة أن الحياة للقويّ ولذوي البأس الشديد... فلا الآهات تفتح مغاليق الحياة على مصاريعها بل توصد كل النوافذ وكلّ الأبواب... وهكذا انطلقت إلى مسرح الحياة بكلّ قواها العقلية والعضلية والنفسية...
وفي مساء له نكهة الزيزفون... طرق بابها أصحاب الخير ليدفعوا صدقاتهم...!!! فأبت وقالت: هنالك في القرية مرضى وجياع... وعجائز هم أفقر منّي...!!! أشكركم على نياتكم الصالحة... قدّموا ما عندكم إلى هؤلاء المساكين...!!! وأنا في صحة جيدة... قادرة على الكسب...ولي بعض الأغنام فلست بحاجة إلى مثل هذه المعونات... ولّما أقبل شهر رمضان لم تلتزم زليخة السّوادي بالصيام والعبادات وصلاة التراويح...فانتشر النبأ بسرعة مذهلة كالنارالذي يحرق الهشيم اليابس المحتظر في مواسم القنط... فتوجّه وفد من القرية إلى شيخ المسجد وشكوا حالها وتسيّبها إليه... إنها امرأةٌ غير صالحة...إذهب إليها وانصحها عسى أن تعود إلى رشدها فمضى الشيخ إلى بيتها بعزم وإصرار بعد الإفطار... وأخذ الشيخ يوعظها بالموعيظ الكلاسيكية التقليدية المحفوظة مسبقا...!!! فردّت زليخة قائلة: أنا أسألك سؤالاً فأجبني ...
هل يولد المولد من بطن أمّه ملوّثا بالآثام والذّنوب أم يولد بريئاً نقياً طاهراً ؟؟
فقال الشيخ يولد بريئا... فقالت يا شيخ أنا ولدت من رحم أمّي فلم يجدوا ثوبا يلفوني به هكذا قالت لي أمي...!!! أمّا ابنة جارتنا ساعة خروجها إلى بهارج الدنيا ونضارتها ألبسوها بأقماط من حرير... أمّا أنا ستروني بخرقة بالية... ما ذنبي وماذا فعلت حتى أعاقب بهذا العقاب... وتُكافأ ابنة جارتنا بالأوسمة، والهدايا الثمينة... وحفلات الرّقص، والتبريكات...!!! ياشيخ إمضِ في طريقك اليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى ... تقبل الصدقات صاغراً ذليلاً،وأنت تملك الصحة الكافية،والرقبة الغليظة، والعضلات المشدودة... والدعوة إلى الله ليست بجمع المال ... والتذلل للأغنياء من ذوي الكنوز... يا شيخ: ولد محمد فقيرا... ومات فقيرا... انصرف يا شيخ أنتم اتخذتم دينكم على هواكم.... وتلعبون بعقول السّفهاء من العوام والسوقة... والمراؤون... والفاسقون... يسخّرونكم لأهوائهم الظّالّه... ومكاسبهم البخسة... لستَ داعياً لله...!!!
أنت تخدم أغراضك البيولوجية البهيمية...!!!
تجعل القيم... ومبادئ الدّين القويم ذريعة للتمتع بالنفس الأمّارة بالسّوء... مسجدكم يا شيخ أكثرهم منافقون وأفّاكون اتخذتموه كالفخاخ لصيد الحمقى... انصرف يا شيخ أنتم بادّعائكم تبيعون صكوك الغفران للجهلة والسّفلة...
لكم دينكم ولي ديني... غمغم الشّيخ... عاد خائبا خاسرا في مواعظه المتهافتة...!!! وهو يهذي بحديث هامس خفيّ... إنّ شقاء الحياة صنع من هذه المرأة فيلسوفة تنطق بحكمة بليغة...!!! وعلمتني موعظة... لا تنسى على مرّ الأيّام وكرّ السّنين...!!!
المعرفة لا تتجزّأ
نحن صورةٌ مصغرةٌ للعالم والحياة من خلال علم الكونيات والفيزياء…. وعلم الأحياء.. وعلم المعرفة واحدة... .الكاملة التي تكمل نفسها بنفسها في الثقافة البشرية الشمولية… منطلقين من عالم الذهن والوعي.. ومن الأسطورة .. والعقل .. والتقنية المبدعة..
يقول إدغار موران( في جميع الشؤون البشرية لا ينبغي للإختلاف أن يخفي الوحدة ولا للوحدة أن تنفيه…) فالوحدة تحفظ وتصون التنوّع.. والتنوع وحدة داخلية تنجزها الوحدة وكما ينتج التنوع والاختلاف الوحدة... فالمعارف وحدةٌ متكاملة... وهذا ماثل في فلسفة الفيزياء (الكوانتوم) حديثاً... وما قاله ناو منيدس( إنه الواحد ليأتينّك دون أن تتلمس إليه السبيل أو حتّى دون أن تتفوّه فياله من حظّ سعيد لكم أيها البشرالفانون أن تتشاركوا في هذه الواحدية... وأن تستطيع عقولكم إحكام القبضة عليها...) تنبثق وحدة المعرفة من العقل من خلال التأمل والتجرية وفد تأتي عرضاً فجائياً...
( ديكارت) رأى موسوعة العلوم البشرية ... وقد خُيّل إليه أنَّ في الشّعرالحكمة والمعرفة أكثر ما كتبه الفلاسفة... وفي ثورة العاطفة ، واهتياج المخيلة ما يحمس الشاعر الى اقتناص المعاني بأسرع من الفيلسوف... ففي عوالم المعرفة اكتشفتها العاطفة والالهام المباغت.....
والعلم وحده لا ينفصم عراه...فحياة الانسان محكومة بمشاعر وأحاسيس وأخلية لاتفارقها مادام حياً... والحكمة أعلى البيان ليست لها حدود جغرافية ولاتمنعها الرّاسيات من الوصول إليها... وقِيَّمة الحكمة عصيّ على العقل البشري البلوغ إليها... إنّها هدف كل عبقري للبلوغ إليها ولكن أنّي الوصول؟؟؟!!... الحكمة خزائن المعرفة لا تعرف النضب والنفاذ... تزاحم الحكيم أسئلة متعلقة بالحياة والموت... والوجود... والعشق... والمحبة....والتناغم والتوتر.... والدهشة..... وهذه الاسئلة مقيمة إقامة دائمة لا تفارق أذهان الحكيم....
يقول تيسير شيخ الارض ( الحكمة هي السعي وراء تحصيل المعرفة لاسكات صوت الدّهشة فينا... والوصول إليها شاقٌّ عسير...)
والسؤال المحفز لاكتشاف أشكال من تجليات الفلسفة والأدب والعلاقة بينهما... وهل هما منشاطان يؤثران على حيوية الفكر البشري..، وانخراطهما في اسئلة الحياة...
يقول ليفانس في هذا المحور: من قال لا صلة بين صوت القلب الدّافئ الحنون، وصوت العقل البارد المتعالي)
الشعر هو مبدأ الفلسفة.. وغايتها تخرج منه كما خرجت منيرفا الحكيمة من رأس سيد الأرباب جوبيتر أو زيوس... أما الفلسفة... فمنبعٌ عقلانيّ يريد أن يقدّم رؤية علمّية للعالم أكثر صحُّة وتوضيحاً بين النشاطات الإنسانية من العلوم كلّها متشابكات ومنعطفات والأسئلة المتعلقة بالوجود... وماهية الحياة... وغيرها من ضروب الحياة في التأمل والبحث عن الهيولى الكونيه.. وماوراء الميتافيزيقيه والتجربة الأدبية لها دلالاتها العميقة...
يقول د. عبد الله عبدالدائم:( إنها الاندماج مع نغم الحياة يجعلنا نسير في مواكبها وننقل رؤاها...) ويقابلها صعود الفيلسوف إلى التفاعل مع النص يرتقيان إلى فضاءات الإدراك العقلي ويبلغ ذروة البحث الفلسفي عن فهم العالم بمعطياتها كلها واعتبر أفلاطون هذا النوع من الفلسفة تضاداً... والشّعر بشتّى صنوفه... فكلاهما الفيلسوف والشّاعر يفهمان الواقع على لغتهما وسلوكهما ونهجهما وطريقتهما الخاصة والدهشة والشوق إلى المعرفة هدفان للفيلسوف والشاعر إنها ليست علاقة تابع بمتبوع... وقد قال غوته في هذا المجال:( الشاعر بحاجة إلى الفسفة كلّها... ويلجأ الفيلسوف إلى المحاجّة العقلية... بينما يفعل الأدب لغةً ذات بعدٍ جمالي...وهالة من البهاء... والرونق والأناقة.
الشّاعر الصّغير يعبّر عن ذاته وأسرته وبيئته والكبير يعبر عن عصره كلّه... وجوهره الحضاري ومستوى النبوغ المدني المعرفي في الفلسفة والأدب فالنص الفلسفي لا يستغني عن الاقتراب من الأدب التأملي في الحياة، والنظرة إلى الوجود يتجاوز الخلفيات الاجتماعية والتاريخية فيظهر عظة أخلاقية... ويبدو ابناً للحكمة.. وفي الوقت نفسه الذي يكسبه الصفة الأدبية... والنصوص الأدبية من ثمار الفكر الإنساني الواسع... وما بخلاء الجاحظ من الحكايات والأقوال والأفعال إلا ثمرة نتاج عقلي جامع... وخلاصة تجارب عصره... فالنص الذي ينهض بنفسه إلى قمة الإبداع هو حصيلة المعرفة المستفيضة... والفكر الفيّاض... والفلسفة الشّاملة... والعلوم الإجتماعية والنفسية جمعاء ... ولا تتعارض مع لجوء النص الفلسفي المتميز بالمحاجّة العقلية... وكما في الفن والعمارة الجمالية الهندسية... والموسيقى تعبيرٌ ثقافي عالميٌ وسلوكٌ ايديولوجي... فكلُ العلوم المعرفية تنخرط بشكل أو بآخر في عمق المعرفة الإنسانية والإكتشافات العلمية الباهرة...
تتمحور حياة الإنسان الحيوية الناشطة إلى تقديم الخيرات للكائن البشري مجالات متعددة... من علوم الطّب ... والفلسفة والأدب وعلم الجمال والفنّ... والإبداع المادّي والروحي تتلاقى جميعها بقانون التنوع داخل الوحدة الكاملة ...
يقول الفيلسوف هيدغر: يجب ألّا تمارس الفلسفة إلا بشكل قصائد...)
فالفلسفة والأدب والعلوم بأكملها تكمل بعضها بعضاً بلغةٍ سحريّة فائقة... وتناغم منسجم وملائم في دائرة مستديرة من معطيات علمية ومعرفية...
ليس الفليسوف أو الكاتب أو الناقد أو الأديب أو المخترع هو ملكٌ هبط من السّماء... إنما هو خرج من أصلاب الشّعب... وهو ابن شعبه... وأمته وبيئته....
فالملاحم الشّامخة والأساطير الهندية العظيمة... والخرافات الاسكندونافية ... والإلياذة... وأغنية رولان لم تكن أبداً من ابداع إنسان بمفرده... والشعوب هي التي تنجب ملاحم العظماء...
إنَّ حاجة الكاتب... أو المبدع إلى الخوض في أغوار المعرفة والتأمل و التفكير ... والفلسفة... إلّا غاب النصُّ في فراغٍ من القيم الجمالية التي تخسر قيمتها إن عاجلا أو آجلا...!!!
ومن شأن ذلك يتيح الفرص للمتلقي أو المتعلم إلى التمكن من انتاج إبداعات جديدة...
إنُّ منظمة اليونسكو التي شجعت... والّحت منذ سنوات خلت على ذلك طرحت تعليم الفلسفة في مستويات التعليم الأدني والأعلى ليكون المتلقي قادرا على التفاعل مع الحراك التعليمي الثقافي ليتقدم في تخصصه في اي فرع من فروع المعرفة ... والتحول المستمر بين المعارف داخل الثقافات البديعة المتنوعة....
وعندئذ يستطيع المتعلم بناء أحكام حول القضايا الأخلاقية والإجتماعية والفكرية في حيز تفجّر المعارف في المجتمع المعاصر وتنمية الفكر النقدي لتوفير وتأسيس المناهج الدراسية التعليمية في تكوين وتصنيع المعايير الأخلاقية والوطنية... والإنسانية... وتكوين نظرة شاملة حول المعارف العلمية المتينة.... وبناء رؤى كاملة ومفتوحة للمشاكل التي تعترض طريق النهوض والأرتقاء... قد تتجاوز الفلسفة كل الحدود الإقليمية للثقافات الكلاسيكية والضيقية...
وتأخذ سلبها ونزوعها إلى الوحدة في الفكر الإنساني الشمولي... والأدب يرافق الفلسفة في اجتياحه نحو التغير والإعمار ... لأنُّ الأدب الكفاحي هو توأم الفلسفة في الولادة الفطريّة...
فكلاهما ينتجان أدباً رفيعاً ... وفكراً وقّاداً خدمةً للإنسانيّة طرّاً....!!!
المصادر:
v فرناند ألكتيبة معنى الفلسفة ترجمة حافظ الجمالي
v عبد الرحمن محمد القاعود... الإبهام في شعر الحداثة
v جان بال الفرنسية ترجمة مارون خوري
v إدغار موران إنسانية البشرية ترجمة هناء صبحي
v روجيه غارودي ... واقعية بلا ضفاف ترجمة: حليم طوسون.
السكون الداخلي هو العقل الباطني...!!!
إنّ بعض القول لا يحكي فيضمر في فلوات القهر... الصّمت الداخلي العميق هو الاستماع والإنصات إلى كائنات الوجود... وفي هذا العصر والزّمان الرّمادي المرمود... المليء بالثّارات والأحقاد... يلتجئ أعظم المفكرين والفلاسفة... والشّعراء إلى الأنصات ...وإلى ندائه الدّاخلي المكبوت لتهدأ روحُهُ آمناً مطمئناً...ذلك ما يسمّى المونولوج الدّاخلي أو الصّمت المكتوم في النّقد الأدبي والفنّي والإجتماعي والسّياسي... وهذا ما يشير إليه العسكري في كتابه ( الصّناعتين) بأن البلاغة هي إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ... فالبلاغة إبلاغ ناطق... والصّمت قد يصبح في النصّ علامة يوازي النطق بها فيصمت الكاتب أو الشّاعر ليلفت الإنتباه إلى حضور مدلولها وهذا ما يذكّرنا بابن المقفّع الذي يقول قد تكون في السكوت والإشارة للمعنى ... وهذا المعنى ورد في الشعر القديم: واعلم بأنّ من السكوت إبانة ومن التكلّم ما يكون خيالا وهذا يعني أنّ دلالات الصّمت مرتبطة بالسّياقات سواء كانت نصّية أو ايديولوجية أو اجتماعية أو سياسيّة... فالصّمت الدّاخلي أو الإستماع أو الإصغاء للكون... ويشتدّ حضور الكائنات في وجدان الإنسان... وذلك حضور الذّات العميقة في العالم الكوني... ويقترب الإنسان تجربة الصّمت المقدّس بالإلهيات والرّوحانيات والجماليات... وفي الفنّ الهندسي الرائع عبر تجربة السكون والهدوء والخشوع النّقي تعبّر عن وحدة الذات الروّحية الكلّية المطلقة... وتتفجرّ من حيث الجمال الكوني ينابيع الموسيقى والشّعر حينئذٍ يصير الصّمتُ رسالة مكنونة لمشاعر لا يمكن التعبير عنها بالكلمات... وهذا المستوى من الوجود لا يبلغه الشخص بسهولة... ويحتاج إلى قدر كبير من الممارسة والتأمّل والترويض في فن الحياة وأشكالها... فكلّ حاسّة لها قدرة على الصّمت...وقراءة الوجود المخفي أو الخافي من خلال المتخيل... فهي تجربة تحرريّة تفكّ أسرنا وتفتح قيدنا فالصّمت هو حضور للوجود الإنساني... وتنقيب عن معناه... وتصحيح لمسار حياة الإنسان إلى عالم يسوده الصّدق والأمن والسّلام... وللصمت أنواع: صمت اللّيالي والصّحارى والغابات... وصمت البحار وسكونها... فالصّمت يجعل الإنسان أكثر خشوعا ورهبة أمام عظمة الخالق... واهتمّ علماء الانتريولوجيا بطقوس الصمت أو السّكون الدّاخلي في المجتمعات البشرية... والأمم المتنوعة... فألبسوها هالة من القداسة والرهبة... فالصّمت إذن هو وعاءٌ حافظ يحمي الحقيقة الباطنية بعد تأمّل ... واستشراق روحي هابط من معارج الوحي الإلهي... والإنصات لدى الصّياد هو ترقّب الطّرائد بحيث يمسك أنفاسه ويبقى بلا حراك... وينصت للأصوات التي تصدر عن الغابة من زمجرة النمر وخفقة زنابيل الفيل... وحفيف العشب تحت حوافر الظّباء ... ويركن المرء إلى الصّمت في الحياة اليومية حذرا وخوفا من المواقف التي تجرّ إلى الهاوية... وزلّة اللّسان أشدّ إيلاما وتهوّرا... من زلّات القدم...
احفظ لسانك أيّها الإنسان ليلسعنك إنّه ثعبان والمشاهد الصّامتة في الفنّ السينمائي أبلغ من أيّ تعبير وذلك في الصّورة الشعريّة والموسيقى... وفنّ الموسيقى في جوهره يسعى لاستلهام نغماته من بئر الصّمت والإنصات... والسكون الهادئ الداخلي الرّخيم... ويساعدنا الصمت الرّزين في الوصول إلى حالٍ... ومستوى من السّمو الرّوحي البديع...
فيتحّكم الإنسان في حواسّه وغرائزه... وشهواته الجسدية إلى أقصى درجة من درجات الإنصات أكثر حدّة وخاصّة الاستماع الصّوفي للموسيقى التي تصدر من الآلات الموسيقية أو من البحر أو من الغابة على التوافق النغمي مع الكون... ويصبح الصّدى لنغمات الرّوح...!!! والإنصات إلى الموسيقى... تتحوّل كل الأصوات إلى ذبذبات وموجات تجعل المنصت على صلة مباشرة بالعالم الكوني ويختفي الخوف والقلق من الموت... ويشعر الإنسان حين ذاك أنّ الزّمان بمفهومه المادّي لا وجود له مثلما أنّ الموسيقى هي استعارة أو مجاز للزمن... والزمن هو إشارة للخلود... وأنّ الإنسان استعاد كيانه ومكانه في الكون بوصفه جزءا من العالم... وتربطه به علاقة وجد ومحبّه... نقيّة... طاهرة... والفنّان المعماري من خلال الصّمت بوصفه هو الحياة من خلال الفراغ الذي يستخدمه... ولذلك يقال عن فنّ المعماري ايجاد الكتلة من خلال فراغات تتيح حريّة أكبر للإنسان في علاقته الحيويّة بالمكان الذي يحيا فيه...والصمت قد يكون تعبيراً ايجابياً يعّبر عن الغوص في أعماق أسرار الهيولى الواسعة واللحظة التي توحي للإنسان على الإرغام والرّكون إلى الصّمت عندما يتساوى الموت... وفقدان الحياة مع الكلام العلني النّاطق ... وحينئذ يصبح له دلالة سياسية يغامر المرء بحياته... ويتبوأ الصّمت مكانة مهمّة في التجربة الصوفيّة والصمت لديهم رياضة روحية الخلوة مع الخالق خالق الأكوان تتجاوز الجوع والزهد والعزلة... والذكر... وأجمعها رياضيات روحية يراد بها إعداد الباطن وتحضيره لتلقي أنوار المعرفة وذاك عند ابن سبعين المتوفّى 669 هجري وابن عربي 638 هجري و ابن حنبل في كتابه الزّهد (والمحاسبي) يجعل من الصّمت البداية للزهد في كتابه ( المسائل في الزّهد)... والحّلاج يجعل من الصّمت مدخلا للحكمة فيقول:
سكونٌ ثمّ صمتٌ ثمُّ خرسٌ وعلمٌ ثمّ وجدٌ ثمُّ رمس
ويقول السنجاري: والصّمت في النطق نطق والنطق في الصمت صمتٌ
ويقول ابن الفارض: وأذني إن أهدى لساني ذكرها لقلبي ولم يستبعد الصمت صُمٌّتِ
ويقول الشافعي: وجدتُ سكوني متجراً فلزمته إذا لم أجد ربحاً فلستُ بخاسر
وما الصّمت إلّا في الرجال متاجرٌ وتاجره يعلو على كلّ تاجر
ويطلق المعري فلسفته في الصمت فيقول:
أُوجز الدهر في المقال إلى أن جعل الصمت غاية الإيجاز
ويقول الجاحظ في كتابه الرسائل ( واعلم أنُّ الصّمت في موضعه ربّما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه فَليزدك في الصمت رغبة ما نرى من كثرة فضايح المتكلمين في غير الغرص... وهذرٌ من أطلق لسانه بغير حاجة...) ويرتبط الصمت بالهدوء والاطمئنان والسّكينة في قوله تعالى العليم القدير ( لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلّا قيلاً سلاماً سلاماً..)... وفي قوله تعالى العليم مافي الصّدور لمريم البتول( فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إِنْسِيًّا ) وقوله تعالى في سيدنا زكريّا أتاه البشرى بيحيى ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك ألّا تكلّم الناس ثلاثة أيام إلّا رمزا) الرمز في اللغة الإيماء بالشّفتين أو الحاجبين والعينين واليدين وأصله الحركة...
وفرّق الرسول الكريم بين الكلام والصّمت حيث قال:( رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم) فجعل الرّسول (ص) حظّ القول الجمع بين الغنيمة والرّبح والسّلامة... وقد يسلم من لا يغنم... فالصمت هو حيناً تدبّرٌ في أسرار الكون وحيناً نجاةٌ من المهالك... وانقاذٌ من الاستخفاف والإستهانة من قدر صاحبه...!!!
إبليس بحكم المستقيل!!!
أرصفة المدن السورية... ملتهبة بنار الحريق، وهجير السعير... تتلظّى بشظايا الموت الرهيب... تنعي الأرصفة السوداء بألسنة حدادِ هول الفاجعة، وجهنّم الكارثة... الموت يحمل في ذراعيه مناجل الحصاد يحصد بها رؤوس الأهلين والأحبّة والأبرياء، شوارع المدن يعقد فيها الموت أعراس الفناء بدويِّ القنابل وقصف الراجمات، وتُحيلها رماداً ملطّخاً بأشلاء الموتى، تنطق بمقابر جماعية... وجثث متفسّخة ترتّل صحائف المآسي الدامية إنها أسطورة الملحمة الباكية... يرقص الموت في شوارعها وزواياها رقصة الوحش الكاسر حينما يصطاد قطعان الخراف... إنها مأساة شعبٍ طيّب نشيط متسامح ووطن شامخ عزيز مقتدر... إنها سوريا الحبيبة...
ويا درّةً بين المزابل أُلقيت ويا جوهرةً بيعت بأبخس قيمة
خُضنا من القرن الماضي ثلاثة فصول من الملاحم الدراماتيكية وباءت أغلبها بمسرحيات هزلية هابطة مضحكة حيناً ومُبكية حيناً آخر...
وفي الهيجاء ما جرّبتُ نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
إنه قدر أحمق الخطا، إنه سوريا تكابد مرارة الخذلان ووصمة عار...
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد
إنها قتال داحس والغبراء التي دامت أربعين عاماً...
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث بالحديث المرجّم
لقد حوّلت الحروب العربية والنزاعات الأهلية المواطنَ إلى فأرٍ مذعور هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر، والرعب من القصف الديماغوجي والقتل على الهوية واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفد كل شيء، وهو يتحوّل بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحرّكه غريزة البقاء فقط.
إن المواطن السوري يكفي لمائة مليون إذا طبّقنا ميزان العدل والإنصاف... ألم يقل الشاعر القروي –رحمه الله- ذات يوم في حبّة قمح بأنها مشطورة إلى نصفين: نصف لك ونصف لأخيك:
من حبّة الندى اتّخذ مثل الندى يا من صرفتَ عن الندى يمناكا
كأنما الشق الذي في وسطـها لك قائل نصفي يخصّ أخاكــا
وحالتنا المأساوية تعبّر عن الانفصام بين السلطة والجماهير، ولو أن الإنسان الوطني خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حدّ معقول أن يشارك في صنع القرارات السياسية التي أثّرت في مصير حياته لتغيّر كثيرٌ من معالم الصورة التي نعيشها... دماءً ودماراً، إن لدينا ذاكرة مثقلة بكل مرارات الماضي، وثارات التاريخ محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والإثنية والطائفية الدينية... وكلّما وقفنا على أبواب المستقبل ردّتنا هذه الذاكرة إلى الخلف... وإذا كنّا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة بشكل عاطفي فإن هذا الحلم كان مثالياً راديكالياً متطرّفاً. وكباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.
علينا أن نسأل أنفسنا... لماذا قتلنا عمرَ الفاروق الذي ملأ الأرض عدلاً وعثمانَ الذي ضحّى بماله ونفسه في سبيل بناء دولة العدل، والإمامَ علي الذي حمى الحمى وطبّق المبدأ على نفسه وأولاده، وعمر بن عبد العزيز الذي عاش في عصره المواطنون وقد تخلّصوا من الفقر نهائيا؟ ولماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت: الثنائية والثلاثية والرباعية؟... لماذا ترتفع شعارات الوطنية والحب والعدل في لحظة ونلتجئ إلى التباغض والأحقاد وحمل السلاح؟...علينا أن نتخلّى عن هذا الحلم المثالي، هذا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً... ونتجاوزه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون كرامتنا وثروتنا ووطنيّتنا... إنها مهمة المفكّرين والحكماء من شتّى المكوّنات السورية في نسيجها البديع... دعوها لهم دعوة إلى أهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس بشرط أن لا يصل إلى مرحلة العداء، وتحت الأشكال الظاهرة تقبع تناحرات القبيلة في أقطار شتّى...
إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين أتوا من بقاع الأرض ومن ملل مختلفة متنوّعة، لا تجمعهم اللغة والجنس والعرق والتاريخ المشترك، وهم رغم ذلك متّفقون موحًَّدون لا يختلفون، وإن اختلفوا فلا يتقاتلون...
في الهند شعوب كثيرة متباينة ولعات عديدة، أكثر من مائتَي لغة... وأديان لا تُعدّ ولا تُحصى، وفوق ذلك هم مخلصون للهند ومدافعون عنها دفاعاً مستميتاً...
وفي السويد وسويسرا والدانمارك والنمسا... هؤلاء جميعاً يجمعهم وطن واحد، وهدفهم بناء وطنهم وتعميره والعيش فيه بالمحبّة والعدل والإخاء...
لأننا بأمسّ الحاجة إلى ثقافة المحبّة والتسامح والإيثار وإزالة الضغائن والأحقاد... وكلّ هذا مدوّنٌ في صحفنا السماوية المقدّسة، ولكننا نردّدها بألسنتنا لنصب الفخاخ لأخوتنا ومَلء الجيوب وتجويع الآخرين... يساورني الخجل الجمّ الغفير حين أرى القصف العشوائي في مدننا وأريافنا بعنجهيّة ماكرة... وإنه ليؤرّقني هدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وقتل الأبرياء من الولدان والشيوخ والنساء من الشعب البائس المسكين...
حينما هوجمت سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي، وكان البطل الشهيد يوسف العظمة وزيراً للدفاع وهو من أصول كردية ومن البديع السوري الخلاّق، عقد العزم أن يتوجّه مع رفاقه إلى ساحة ميسلون لمواجهة العدو وجهاً لوجه، نصحه الحكماء من ذويه بالتخلّي عن المواجهة لأنه لا تكافؤ في القوة العسكرية من حيث العدّة والعتاد، وخاطب البطل جنوده قائلاً: لا يجوز أن نقاتل بين الأبنية والمساكن لأنها تتعرّض للقصف... وقتل الآمنين وهدم مساكنهم... علينا أن نقاتل في ساحات البطولة وإني ذاهب إلى حتفي، إلى الاستشهاد، لكي لا يكتب التاريخ أن فرنسا دخلت دمشق بدون مقاومة... وسنقاتل في ساحة ميسلون ونرويها بدمائنا، ولن أسمح لفرنسا أن تجعل دمشق منتزهاً لها... وتَقَدّم إلى ساحة ميسلون وبأسلحة بدائية... قاتل حتى استشهد...وأنشد الشعراء الوطنيّون عنه بأعذب الألحان وأدقّ الكلمات وبقوافٍ تقطر دماً ودمعاً تخليداً لبطولاته:
كم لنا من ميسلونٍ نفضت عن جناحيها غبار التعب
إن التراجيديا السورية لا تُحلّ في أروقة الأمم ولا في المحافل الكولونيالية...إن السوريين هم الجديرون بحلّها... فالأولى أن تجتمع النخبة الممتازة الوطنية النزيهة التي تحبّ سوريا وشعبها قولاً وعملاً وتضحيةً، أن ترفع شعار السلام لأن السلام أقوى من قعقعة السلاح ودويّ المدافع... ونسعى جاهدين بدون تلكّؤ لحقن شلاّل الدماء... أما كفانا قتلاً وتدميراً... زوراً وبهتاناً؟... على كل فرد في هذا الوطن الغالي أن يكون وطنياً قبل أن يكون سياسياً حزبياً أو مصلحاً أو كاتباً أو شاعراً، أن يتحلّى بالوطنية... وأن يُؤْثر وطنَه سوريا على نفسه وعلى أهله وبنيه... لأن سوريا هي الأشمل والأرحب...لأن سوريا هي الرحم، وسكّانها ولدوا من رحمها. سوريا هي السور الذي يحمي كرامة الأمة، وهي الحصن الحصين لأهلها... وأن نتمثّل بقول الإمام علي: "لو هاجمنا الروم لصافحتُ معاوية."
إننا في سوريا أسرة ضمائر الرفع المنفصلة (أنا، أنت، نحن) لنرفع وطننا إلى أعلى الأعالي حباً وسلاماً وتسامحاً ونبلاً.
قادني هذا البحث الديناميكي إلى مسائل شائكة في تاريخ أمتنا، ما الحاضر إلا مولود وُلِدَ من رحم الماضي والتاريخ هو محفوظات الأجداد، والأمة بلا تاريخ كالجثة الهامدة بلا روح... والتاريخ لا يغفر لأحدٍ لأنه يسلك مسلك القاضي العادل، ويستند إلى الوثائق والبراهين، والحجة البالغة...
والتاريخ للعظة والاعتبارية... نقرأ التاريخ لكي لا نقع في الأخطاء كما ارتكبنا من ذي قبل...!!!
أُقلّبُ صفحات تاريخنا كباحثٍ نزيهٍ مستقلّ أرى فيه أخطاءً جسيمةً في الفكر والتأويل والتطبيق، والذين ركنوا إلى التأويل الخاطئ، إما لقصورهم الفكري أو اتّبعوا مآربهم الذليلة البخسة... ففي التنزيل الحكيم: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}/آل عمران127،الأنفال10/.
تشير الآية أن النصر يعود إلى مشيئة الله وإرادته، وهناك من فسّر الآية حسب فكره المزاجي والوقوف بجانب فئة دون أخرى ووظّفها لمصالحه... ولكن النصر بدون أسباب القوة والتهيؤ لا يفعل شيئاً إلا أنّ الآية تطلق صفة المطلق بأنَّ الله على كلّ شيء قدير ، فعّال لما يريد وبيده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو... ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب...
فإنَّ للنصر أسباباً... فمن لم يأخذ بالأسباب سيكون حظُّه الفشل والخسران تأكيداً
لقول الله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ
وَعَدُوَّكُمْ...}/الأنفال60/.
إن المشرك أو الملحد إذا أخذ بأسباب القوة سينتصر على خصمه الذي أهمل استعداده للمعركة أو استهان بعدوّه واستخفَّ به أو تكاسل... والقوة الحربية تتألف من الجيش المنظّم المسلّح بالسلاح القويّ... والتدريب المستمر المتواصل... والخطة الذكية والاستراتيجية العسكرية والصبر والثبات والشجاعة والإيمان بالتضحية والفداء ابتغاءً لهدف أسمى وأعلى...
إن المسلمين الذين خسروا في غزوة أحد بقيادة الرسول الأعظم لأنهم خالفوا خطة قائدهم الأعلى... فكان النصر للمشركين، لأن المشركين قاتلوا قتالاً شديداً... ونفذوا خطتهم الحربية بجدارةٍ... وخسر المسلمون في أُحد ليعتبروا للدرس ومراجعة الذات...
إنَّ إهمال شرط من شروط المعركة سيؤدي إلى الهزيمة والاندحار... وإنّ الله سبحانه من خلال تنزيله الحكيم يريد أن يعلّمنا أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه وأن عقله صُدِرَ من علمه الأزلي... وبهذا العقل الذي وهبه الله إياه أن يعمّر الأرض والتمكين فيها... وحمل الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً... وحيال هذا الموضوع الذي أثيره تنهال عليَّ أسئلة صريحة تزحزح كيان الأمة كيف يمكن أن نفهم انتصار معاوية على الإمام علي... ؟؟؟ وانتصار يزيد على الحسين بن علي في كربلاء ... ورأس الحسين معلَّق في بلاط يزيد في الشام لثلاثة أيام بلياليها... واللعنة على عليّ على المنابر في المساجد... وقتل ذرية عليّ بلا هوادة ولا رحمة ؟؟؟ وكيف نفسّر قصف الكعبة وهدمها بالمنجنيق من قبل حجاج بن يوسف الثقفي عام/73هـ/ واستباحتها وهدمها مرة أخرى بقيادة أبو طاهر الجنابي زعيم القرامطة وسفك دماء من فيها... وألقوا الحجر الأسود في صحراء/ الجوف / مدة /22عاماً/ ... واحتراق المسجد النبوي مرتين ضربته صاعقة من السماء عام/654هـ/ و/886 هـ/ ، وكيف انتصرت أمريكا على العراق وليبيا ؟؟؟ وكيف انتصرت الطائرات الفرنسية على حركة المريدين بقيادة الشيخ إبراهيم خليل التركي في جبل الكرد/منطقة عفرين بلاليكو/ ؟؟؟ وكيف انتصرت أمريكا على حركة الطالبان بقيادة ملا عمر في أفغانستان عام 2002م وانهزم هو وأتباعه أقل من شهر ؟؟؟ ولماذا انهزم العرب أمام إسرائيل في حربين 1948 – 1967م ؟؟؟
ولماذا انتصرت حركة الفيت كونغ في فيتنام على أمريكا رغم أنها حركة إلحادية ؟؟؟ وأمريكا تدين بالديانة المسيحية؟؟؟
إن ربط النتائج بالأسباب ذلك هو الواقع الحي المجتسد الذي يؤدي إلى بناء القوة وصنع النصر..
إن الإفراط في الفضيلة تهوّر وإسراف، وإن الشحّ يؤدي إلى سلوك مهين... وإن الصواعق والطوافين والزلازل تمكّن الأرض وتعمل على توازنها وترميمها وتحديدها وصلابتها...!!!
إنَّ العنصر الذي جعل ينتصر معاوية على عليّ وذريّته فقد استباح الأول كل غالٍ ومقدّس
في سبيل الوصول إلى الخلافة... بينما الآخر لم ينزل إلى مستوى الاستهانة بكرامة أمته وبيت النبوة الذي تربّى فيه وآثر مصلحة الأمة على حقّه ... كان شاقّاً عليه أن يستعمل المكر والخديعة والاحتيال، فأضحى هو وذريته من بعده ضحية الغواية والمراوغة ... فلو أنَّ إمام علي حكم وذريته من بعده لتغيّر وجه تاريخ الأمة أحسن ضياءً وبهاءً وعدلاً وإخاءً وكنا على حال حضاري إنساني بهيج ونبيل لأنَّ الإمام كان قدوةً في الحقّ والعدل والتسامح، ولأنه فُطِرَ على الخلق النبيل واستقى مبادئه من فيض النبوّة الطاهرة والجدير بالذكر فلم ترفع اللعنات عن عليّ على المنابر إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس ودام حكمه عاماً ونصف عام ومات مسموماً... قتله الأعراب المفسدون وهم الذين غدروا بعليّ وأبنائه ... والأعاجم هم الذين اخلصوا لعليٍّ وأولاده... لأنه كان إنساناً عادلاً قلّما يجد التاريخ مثله في الحقّ والعدل والمحبة والشجاعة النادرة... وكان يُقدّم لقمته للفقراء ويبيتُ طاوياً... {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}/الحشر9/. الأمويون الذين استلموا الخلافة جعلوا الإسلام شعاراً لهم للتستر على جرائمهم ومظالمهم فأبعدوا القواد الكبار من قصورهم ليتفرّدوا بالسلطة ويبيحوا لأنفسهم إصدار القرارات التي تخدمهم وخلق فئات تؤيدهم وتهْزُج لأهازيجهم... وذلك باسم الفتح المبين أرسلوا جيوشهم بقيادة قتيبة بن أبي مسلم الباهلي وموسى بن نصير وطارق بن زياد لإقصاء هذه الجيوش وقوادها عن مصدر القرار وإلهائها بالزحف المقدس والجهاد في سبيل الله... والذين التفُّوا حول القيادة الأموية هم جماعات منافقة هجروا الحقّ وتوجّهوا إلى الباطل المزهوق...
والإنسان إذا خَبُثَ تحوَّل إلى إبليس مارد... وما الصواعق والنوازل التي نُزِلت على الكعبة والمسجد النبوي إلا غضبٌ من الله نزل على المقدستين لأنَّ المنافقين فسدوا فيهما والمعتكفون فيهما هم نجسٌ... ولذلك انتقم الله منهم{وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}/آل عمران4/. بنزول الصاعقة عليهم... وقتل الحجّاج لعبد الله بن الزبير وصلبه... ورأت أسماء بنت أبي بكر الصديق هذه الجريمة الوحشية النّكراء والتي تندى لها جبين الإنسانية فقالت قولها المأثور الذي ردّدته الألسنة إلى يومنا هذا:(أما آن لهذا الفارس أن يترجّل).
وكانت نهاية الحجاج مرعبةً مفزعةً أثناء احتضاره يظهر أمامه شريط أشباح الموتى الذين قتلهم... وهو يصيح بين الفينة والأخرى مرتعشاً أمام جرائمه في مسلسل إجرامي فظيع...!!!
وإذا فسدت الأمة ينزل عليها عقابُ الله... وتصديقاً لقول الله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}/الإسراء16/. فنزول الصواعق على الكعبة وتدمير المسجد النبوي مرتين غضبٌ من الله لأنّ المسلمين وقفوا مع الباطل وتركوا الحق... فكان جزاؤهم وعقابهم نزول صواعق السماء عليهم...
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}/الرعد11/. وسلّط الله عليهم طغاةً مستبدين يذيقهم ضروباً من الخزي والرجز والعقاب... وتصديقاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...}/الممتحنة13/.
ثمّ إنَّ الأمويين لاحقوا أئمة الفلسفة وطاردوا المعتزلة وأودعوهم في السجون، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... إنهم حرّموا الفلسفة: قولهم" من تفلسف تزندق " لأنّ الفلسفة هي أم العلوم ولأنَّ الفلسفة تكشف عوراتهم وأسرارهم المختبئة خلف شعاراتهم المزيفة والزائفة في تضليل الشعوب وإغوائها...
ولأنَّ الفلسفة تعتمد على الجدل والقياس والتجربة والبرهان... وهي تحليل وتركيب للوصول إلى الحقيقة المُثلى والمثل الأعلى... والفلسفة تبني الأمم على أسس من المعرفة والعلم والمنطق والحق والعدل... وتعرّي وتفضح نواياهم المخبوءة ما وراء الكواليس... وقد صدق الشاعر جبران حين قال:
والعدل في الأرض يبكي الجنَّ لو سمعوا
وقاتل الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
به ويســتضحك الأمـوات لـو نظــروا
وقاتلُ الرّوحِ لا تدري به البشرُ
وما أحداث اليوم إلا تراكمات لأخطاء الماضي الجسيم المظلم الذي استبدّ به الحكّام وتفرّدوا في الاستئثار لمصالحهم البالية... وزجّوا بجيوشهم في معارك هامشيّة بعيدة عن تطلعات الأمة وطموحاتها، فهذا الطاغي المستبد صدام حارب شعبه أولاً من الكرد والشيعة ولم يتورّع عن قتل أقرب المقربين إليه إذا شكَّ فيه أو قدّم اقتراحاً لا يوافق مزاجه... وحارب إيران ثماني سنوات بتحريض من أمريكا، ثمّ غزا الكويت بموافقة أمريكا وقد أحسن الشاعر وأجاد في تشخيص علة الحمية القبلية العشواء:
وما أنا إلا من غزيّة إنْ غوتْ غويتُ وإنْ تُرشَــد غزيّة أَرْشُـــدِ
في حلبجة وحدها راح ضحية الغاز الكيميائي خمسة آلاف من الكرد ما عدا الجرحى والمشوهين وإلى اليوم لا ينبت فيها لا زرع ولا نبات ولا عشب...
وأخذت أمريكا تحشد الحشود من أوروبا والعالم العربي لطرد صدام وجيوشه من الكويت وعقد حلفاً عسكرياً من الناتو والدول العربية لمحاربة صدام... وجرّبت التقنية والتكنولوجيا الحربية على العراق أولاً، والتجأ صدام إلى حفرة مختبئاً فيها مع حارسه الغادر الذي خانه ولم يستنجد بشعبه لأنه ظلمه، والشعب يكرهه، فأصبح بين عدوين الغرب وحلفائه والشعب الناقم عليه، فدفع ثمن استكباره الإعدام خنقاً بعد أن قضى بظلمه على شعب العراق، وأتى بالمستعمرين يحتلونه لاكتمال عملية الهدم والخراب...
وفعل الغرب ذلك من أجل النفط وامتصاص خيرات الكويت والعراق والعرب جميعاً... وليس من أجل الديمقراطية وحرية الشعوب وبيع ديمقراطيتها ببرميل من النفط...
أما هزيمة العرب مرتين في القرن العشرين تعود إلى قياداتهم الهرمة المنخورة والمتناقضة والمتنافرة... فلم تجمعهم وحدة الكلمة والمصير الواحد... ودخولهم في صراعات عقيمة...!!!
ويوم نصح غاندي الرئيس عبد الناصر... لو أنَّ كلّ عربي أطلق رصاصة نحو إسرائيل وحرّم التعامل بالدولار الأمريكي لانتهت إسرائيل ... وصارت كلّ فئة تلعن أختها بأنها الأجدر وطنية وقومية وتنطبق عليها الآية الكريمة:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}/الحشر14/... وكلّ جماعةٍ ترتدي ثوباً وطنياً مزخرفاً، والمعصومة من الأخطاء وتتشدّق بشعارات أكبر من حجمها وأوسع من فمها وأعلى من شأنها...!!!.
أما بشأن " ملاّ عمر " في أفغانستان الذي يريد أن يعيد الإسلام إلى عصره الذهبي المتمثل في الرعيل الأول... إنه ليس ملا عمر إنه العبد الذليل الاستخباراتي المرتبط بالاستخبارات العالمية، إنه صنيع الأجهزة الأمنية الإقليمية والدولية سخّرتها لأهدافها وأغراضها الذاتية... الإسلام ليس ملكاً لأحد، وليس حزباً سياسياً بل هو دستورٌ للعالمين أجمع وسلوكٌ عملي يرسِّخ مبادئ الحقّ والعدل والمحبة بين الناس جميعاً، ويزوّد الإنسان بطاقات إنسانية نبيلة نحو أواصر وروابط اجتماعية متينة مبنية على الإيثار والتسامح والعدل والخير والرّخاء والنفس المطمئنة...
الإسلام دعا إلى بناء القوة للتمكين في الأرض وربط بناء القوة بالإيمان بالواحد الأحد الصمد الإيمان وحده لا يحقق النصر... والإعداد بالقوة وحدها لا يحقق انتصارات لأنه ينقصه الإيمان بالواحد القهار... ولو أنَّ هذين البندين متوفران للملا عمر لانتصر على أمريكا... وأعتقد جازماً أنه فاقد العنصرين ... ولهذا فرَّ من المعركة ولم يصمد إلا أياماً معدودات...
أما بخصوص فيتنام وانتصار سان تياغو على أمريكا كانت أسباب وأركان القوة متوفرة لدى الفيتناميين الذين تمرَّسوا على فنون القتال في الجبال والأدغال معلنين حرب عصابات طويلة الأمد، تجمعهم الكلمة والإخلاص وروح التفاني في الكفاح الثوري... وكانوا يتلقون إمدادهم العسكري من الاتحاد السوفييتي سابقاً ورغم أنهم كانوا ملحدين... وأمريكا تدين بالديانة المسيحية... فانتصر الإلحاد على الإيمان الظاهري الزائف وذلك بتوفر شروط بناء القوة والإخلاص الذي كان شعارهم الرائد بقيادة بطلهم الرّمز " غيفارا " الذي كان عنواناً بارزاً للفداء والتضحية في سبيل مبدئه الذي آمن به عقيدةً ومنهجاً، وبهذه الروح الثورية والإخلاص بالمبدأ استطاعت فيتنام أن تهزم أكبر إمبراطورية في الأرض في القرن العشرين لأنها اجتمعت فيها عناصر القوة وربط النتائج بالأسباب...
أما بخصوص الشيخ إبراهيم خليل زعيم المريدين في جبل الكرد بعفرين حيث عملت فرنسا وجهدت على تقسيم سوريا إلى مناطق إدارية بمنح الحكم الذاتي لمناطق النفوذ، لكن الزعماء الوطنيين ادّاركوا هذا التقسيم فلم تفلح فرنسا في مخططها الاستعماري الهادف، فأرسلت المخابرات التركية الشيخ إبراهيم الخليل إلى قرى عفرين بهدف ضم المنطقة الشمالية إلى تركيا وقد درّبته على أن ينشر رسالة الإسلام فيها على المذهب السنّي... فجاء الشيخ إلى قرى" ميدانا " وهي سبعة قرى على الحدود التركية عام 1937م، ويتميّز أهلها بالطيب والبساطة وحبّ الإسلام وإكرام الضّيف وبقوة البأس إلى حدّ التهوّر والصِّدق في التعامل والكلمة الفاصلة إلى درجة السذاجة... فاستطاع الشيخ بدهائه ومكره اختيار هذه البيئة... فدخل على مسجد القرية فأمَّ المصلّين وتلا الآيات جعل الدموع تنهمر من عيون المصلين ثمّ خطب بالمصلّين قائلاً: فررتُ من تركيا من ظلم وإلحاد كمال أتاتورك (الدولة الكمالية) وجئتُ إليكم لأعلِّمكم الدين الحنيف ولا أُريد منكم شيئاً... سأُقيم في المسجد ومن أراد أن يتصدَّق عليَّ بطعامٍ فجزاه الله خيراً.
وكان الشيخ كما رواه لي والدي كان يتمتع بطاقة جسديّة رياضية هائلة... وهو شاب في الثلاثين من عمره... أشقرٌ جميل... فارسٌ متمرّسٌ مقدامٌ... متمرّن على كلّ أنواع الأسلحة من المسدس إلى البارودة الألمانية والرّشاش المتوسّط... فاستطاع الشيخ ببلاغته المعهودة وذكائه الحاد أن يجمع حوله التلاميذ من أتباعه وسمّاهم " المريدين " وأخذ الشّيخ يتجول في القرى الجبلية في منطقة عفرين... ويخطب في الناس الخطب النّارية، فأجمع حوله حشداً كبيراً من المريدين... وأمرهم أن يحمل كلّ مريد سلاحاً، وفرض حمل السّلاح لأنّ المسلم يجب أن يملك سلاحاً... ودعا إلى الجهاد بأناشيد دينية حماسية... وخاطب الأتراك بأنهم أعداء الإسلام ووجوهم كوجوه الخنازير... وأوعز الشيخ إلى مريديه بمقاتلة الإقطاع هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة... والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي... وفرض النكاح... بدأ بنفسه أولاً... نكح بنات مريديه ... فكان يتزوّج بناتهم ثمّ يطلّقها ويتصدّق بها على أحد أتباعه، ثمّ أصدر فرماناً مفاده:" كلّ من لم يلتحق بحركة المريدين يعتبر مرتداً وآثماً... وحلالٌ قتله ولو كان شقيقاً له"... وإزاء هذه المناورات المشبوهة تحوّلت منطقة عفرين إلى جماعات وعصابات... فالإقطاعيون جمعوا حولهم أنصارهم وحمل كلّ فرد من أفراد المنطقة السلاح للدفاع عن نفسه وفُقِدت الثقة بين الأسرة والعائلة وأصبح القتال سيّد الموقف... فلا تمييز بين العدو والصديق... وأصبح الجار يحسب ألف حساب لجاره الملاصق لبيته... وكان الشيخ يذهب إلى حلب ويجتمع بالقادة الوطنيين بأنه ضد فرنسا وقتاله في سبيل تحرير سوريا... فاحتدمت المعارك بين الشيخ والثوار الذين قاوموا المستعمر الفرنسي... فكان الشيخ ينوي قيادة جميع الحركات الثائرة ضد فرنسا تحت قيادته وأن يكون هو الشخصية الأولى في الحركة الثورية الكفاحية... وكان بعض قادة الإقطاعيين مع الثورة السورية وبنفس الوقت كانوا في صراع دموي مع المريدين... فأحرز المريدون تقدماً في المعارك... ويبدو أنَّ المستعمر الفرنسي أدرك خطورة تحركات الشيخ وأنه ينافسه في مخططه العدواني فقصف بطائراته الحربية معاقلهم الجبلية في قرية بلاليكو ومواقع أخرى... وكان الشيخ قد سَحَرَ المريدين بكلماته بأنهم سوف يتلون الآيات القرآنية وتسقط الطائرات الفرنسية في الجو ولكن (هيهات هيهات لما توعدون )... فتمزّقت حركة المريدين كلّ ممزّق وتشتّت وقضي عليها والتجأ الشيخ إبراهيم خليل إلى تركيا واغتيل هناك في ظروف غامضة... وهكذا انتهت حركة المريدين بفرار الشيخ والتجائه إلى تركيا وأسدل الستار عن مسرحيته الدمويّة...
وفي نهاية المطاف أقول باختزال: ليس الإسلام كياناً سياسياً... ولا حزباً... ولا مذهباً
ولا طائفةً كما أسلفنا... !!!
الإسلام أعلى وأسمى شأناً... وأرقى نظاماً... الإسلام هو تشريعٌ كامل لأهل الأرض جميعاً... قانونٌ عمليّ تطبيقيٌّ وعدلٌ وإخاءٌ وقوّةٌ وبناءٌ وعلمٌ وأخلاقٌ وإخلاصٌ ووفاءٌ وتسامحٌ وتواضعٌ
وقد صدق الشّيخ محمود شلتوت حين زار الصين وهي دولة شيوعية ملحدة فقال: الصّينيون مسلمون ستة أيام في الأسبوع ... أما نحن مسلمون يوماً واحداً "يوم الجمعة"...
...........................................................................................................
المراجع:
1- قصة الحضارة – ديورانت
2- مذاهب الإسلاميين- عبد الرحمن بدوي.
3- تاريخ المذاهب الإسلامية- محمد أبو زهرة.
4- حركة المريدين في جبل الأكراد – رشيد حمو.
البحث الشائك في تضاريس نظرية وحدة الوجود...!!!
هذه النظرية خاض غمارها كتّابٌ كثيرون ولم يفكوا رموزها حتى اليوم ومازالت تعيش في زحمة الضباب الرمادي... وجرَّبتُ نفسي في اقتحام أسوارها علّنَي أظفر بانجلاء الغموض عنها والوصول إلى قاع من قيعانها الباطنية.....
إنَّ الدّارس للدين المسيحي يجد أنَّ هذين المصطلحين: الحلول والاتحاد يدلان على معنى واحد ولكن يحدث إختلاف في التأويل والتفسير... واختلف معهم علماءٌ مسلمون فهذا ابن تيمية يقول: عَظُمَ اضطراب النصارى في هذا الموضع، وكثر اختلافهم غير أنَّ المصطلحين مترادفان لأنَّ اللغة العربية تأبى الترادف بينهما قال البيروني: ت 440هـ ولكن من الألفاظ ما يسمح في دين دون دين، وتسمح به لغة، وتأباه أخرى... وقبل الخوض في هذه الجزئية اللغوية لا بد من الإشارة إلى عقيدة الثالوث في الفكر المسيحي باختلاف مذاهبه لأن لها علاقة بمصطلحي الحلول ولاتحاد... وثمة أمر لا بدَّ من بيانه وهو أنَّ علماء الغرب أنفسهم كانوا يعانون من صعوبة فهم المسيحية تولستوي: ت 1910م الذي يعد من أكبر أدباء العالم يقول: ( إن العقل الصريح يرفض ذلك ) ويقول اسبينوزا: ( إن المسيح هو إنسانٌ وليس بإلـه ) و أهم المذاهب المسيحية التي ادَّعت الاتحاد والحلول: الملكية: إنَّ الكلمة اتَّحدت بجسد المسيح على طريق الامتزاج... أما اليعقوبية: ( إنَّ اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء ) والنسطورية: ( إنَّ اللاهوت حلّ في الناسوت كحلول الماء في الإناء... )
هذا بالنسبة إلى التراث المسيحي ورؤيته لعقيدة الثالوث من خلال مفهومي الحلول والاتحاد ثم اتفق العلماء: لا اتحاد بلا حلول... فالحلول هو حلول الحال في المحال... فَالْفُرَقُ المسيحية سواء قالت بالحلول أو الاتحاد فإن المآل واحد. وهو الامتزاج والصيرورة إلى تركيب آخر لا يضاهي مكوناته وما تركب منه بل يختلف تمام الاختلاف... وقد بيّن لنا ابن تيمية أن الاتحاد الذي لا يقتضي الامتزاج والاختلاط غير معقول بينما الحلول ربما يكون ذلك بحلول جزء من ذاته على فدر استعداد مزاج الشخص ويمكن ذكر بعض الفرق الإسلامية التي قالت بالحلول.
الحلمانية... البيانية.. الخطابية.. المقنعية.. الرزامية.. وغيرها.. بغض النظر عن كيفية هذا الحلول الذي قالوا به... فإنَّ لهم تفسيرات مختلفة... ذهب أكثر الباحثين إلى أنَّ الحلاّج ت. 309هـ من أعظم دعاة الحلول. بل كلما ذكرت هذه النظرية ذكر الحلاّج معها.. ومنه الحلول هو أن يحل اللاهوت في الناسوت من غير امتزاج حيث يفقد كل واحد منهما طبيعته.. ولهذا قال الحلاّج: (من ظنَّ أنَّ الإلهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالإلهية قد كفر... ثم قال: مع أنَّ ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير مستهلكة غير ممازجة ) إنَّ الحلاج لا يثبت وجوداً واحداً كابن عربي بل اثنيني المذهب وذلك لأنه أثبت وجود ذاتين منفصلتين إحداهما اللاهوت والآخر الناسوت فثمة حال ومحل... فالحال هو الإله والمحل هو الإنسان... وهذا هو الحلول الخاص أو نقول هو الإله والمحال هو ما سواه فيسمى حينئذ بالحلول المطلق العام... والذي دفع بعض الباحثين إلى نفي الحلول عن الحلاج. هو أنهم أخذوا كلام الحلاج المذكور في اثباته التمييز بين الحق والخلق، ونفيه الامتزاج وبنوا على ذلك أنه من نفاة الحلول، والحقيقة، فإن الحلاج أثبت التباين بين الحق والخلق، ونفى امتزاج الخلق، ونفى امتزاج الحق بالخلق لكنه لم ينفِ الحلول فإن الحلول غير الامتزاج لأن الثاني يفقد كل واحد منهما طبيعته عند الامتزاج بخلاف الحلول وهذه النظرية.. جاءت من تأثيرات المسيحية... ولعل خَير دليل على ذلك تلك المصطلحات المتداولة بين الصوفية خذ مثلاً مصطلحي اللاهوت والناسوت... إنَّ ذينك المصطلحين: اللاهوت والناسوت وكذلك الحلول استعملها المسيحيون... بل نستطيع أن نقول مصطلحات مسيحية نفذت إلى دوائر الغلاة عامَّة ومنهم الصوفية ولأجل ذلك نرى المستشرق الإسباني: بلاثيوس يشبه مذهب الحلاج بالمسيحية في بعض النواحي... وقد اختلفت الأقوال حول الحلاج... هذه الشخصية القلقة في الإسلام وذلك لأن البعض يعتبره سلطان العارفين والبعض الآخر يقدح فيه والقادحون هم: الرازي وابن حزم والغزالي وابن الجوزي وابن تيمية وأما المادحون ومنهم ابن عربي والفارس الدينوري وأبو القاسم النصر أبادي... قال عنه ابن تيمية: أنه كان من القرامطة وكان يظهر للشيّعة أنه منهم وأنه كان باطنياً... ومن الذين رجّحوا هذا القول المستشرق نيكولوسون... وأنه كان يدعو سراً إلى مذاهب القرامطة الذين أغاروا على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات، ونهبوا الحجر الأسود منها... ولهذا اتفق علماء المسلمين الأوائل وبعض المستشرقين على عدم إقرارهم بطريقته الخاصَّة، وينكرون عليه ما ابتدعه من أفكار... وروي أنَّ الحلاج مرَّ يوماً على الجنيد فقال له: أنا الحق..!! فقال الجنيد: ( أنت بالحق أية خشبة تُفْسِدْ ) فتحقق فيه ما قاله الجنيد لأنه صلب بعد ذلك... ولكن من الإنصاف أن نقول: إن الحلاّج قد نسب إليه من الأقوال الباطلة وهو لم يقلها.. وصار كل من يرى شطحاً أو زندقة يعزوها إلى الحلاّج... ومن أقواله المنسوبة إليه: ( ظاهر الشريعة مشرك خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية.. والكفر واجب لديّ وعند المسلمين قبيح... ) وذكر أنهم ظفروا بكتابٍ له إلى أتباعه فيقول: يا ذات الذات، ومنتهى غاية الشهوات نشهد أنك المتصوّر في كلّ زمان بصورة وفي زماننا هذا بصورة الحسين ابن منصور.. ونحن نستجيرك، ونرجو رحمتك يا علام الغيوب ) وأغلب الظن أن هذه الرسالة جاءت من خراسان لأنَّ ابن باكويه ذكر أنَّ أهل خراسان كانوا ينادونه بالمجير...!!!
أما نهاية الحلاّج فإنه قد قتل بفتوى الفقهاء... والذين سلكوا الدفاع عن الحلاج ومعهم المستشرق نيكلسون فقالوا: إن الحلاّج قد خان ربه بإفشائه السر الأعظم لكل من هبَّ ودبَّ... وهذا ينطبق عليه قول ابن عربي: ( من باح ناح ).
وقالوا: إن الحلاج قد قال ذلك تحت تأثير نشوة الجذب وقد ظنَّ أنه متحد بالذات الإلهية وقالوا: ليس الحلاج هو الذي صاح أنا الحق ولكنه الله نفسه تكلم بلسان الحلاج، ولما كان الحلاج متناقضاً ماذا حدث في كلامه؟... خذ مثلاً مفهوم نظرية الحلول عنده فنجده أحياناً يصرخ بأن الحلول هو امتزاج اللاهوت بالناسوت كقوله:
مزجت روحك في روحي... كما تمزج الخمرة في الماء الزّلال... ولا شك أن هذه العملية فيها فناء النفس بالكلية وذلك لأن الخمرة إذا اختلطت بالماء تحوّلا إلى مادّة ثالثة بحيث يفقد كل منهما طبيعته وعلى هذا الأصل اعتمد بعض أتباعه في كون الحلاج لم يقل أنا الحق وإنما الله هو الذي تكلم بلسانه لأنَّ نفس الحلاج فنيت.
وخلاصة القول فإنه مهما تكن أقوال علمائنا القدماء... فإن التدقيق العلمي للتجربة الصوفية كظاهرة عمت الأديان يفيد وجود إقامة الفصل والتمييز بين الفناء الشهودي ووحدة الوجود. الفناء الشهودي حالة نفسية لحظيّة لا تدوم يَفْنىَ فيها وعي صاحب التجربة بوجوده ثمَّ إذا ذهبَ عنه انفعال العاطفة واستعاد وعيه وأقرَّ بالتنزيه وهناك فرق بين وجوده النسبي وبين الله وهو ما أسماه ابن تيمية بالفناء عن شهود السَّوِي.
أما الحلول فنظرية لاهوتية معقَّدة ومن خصوصيات المسيحية لأغراض لاهوتية صرفة إذاً جعلوا القول بالحلول حلول الروح الإلهية في عيسى ( عليه السلام ) قاعدة للقول بالخلاص من الخطيئة الأولى للإنسان توفيقاً في معتقدهم بين إلهٍ عادل لا بدَّ أن يعاقب المذنبين على ذنوبهم، وإلهٍ رحيم بعباده فضحى بابنه عيسى إنزالاً للعقوبة بالبشر ورحمة بالخلق فَبِصَلْبِهِ كفَّر عن ذنوب بني آدم الأصلية ولهذا قالوا: لا خلاص إلا بالإيمان بعيسى. وأمّا وحدة الوجود فنظرية فلسفية عن العالم مؤدّاها أن العالم المادّي هو الله وأن الله هو العالم... فلا ثنائية ولا تمايز بين الله والعالم وينتفي القول بالخلق.
هذه النظرية لا تنطوي على معنى واحد عند كل من يقول بها فمثلاً ما يذكره
( اسبينوزا ) لا يماثل ما يقوله أشياع الفلسفة الهندية... ولأجل ذلك فمن الضروري ذكر هذه المذاهب بصورة وجيزة جداً حتى تتم معرفة هذه الآراء حول تفسير النظرية وتحليلها...
الفلسفة الهندية: فقد كان حكماء الهند يتبنون وحدة الوجود في تأملاتهم... ويصوّر لنا البيروني عن حقيقة وحدة الوجود فيقول: إنَّ الوجود شيءٌ واحد، وإن العلة الأولى تتراءى فيه بصورة مختلفة، وتحلٌ قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير
مع الاتحاد. أما الفلسفة ( التاوية ) الصينية يقول ( لاوتسو ) مؤسس المذهب التاوي517 ق. م تاو: ثمة شيء لا صورة له إلاّ أنه كامل... قائم قبل أن توجد السموات والأرض... لا صورة له ولا جوهر... موجود لا يتغير... إنه منشئ جميع ما في الكون ألا وهو ( تاو ) وكنيته ( العظيم ) أما الأفلاطونية المحدثة وشيخها أفلوطين 290م فيقول: بأنَّ المبدىء تصدر عنه الموجودات، والله تصدر عنه المخلوقات أما بعض فلاسفة الغرب تبنّوا نظرية وحدة الوجود أمثال يوهان مايستر ايكهارت ت 1327م وهو صوفي ألماني اتّهم بالهرطقة... فكان يقول: إنَّ كلّ الموجودات هي في الله، ولا يفصل الخالق عن المخلوق شيءٌ... وكل حجر أو خشب أو عشب تجليات وحدة كونية واحدة. وردّد قوله(اسبينوزا) الفيلسوف الهولندي اليهودي ت 1677م حيث يرى أنَّ الله والطبيعة شيءٌ واحد.
ومن ثمَّ تطرف فلاسفة الغرب ( المتصوفة منهم حيث بلغ القول إلى أن التصوف إذا أريد تعريفه فهو الشخص الذي يشعر باتحاد في الكون الأعظم من الوحدة المعترف بها في الحياة العادية... فوحدة الوجود متجذرة في التجارب الصوفية في معظم أديان العالم العريق... والتي يمكن إيجازها بالآتي:
1. النمط المنفتح على الخارج أي ثمة اتحاد بين الذات الإنسانية والطبيعة الخارجية... ونجد هذا عند الرومانسيين في الشعر والأدب والنحت والرسم.
2. النمط المنكفئ على الذات وهو الفناء بعينه مع الاتحاد الكلي بالواحد المطلق أو الاتحاد بالنفس الكلية... وهذا النوع ليس مكتسباً إنما هو نفحةٌ ربانية... حيث يقول ابن عربي عن علماء الرسوم ( وهم الفقهاء وطلبة العلم الشرعي... وعلماء الرسوم آثروا الدنيا على الآخرة... أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به عن العامة حجبهم ذلك عن أن يعلموا أنَّ لله عباداً تولى الله تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى ألسنة رسله )... وهذا المذهب شغل فلاسفة العالم وفلاسفة الإسلام خاصَّة ومن أجل ذلك يقتضي التركيز على ابن عربي فهو الممثل للنظرية في كلَّ أبعادها... ولعل هذه النظرية هي آخر ما انتهت إليها فلسفة ابن عربي ت 638 هـ الصوفية وذلك لأنه قضى وقتاً طويلاً في كيفية صياغتها وأرهقت خياله وذوقه ولم يستطع مع ذلك أن يذكرها جملة واحدة خوفاً من سطوة الفقهاء. قال ابن عربي: وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من الغلوَّ فغوره بعيد والتلف فيه قريب ) ولمصير الحلاج دور فعال في تغييض عاطفة ابن عربي وإيقاف خياله الواسع دون تجاوز الحد حيث قال ابن عربي:
فَمَنْ فَهِم الإشارَة فَلْيَصُنْها وإلا سـوف يقتـل بالسَّـنان
كحلاج المحبة إن تبـدت له شمـس الحقيقـة بالتداني
فقال أنا هو الحق الذي لا يغيـر ذاتـه مـرّ الزمـان
ولكن مع ذلك نجده يصرح بمذهبه أحياناً، وإذا ما وجد أي اعتراض أو سوء فهمٍ يوقعه في أمر لا يحمد عقباه منح لكلامه تأويلاً مستساغاً مثال ذلك قوله:
يا من يراني ولا أراه... كم ذا أراه ولا يراني...
فقال لي بعض إخواني كيف تقول أنه لا يراك؟ فقلت له في الحال مرتجلاً:
يا من يراني مجرماً ولا أراه آخـــذاً
كـم إذ أراه منعمـاً ولا يراني لائــذاً
والبيت الأخير صريحٌ في وحدة الوجود... ثمة أنواع من المصادر. التي كَوَّنَتْ هذا المذهب ومن هذه المصادر: التأويلات الإشارية البعيدة عن مقتضى النص من القرآن الكريم والسنة، وأمشاج مستقاة من علم الكلام، وأقوال متصوفة الإسلام الأوائل، وآراء إخوان الصفا والقرامطة والفلسفة المشائية، والأفلاطونية الجديدة، وفلسفة فايلد الاسكندراني، والرواقيين أما بالنسبة لشخصية ابن عربي فإن الباحث يرى أنه لم يكن دساساً باطنياً يمثل حلقة في سلسلة من الحركات الهدامة بل كان تأثره بالثقافات الأخرى، واطلاعه على الديانات الأخرى واحتكاكه بشخصيات متعددة... كل أولئك كان سبباً في أخذه بهذه النظرية... فجمع من بين هذه الأفكار المشتتة، والنظريات المتباينة مذهباً يليق بخياله، ويناسب ذوقه، ويحرك عاطفته، ولهذا نجد عنده من ألوان التناقض، والاضطراب الفكري بدرجة غير عادية... ولقد كان ابن تيمية من المعظمين له من خلال كتبه: فصوص الحكم، الفتوحات المكية، ومطالع النجوم... يقول ابن تيمية:( إنما كنتُ قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي، ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد... ) والحقيقة فإنَّ ابن عربي كان يحث على متابعة السنة والدليل على ذلك ما ألفه في السنة حيث ألف كتابين أحدهما المصباح في الجمع بين الصحاح، والمسند الصحيح لمسلم بن حجاج ).
ومن أقواله: ( لا يرتجى الوصول من لم يتابع الرسول ).
قال أسين بلاثيوس: إن الفضل في تكوينه الروحي إنما يرجع أولاً إلى التعليم الحي الذي تلقاه من شيوخه الأندلسين... وتأثره بالرسالة القشيرية... وبالبسطامي... ) وألّف ابن عربي رسالةً أسماها ( المنهج السديد في ترتيب أحوال الإمام أبي يزيد... وكذلك ابن عربي قرأ كتب ابن حزم كلها على أبي محمد عبد الحق الاشبيلي... وله كتاب ( اختصار المحلى لابن حزم ) وهذه النظرية تذهب إلى أن الوجود واحد... ووجود الحق أصل لكل شيء يظهر بمظاهر مختلفة فهو وحدةٌ شاملةٌ مطلقة... ليس اتحاداً بين وجودين... ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول: أنا الحق وأن يقول سبحاني... وما وصل واصل إليه إلا ورأى صفاته صفات الله وذاته ذات الله... وهذه النظرية كمذهب فلسفي في الميتا فيزيقا اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفةً وذلك لأنه مذهب قديم... وهذه الأشكال المختلفة لمذهبٍ في الأساس تتخذ إحدى صورتين يمكن ذكرهما بإيجاز الأولى: صورة الاعتقاد بأن الله هو الطبيعة... فالحق هو الجامع لكل شيء في نفسه فكل الأشياء في العالم واحد والله هو الكل وتعرف هذه الصورة من المذهب بنفي العالم وهي صورة موغلة في الروحانية الخالصة... والثانية وهي الصورة المقابلة للوحدة الروحية المطلقة وفيها تغدو الألوهية اسماً على غير مسمّى، وينحصر الوجود فيما يتناوله الحس وتقع عليه التجربة ويصبح العالم المادي هو الكل الواحد الحقيقي ولا شيء سواه وتعرف هذه الصورة في الفكر الفلسفيnaturlism Pan cosmis... ومذهب ابن عربي له علاقة بالصورة الأولى لكونه روحانياً بعيداً عن المظاهر الخارجية بقوله:
فإنـي ظـلٌ بـه ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
ولعل خير مثال يصور حقيقة هذا المذهب... ما نشاهده في أمورنا الحياتية... فلو أن أحدنا لاحظ الحديد وهو مادة أولية... يصنع منها أشياء كثيرة فالطائرة والسيارة والبواخر والأسلحة... فالحديد هو أصل هذه الأشياء كلها ولكن هذه الأشياء اتخذت صوراً متعددة وأشكالاً مختلفةً قال ابن عربي:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لمـا تخلقـه جامـع
تخلق مالا ينتهي كونــه فيك وأنت الضيق الواسع
وقال أيضاً: إن الحق وإن كان واحداً فإن له إلينا وجوهاً كثيرة مختلفة... وكل هذا يقتضي أن وجود الحق مفتقر إلى وجود الخلق... فلولا وجود هذه الممكنات لما كان ثمة وجود لوجود الحق فكما أن الإنسان لا يرى وجهه عند عدم وجود المرآة... فكذلك الحق في نظر ابن عربي مفتقر إلى الخلق إلاّ أنَّ ابن عربي لكي ينفي تناقضه أثبت ثبوتاً موجوداً ولم يقل بإثبات وجودين لأن ذلك يخالف مذهبه مع أن الثبوت والوجود بمعنى واحد بل إن التفريق بينهما لا يصح وذلك لأن اثبات الشيء وجوده ووجوده دليل على ثبوته فهما متلازمان لا ينفكان... قال ابن تيمية: وكل من الوجود والثبوت لا ينفك عن الآخر... وهو شبيه بقول من يقول: الوجود غير الماهية وهو ملازم لها ولكي تكون هذه المسألة واضحة فمن الأولى الاطلاع على الآراء المختلفة فيها:
1. يذهب أرسطو ت 322 ق.م وأتباعه إلى أن الماهية والوجود متغايران في العالم الخارجي.
2. إن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي في الذهن، ومتغايران في العالم الذهني... ذهب إليه طباطباني.
3.إن الوجود والماهية متغايران إطلاقاً... وهذا ما قال به أتباع المذهب الظاهراتي وأشياع المذهب الوجودي... فالفلسفة الفينومينولوجية موضوعها الأساس الماهية فهي تجعل الماهية سابقة للوجود بينما الفلسفة الوجودية تجعل الوجود سابقاً للماهية.
4.إنَّ معنى الوجود والماهية واحد وإن مسألة كون الماهية تسبق الوجود أو الوجود يسبق الماهية فكرة هشة... ولهذا قال ابن تيمية و معلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج... ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس... فالماهية هي الوجود وإن أريد بهما في الخارج فالماهية هي الوجود أيضاً... وبعد عرض كل هذا نستخلص: أن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي وبينهما تغاير في العالم الذهني... فيقول ابن تيمية في هذا الصدد: والفرق بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه... ولكنه فارقٌ نسبي مقدر في الأذهان والمقدر في الأذهان أوسع من الوجود في الأعيان كما يقول ابن تيمية وسبب ذلك أن المقدر في الأذهان يختلف باختلاف العقول فلا يكون ذلك حقيقة ثابتة بينما الموجود في الأعيان حقيقة ثابتة... ) فإنه من الناحية الفيلولوجية نجد أنَّ ثمة فرقاً بين الوجود والماهية فعندما نقول ماهية الشيء فالمقصود البنية الداخلية أو التركيب الداخلي له ووجود الشيء يقصد به التركيب الخارجي ومعلوم الفرق بين ذينك التركيبين أو بين تينك البنيتين... وثمة مثال يقوَّي ما ذهب إليه ابن تيمية: وهو أن الإنسان عندما يفارق الحياة تخرج الروح من البدن ويتحول البدن إلى تراب تذروه الرياح وتبقى الروح وهذه الروح هي ماهية الإنسان ولا إخال أن ثمة عاقلاً يقول بأن هذا الإنسان لم يبقَ له وجود مع بقاء الروح ووجودها... وهذه الروح عائدةٌ إليه، وملك لهُ فدل على أن الوجود والماهية شيءٌ واحد فماهية الشيء وجوده، ووجود الشيء ماهيته.
وعليه فإن مذهب ابن عربي هو التفريق بين الماهية والوجود لكنه آثر استعمال الوجود والثبوت وهما عند ابن تيمية بمعنى واحد لا يقتضي تفريقاً البتة. وقال ابن عربي في تعريف التوحيد بأنه نفي الاثنينية وإثبات العينية ومن هنا تنتفي فكرة الحلول عن أهل وحدة الوجود لأن الأولى تقتضي إثبات وجودين الحال والمحال بينما الثانية على خلاف أي وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ولهذا قال ابن تيمية: ولهذا من سمّاهم حلولية أو هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول في باطن أمرهم لأنه من قال: إن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجود أحدهما وجود الحق ( الحال )... قال ابن عربي:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا من لا يدّريـه إلا من لـه بصـر
جمع وفرق فإنَّ العــين واحدةٌ وهي الكثيـرة لا تبقـي ولا تـذر
وقد بين القاشاني أن الحق خلق باعتباره ظهوره في الأعيان وليس خلقاً باعتباره موجد الموجودات إن البيت الأول يفيد ما قاله القاشاني ولكن ابن عربي في البيت الأخير نفي كون وجود الحق غير وجود الممكنات وأثبت وجوداً واحداً... قال ابن عربي: من عرف نفسه علم أن وجوده ليس بوجوده ولا غير وجوده بل وجوده وجود الله بلا صيرورة... وجوده وجود الله بلا دخول وُجُوْدُهٌ في الله وخروج وجوده منه... وقد ذكر ابن عربي مثالاً آخر يوضح مقصوده بوحدة الوجود حيث قال:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدّدا
وقد ذكر ابن تيمية أن كلام ابن عربي يدور على أصلين: أحدهما: أن الأشياء كلها ثابتة في العدم مستغنية بنفسها نظير قول من قال من شيوخ المعتزلة أن المعدوم شيء. ثانيهما: أن الوجود الذي لهذه الذوات هو عين وجود الحق الواجب... ومعنى ذلك أن هذه الأشياء غنية عن اللَّه وذلك لأنه يلزم منه أنها ليست مخلوقة، بل في ذلك تعطيل للخالق وقدرته إن لم يكن سلباً لجميع صفاته... وقد ذكرنا أن ابن عربي لكي ينجو من تناقضه سمّى وجود الممكنات ثبوتاّ... ووجود الحق وجوداً وثمة حتى
لا يكون ثمة وجودان... وهذا التفريق الذي قال به ابن عربي بين الوجود والثبوت صوري وشكلي لا حقيقة له، وذلك لأنه قرر أن هناك وجوداً واحداً... وحيث إنه يقول: بأن الحق وجودٌ حقيقيٌ في ذاته ووجودٌ إضافيٌ في الممكنات والوجود الإضافي عرض قائم بغيره ليس جوهراً كالوجود الحقيقي قال ابن عربي كما أسلفنا في القول:
فإني ظـلَّ بـه ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
فيرى ابن عربي أن الظل وجود إضافي قائم بغيره وهو الشيء الذي كان سبباً في إحداثه فاتضح أن الوجود واحد يظهر بصور مختلفة... وقال ابن عربي أيضاً: ناديت يا أنا فلم أسمع إجابة فخفت من الطرد، فقلت يا أنا لماذا لا تجيبني ؟
فقال لي: يا متناقض الحكم لو دعوتني أجبتك وإنما دَعَوْتَ أنانيتك فأجب نفسك عنك فقلت: يا أنا إنما قلت إمّا من حيث إن أنا في أنا أنا... كما أن الواحد هو الواحد الأحد قال: صدقت فأجب نفسك عني ولا تطلب فهي الإجابة فقل لأنانيتك تُجِبْكَ.
لكن ابن عربي لا يقول بإسقاط التكليف فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي، ويأمر بالسلوك مما أقرَّ به المشايخ من الأخلاق والعبادات ولهذا كثيرٌ من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك... وعند ابن عربي أن سر الألوهية يستكن في كل معبود وهذا هو حقيقة القول بوحدة الأديان... وقد سبق ابن عربي الحلاج في وحدة الأديان واعترف ابن عربي بعبادة التثليث واعتبرها من التوحيد وكما قال المستشرق الإسباني ( أسين بلاثيوس ) وهكذا فرعون في نظر ابن عربي مات مؤمناً وبناءً على هذه النظرية يكون ابليس من الموحدين لأن كفره لم يكن منه وهو لا فعل له ولا حول ولا قوة ولا إرادة يقول ابن عربي: أنا مُجْبرٌ ولا فعل لي والذي أفعله باضطرار... فالإنسان في رأي ابن عربي كالريشة في مهب الريح... وهذا يؤدي بدوره إلى الإيمان بالقدر والحتمية... وهذه جبرية صرفة في علم اللوح المحفوظ الأزلي...
من خلال هذا الاستعراض المسهب أستخلص القول بأن الله أودع في الإنسان سراً من أسراره الذاتية العالية المخزون في خزائن رحمته، وأن الإنسان معجزته في كوكبه الأرضي وبما أن الإنسان آية من آياته البيّنات فيمنح لبعض مخلوقاته كراماتٍ تصديقاً لقول الرسول الكريم: ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله...).
إن في الإنسان قوة روحانية هائلة تتجاوز القوة الجسدية العضوية البيولوجية أضعافاً وأضعافاً... والقرآن قد أصبح دستوراً للبشرية بعد نزول الكتب السّماوية فكانت الكتب السماوية والصحف تبشر بنزول القرآن الحكيم ليغدو منهجاً وقانوناً للعالمين... فالأديان السماوية السابقة كانت تمهيداً ومقدمةً للقرآنٍ ليكون شرعةً ومنهجاً للإنسانية جمعاء ومن خلال نزول الكتب السماوية يريد الله أن يعلّمنا الصبر والتدرّج، والتسلسل ومحطات الاستراحة ويفتح للإنسان باب الاجتهاد والتعقل والسّعي... فالأديان التي سبقت القرآن كانت لبيئة محلية ثم مهَّدت لبيئة عالمية... ففي زمن سيدنا موسى عليه السلام طغى الإنسان وتجبّر وانتشر السحر والشعوذة فسلّح الله نبيه موسى بمعجزة العصا واليد البيضاء... وفي زمن سيدنا عيسى عليه السلام تفشى الحقد والبغضاء فبعث الله نبيه بنور المحبة والسلام... وأتى بالقرآن العظيم ليكون كاملاً وجامعاً لما سبق للعالمين قاطبةً... والقرآن هو ذاته معجزة الله في أرضه ليس كتاباً نحوياً
ولا طبياً ولا فلسفياً... إنما هو قانون إلهي أزلي لخدمة الإنسان ولإعلاء شأنه وإسعاده في الدنيا والحياة الباقية، خاطب القرآن عقل الإنسان ليرتقي به نحو الأفضل وليخدم أخاه الإنسان للعيش الكريم المشترك تحت ظلال القرآن الكريم في أمنٍ وسلام وحبٍّ ووئام... أما بصدد ظاهرة التصوّف التي خرجت إلى التاريخ في أواخر العصر العباسي... والعصر المملوكي... كان ظهوره لبواعث عديدة... ظاهرة الضلال والشواذ والفقر... وانتشار الأمراض الاجتماعية... والتحزّبات والفرق المتنازعة... وضعف الدولة وانغماس السلطات في المجون واللهو والّلغو والنفاق المستشري بين الأئمة والعلماء والأدباء والشعراء... وتبوّأ المال الصدارة في تقييم الفرد فمن يجمع مالاً كثيراً من أي مصدرٍ كان وبأيّ أسلوب فهو موضع الإعجاب والاحترام... حيال هذه الظروف المعقدة الشائكة خرج رجال من المتصوفة يبتغون التقرب إلى الله للخلاص من المحن والكوارث... وأرادوا من ذلك إنشاء مريدين لهم للوصول إلى الزعامات الدينية عن طريق روايات شعبية خارقة للهيمنة على عقول البسطاء والسفهاء فجمعوا حولهم أتباعاً لهم... وخاطبوا بقولهم ولات حين مناص... فلا سبيل أمامنا من تخليص الأمة من غائلة الجوع والفساد والشقاق إلاّ بوحدة الوجود وإندغام ذاتك في الذات الإلهية وادّعى بعضهم بأنه يتحدث إليهم بالنيابة عن الله ولا فرق بينه وبين الله...
في هذه الحالة يطلق المتصوف عبارات فيها الهذيان والألفاظ الغريبة كالهلوسة والهذيان؟! كما يتلفظ بعض المرضى النفسيين بكلمات خارجة عن المنطق... مما أدّى هذه المرحلة من التصوف إلى الغلوّ والتطرف وأوصل الناس إلى العجز والكسل وقفل باب الاجتهاد والتسليم بأقوال المتصوف واتباعه... فالتواكل أخذ ينخر القلوب والضعف يسري في النفوس... فأصبح المتصوفون شفعاء ووسطاء بين العبد وربه كما أصبحوا أثمةً يقتدى بهم ونموذجاً يحتذى بهم والسُّذج من الناس التفوا حولهم يقدّسونهم...
نحن في إسلامنا بقيادة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم يركن الرسول إلى التواكل... كان حياته كلها جهاداً في شتى مناحي الحياة فمن خلال سعيه يريد أن يعلّمنا أن الحياة علمٌ وعملٌ وجهادٌ وكفاح... وأن الله كان بإرادته أن يحوّل جهاده إلى معجزات... لكن الله ابتغى من وراء ذلك أن يعلّم الإنسان على التفكر والسعي وأن متعة الحياة لا تذاق إلا بعد جهدٍ ولُغوب... وفي آيات التنزيل الحكيم يعاتب الله رسوله في بعض مواقفه الهزيلة( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ).
فالذين انغمسوا في الروح الباطنية للتصوف ألهبوا مشاعرهم القلبية فاتخذوا من القلب سبيلاً للاتحاد مع الذات الإلهية... والقلب يخطئ ولا يستطيع السير في الهدي الصحيح إلاّ بأنوار العقل فهم مخطئون في مسلكهم ولهذا أصاب بعضهم مرض الجذب والهذيان، وأضغاث أحلام... فخرجوا عن واقعهم المألوف، ودخلوا إلى عوالم خيالية رمادية ضبابية سديمية غامضة وألفاظ ردّدوها واعتبروها طلاسم وشفرات للوح المحفوظ... إن ما اتخذه المتصوفة من سلوك في الشذوذ والانحراف لا يستقيم مع التنزيل الحكيم والنهج النبوي الرشيد.
إن الكرامات قائمة إلى يوم القيامة وهي صفة فردية يمنحها الله لمن يشاء من عباده... وهي أمر فرديٌّ مخصوص لا يقبل التعميم وهي صفة نادرة قلّما نكتشفها ويظهرها الله في إنسان يختاره لحكمةٍ قدَّرَتْها الإرادة القدسية الأزلية...
وختاماً أقول قولي هذا وأفصح في التصوف أخيراً.... كن مع الله صادقاً فالله يحفظك وهو أرحم الراحمين وأقول ما قاله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام:
يا غلام: احفظ الله يحفظك.... احفظ الله تجده تجاهك.... فالتقرب سبيل الصدق مع الله... أما الاتحاد أو وحدة الوجود لا يليق بالخالق والمخلوق... كلام نُسِج من خيالٍ سقيم لا يمت بصلة إلى المنطق العقلي والتدبر القرآني العميق.
المصادر والهوامش:
1)هاشم تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان د.م مكتبة وهبة ــ ط1 1384هـ، 1965م صفحة 291.
2) الفخر الرازي ــ محمد بن عمر: كتب الأربعون في أصول الدين ــ الهندة دائرة المعارف ط1 1353هـ صفحة 116.
3)الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطّيب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل تحقيق عماد الدين أحمد حيدرـ بيروت مؤسسة الكتاب الثقافية ط3، 1414هـ 1993م صفحة107.
4)الخزرجي أبو عبيدة بين الإسلام والمسيحية ــ تحقيق الدكتور محمد شامة د. م مكتبة وهبة. ط. ت صفحة 69.
5)البيروني: أبو الريحان في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل
أو ( مرذولة ) الهند ـ مطبعة مجلس دائرة العثمانية د. ط 1377هـ 1958م
صفحة 94.
6)الطرازي عبد الله بِنَيّ الإسلام في مرآة المستشرقين بحث مقدم للندوة التي أقيمت بالهند حول الاستشراق ( جدة عالم المعرفة ) ط1 1405هـ ـ 1985م صفحة 327.
7)ديورانت ويل ــ قصة الفلسفة من أفلاطون...
8)زيغور علي ـ الفلسفات الهندية ـ بيروت دار الأندلس ـ ط2 - 1983م.
ص 156.
9) البيروني أبو الريحان مطبعة دائرة المعارف العثمانية د.ط 1958م. ص 33.
10) بدوي ـ عبد الرحمن خريف الفكر اليوناني ـ الكويت ط 1979م. ص 165.
11)هـ - أ – فرانكفورت جون ـ أي ولسن ـ بيروت ط2 1980م. ص 267.
12)بدوي عبد الرحمن موسوعة الفلسفة 213.
13) فتاح عرفان عبد الحميد محاضرات في التصوف ــ ماليزيا ــ نسخة مصورة ص6.
14) بدوي عبد الرحمن ــ موسوعة الفلسفة بيروت المؤسسة العربية د. ط 1984م وانظر إلى خريف الفكر اليوناني ص 165.
15) ح.ج كولتون عالم العصور الوسطى ترجمة جوزيف يوسف ــ الاسكندرية ــ دار المعرفة د. ط 1989م. ص 310.
16) ابن عربي ــ الفتوحات المكية د. م دار الفكر د. ط. ت 2791.
17) ابن عربي الفناء في المشاهدة ص 8.
18) ابن عربي الإسراء إلى مقام الأسرى 1 ــ 4.
19) ابن عربي ــ الفتوحات المكية 1 ــ 47.
20) مجلة ــ كلية الآداب الجامعة المصرية 1933م الجزء الأول عفيفي أبو العلا ص19ــ20.
21) ابن تيمية مجموعة الرسائل ــ د. م مكتبة ابن تيمية ط1 1969م 1/179.
22) ابن عربي التدبيرات الإلهية ـ بيروت مؤسسة بحسون ط1 1993م.
ص25 ـ 26.
23) أسين بلاثيوس ابن عربي حياته ومذهبه ترجمة عن الإسبانية عبد الرحمن بدوي الكويت وكالة المطبوعات د. ط 1979م. ص 105.
24) التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية ص 26.
25)ابن عربي ـ الرسالة الوجودية في مصر ـ مكتبة القاهرة ( د. ط. د ) ص5.
26) ابن عربي ـ الأسفار في نتائج الأسفار ص 63 الرسالة الثانية.
27) الكاشاني شرح فصوص الحكم ـ مصر مطبعة الباب الحلبي ط3 1987م.
ص 109
28) ابن تيمية بغية المرتاد ـ مكتبة العلوم 1988م. ص 407.
29) طباطباني ـ مصطفى ـ ترجمة عن الفارسية عبد الرحيم البلوشي ـ بيروت ـ دار ابن حزم ـ ط1ـ 1990م. ص99.
30) بوشيسكي ـ الفلسفة المعاصرة ـ ترجمة عزت قرني ـ الكويت ـ عالم المعرفة د. ط1993م. ص 220.
31) ابن تيمية الرد على المنطقين ــ بيروت ــ دار الكتاب اللبناني ــ ط1ــ 1993م أو بيروت دار الكتب العلمية ط1 1985م 1/214.
32) ابن تيمية شرح العقدة الأصفهانية تحقيق حسين مخلوف د- م- ط- ت دار الكتب الإسلامية ص 75.
33) ابن عربي ـ تنبيهات على علو الحقيقة المحمدية العلية ـ رسائل محي الدين ص11
34) الحراني ابن تيمية ــ مجموع الفتاوى د. د- د- ن ط1 2ــ140.
35)ابن عربي ــ فصوص الحكم ص 84 بشرح القاشاني.
36) ابن عربي ــ الرسالة الوجودية ص 10-11.
37) ابن عربي كتاب المسائل ضمن رسائل ابن عربي 2-29.
38) ابن تيمية بغية المرتاد في الرد على القرامطة ص 395.
39)ابن عربي الاسفار ــ ضمن رسائل ابن عربي ص 63.
40)ابن عربي ــ كتاب الجلالة ضمن رسائل ابن عربي 1-13.
41)ابن تيمية مجموعة رسائل ومسائل ــ مجموع الفتاوى 2-143.
42) ابن عربي الفتوحات المكية 2-156.
43) ابن عربي الفتوحات المكية 2-439.
44)أسين بلاثيوس ابن عربي حياته ومذهبه ص 268.
45)ابن عربي ــ الفتوحات المكية 2-607.
ولد الطّبيب العالم زبير حسو في الدرباسيّة – الحسكة في أوائل الأربعينيات من القرن المنصرم.. تلقى باكورة علومه الأولى" الابتدائي والإعدادي والثانوي " في محافظة الحسكة... وتابع دراسته الجامعية في النّمسا وتخرّج من جامعاتها طبيباً مختصّاً بعلم الجراحة العامة وذلك في بداية السّبعينيات من القرن الفائت... وعاد إلى وطنه " سوريا " ليمارس مهنته في مدينة حلب، وفتح عيادة بمنطقة العزيزية جانب المركز الثقافي... فهو ينحدر من عائلة كرديّة وطنيّة مخلصة، اشتهرت وذاع صيتها في المحافل الكرديّة بالشجاعة والنزاهة والكرم ونجدة الملهوف... وتربّى تربية وطنيّة فيها الشّيم الكرديّة الأصيلة، تعرّفت على هذا الإنسان منذ أكثر من عقد من الزّمن... عندما أخذتُ مريضاً إلى الطّبيب المشهور بحلب د. أنطوان دولة، وبعد معاينة دقيقة هاتفَ الطبيب زبير حسو ويستشيره ويأخذ رأيه في معالجة هذا المريض، وبعد انتهائه من المعاينة السريرية سألتهُ: يا حكيم من هو هذا الدّكتور الذي تحدّثتَ معه ؟..
قال لي: إنه الدكتور زبير حسو، فهو كردي من الحسكة وهو طبيبٌ خبير... إنّه طبيب نادر يتمتع بالاستشارة الموضوعيّة، وله خبرة ذكيّة في علم الطبّ... وهذه الشهادة من طبيب من أوائل الأطباء في حلب، ثمّ قصدت الدكتور زبير... وعرّفته بنفسي وأهديتُ له كتباً من مؤلفاتي فقبلها شاكراً، وقدّم لي ظرفاً مختوماً، وقال هذا ثمن الطباعة... وأعارني كتباً من عنده عن تاريخ الكرد والسومريين والأشوريين والبابليين... وكتاب عن بوذا... فلمّا حاورته رأيته مثقفاً بارعاً بكل أصول العلوم... وليس عالماً في الطب وحده... وجدته عالماً بتاريخ الكرد والشعوب والثقافات المعاصرة وحتى في الشعر السوريالي والآداب العالمية... صَغُرَتْ كتفيّ أمام هذا العالم العملاق... هاجستُ المونولوج النفسي... عليَّ أن أحترم هذا الرّجل لأنّه نبعٌ يتدفّق علماً وفقهاً وبحثاً...
وتاقت نفسي إليه في كلّ أسبوع انتهز فرصة وأتلقى منه موعداً في عيادته بعد أن يُنهي معاينة مرضاه، ونجلس معاً للمحاورة... تفرّست في محياه فلاحظتُ في هذا الرّجل الجدّ في كلامه وتصرفاته والشّجاعة في إبداء رأيه، والجمال في وجهه وقامته، والرّصانة في حديثه... يكره الخِداع ويُحارب الكذب والمجاملات المفضوحة والنّفاق، ولا يغتاب أحداً من زملائه الأطباء، ويكره ذا الوجهين وأصحاب الأقنعة المزيّفة وعمله يسبق كلامه إذا أحبَّ إنساناً... وكان يعالج المرضى الفقراء طوعاً ويشتري لهم الدّواء على حسابه...
فكان يقول لي: لستُ بحاجة إلى المال... أمتهن الطبّ لأنّه جزء من أضلاعي لأخدم بني قومي والآخرين، واستطرد حديثه وقال لي: يا أستاذ، لديك تجارب هائلة في الكتابة... وتمتلك ناصية البيان وتغوص في عمق الحياة... ولكن بلاغتك العالية وكأنّك في كتاباتك تتحدّى بلغاء العرب... وهذا التبذير الزّائد يُضعِف محتوى نصوصك التي تكتبها... أتمنّى أن تكتب مثل نجيب محفوظ بلغةٍ سهلةٍ بسيطةٍ غنيّة بالحبكة الفنيّة من عناصر العُقد الفنية والمونولوج الداخلي ومنتجعات التشويق وتلقّيتُ ملاحظته راضياً ومرحّباً وشاكراً...
وفي جلسةٍ ما تحدّث عن نضاله الوطني فقال: كنتُ طالباً في الجامعة في أواخر الستينات من القرن السالف وكنتُ شاباً متحمّساً لقضايانا الوطنيّة والقوميّة... وفي وقتٍ كانت السلطات العراقيّة تشنُّ حروباً ضروساً على كردستان العراق بكلّ ما تملك من أسلحةٍ الفتك والدّمار... فكتبتُ مذكّرة إلى الأمين العام للأمم المتّحدة " كورد فالد هايم " وهو نمساوي، شارحاً فيها الحرب الظّالمة على الكُرد... وتنبيه الضّمير العالمي إلى الوقوف بجانب الكرد ومساعدته... واستطعتُ بأسلوبي الذّاتي الخاص أن أجلس مع الأمين العام لمدة ربع ساعة فقط... ناولته المذكّرة... وضحك فرحاً وقال: أنت ممثّل الأكراد أنت شابٌّ يافعٌ نشيطٌ...
ثمّ قال لي: هناك مصالح سياسيّة شائكة لا أستطيع الدّفاع عن الكرد... أنا معك وطنهم مستعمر ويحقّ لهم وطنهم وأحزن عليهم، ولكنّي لا أستطيع أن أفعل شيئاً... وبمقدوري أن أخدمهم الجانب الإنساني ونشر مأساتهم في الصّحف النّمساويّة...
وفعلاً بعد مقابلتي له نَشَرَت الصّحف عن محنة الكرد وتعرّضهم للإبادة الوحشيّة من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة...
ولهذا يُعتبر الطبيب الكردي العالم مناضلاً وطنيّاً في جبهة المناضلين المجهولين في جبهة النّضال الكردي...
وهذا غيضٌ من فيض من أحاديثه المفعمة بالنّخوة الكرديّة الأصيلة، والنّضال الكردي المشرّف وفي أوائل الأحداث في سوريا ابتداءً من/ 15 / آذار عام 2011م.
هاجر الدكتور زبير حسو إلى النّمسا ثمّ قصد كردستان العراق وعمل في مشافي كردستان إلى أن حضرته الوفاة في / 14 / حزيران عام 2014م، وسمعتُ النّبأ من قبل أخ عزيز وصديق حميم ومن إحدى قنوات تلفاز كردستان...
فور سماعي النّعي امتشقتُ القلم كالحسام من غمده... والآن دعوني أناجي روح الفقيد الطائر المحلّق في سماء كردستان حيث التحقت روحه بطلائع الرّكب الثّوري في فضاءات كردستان... أيّها الموت العتيد لماذا تفترس النّسور وتختار النّمور، أما تشبع من الصّراصير والعناكب والحشرات..؟؟؟!!! تمهّل قليلاً يا أيّها الموت الباسط جناحيه في مشرق الكون ومغربه... كم من مرضى على حافّة الموت أنقذها الدكتور زبير من قبضتك ؟؟؟ وكم من يائسٍ يتجرّع الموت علقماً أعاده الأمل والشفاء له الطبيب زبير !!!. وكم من متوسّل ومستغيث ومتألّم استجاب الدكتور زبير مناجاته وأخلده إلى الراحة والشّفاء... !!!
يا أيّها الدّود: قِفْ جانباً لأوصيك وصيّةً... رويداً في افتراس جسم الدكتور زبير لأنّه كان شفيقاً رحيماً للمرضى المتألّمين... تأدّب معه بالرّأفة والرّحمة... واخشع له احتراماً...
ويا أيّها القبر الرّؤوم احتضنه بصدرك الحنون في قصور الانشراح ومساكن السّعداء وسرادق النّبلاء...
وكلّما رأيتُ مريضاً مستعصياً شفاؤه أذكرك يا سيّدي الراحل...!!!.
وكلّما شاهدتُ مريضاً فقيراً لا يملك ثمن الدّواء أذكرك يا راحلي...!!!.
وكلّما فكّرت بقومي وبوطني أذكرك يا فقيدي الغالي...!!!.
وكلّما تحدّثتُ مع صديقٍ صدوقٍ أذكرك يا مودّعي...!!!.
وكلّما قرأتُ كتاباً أذكرك يا مثقّفي الرّاحل...!!!,
وكلّما رأيت قامةً ممشوقةً وعينين سوداوين حادّتين حزينتين أذكرك... وظلّك العالي أمامي...
وكلّما التقيتُ بطبيبٍ بارعٍ أذكرك يا حكيمي... يا عالمي... يا طبيبي المسافر إلى عالم الغيب والشهادة...
إنّك لي قاموس العقل وفيحاء القلب باقٍ... ولن تمحوك من عرش قلبي الأيّام والسّنون...
ستبقى كقلعة هولير تناجي السّماء وتسامر النّجوم وتهزأ من مرور الساعات والأيّام بل السّنوات والدّهور..!!
فارقتنا يا عزيزي يوم ولادة البارتي عام 1957م... سنلتقي يا دموعي في سماء كردستان ...!!!
وختاماً أهمس في أذن الكون هذا البيت:
نَعَمْ سَرَى طيفُ من أهوى فأرّقني والحـبُّ يعتـرضُ اللّـذّات بالألـمِ
14 / حزيران / 2014 م
نحن في مسرحيّة الحياة أدّينا فصولاً مسرحيّةً تباعاً منها التراجيديا الأليمة وبعضها هزليّة حيناً ومبكيّة تارة أخرى... وكنّا أبطالها في شريط مسلسل العرض المثير للرعب والجدل...
أنا منذ خمسين عاماً أعيش مع هذا المسرح وكنتُ المتفرّج أو المراقب أو النّاقد...
قبل أن أدخل في صلب هذا الموضوع الشّائك أبتغي الصراحة والصّدق والجرأة قبل كلّ شيء وأعلن عدم التحيز والانحياز وتهميش المشاعر العاطفيّة جانباً واتّخاذ استقلاليّة العقل نهجاً وسلوكاً كما قال ابن رشد ذات يوم وأقصد وراء ذلك أن يكون الميزان عادلاً ودقيقاً... هذا من وجهة نظري وربّما أكون خاطئاً في تقييمي هذا... والمرء ليس معصوماً من الخطأ وخاصّةً من يكون في ساحات المنازلة والميدان العملي... ولكن هناك فرقٌ في الأخطاء ونوايا الخطّائين... من يتعمّد الخطأ
ومن يسهو أو يريد الإصلاح ليقع في الخطيئة... ولكلّ خاطئٍ جزاؤه، من يرتكب الخطأ عن قصد أو بدونه...
كانت السياسة قديماً لدى الشعوب المتقدّمة كالإغريق مثلاً لها درجتها العالية وقصرها المشيد تستحقّ الاحترام والتقدير في أروقة الأمم والمجتمعات الإنسانيّة وَغَدت اليوم امرأةً عاهرةً لها سبعون فرجاً...!!!.
يعمد رجال الاستخبارات العالمية عاكفين على دراسة المجتمعات وخاصة مجتمعات الشّرق من الجوانب كافّة " النفسية والتاريخية والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة "... يستهدفون من دراستهم هذه الولوج والغور في أعماق مكنونات أفئدتهم فيرصدون مقدساتهم التي يقدّسونها، وهي الدّين بمذاهبه وطوائفه والعرقيّات القوميّة، فيختارون نماذج تعتبر من حثالة المجتمعات ويغرونهم بشتّى عناصر القوة ليصبحوا أسياداً وقادةً... وهذه النماذج هي عبيدٌ للأنا السّفلى كم يقول فرويد... وحينما يتسلّقون إلى قيادة المجتمعات من خلال نظام سياسي ظاهرهُ مُغري وجذّاب ذو أهداف سامية، وباطنه استلاب الحريّات وإهانة الكرامة الإنسانيّة... وتحويل الجماهير إلى قطيع منَ النّعاج يسير خلف المرياع طوعاً وكرهاً، والمرياع يوم يولد يوضع في كيس سرج حمار الرّاعي عدّة أيّام ثمّ يُخصى إخصاءً ويُدرّب على متابعة حمار الراعي والسّير خلفه أينما ذهب ويُقلّد المرياع بالأوسمة ليكون مميزاً، وهكذا فالمرياع يمشي خلف حمار الراعي وقطيع النّعاج يسير خلفه...
فهؤلاء النماذج يحكمون الشعب باسم المقدسات القوميّة والوطنيّة والدينية فيصبح الشّعب جوقةً أو كورساً يردد أغانيهم وشعاراتهم اللمّاعة خوفاً وفزعاً منهم... ويلتجأ هؤلاء القادة الحاكمون على تصفية الفئة المخلصة التي تفهم أساليب مراوغاتهم الماكرة...
ويومئذٍ يكره الشعب حتى المقدّسات التي كانت مَثَلَهم الأعلى في التضحية ونكران الذّات... فتصبح المقدسات عنده نفايات تافهة وتموت القيم في مستقرّ نفسه فيتحوّل إلى بشرٍ آليّ ميكانيكي تقليدي ينفذ رغبات المسؤولين وتنقلب حياتهم إلى مزرعة لحظيرة البهائم والمشي على الأربع يتلذذون بالأنا السُّفلى كما أشار إلى ذلك فرويد... وهذا شاخصٌ قائمٌ في بلاد الشّرق الراقد في الممالك والدويلات والأقاليم... وهؤلاء المخططون وراء الكواليس هم أعداء الإنسانيّة يخلقون هؤلاء الأصنام المعبودة لسلب خيرات الشرق... وخلق التباغض والأحقاد لتصفية بعضهم بعضاً وإشعال نار الفتن والدسائس بين المذاهب والطوائف والقوميّات العرقيّة بواسطة أحجارهم الشطرنجيّة... وذلك بهدف إبادة الشعوب لبعضها ونهب خيراتها وكنوزها الدفينة ذات الخامات البِِكر...
وبهذه السياسة العنكبوتيّة المُدمّرة تُباد الشعوب وتُدمّر البلدان بإيعاز خفيّ إلى أصحاب الأقنعة المُزيّفة...
قتل امرئ في غابةٍ جريمـة لا تغتفـر
وقتل شـعبٍ آمنٍ مسـألةٌ فيها نظـر
نحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... الدّول المتقدِّمة تغزو الفضاء بحثاً عن مستعمرات لها... ونحن الكرد نبحث عن وطن يأوينا... ونحن مشتّتون وممزّقون بفعل قوى خفيّة تعبث بنا... لسنا أصحاب عقولنا... عقلنا مشوّش وموهوم ومخبول بقوى رجيمة تُهيمن على رشدنا... ففي كردستان الجنوبيّة الشّكل الظّاهر للعيان حكومة واحدة ورئيس واحد... وفي المضمون فرقٌ مقنّعةٌ وزعماء مخاصمون وبين عشيّة وضحاها تتهاوى الحكومة والبرلمان...
منذ ثلاثة وعشرين عاماً لم يستطيعوا حسم الخلافات وحتى يومنا هذا لم يوحّدوا لغتهم الأم ووزارة البيشمركة... فبناء الإنسان قبل بناء القصور لأنّ الإنسان المسلح بالعقل المنفتح المتنوّر المُبدع هو الذي يحرس الجامعات والأكاديميات ومؤسسات الدّولة... فالقصور تتساقط والمنشآت تتداعى إذا لم يَصُنها عقلٌ مستقلٌّ المتوّج بالعقيدة الراسخة والعلم العملي والإبداع الخلاّق...
فالرّسول العظيم بنى دولته خلال ثلاثة وعشرين عاماً ودحر إمبراطوريتين كبيرتين هما كسرى وقيصر في تلك الجزيرة القفراء... واستطاع " ماو " أن يعيد للصين مجدها العظيم... وألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية دمّرها حاكمها هتلر الديماغوجي تدميراً كاسحاً... لكنها استفاقت ووقفت قائمة، واليوم تعتبر من الدول العظمى... وكذلك اليابان تتقدّم على العالم بإبداعاتها التكنولوجية في سباقٍ عالميّ ملحوظ...
ونحن الكرد ننوح نواح النائحات، نعاتب حظّنا السيئ وقدرنا الأسود، ونشتم أعداءنا، ونتذرّع بذرائع واهية إفكاً وتلفيقاً أمام شعبنا، ونتاجر بشعبنا ابتغاءً للزعامات الجوفاء الفارغة... هل في يومٍ من الأيّام ثقّفنا الشعب بالثّقافة الوطنيّة الكرديّة النابعة من أعماق القلب والضّمير الحي ؟؟؟
هل أخذنا رأي الشّعب حينما أقدمنا على صناعة الأحزاب...؟؟
إنّ الشعب الكردي بأغلبه لم ينتسب إلى هذه الأحزاب... فالأحزاب تشكّل 10% من الشعب الكردي... وهل منحنا لشعبنا عناصر القوة أم سلبنا منه قوّته وجعلناه يواجه مصيره بنفسه في الأزمات النازلة ؟؟؟
إنّ أحزابنا تتخذ قراراتها بعيداً عن الشّعب وتجزم وتقول هي قرارات صادرة من إرادة الشّعب... نعم على حساب الشعب تبني مجدها الآفل وأوهامها الخادعة وقدرها المسحور...
إنّ الوطنيّة الكرديّة تدعو الأحزاب جمعاء ترك معاركها الشخصيّة وترّهاتها الباطلة ومهاتراتها البخسة لأنّه ليس الوقت وقت الخصومات الخاسرة... ومصلحة الكرد وكردستان تلحّ علينا نحو حوارٍ بنّاءٍ واتخاذ قرارٍ لتوحيد الصّفوف لبناء وطنٍ كردستانيّ ديمقراطيّ يسودها العدل والإخاء والمحبّة والإنسانيّة ضمن إطار الوحدة الوطنيّة السوريّة...
المثقّف هو العدو الأوحد في المجتمع المتأخّر المنغلق... والمثقّفون المخلصون في المجتمعات المتخلّفة مهمّشون ومحاربون... والمجتمع المتخلّف يظهر فيه المنقذ ويرتفع في سموّه إلى مرتبة علاّم الغيوب...
أما المجتمع المتحضّر المتقدّم تحكمه قيادة جماعيّة واعية... والمكاسب الشّخصيّة
لا تعتبر نجاحاً إذا لم يرافقها نجاحات باهرة للصالح العام المطلق كما قال هيجل بهذا الصّدد...
وإنّ الوطن يزدهر والمجتمع يتقدّم إذا شارك فلاسفتها وكتّابها وأدباؤها وشعراؤها ومثقّفوها في صياغة الدّستور واتّخاذ القرارات والتوصيات...
والمستبدّون المتحكّمون برقاب شعوبهم لا يريدون لشعوبهم الوعي والمعرفة، بل يحاولون تكريس الغباء المستحكم والانحطاط والخزي في خلايا عروقهم لكي يستمروا في قيادة قطعان الرّعاع السائبة البائسة...
من خلال تجربتي الطويلة مع القضيّة الكرديّة في غرب كردستان سوريا أستطيع أن أوزّع المجتمع الكردي السوري على طبقات أو فئات:
الطبقة الأولى: فئة المنتفعين أو الانتهازيين أو المتسلّقين الذين خدموا سلطة الدّولة الحاكمة لا يهمّهم سوى جيوبهم.
أما الطبقة الثانية: وهي فئة تجّار الكرد الذين اتّخذوا من شعبهم سوقاً لملء الجيوب بالمناصفة مع أعداء تجويع الشعوب .
أما الطبقة الثالثة: فهي فئة المتعلّمين من الأطباء والصيادلة والمحامين ورجال الدّين والمدرّسين... هذه الفئة بأنواعها تذيق شعبها مرارة البؤس والشّقاء، مع العلم أنّ معظم الذين درسوا في الخارج بمنح دراسية باسم الشعب الكردي... وأستثني من هذه الطبقة عناصر شريفة مخلصة لقضيّة الشّعب... ولكنّها قليلة التّأثير ولا وزن لها في المحك العملي... حتى أنهم محاصرون من خلال عملهم المهني يشهرون لهم بدعايات مضلّلة لكي يتمرّغوا في أكواخ الفقر وإنهاء دورهم سواء كان طبيباً
أو محامياً أو مدرّساً أو رجل دين أو... أو... أو ...أو...
الطبقة الرابعة: فئة الأحزاب... لقد ولد البارتي في أواسط حزيران عام 1957م استجابةً لطموحات الشعب الكردي في كردستان الغربية السوريّة... فكانت ولادته ولادة ميمونة مباركة... لكنه تزوّج البارتي بزوجات غير شرعيّة فأنجب أكثر من خمسة عشر ولداً ولكلّ ولدٍ قصّةٌ وحكاية...
يقول فرويد في التّحليل النّفسي: إنَّ الولد اللقيط غير الشرعي يتميّز بالمكر والاحتيال يسلك سلوك الأكاذيب حتى تصبح الأكذوبة عنده سلوكاً غريزيّاً يبدع فيه يكاد يصدّقه الآخرون...
وتابع فرويد تحليله: بأنَّ اللقيط جاء في ظروف شاذّة فتربّى على مناخ الفسق والنّفاق...
ولكن لا تخلو هذه الأحزاب من عناصر وطنيّة مخلصة في القاعدة والقيادة ولكنّها بنسبة ضعيفة مطوّقة بأطواق القهر والإذلال..
أما الطّبقة الخامسة: وهم فئة البسطاء والسذّج والسوقة من عوام النّاس... هؤلاء تحرّكهم العاطفة... تلعب فيهم المشاعر العاطفيّة كيفما شاءت لهم طبائعٌ شاذّةٌ ذات أطوارٍ غريبةٍ، ويشكّلون الأغلبيّة في المجتمع الكردي... لهم أمزجتهم المتنافرة... حيناً يضحكون ويلهون، وحيناً يبكون ويندمون... تسوقهم العاطفة العمياء ذهاباً وإيّاباً... !!!.
الطبقة السادسة الأخيرة: وهم فئة المثقّفين الشّرفاء المخلصين الوطنيين الحقيقيين... هؤلاء محاربون من كلّ الطبقات وخاصّة من الأحزاب المتشرذمة خوفاً من مغانمها العفنة وأدوارها الهزليّة المخزية والمهرولة على اليافطات البرّاقة والكرنفالات الخاوية الوهميّة والطواحين الهوائيّة لسرفانتس...
فالمجتمع الحضاري المتنوّر يقدّم قادتها المخلصين إلى الأمام، والمجتمع الغوغائي المتخلّف يدفع بخسيس الرّجال إلى الصّدارة والسّيادة...
والنّاقد الحقيقي النزيه الذي يبتغي وراء نقده إصلاح شعبه وتقدّمه وذلك كالطّبيب القدير الذي يشخّص الأصحّاء والمرضى ويبدي رأيه فيهما ...!!!
فمن خلال تقسيم مجتمعنا الكردستاني في كردستان الغربيّة إلى طبقات ستة فنكون قد شخّصنا الدّاء ونسعى للبحث عن الدواء...
المجتمع الإغريقي القديم أنجب فلاسفة ومفكّرين وأدباء وشعراء أمثال أرسطو وسقراط وأفلاطون وهوميروس وغيرهم، وهؤلاء ضحّوا بأنفسهم في سبيل مبادئهم التي آمنوا بها بحثاً عن الحقّ كقول سقراط: ابحثوا عن الحقّ فإنّ الحقّ يحرّركم من العبوديّة...
ويأتي أرسطو يدعو إلى المساواة والعدل فيطرح نظريات جديدة لتغيير المجتمع وتحسينه، فيعرض موضوع الانتخابات ويشرط أن يكون المنتخب حرّاً طليقاً لا أن يكون عبداً ذليلاً... فدعا إلى انتخابات نزيهة بعيدة عن الخوف والقهر والاستغلال لأنه يرى أن موضوع الانتخابات التي تسودها طقوس الاستقلالية والتسامح والعدل والمحبّة يأتي بنخبة أكفاء لإدارة شؤون المجتمع وبناء أركان الدولة على أساس الحقّ والخير والرّخاء والسّلام... فالانتخاب هو غربال يغربل المجتمع ويفصل اللباب بين الزوان والأشواك... ونتائج الانتخابات هي محصّلة ثقافة الشّعب، وعالمنا اليوم بأمسّ الحاجة إلى ذلك المشهد الفكري المتحرّر من سجن العصبيّة والتّطرّف والطّائفيّة إلى عالم الفكر الرّحب... إنّه يحمل عقليّة سليمة واعدة بالتفكّر والعلم والتدبّر... ذلك المشهد العقلي انتقالٌ من عطالة فكريّة إلى رؤية إنسانيّة شاملة... وقد فتح مغاليق العقول والقلوب لفهم عقلي جدلي عميق إنسانيّ نبيل...
علينا أن نستضيء بمصابيح اللمحات الفكريّة النيّرة التي أشرقت أنوارها على العالم أجمع عدلاً وخيراً ومحبّةً وأمناً وجمالاً...
إنّ الأرض القاحلة الجرداء تنبت أشواكاً... والأرض الخصبة تنبت رياحيناً... والطبيعة تنجب أشكالاً مختلفة من النباتات والحيوانات منها نافعة ومنها الضارة وذلك حفاظاً للتوازن واستمرار دورة الحياة المتجدّدة... الطبيعة ذات ذكاء خارق والإنسان وليدها... لم تخلق الكائنات الضارة عبثاً، فالكائنات جمعاء تكمل بعضها البعض لتسير الحياة قدماً نحو الخلق والإبداع في مسيرة حياتيّة عبر مليارات السنين...
فمجتمعنا الكردي السوريّ أفرز منذ نصف قرن نماذج في كلّ مرحلة... وهذه النماذج هي الوجه الواضح لكلّ مرحلة... وأتت هذه الأنموذجات من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والجغرافي والموروث التاريخي... وهي خلاصة ثقافة المجتمع الكردي في سلسلة مراحله السابقة.
ويعمل أعداء الكرد احتلال العقول قبل احتلال الأوطان..
إنّ دور المثقّف الكردي أن يوقظ خلايا الخلق والإبداع في الإنسان الكردي المعاصر... وأن يفجّر في النّفس الكرديّة كوامن المحبّة والتسامح والصّدق والجرأة والتضحية والبحث عن الحقّ والعدل والكرامة الإنسانيّة وأن يغرس في نفسه انتماءه الوطني والقومي والإنساني ويزرع فيها الرّوح الوطنيّة في نفس كلّ كرديّ في مهنته وحرفته وعلاقاته الاقتصاديّة والتجاريّة...
بهذه الروح الوطنيّة السامية يرسخ مصداقيّته مع ذاته ومع مجتمعه ومع الآخرين...
وبناء المجتمعات يقوم على أركان ثلاث " الأخلاق والعلم والاقتصاد "، فالأركان الثلاثة تكمل بعضها بعضاً في بناء مجتمعٍ زاهرٍ... إنه مهمة المثقّفين الكرد أن يكدحوا في بناء هذه الأركان قولاً وعملاً ... والمثقّف الحقيقي العتيد يضحّي بمصالحه الخاصة ومكاسبه الحياتيّة ليمنح له المجتمع المصداقيّة... فلا عهد ولا ميثاق من دون تضحية... فالمثقّفون أمام مهمة شاقة حتى يرسّخوا هذه المبادئ في عروق شعبهم...
إنه من المجحف حقّاً أن يراوغ شعبنا بالثقافات الدسيسة التي تخدم أعداء الكرد، وخليق بنا البحث عن حلفاء للكرد أن يتسموا بالصّدق والميثاق والوعي الذاتي والموضوعي، وأن يُبادر المثقّفون بالتّواصل مع الجاليات الكرديّة في أوربا وأمريكا والعالم... والتّمكين بالانتماء الوطني وهويّة كرامة الإنسان واستقلالية الشّخصيّة الكرديّة وحريّة الرّأي والبتّ في القضايا الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة وتعميق الرّوح التراثيّة والتاريخيّة في قلب كلّ كرديّ ودفعهم إلى دراسة لغتهم الأم وتنويرهم بالثقافات العالمية وتحريم تصدّع البنيان الكردي المرصوص فلا غالب
ولا مغلوب في الاقتتال الكردي الكردي... إنّ ذلك انتحارٌ وتهوّرٌ للكرد جميعاً... فالضرورة الوطنيّة تقتضي إلغاء هذا البلاء اللعين من قاموس تاريخ الكرد وكردستان.
إنّ على الحركة الكرديّة تعبئة كلّ الأكراد في معركة الكرد وكردستان... أن تستفيد الحركة الكرديّة من المزايا الإيجابيّة في كلّ كردي... فلا يوجد كردي بدون صفة إيجابيّة... وحتى المعارضون لسياسة الكرد علينا أن نستفيد من خبرتهم...
لو فرضنا أنّ المعارض مهندس، علينا أن نستفيد من خبرته في الهندسة... وأن نعامله بالعدل والمساواة... إنّ العبقريّة تكمن في حسن الإدارة مع كافة شرائح المجتمع والاستفادة من تحصيلهم العلمي والمهني والاقتصادي لصالح المجتمع والوطن... تلك السياسة التي قادت " يابان " ودول أخرى إلى أعلى مستويات التقدّم التكنولوجي والعلمي والإنساني... إننا نريد وطناً يحكمه العدل والإخاء والمحبّة والإنسانيّة ...
فلا نريد وطناً يحكمه الاستبداد، فالقصر القائم على الرّمال الهشّة يسقط... والقائم على قاعدة صلبة متينة يبقى وهناك أمثلة علم اليقين وعين اليقين، ماذا جرى للأنظمة الاستبداديّة وكيف كان مصيرها ومصير الشعب البائس الذليل...؟؟؟.
إنّ ذاكرتنا مليئة بالتّجارب التي أودت بأمتنا نحو الهاوية السحيقة... فالمثقّف الكردي الوطني العلمي العملي وبعد هذه التجارب من الويلات والكوارث كُتِبَ عليه أن يكون الهادي والمرشد والموجّه نحو بناء الشخصيّة الكرديّة الحرّة الطليقة المتحرّرة من آفات الإغراءات الدنيئة الذليلة والتوجّه نحو البناء والتعمير والمساهمة في بناء الديمقراطيّة الصادقة والبناء المعماري لنهضة الأمة على القواعد الثلاث كما أسلفنا سابقاً...
وإنّ التعصّب الحزبي لا يليق بشعبٍ مثقّفٍ ولا يفيد إلاّ أعداء الكرد وفيه خرابنا جميعاً وتأمين حريّة الفكر والتعبير عن الرّأي السياسي وتأمين العدالة الاجتماعية وتوفير الحاجات الماديّة والنمو العقلي والروحي في المعرفة والثقافة... وشعبنا قادرٌ على مواجهة كلّ هذه التحديات...
إنّنا بأمسّ الحاجة إلى مصارحة شعبنا بالصّدق والجرأة والاعتذار من شعبنا... أين كنّا حينما اُبتليت أمتنا بالنازلات الماحقات ؟؟؟. وإزاء القضية الكرديّة في وطننا السوري المسؤوليّة تقع على الجميع بنسب متفاوتة والحصّة الكبرى على أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء وأصحاب قرار ولم يكونوا أوفياء لحمل الأمانة وجعلوا كردستان الجنوبيّة مسرحاً للاقتتال بين الدولتين الإقليميتين الغاصبتين لكردستان... وأدّى ذلك إلى ارتكاب مجزرة حلبجة الدموية من قبل نظام صدام حسين... فأضحت كردستان ضحيّة لبعض عنجهيّة ساسة الكرد الغارقين في الأخطاء التي لا تغتفر... وهذا ما ذكّرني بالمناضل الراحل الأستاذ رشيد حمو الذي زجّ حياته في أتون المعارك السياسية من أجل شعبه وتعرّض للسجون والملاحقات وعاش فقيراً طوال حياته وقال لي في جلسة ما: فتحتُ معهداً للتدريس في عفرين أوائل الستينات من القرن الماضي... وتوافد عليّ طلاب الكرد وحسبتُ حسابي بأنني سوف أحصل على ثلاث آلاف ليرة سورية لقاء أتعابي في العام الدراسي وأستطيع بهذا المبلغ شراء عقارات وأملاك وأراضي واسعة... ولكنّني فضّلتُ خدمة شعبي على المال، ولستُ نادماً على ما فعلت وسأذهب إلى قبري مطمئنّ النّفس والضمير...
14 / 7 / 2014م
**********
إنك ستلد ذات يوم وستكبر، وستقف عند ذلك على أكداس وأكوام من قاذورات أخطاء أبيك ... إنَّ سعينا لم يبزغ شروقه بعد ...
أوصيك يا بنيَّ: بأن تحب وتحترم بسمات الأطفال في أحضان الأمهات، وثغاء الخراف عند الخروج من حظائرها وشروق الشمس عند الصباح، وأزهار الحقول..
أحبَّ يا بنيَّ كل جميل.. واعلم يا بنيَّ ليس على الأرض زرعٌ يدوم ولكن هناك حصادٌ يتجدّد، وأنَّ الأنفس الشريرة تضع للمناجل أسناناً حادَّةً من حديد، وناراً تحصد الرؤوس الآدمية..
اعلم يا ولدي: إن شرقنا غارقٌ في القيم حتَّى الأذقان، ولكن من دواعي الأسى يتّخذ من القيم طُعماً وآلةً لاصطياد الأنفس البريئة.. مستخدماً المشاعر العاطفية، والقيم النبيلة دروعاً مقدّسة للظفر بالصيد الثمين..
اعلم يا بنيَّ: من أضاع، وأفنى ربيع شبابه في العبث والمجون لا يقطف في خريفه إلا المرارة واليأس.. ومن شبَّ على الفوضى والتردد عاش حياته قلقاً مضطرباً .
ولدي الذي لم يولد بعد: الضلال الفكري مرضٌ خطير يجب استئصال شأفته، والتشاؤم داءُ يحوِّل حياتك إلى جحيم فاتخذْ العقل والعلم والأمل سراجاً وهاجاً لك، وحاول روح الإبداع والاختراع في دماغك... اتخذ جريان النهر قدوةً لك فالنهر يجري ويتجدد ماؤه أثناء المسير، وتخضرُّ الأرض من حوله، وتزهر الزهور والورود.. عبر جريانه.. يا بني يجب أن تنبثق قوانيننا من أخلاقياتنا المتجذِّرة..
وإن الحقيقة أسمى شموخاً من المنفعة العابرة.. ويشترط في نشرها الحب والتسامح والكياسة لا عن طريق الوعيد والتهديد والقهر والتعصب والقمع..
الحقيقة يا بني كالشمس الساطعة.. كل الناس يعرفونها بامتياز ولكن أصحاب النزوات الآنية الفردية يسفّهونها إن اختلفت باختلاف الأزمان والأمكنة.. فإن اختلافها عرضيُّ لا جوهري ولولا ذلك لما توصلت البشرية إلى حقائق كلية موضوعية مشتركة بين الناس كافة..
آن لنا يا بنيَّ أن نشرب من المنهل الرويّ الصافي الذي شرب منه قادة الفكر، وعمالقة البيان في كل زمان ومكان وساروا في طريق الحق والخير والإبداع.
الحياة علمٌ وعملٌ وأملٌ متجدد وهي أيضاً خبرة واقتباسٌ وحكمةٌ وعمل لإصلاح الحاضر .
أوصيك يا بنيَّ بالمقدستين في هذه الأرض: أمتُكَ ووطنُكَ بهما تخلد في دفتر الزمان.. وإياك يا بنيَّ العاطفة الطاغية.. إن القليل من الجهد المنظم يغني عن الكثير من الحماسة المشتتة كما أن القليل من الفطنة المركزة خيرٌ من الكثير من الذكاء المبعثر..
الحياة يا بني مسرحيةُ خيرٌ لك أن تبتعد عن رؤية ما وراء الستار فإذا ما رأيت خلف الستار فإما أن تكون الضحية أو أن تكون المخرج..
وإذا رافقت إنساناً تعرّف على جوانبه الايجابية والسلبية واستمر في معاشرته فإنه لا يقدر على إيذائك، تستطيع التغلب عليه إذا راوَدَتهُ نفسه الضرر بك، أمّا إذا كنت جاهلاً بما في داخله فأنت لقمة سهلة لابتلاعك.
خيرُ الإيديولوجيات يا بني ما نَبَعَتْ من عقولنا اليقظة المستقلة وعَبَّرت عن أصالتنا ووافقت طبائعنا، وجاءت أصولها العميقة ملائمة لحاجاتنا وميولنا ومبتغانا...
وداعاً يا ولدي الآتي من طلسم الغيب.. قد دنا أجلي واقتربتْ منيّتي.. سوف تقرأ كلماتي تصطدم وتضجر ثم تهدأ رويداً رويداً .
التوقيع: والدك الذي لم ينحنِ للسُّفهاء يوماً ..!!
أي بُني: عمر الإنسان قصيرٌ في هذه الدّنيا الغادرة... وإنّ الإنسان البائس المسكين لفي خسر لأنه محكوم عليه بالفناء... وهو يدرك ذلك... وبقيّة الكائنات لا تدرك...
بنيَّ: الحياة تبتلع الضعفاء وتستهين بهم... وهي تحترم الأقوياء... وقلما تبتسم فإذا ابتسمت لك فابتسم لها
هيِّأ نفسك يا بُني لأسوأ الاحتمالات وأحسنها ما دمت حيّاً لكي لا تصطدم وتفقد توازنك... إنّ الشّرق غارقٌ في القيم والمبادئ الإنسانية لكنه يصطاد بها الغَفَلَة والحمقى لإرواء نزواته...
فكن حذراً يا بُنيّ... إنّ سرّ الحياة يكمن فيك فابحث عنه في أغوار نفسك...
إنّ الاستكانة وراحة النفس معدوم في هذا الشرق لأنَّ أشراره ينصبون أفخاخاً للرؤوس الآدمية... ولا يقام له ميزان العدل... لانَّ منبته أُسّس على جنون العظمة والفردية الطاغية، وهيئ نفسك للمفاجآت المجهولة الماحقة لأنها خارجة عن القوانين والموازين العقلية العادلة... فلا تعلم نفسٌ ماذا تفعل غداً ولا تدري نفسٌ خاتمة حياتها؟؟!!!
اعلم يا بني إنّ الحياة مدرسةٌ فخُذ منها الصالح ودع الطّالح منها... تعلمك الحياة كيف تعيش ؟؟؟ وكيف تحيا ؟؟؟ وكيف تسعد ؟؟؟ إذا استعملت نباهتك وعقلك وحواسك الخمس الظاهرية والباطنية...
تدرك كيف تنسجم معها وتتآلف وتصاحب ؟؟؟!!!
والحياة لا ترحم السُّفهاء وأهل الأزناب الطويلة... تسحقهم سحقاً في طواحين الخزي والعار... وكل خطوة تخطوها ستدفع ثمنها إن عاجلاً أو آجلاً إن كان خيراً
أو شراً... !!!
كن بئراً جافةً يرجموك الناس بالحجارة خيرٌ من أن تكون نبعاً يمرُّ العابرون أمامك غير مبالين بك ولا ناظرين
إليك... بني عبرات من بلغ به العمر عتيّا ووهن العظم منه... هي دموعٌ صادقةٌ نابعةٌ من تضاريس العظام... هي فضلات بقايا حياته تنسكب من أغوار الأحداق على خارطة الوجه....أجل!... هي دموع المستسلم الحيران... !!! كن كوخاً حقيراً يطرق بابك المتسكعون أفضل من أن تكون قصراً منيفاً... والطارقون ساهون عنك... أحذرك يا بنيّ من خلفاء الشرق يا عزيزي يضطهدون أولي الألباب وذوي الأقلام الراسخة رسوخ الجبال...
النّسر يا بني: لا يبني عشّه في الأودية والمنحدرات... بل يبني عشه في قمم الأعالي كي لا يورّث العبودية لأولاده وأحفاده...
وإذا أتتك السّعادة فكن معتدلاً وإن أتتك المآسي فكن وسطاً فلا إفراط ولا تفريط...
لا تكن مدّاحاً لا لنفسك ولا للآخرين لأنك تستهين بنفسك وبالممدوح...
أي بني: إنّ مناخ الشرق يتحلى بالدّفء والخير والعطاء... وأجواؤه معتدلةٌ فيه الفصول الأربعة الجميلة... ولكن أشرار النفّاثات في العقد يلوّثون مناخه بأنفاسهم المسمومة وأفعالهم الشنيعة... ومناخ النفس الجميلة الهادئة تنبثق منها السعادة وراحة البال والنفس... الشّرقُ غنيٌّ بخيراته الظاهرية والباطنية ولكنها تذهب هدراً في جيوب العملاء السفلة والأعداء وأمريكا وأوروبا يبيعون ديمقراطيتهم الزائغة ببرميل من النّفط ولا يهمّهم سوى مصالحهم الساقطة وإغراق الشّرق بطوفان من الدّماء...
وإذا فقدت أخاً فابحث عن أخٍ آخر في العائلة البشرية...
الدنيا مهزلةٌ يا بُنيّ... وأنّ أذهان البشر حقائب خاوية تملؤها الحوادث والأفعال...
بنيّ: استخدم جودة التعبير والأسلوب الفائق وحسن الحديث والمنطق، واستخدام اللباقة مع جلسائك، وتجنّب الصراحة الواضحة التي تجرح الآخرين... وتدريب النّفس على عدم إساءة الظنّ في الآخر... واستخدام المجاملة في الوقت والمكان المناسبين... واستخدم التّلميح لا التّصريح عندما تَسْتَاء من تصرف الآخرين... وتعرّف على ميول جليسك وطرق تفكيره، وتحدَّث معه ما يناسب أهواءه وميوله باتزان وهدوء... وتجنّب السبَّ والشّماتة حتى لأعدائك...
الدنيا جميلة يا بُني، ولكن يعكرون جمالها ونقاءها هم ذوو الوساوس الخنّس من أشرار البشرية...!!!
يا بُني: حاول مساعدة أهل الحاجة وتقديم العون لهم... قدّم الهدايا لمن تحب بحيث تكون في الوقت المناسب... درّب نفسك على تجنّب الغضب الطائش والانفعال المقيت والتسرّع اللإرادي... واعتذر لتصرفك المكروه عمَّا بدر منك من تصرفات خاطئة... تقبّل النّقد وإذكاء روح النقاش، واحترام رأي الآخرين في فنّ الجوار، وابتسم لكسب روح الدعابة، والقدرة على فهم النكتة الذكية البارعة، وإسعاد الآخرين والمشاركة معهم في الفرح والمرح...
عليك ان تتعرّف على الحالة النفسية لجليسك... وتدريب نفسك على إقامة علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين... سرّ الذّكاء يا بُني هو الابتسامة العذراء... والبصيرة النّافذة... والقدرة على التّصرّف في المواقف الاجتماعية الملحّة، والمرونة في تعاملك مع الآخرين...
روّض نفسك في الاعتراف بأخطائك، وتقبُّلك النقد البنّاء... واحرص على التواضع إنْ أتاكَ المجد... ولا تقبل المدح من أفواه المدّاحين... حرّر عقلك من سجن التّقاليد النّتنة.
والسياسة في عصرنا هذا: صداقةٌ ظاهرةٌ... باطنها عداوةٌ كامنةٌ...
وهذه الدّنيا التي أتيت إليها رغماً عنّي هي مسرحية هزليّة كقول المعرّي:
يا موت زُرْ إن الحياة دميمة يا نفس جدّي إنّ دهرك هازل
هذه الكلمات التي أبثّها إليك هي خلاصة تجاربي، وعصارة حياتي وذكريات إقامتي في هذه الدّنيا الهازلة على غير رغبتي...!!!
وداعاً يا بُني يوم يفرُّ المرء من صاحبته وبنيه ومن كلّ شأنٍ يغنيه واجعل هذه النّصائح سلوكاً عمليّاً لك لتتحصّن بدروعها وقايةً لك من مكر الأيام وتقلّباتها وغدر الزّمان.
وما المال والأهلون إلاّ ودائع فلا بدَّ يوماً أن تردَّ الودائع
بنيَّ: حينما المرء يتجاوز السّتين يتماثل أمام مرآة مخيّلته شبح الفناء فيوقن بأنه ضيفُ التراب:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}/طه55/.
بنيَّ: إذا نزلت عليك نازلة فالتجأ إلى أركان الإيمان والصبر والثبات...
فلا تجـزع لحادثـة الليالي فمـا لحوادث الدنيـا بقــاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلدا وشـيمتك السّـماحة والوفـاءُ
بنيّ: الوداعُ مرٌّ...!!!والموت أمرُّ، ولكن لا مفرّ منه... قضاءٌ مبرم... فتقبّلهُ باطمئنان راضٍ... فكلُّ حيٍّ هالك...!!!
بنيَّ: لا تطلب حاجتك من عبدٍ ذليلٍ اغْتنى... ومن شحيحٍ مارقٍ... وما أصعبَ الحاجات عند بخيل...!!! ولا تطلب من كريمٍ أفلس...!!!
اطلب مسألتك من ذوي السيرة الحسنة... ومن سليل المعالي... ومن أرباب الخير أهل السّمعة الطيبة...
بنيَّ: تعلَّم كلّ شيء في حياتك... الصّالح والطّالح، فاختر الصّالح وانْبُذ الطّالح...!!!.
أي بُني: غالباً زواج الشّرقي تقليديٌّ جامدٌ لا روح فيه...
تزوّج بنيَّ غادةً ذكيّةً تنظرُ في سيماه وجهك... تدرك ماذا تُريد، وتغوص في أعماق وجدانك... تهدّئك، وتذهب روعك، وتصرف عنك القلق، وتأتيك بطمأنينة النّفس وراحتها... ليس المهم أن تكون طبّاخة جيّدة، وترتّب أثاث البيت، ولكن الأهم أن تطبخ ما في قرارة نفسك من هدأة البال، وراحة النّفس... والخلود إلى متاع الراحة...
بُنيّ: قد يصدفك الحظُّ في عمرك مرّةً أو مرّتين... فحاول استثماره بعقلانيّة... وتواضع... وحكمة...
بُني: عامل أهلك وأولادك بالحُسنى... مهما بلغ السّيل الزّبى... وطفح الكيل كما عَاملَ سيدنا يعقوب أبناءه إخوة يوسف...
بُني: قادة الفكر والثقافة لا يهتمون بعمرهم الجسدي الميكانيكي الآلي، يُبصرون ما بعده... من عمر عقلي وروحي...
بُنيّ: إذا عشتَ عمراً طويلاً ستذوق مرارة الفراق والوداع... ستشهد رحيل أبيك، وأمّك وأحبابك المخلصين... فروّض نفسك لتودّع الأهلين والأصحاب... ولسوف يأتيك يومٌ وأنتَ ضيف التّراب... وتشدّ الرّحيل...
بُنيَّ: في بلادي يقدّسون المال والجنس، ويهرقون على قدميهما كرامتهم وشرفهم... ويُقاس المرء بما يملك من مال ولا يسألون من أين له هذا ؟؟؟!!!
بُنيّ: إذا جالَسْتَ جليساً، ولم تضع ملاحظاتك عليه... فأنت ناقص الرّشد... وسيكون الفشل حليفك في علاقاتك مع النّاس...
بُني: حتى تكون قوياً اعتمد على الأركان الثلاث: العلم، الأخلاق، الاقتصاد...
بنيَّ: لا تكره أحداً، ولا تتسرّع في قرارتك... واصدر قرارك عن بيّنة وبرهان...
بُني: العظماء يعلون ويسمون على القلاقل والهموم والأكدار، فهم المسيطرون على حوادث الليالي الظّلماء... ويقارعون قوى الظلام، وجحافل الاضطرابات النفسية بأسلحة المعنويات العالية المدعومة بأنوار العقل... وسراج الفكر...
بُني: عندما تتولّى مصير شعبك ووطنك... عليك أن تتحلّى بالشّجاعة والقول الحق...والعطف والرحمة والصدق والعدل والمحبة لشعبك ووطنك... إنّ المراوغة والخداع... والمكر... سيختم حياتك بالخزي والعار والفضيحة الكبرى...
بُني: إذا لَدَغَتْكَ أفاعي الأيام ستتحمّل الآلام بمرارة الصّبر الحزين...
بُني: إنَّ المدرِّس النّاجح هو من يغرس المحبّة في نفوس طلاّبه...
بُني: إنَّ السّجين مهما أوتي من رغد العيش يظلُّ مقموعاً مقهوراً...
وكذلك النّسر في القفص يظلُّ عبداً مُكبّلاً بأغلال العبودية...
بُني: عشْ مع العاقل الألمعي ولو على شظف العيش خيرٌ من أنْ تصاحب وتجالس سفيهاً وقد أغدَقَ عليكَ طيبات العيش...!!!
بُنيّ: اقرأ عن العظماء لتستفيد من علومهم وحكمهم وتجاربهم... واسلك سبيلهم
بُنيّ: الساسة الكبار من الأوربيين والأمريكان يضعون لنا ما وراء الكواليس حكومات مستبدة متناحرة ومتنازعة فيما بينها تغزو بعضها بعضاً لكي تكره شعوبها قيمها القومية والدينية والوطنية... وتنبذ مقدّساتها... وعندئذٍ تؤثر المستعمرين على حكامها المستبدّين وتلوّح بمقدمهم... وترحّب بهم بأكاليل الورود وتيجان الزّهور...
بُني: إنّ معظم المرضى النفسانيين هم أُناسٌ طيّبون صالحون...!!!
المجتمع الشّقيُّ الفاجر هو السّبب في دائهم الذين ابتلوا به...
بُنيّ: الدّيمقراطية ثقافةٌ نظريّةٌ وبراغماتيّة وسلوكٌ عمليٌّ بعيداً عن الذاتية المتطفلة وقريباً من الموضوعية المتنورة... ولا تترسّخ في الأفئدة والألباب بين ليلة وضحاها ولكن من خلال أجيال متعاقبة...
بُني: صراعنا في شرقنا الجميل... هو صراع الخلافة على السلطة، وضحايا هذا الصراع هم الأبرياء المسالمون والحكماء الصّالحون...
بُني: في المجالس الرسمية أتقن علم الكلام وفنونه... وحسن آداب الحديث... فاحذر الثرثرة فإنها تنزل من قدرك وتسقطك في زلات اللسان أشنع من زلاّت الأقدام.
بُنيّ: الطّيبون والصالحون والنبلاء كالبحر صفاءً ونقاءً وطهراً... وإذا خالفتَ قوانينه وسننه فإنه يغضب عليك، ويبلعك من حيث لا يدري ولا يُبالي...
ولا تضع نفسك أمام مواجهة العاصفة والإعصار والطوفان... تنحَّ قصيّا... حتى يهدأ... ويستكين... ويخمد...
بُنيَّ: الطريق المجهول لا تمرّ فيه فإنها تجرّك إلى الغربة والضياع والهلاك...
بُنيّ: لا تصاحب أهل الفسوق فإنهم ليسوا بأصحاب لك...
بنيّ: اطلب رغيف خبزٍ من فقير شريف ولا تطلب من غنيّ فاجر فاقد الإحساس
بني: الهمّ ينخر الجسم كما ينخر الدود الشّجر.
ورد في الأساطير الميثولوجية أن سيّدنا موسى مرّ في طريقه إلى طور سيناء ليكلم الله وجد رجلاً يرمي الأحجار صوب السّماء ويشتم الذات الإلهيّة بشتائم غريبة تعبّر عن شقائه في الحياة بأنه خلقه الله فقيراً ويتيماً وقميئاً، فلم يلقَ من الحياة الدّنيا
إلاّ مرارة البؤس والشّقاء... يرجم السّماء بالأحجار ويقول: لماذا خلقتني لأبٍ ضعيف ميئوس وأم سوداء ذات حظّ سيء وعائلة مفكّكة الأوصال... وأقارب عقارب... وفي بلدٍ خاوية على عروشها كأنّها أعجاز نخلٍ منقعر... وأصدقاء منافقين لهم أقنعة مزيّفة... وأنّ يوم ولدتني أُمي لم يجدوا ثوباً ليلفوني فيه... وولدتُ أسوداً هزيلاً نحيفاً...
بينما ابن جارنا وُلِدَ على كومة من ذهب ولفّوه بأقماط من استبرق وسرير نوم من الآرائك والبساط السّندسيّ... فماذا جنيتُ ؟ وما هي جريرتي ؟... وجئتُ إلى هذه الحياة رغماً عنّي وصفحتي بيضاء ولم أرتكب إثماً ولا ذنباً... وابن جارنا مراوغٌ ماكرٌ وأنت تمنحه المكافآت والأوسمة... فمنحته السعادة... ووهبت له مالاً كثيراً وجاهاً عظيماً.. فكلّما تمادى في غيّه... أعطيته بلا حساب... وأنا صلّيت لك بإخلاص... ولم أغشّ أحداً من بني البشر... أذقتني علقم الفقر والإملاق... ولن أصلّي لك ما دمتُ حيّاً...
استغرب موسى من هذا المتمرّد الأبله... وكاد أن يبطش به ويقتله.. ثمّ فكّر وقال في نفسه إني ذاهبٌ إلى ربّي وأسأله عن ارتداد هذا الرجل وتصرّفه الهستيري، ولماذا يتحدّى الله في عنته وركوب رأسه ... ؟؟؟
تركه سيّدنا موسى في تصرّفه الشّاذ المقيت وسلوكه الباطل المهزوز...
ووجد في مسيرته نحو طور سيناء رجلاً آخر... وقد اعتكف في صومعة يعبد الله ليلاً نهاراً... فسلّم عليه وسأله ماذا تفعل هنا ؟
قال: إني انهزمتُ من أهل الشّقاء والكفر جئتُ إلى هنا لأعبد الله... هذه خلوتي مع الله فراراً من أهل الشقاء والنّفاق...
يا موسى عليك أن تنظر أمامك لكي لا تدوس بأقدامك نملة لأنها هي مخلوقٌ مثلك...
فقال موسى في نفسه: ما أعظم هذا الرّجل وما أرحمه !! إنه رجلٌ صالحٌ، ثمّ ودّعه موسى وأثنى عليه.. وقال في غيهب قلبه: سأسأل الله عن هذا العابد الزاهد التقي النّقي، وتوجّه إلى طور سيناء، وهناك كلَّم الله تكليماً فقال: اللهمّ إنّي أسألك بمعاقد العزّ من عرشك وبمنتهى الرحمة في كتابك الأعلى... يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار... يا بديع السموات والأرض... أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبرحمتك التي وسعت كلّ شيء... أن تخبرني عن الرجل الذي يرميك بالحجارة، وعن ذلك العابد في صومعته...
الأول يا موسى إنّ مثواه الجنّة لأنه صريح وصادق مع نفسه ومع معتقده الذي آمن به، فهو لا يشكو لأحد... يلتجئ إليَّ في شكواه باحثاً عن الحقيقة لأنّه يدرك أنا مغيّر الأحوال... أرفع من أشاء وأذلّ من أشاء... فأنا سأجزيه الخلود الأبدي لقاء شقائه في دار الدّنيا الفانية..
أمّا الثّاني فهو في الجحيم... إنّه مكّار ودسّاس فهو لا يؤمن بي تقنّع بقناع الإيمان ليصطاد الحمقى من النّاس... إنّه عَبْدٌ لشهواته الجامحة ونزواته الطّائشة ونفسه الأمّارة بالسّوء...
تمهّل يا موسى... رأيتُك قلقاً مضطرباً... أنت تنظر إلى الشّكل دون المضمون وَكِدتَ ترتكب جريمة بحقّ الرّجل الذي تجرّأ عليّ بالشّتم... فأنا أكافئه بالفردوس الموعود ابتغاء مرضاته وجزاء عذابه وشقائه...!!!
قرأتُ منذُ عًقود مسرحيّة للأديب المفكّر رئيف الخوري ( العصفورة والفخ ) رأيتُ فيها تشخيص الداء ووصف العلاج، هناك أفخاخٌ منصوبةٌ بأقنعة مغرية وتتباهى بأنّها حاملة لمبادئ السّماء السامية ومبادئ الشعوب المناضلة في سبيل حقوقها المشروعة في الحياة الكريمة، لكنّها هي حبلى بالدّسائس والفتن، وإشعال نار الحريق بين الطوائف والمذاهب والقوميّات لتُبيد بعضها بعضاً خدمةً لأسيادِها الأعداء... فهي أذناب الأعداء المارقين لسحق الشّعوب ونهب خيراتها...
والعصفورة هي الشّعب البسيط العاطفي الذي يعمل بقلبه الأبيض النّظيف، ويهمل حكمة العقل وبصيرة الفكر وموازين الألباب...
فالكاتب منذ نصف قرن تنبّأ بالفتنة الكبرى وخاف على أمّته من أن تقع بين فكّي كلّ فخّ من هذه الأفخاخ المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة، ودعا إلى تنبيه الشّعب وتثقيفه وتعبئته فكريّاً واجتماعيّاً وسياسياً، وإقامة موازين العدل في بلداننا ليعيش مجتمعاتنا في مأمن من أخطار الفخاخ العرجاء .. وأدرك الكاتب ببصيرته الثاقبة أعداء الأمة
هم أصحاب الفخاخ النكراء، وأنّ الأمة الحيّة لا تحيا إلا تحت ظلال العدل والمحبّة والإخاء...
توخّى الكاتب من وراء عرض مسرحيّته توعية الأمة وبنائها بناءً ثقافيّاً حضاريّاً لدرء مكائد هذه الفخاخ المرصودة هنا وهناك... إنّ الشّعوب العاطفيّة الغائبة عن موازين المحاكمة العقليّة وانعدام الثقافة الذّاتيّة والموضوعيّة تقع في حبائل هذه المكائد التي تعبث بمصائر الشّعوب والأمم، وبتنا نكره عناوين المقدّسات.. ونكره كلّ من ينصب نفسه خليفة الله في أرضه.. وحتى نكره أهل العمامات وصولجانات رجال الدّين.. ونكره المتشدّقين في القوميات العرقية ذوات الأقنعة الحرباء.. وصرنا نشكّ في هؤلاء وهؤلاء الذين نفخوا في سعير الحرائق ولهيب اللظى ليس في المدن والأرياف والسّهول والبراري والجبال فحسب، بل أحرقوا كنوز القيم ما في الصّدور وأوقدوا في مواقدها الأحقاد والأضغان والثارات.. تلك ثقافتهم الكارثيّة الماحقة التي تلقوها من طواغيتهم أعداء الإنسانيّة ضد الشّعوب المستضعفة...
إنّ داء السّرطان لا يهاجم المريض دفعةً واحدةً.. يتحيّن الفرص حينما المريض يستكين إلى إهمال صحّته فيبني السّرطان بخفاء وحين غفلةٍ يبني أعشاشاً مدمّرةً في رواق هيكل الخلايا، يزرع فيه عبوات ناسفة، وينصب الفخاخ المفخّخة لهدم الجسم وتخريبه في عقر داره...
وهكذا ثقافة التّخريب هي امتدادٌ لماضٍ مزمنٍ مريض وبيئة ملائمة قذرة فاتحة ذراعيها للتّرحيب بخليلها الحميم... وما ينفكّ ينخر جسم الأمة حتى العظام...
وهذا ليس صراعاً.. إنّما هو فتكٌ ودمارٌ...! وُجِدَ الصّراع من أجل البقاء وصيرورة الحياة.. هناك صراع الخير مع الخير في سباقٍ نحو الأفضل.. وصراع التّضحية مع التّضحية نحو العلوّ السامق والفضيلة مع الفضيلة في ساحات الخير والعطاء التي تبتغي تطوّر حياة الفرد والمجتمع والوطن إلى غدٍ مشرقٍ جميل...
وها نحن أولاء في وطننا الغالي العزيز علينا أن ننشر في أعماق وجدان مجتمعنا ثقافة الحكمة والمودّة... وهويّة الإنسان الحضاري المتميّز المتنوّر.
ثقافة التنوير... إنّها ثروة ضخمة لأمتنا، ونادى بها قبل عقود من الزمن عمالقة الفكر وأقطاب العقول النيّرة، ولكننا أغفلناهم واليوم ندفع الثّمن باهظاً...
واخترنا سلوك الارتداد ليشمت بنا الأعداء ويحزن علينا الأصدقاء... لسنا فقراء وبؤساء في مخزوننا الفكري عبر حقب تاريخية طويلة... ولكنْ مناجمنا " العقلية والروحية والمادية " الهائلة غشَّاها عجاج أكدَر وريح السّموم فحوَّلتها إلى سمّ قتّال وأوهام مضنيّة وحياة كدراء... فالبؤس في أعدائنا والإفلاس في المتربّصين بنا... ستنطلق سفينة النجاة عندما نسمع لحكمائنا وعظمائنا ونجعلهم في موقع اتّخاذ القرارات الصالحة العامرة... وننتقي انتقاءً ذوي السّير النّظيفة والأيادي البيضاء والأنفس الطاهرة النقيّة التي تتخذ من ثقافة الصّدق والصّراحة والشّجاعة سلوكاً حياتياً لقيادة الأمة نحو الإصلاح والرّقي في هندسة البناء والتعمير... واتخاذ النّهج الإنساني عنواناً واضحاً لأصالة أمتنا وعراقة وطننا... فأي وطن وأيّة أمةٍ لم تمهر بخاتم الإنسانية تتعثّر في وهاد الخزي والإذلال...
النهج الإنساني يجب أن يكون عنواننا البارز في محفل الحياة الصاعدة قبل أن نكوِّن قوميّة أو وطناً أو أمّةً يجب أن نكون إنساناً قبل كلّ شيء...
نحترم إنسانيّتنا ونحترم إنسانيّة الآخرين... إنّ الأمة الحاقدة والوطن الحاقد
لا يدوم ولا يستمر كُتِبَ عليه الزّوال... وتاريخ البشريّة مثقلٌ بهمومها وأوضارها وتاريخنا أكبر شاهدٍ على انتكاساتنا وانتصاراتنا... والتّخطيط لمستقبل أجيالنا
أن يعيشوا إخوة سعداء محبّين متسامحين، ولكي يرحمونا في مستقبل الغيب المكنون وأن يقولوا عنّا إنّ أجدادنا كانوا أذكياء أكفّاء في مسيرة حياتهم، وكانوا جديرين بجسد الحياة وروحها... الخطر أنْ لا نورّث أحفادنا ميراثاً قلقاً متداعياً متزحزحاً يزيد من حملهم أوزاراً وأثقالاً...
إنّ الأب المناظر لمستقبل أولاده لا يورّث مشاكله لهم وعلقم الحياة ومرارتها بعد رحيله... يترك لهم بصمات واضحة في عفّة النّفس ونزاهة اليد وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان، والتّسامح الصّادر من قرار النّفس والثّقة بها، وقول الحقّ والفصل بين الفضيلة والرّذيلة...وتوريث أبنائه سعادة الحياة في العدل والحبّ والخير والرّخاء...
والشّعوب تتحضّر بقياداتها وقادتها المخلصين الأوفياء... علينا أن نعلّم أبناءنا وأحفادنا سيرة أولئك العظماء في تاريخنا المعاصر والسابق...
هذا القائد الكري البارز صلاح الدّين (يوسف) يفتح القدس في حطّين المشهورة يفكّ أسر ثلاثة آلاف أسيلا... رغم أنهم شاركوا في إذلال الأمة وتمادوا في الذّبح والتنكيل وسفك الدّماء... هذا التسامح النبيل أذهل مفكّري أوربا وأدهش رجالاتها جعلهم يفكّرون بسلوكهم الأهوج، وأفعالهم الرعناء التي تلطّخ جبالهم بوصمة الخزي والعار.. هذا الرّجل العظيم لم يفكّر في يومٍ من الأيّام بوطنه الأم... إنّما كان باحثاً عن العدل في العائلة البشريّة... لا يرضى لنفسه ولأمته الذلّ وحتى يأبى الذلّ لأعدائه... ولذلك سمّاه أعداؤه بالخصم العادل...
إنّ سواقي الدّماء التي جرت وآلاف الأرواح التي أزهقت رسّخت الأحقاد في أنفس أمتنا... فلا سبيل أمامنا إلاّ اتّخاذ التّسامح علاجاً لإطفاء نيران الأحقاد السّوداء في سويداء قلوبنا وذلك عرفاناً منّا وخدمةً لأجيالنا القادمة من رحم غيب الغيب...
إنّ حضارة الجسد أو حضارة التّقنيّة تزداد يوماً بعد يوم... أما حضارة الإنسان تتخبّط وتتقهقر في أغوار الانحطاط... والغرباء والدّخلاء والزوّار الثّقلاء لا يحلّون مشاكلنا.. وأزماتنا المستعصية الشّائكة..
نحن أبناء هذه الأمة أدرى بها... ونحن أطباؤها وحكماؤها علينا أن نغيّر أنفسنا ونبذرها ببذار العدل والتسامح والمحبّة... أن نبهت خصومنا بمرام أفعالنا قدوةً واحتذاءً في حاضرنا ومستقبلنا لنفوز بشهادة المصداقيّة والميثاق الوثيق تطهيراً
لكلّ الهواجس والوساوس ذات النفاثات في العقد... لنبني وطناً يرفرف عليه علم العدل والتّسامح والمحبّة والإخاء...
تلك مهمّة ليست بشاقّة لأنّ أمتنا ليست عقيمة... إنّ الأمة التي أنجبت من رحمها أولئك الأفذاذ وصناديد الرّجال ليست عاجزةً عن الإنجاب...!!
في بلادنا جنودٌ مجهولون يعملون بصمتٍ ونحن غافلون عنهم... وأن نعود إلى محكمة الضّمير هو أعلى المحاكم... والضمير هو الذي يؤنبنا في أخطائنا، ويحمّسنا نحو نُشدان الحقّ والنهج القويم ظاهراً وباطناً...!!
الأمانة التاريخيّة تقتضي أن نمدّ جسور الثّقة بين بعضنا بعضاً قولاً وعملاً شكلاً ومضموناً في سلوك عملي جاد... وأن نقيم أعمدةً وأوتاداً من المحبّة المتمثّلة بالتّضحية والعطاء لتوطيد أركان الأمن والسّلام والعدل والرّخاء في ربوع وطننا المثخن بالجراح... ورحم الله امرئ عاين زللاً فسمح أو رأى خلالاً فأصلح...!!.
قراءة في ديوان ( ترانيم الموت) للشاعر محمود أسد
بقلم: جعدان جعدان
الشّاعر: محمود أسد من مواليد حلب1951 وهو مدرّس لغة عربية متقاعد... أمضى في التدريس أكثر من ثلاثة عقود... فهو يكتب الدراسات الأدبية ، والقصص القصيرة... والمقالات الصحفية... وصُدرتْ له مجموعاتٌ شعريّة... منها قطاف المواسم... واعترافات برسم القلق... ونزيف الأرصفة المتعبة... أحزاني تعلن العصيان.... من مقامات العشق الحلبي... قراءة في الإبداع الأدبي الحلبي - جامعة حلب... وشارك في العديد من المهرجانات في الشعر والقصة... والندوات الأدبيّة في الوطن وخارجه... وحاز على جوائز في الشّعر والقصة ، والنّصوص الأدبيّة... وهو عضو مؤسّس ومساهم في كتاب من أدباء حلب في النصف الثاني من القرن العشرين... وله مخطوطاتٌ شعرية ونثرية تنتظر الطبع بصبر جميل... قال سقراط يوماً: أفلاطون صديقٌ والحقُّ صديق، ولكنَّ الحقَّ أصدق... الشاعر محمود فهو عاقر الشعر ، وعرفته الصُّحفُ المحلية والعربيّة ، وتعرفه المنابرُ الثقافية وشاشات التلفزة... وروَّاد الثقافة من الملل والنّحل المختلفة... فهو بنى ذاته بذاته وقد تجاوز حكمة الستّين.
تراه ناشطاً زاخراً بالحيوية والحماس والإقدام... إنه من سلالة السّنديانة العاتية... لا يتزحزح ولا يترنح أمام المواقف الحاسمة... ولا يرتعش إزاء هبوب العواصف العاصفة... وأحياناً يُوحى إليك.. أنّه من نسل الزيزفون العابق عطره للجالسين معه... والعابرين بلا ثمنٍ ولا لقاء... فمن خلال معاشرتي لهذا الرجل منذ سنين طويلة... تبيّن لي... أنّه يقود ولا يُقاد...!!! وأنه جدارٌ متين يستطيع المرء اسناد ظهره إليه... فهو بركانٌ ثائر لمن عاداه...! ووليُّ حميم لمن آخاه...! ونهرٌ جارٍ للظامئين...! يقيم في داخله رقيبٌ عتيد... يحاسبه... ويدفعه إلى الخير... فشكلُهُ ومضمونه متّحدان لأولي الألباب وليس لأولي الأزناب...!!! في عمقه العميق...، وسرِّه المكنون أسرارٌ مخفية... قلّما يعرفه الآخرون... إنه يسترسل في حديثه بلا انقطاع...! لأنه يمتلك الثقافة المتنوعة قابضاَ بناصية الجرأة والاقتحام في الأغوار... ويبسط نمارق الصراحة ، والصّدق وسماحة المحبة للجميع... فيتراءى لك بأنّه مطمئنُّ النفس براحة البال... وليس على كاهله حَملٌ ثقيل...! لكنه في باطنه لهيبٌ يتلظّى ناراً وسعيرا...
يصطلي بناره المكتوون عزاءً وسلوى... هذا البلبل المغرّد سخَّر قلمه للشعراء والأدباء والكتّاب والمفكرين... لم يترك أحداً إلاّ وأهرق مداد قلمه على محراب نتاجاته... فهناك قليلٌ من الشعراء والأدباء كتبوا عنه... فهو لم يكتب لأحدٍ تزلّفاً وتكسُّباً ولا تملقا... ولا تقربا... إنه أباح بالحقيقة الصادقة... فلم يمدح أحدا ولم يكره أحدا... وأما الذين ساهموا في الكتابة عنه هم قليلون... والشاعر الحق له جمهوره القليل من المخلصين في هذا الزمن الرمادي المرمود... وحسبنا حديثا وتشططا من نفس عصامية المنشأ والفكر... تعالوا نتفيأ تحت ظلال روضة من روضات شعره... (ترانيم الموت) أولئك القاصرون النظر يخشون من هذا العنوان... والثاقبون الذين يثقبون ظلمات الجهل والعلل... يرون فيه خلودا باقيا... فكلما اقترب الأنسان من الموت هرول نحو... الخلود وليس الموت عنوانا مرعبا... وليس نهاية للحياة... ! إنه خروج من عالم الابتلاء إلى عوالم الجزاء والعقاب والفوز... إنه فصل أخر من رواية الحياة وأول فصل من فصول الخلد... والموت عند المعري مبتغاه المرتجى عندما علم أن حياة الدنيا لهو ولعب ولغوب... وتفاخر بالقصور وبالأحساب والأنساب... وأنه قد هرم وشاخ فتمنى مجيء الموت إليه فقال:
يا موت زر إن الحياة دميمـة يا نفـس جـدي إن دهرك هـازل
ولما بلغ حكيم الشعراء زهير بن ابي سلمى من العمر عتيا زهد وملَّ الحياة فقال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانيـن حولا لا أبـا لك يسـأم
وأعظم موت عند شاعرنا وأديبنا محمود أسد هو الموت المكلل والمختوم بخاتم الشهادة على هضاب القدس... لأن فيه نكران الذات ومنح الأوسمة العلوية... والالتحاق بالملأ الأعلى في جنات الفردوس نزلا... ذلك هو أعظم الموتات لأنه يجحد الأنا السفلى ويعتلي الأنا الأعلى تسانيم سدرة المنتهى... كما قال فرويد في وظيفة ( الأنا ) ذات يوم...! ويزأر الأسد في قصيدة له بعنوان( فلسطين في القلب ) فيقول:
يا قدس يا مسرى النبي محمـد أهلوك جسـر للمعالي الغالية
أهلوك سـفر للبطولـة والمدى تلك الحجارة أيقظت أماليـه
ما أروع الإيمان! إن قاد الحِجَا أبصرته نورا يضيء الداجية
الشاعر يعتمد على بحور الخليل تارة وعلى شعر التفعيلة تارة أخرى... تهتز مشاعره المغموسة بتجارب الحياة القاسية فيرفض الإزلال والخذلان ويوشِّح شعره بخمائل الظلال وبالدرر القابعة... في شطآن البحار... بين أصداف الجواهر واليواقيت... والكلمات الصارخة في ثنايا شعره... هي نفثات تلقائية عفوية من قلب شاعر جريح طموح... يغار على أمته... من نوازل ونكبات... فترانيم الموت لديه هي سيمفونية الشهادة على سهول وسفوح حيفا ويافا المروية بالدم الأحمر القاني....
يا قدس! كيف الدم يشفي حاليه فالنـار تسـري والفواجع قاسية
بالنـار نرجـع حقنا ووجودنا والحـق يقـوى بالنفـوس البانيه
ركب شاعرنا شراع التجديد في همساته الشعرية الدافئة بوعي منه وادراك كبير وكتب سطورا متداخلة ومضغوطة تنبئ بلهيب متوقد ، وبحركة فنية... تتجدد، وتنبعث وتشع من جديد عبر أبجديته ذات الإيقاع الجميل الموزون...، والنبرات الحزينة... متشبثا بخلفية صلده من التاريخ الرصين... ويلفع حروفه العصيّ الحرون بسواد الحزن المقيت، والغضب الثائر... ممتزجا الدمع الأبيض حين ترقد الأحلام على أرصفة الحزن، والتوابيت الناعية...! وتتحطم كل المرايا المقعرة... ثم تنهض الأحلام وتستيقظ المدارك في آن معا... تتيح للقارئ لذة المتعة والبهجة... في تبديد الظلام ، واقتلاع الأشواك... ففي محطاته الشعرية يخترق حيوات الكائنات الإنسانية بأجوائه البنفسجية الفسيحة ، وبروح جمالية مطلقة رغم القلق المستبد وذلك بنبرات مرهفة عمّا يجيش في ذاته من خواطر وذكريات ووقائع...التي واكبت ألقه الفكري الناصع...وعالمه السحري الشفاف... فيظهر هادئا وصاخبا بإيقاع موسيقي جذاب متدثرا ومجللا برمز وردي يتكئ عليه عنوانا بارعا لقصائده... فتلك المزايا والخصال تمثل ألة جذب تستقطب القارئ إليها في فلك المعاني التي يقتنصها... حيث تتجلى ملائكة الشعر وتقبع طواغيت الشعر في قماقمها وزنزاناتها المعتمة...
إذ تمور في عالمه الداخلي أشجان النفس الطموح فشاعرنا... سيف يعربيٌّ سوريٌّ حلبيٌّ مشرق... يشعُّ بنبراسه ووهجه خيمة التاريخ ، ويذيب بقيظ الصحارى ركام الصقيع والجليد المتراكم... كجلمود صخر حطه السيل من عل...! قارعا نواقيس الخطر الداهم... ومبشرا بأن القدس لا يتحرر بالخطب والأشعار والبكاء على الأطلال وإنما بالحديد والنار... ويطلق الشاعر هتافه الصارخ بالأنين تارة، وبالثورة تارة أخرى فيقول:
ولما أدرنا الظهور ونحن نغني
عضضنا أصابعنا بعد أن ضاع منّا الحسام
ومن قال إن الدموع
ستمنح فجرا، وتبني الممالك
متى نكسر الخوف فينا
متى نعتلي قامة السالكين دروب الشهادة
هرب الزهر
وبعنا الياسمينا
واستكنّا اليهوذ
خانعينا
قد قصمنا ظهر حطّين
كأنّا من زمان
قد كفرنا بالرجولة
يا صلاح الدين قم
قد قالها غورو غرورا
يتحدّى كبرياء الرافضين
قم إلينا قد سبينا
فالأكاذيب سيولٌ
والتواقيع فراشاتٌ
قد أضعنا القدس
وسجدنا لسيول النِّفط
والجنس ونمنا في المحاكم
فأنهض إلينا يا قمر
وأنهض إلينا يامطر
عاشت بطولة شعبنا
فهي السبيل لمن صبر
وهي الربيع لمن بزر
ويصور الشاعر المشهد العربي بالخزي والعار أمام القضية الكبرى عبر مجازاته ، واستعاراته البلاغية... وكناياته الذكية... راكبا كُمّيتَ الخليل الجامح معلنا صهيله عبر أبجديته المعهودة قائلا:
لا أرى في الدّروب إلا صورا تخجـل الحمقـى تفوق الشُّـهبا
فجمعت المجد من غير ونـىً وقبضـت النّـِفـط ثـم الذَّهبـا
قد أتاك الشـعر يرمي دررا فاحتـواك الحرف حتى غربـا
فبكى الحرف نجومـا أفـلت وأتـى الفكـر بيـان نضـب
في حروب الأهل يبدو بطـلا يسكب الموت على من غضب
ويذكّرني البيت الأخير بالشاعر الجاهلي دريد بن الصمة
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت وإن أرشدت غزية أرشدي
ويرسل الشاعر نداءه إلى العرب جميعا... منذرا ونذيرا من الكارثة الكبرى... وضياع الحق... ولكن هيهات هيهات لما توعدون...!!! فهؤلاء فليسوا برجال بل هم أشباه الرجال.. قائلا:
مرة أخرى أنادي يا عرب طفـح الكيـل فهيـا للخطـب
ويجيب الغيم قلبي شـاحب أسفي صاروا رجالا من خشب
فشاعرنا وجه بارز في شعرنا السوري المعاصر... تفيض قريحته بشعر غزير كالينابيع المتدفقة ماء زلالا... ولسوف ترتل الأجيال أشعاره في سيمفونية رائعة خالدة...
في عرف الأُسُوْدِ الضواري... لا يفترس الأسد قرينه الأسد... أما في عالمنا الإنساني... الإنسان يفترس أخاه الإنسان بدافع غرائزه الهائجة مُتَمتَرْساً خلف شعارات مبهرحة بدافع العرق أو المذاهب والطوائف أو التحزبات الممسوخة في مصانع أعداء الإنسانية والتي تلوَّح بأنها على حق وغيرها على الباطل وبأن قتل خصمه سيكافأ جزاءً أوفى، ومنزلةً عاليةً في الفردوس الخالد...
إنَّ الإنسان هو أكرم المخلوقات في الكوكب الأرضي... فلماذا نتخاصم ونأكل لحوم بعضنا، ونسفك دماء أخوتنا وكلنا نبوح بحبنا ( الله ) فلماذا لا نحب بعضنا بعضاً...؟؟؟
وتكرّر ذكر الإنسان في الذكر الحكيم مرات ومرات... وحتى أنَّ فيه سورة خاصَّة للإنسان... وأنه من الأنبل ومن انطلاقنا من قمة الصفاء والنقاء الإنساني أدعو إلى نبذ الخلافات العرقية والمذهبية والجلوس على مائدةٍ مستديرة نلغي هذه التعصبات المقيتة... ( وكنوز الأرض تكفينا جميعاً إذا تجاوزنا وتخطينا التعصبات والانحيازات المذهبية والعرقية ) ونطبّق مقولة الرسول الأعظم والمعلم الأول للبشرية ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) إن من يتباهى بحضارته، ويغضّ الطرف عن الحضارات الأخرى فإنه ليس جديراً بحضارته فيصبح المعول الهدّام لحضارته، وإن دراسة التاريخ مليئةٌ بالفكر والتأمل والعمق... وإنَّ الحضارات التي سادت في حقبةٍ أو في أخرى... إنما قامت استجابة للتحديات الخارجية طبقاً لنظرية التحدي والاستجابة... حيث بقي هذان العاملان الأساسيان فيهما يتأرجحان في كفتي ميزان مضطرب... وفي شرقنا الأدنى والأوسط ترقد الحضارات الواحدة فوق الأخرى... القلاع... المعابد... الآثار كلها في بقعةٍ واحدة... حضارات فارسية وكردية ويونانية ورومانية وبيزنطية وفينيقية... ولماذا ذابت هذه النظم السياسية الواحد بعد الآخر... إننا نعيش في قلق على مصير البشرية... والنظم السياسية التي استولت على سدة الحكم اضطهدت شعوبها في آسيا وأفريقيا وأمريكا... غَرَسَتْ في نفوس هذه الشعوب الغضب المقيت، والحقد الدفين وسعير الانتقام...
علينا أن ندرس التاريخ بذكاء ليس تاريخ البشر فحسب بل تاريخ الأرض والبحار والنباتات، والمستحاثات العضوية... وأن نفلسف التاريخ ونتوغل في أعماقه بأسلوبٍ جديد... بدلاً من حكاياته التراجيدية والكوميدية...!!!
إن الأنظمة المستبدة مهما قُوِيَتْ وتقدّمت تكنولوجياً لن تلبث أن تزول من تلقاء نفسها وسط هذا الزحام المضطرب لأنها قامت على نظام خاطئ وفاسد... لا يمكن أن تعمّر كثيراً وتدفع ثمناً باهظاً لجبروتها وعربدتها...
وإني أتنبأ مستقبلاً أنَّ ميزان القوة سوف يميل لصالح دول الشرق الأوسط، والدول الآسيوية... لأنها سوف تعود إلى ينابيعها الأصيلة، وسبحات فكرها العميق...
ولو اجتمع حكماء العالم في منصّةٍ واحدةٍ من العدل والمحبة والسلام... واتفقوا على عائلةٍ بشرية واحدة... ونبذوا الأحزاب السياسية الزائغة التي تبتغي العروش وليس الإنسان... واخترقوا ملاعب المذاهب والطوائف... والتحزّبات العرقية... ودعوا إلى احترام الإنسان... والبحث عن سعادة أخيه الإنسان لازدهرت الأرض وأثمرت ثمار النبوغ والقطوف الدانية... والغلال الوفيرة، والجنة المرتجى التي كانت يحلم بها عمالقة التاريخ، وفلاسفة الكهوف.....
في مقالي هذا على الطّروس... قد امتزجتْ أدمعي بمداد قلمي فاختلطت الدّموع اختلاطاً حميماً وديعاً وذلك في تقلّبات طقسٍ رومانسيّ بديعٍ وحزين... إنّه ذلكم هو الأستاذ المرحوم عبد الرّحمن آلوجي... الذي ولد عام 1951م في الحسكة... وتربّى على كنف والده الفقيه... وفي بيت علم وأدب نشأ تنشئةً وطنيّةً روحيّةً... تلقّى أبجديّته الأولى من والده ومن مدارس بلده الابتدائيّة والإعدادية والثانويّة، وانتسب إلى كليّة الآداب وتخرّج منها، وعُيّن مدرّساً لمادة اللغة العربيّة في ثانويات بلده وظلّ يدرّس عدة سنوات... ثمّ فُصلَ بقرار أمني... وانخرط في البارتي منذ أن وعى ذاته وهو شابٌّ يافعٌ في ربيع حياته وكرّس نفسه وماله وأهله لمبادئ البارتي... واستمرّ فيه حتى نهاية حياته وفياً مخلصاً صريحاً جريئاً صادقاً... فلم ييأس ولم يتبرّم ولم يضجر ولم يملّ، بل كان قمّةً في الزّاد والعطاء... حتى أصبح أحد القادة البارزين... وكان يُشار إليه بالبنان لنضاله الصّاعد ومواقفه الوطنيّة الثابتة المشرّفة... كان سياسياً حكيماً في نضاله... وكان شاعراً محلّقاً في فضاءات الخيال الكردي وكاتباً متميّزاً، ومفكّراً حضاريّاً متنوّراً، ومثقّفاً بارعاً في شتّى الثقافات العالميّة قديمها وحديثها وخاصّة ثقافة الكرد وكردستان... وحظي بمنح درجة الدكتوراه له في إحدى الجامعات العالميّة وإذا نطق في مجلس بزّ الحضور... فكان يلقي محاضرات في المركز الثقافي في الحسكة والقامشلي... يتوافد إليه النّاس زرافات ووحدانا ومن كلّ حدبٍ وصوب... وتمتلئ قاعة المحاضرات بالحضور... ويقف القادمون على أقدامهم خارج القاعة ليسمعوا متلهّفين ما يقوله الآلوجي... فأحبّه الناس واشتاقوا لثقافته الواسعة وأدبه الجم وسلوكه المستقيم وتواضعه وتضحيته الواعية وحبّه لكل المكونات في المجتمع السّوري البديع، فكان يوزّع ما يأخذه من المحاضرات الثقافية على الفقراء والمحتاجين من أحياء بلده... ولهذا وُلِدَ فقيراً وعاش فقيراً ومات فقيراً... وكان يستمدُّ وطنيّته الجبّارة من مدرسه البارزاني العظيم... فهو بارزانيّ بامتياز في مواقفه، فكان أحد الجنود المجهولين لحكمة البارزاني الخالد طيلة حياته، وكان خاوي الجيوب ليس من أصحاب القدور الراسيات... زاهداً... عفيف النّفس... مضحّياً بذاته في المواقف التي تتطلّب نكران الذّات... وكان يحمل على كاهله همّ قومه وهمّ الوطن السوري قبل هموم نفسه وأسرته... ولا يحسب حساباً للعواقب لمواقفه الجريئة وتحت ظلّ قرارات البارتي يناضل بمعنويّات عالية شامخة ورجولة فائقة نادرة... قلّما تجدها عند امرئ آخر... رأيته كان متفائلاً أبداً... ولا تتسلل الشّكوى جدار قلبه فكان يهزأ بالجبناء الرعاديد والسّفهاء الحمقى الذين يبيعون أنفسهم في أسواق سوداء ما وراء الكواليس... فكان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين فكان يقول: يجب أن يكون نضالنا في هذا البلد سلميّاً أن تقتبس من مبادئ غاندي السلميّة، وأن ننوّر بنضالنا الوطني الإنساني أخوتنا وأشقاءنا من سائر المكوّنات من الطوائف والأعراق بأنّ الكرد هم يدٌ يُمْنى لأخوتهم الآخرين، وليسوا خطراً عليهم... هدفهم بناء هذا الوطن العزيز بناءً حضاريّاً إنسانيّاً كالجسد الواحد والعائلة الواحدة ليأخذ موقعه المرموق على جغرافية هذه الأرض المُباركة... وحينما أفتح شريط الذّكريات مع هذا الرّجل الكيّس الحصيف... إنّه لشريط مؤلم يفتح جراحاتي التي لا تندمل... أعجبتُ بهذا الرّجل إعجاباً فوق العادة... وذلك منذ سنين طويلة أحببتُ صراحته ووضوحه ونزاهته وإخلاصه ومداركه الواسعة... فكان يزورني كلّما زار حلب، ويزور صديقنا المخلص وشقيقنا الأكبر الأستاذ حنيف علّيكو.. فكان حديثنا أوّلاً وأخراً الحركة الكرديّة ضمن إطار وحدتنا الوطنيّة السوريّة... فكان يتألّم لتشرذم الحركة الكرديّة وتشتتها{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}/الحشر14/.
وكان يقول: ألدُّ الخصام هم الكُرد أنفسهم قبل الأعداء...
فأعقبتُ على حديثه بسؤال: لماذا لا تقابل الرئيس مسعود البارزاني وتزوّده بالحقائق الصائبة ؟.
فأجاب: إنّ بطانته لا تسمح لي باللقاء معه... وأغلبها أهل الوجبات الطازجة واللقمات الدّسمة... ثمّ تأفّف متألّماً... واستطرد يقول:
بينما كنتُ عائداً من كردستان العراق اعتقلني الأمن السّوري بحججٍ باطلة واهية أوهى من خيوط بيت العنكبوت، فقادني الأمن إلى فرع فلسطين في دمشق...
فقلتُ للمحقّق: دعني أتحدّث بعدئذٍ احكموا عليَّ ما تشاءون... وبعدما سمع حديثي فقال لأحد حجّابه: خذوا الدّكتور إلى أحد الأسرّة في مهجعكم إنّه رجلٌ وقورٌ يستحقُّ الاحترام...
وفي عام 2006م دُعيتُ بدوري لإلقاء محاضرة في المركز الثّقافي في القامشلي فذهبتُ إليه... وكانت محاضرتي بعنوان " الإنسانيّة مهدّدة باللإنسانيّة " وبعد إلقاء محاضرتي توجّهتُ لزيارة آلوجي في الحسكة... وعند وصولي إلى الحسكة استأجرتُ سيّارة لزيارته فقلتُ لسائق السيارة: أوصلني إلى حارة المفتي..
فأجابني: هل أنت - يا أستاذ – تريد بيت الأستاذ عبد الرّحمن آلوجي ؟.
فقلت له: كيف عرفت ذلك ؟.
قال لي: إنّ الأستاذ آلوجي زعيمٌ كرديٌّ وعربيّ في آن معاً لإنسانيّته الجمّة وحبّه الطّافح بثمار الإخلاص والمودّة الصّادقة... ولمّا وصلتُ منزله رحّب بي ترحيباً حارّاً واستقبلني بحرارةٍ ومودّةٍ واحترامٍ...
بيته مفروشٌ ومزخرفٌ بياسمين الكتب... بيتٌ غنيّ بالكتب... فقيرٌ بالأثاث والمفروشات من الأرائك والإستبرق... فهو بكرمه يتجاوز حدوده، ويتحلّى برونق الأدب وكرم الضّيافة والحلم والصّبر الجميل... ينسى كلّ همومه ويتفرّغ لخدمة الضّيف الزّائر... وعندما يسترسل في حديثه أشعر أنّني تلميذٌ أمامه... أستفيدُ من ثقافته وتجاربه وإخلاصه في نضاله السياسي الشّاق...
وحينما زرنا مجلس العزاء للمرحوم الأستاذ كمال أحمد كان في مقدّمة المستقبلين لنا، ويلقي كلمات العزاء بأبلغ البيان غير خائف ولا مضطرب متحدّثاً بجسارة نادرة عن مناقب الفقيد الرّاحل الذي استشهد من أجل قضيّة شعبه...
ولمّا زار الرئيس مسعود البارزاني دمشق واستقبله الرّئيس الراحل حافظ الأسد كان الأستاذ عبد الرّحمن آلوجي بصحبته... ولمّا توجّه الرئيس مسعود البارزاني إلى شيخ العرب الشمّر الذي دعاه لاستضافته كان الآلوجي برفقته في دار الشّيخ الشّمّري...
وأذكر جيّداً كان يكتب لإذاعة كردستان العراق بفكره الرّصين وبلاغته البليغة، وهو أحد أعلامها.. وكنتُ أصغي إلى كلماته عبر إذاعة " هنا صوت كردستان العراق " فكانت كتاباته عن حكمة البارزاني في اتخاذ القرارات الصعبة إبّان المحن والكوارث في السياسة الدوليّة القذرة... فكان محور كلامه... بك يا أب الكرد ترتفع الهامات وتشمخ الجبال الراسيات...
وللآلوجي عشرات الكتب تنتظر الطباعة... فلم يتفرّغ لنفسه ولم يملك أثمان الطّباعة... وله مئات المقالات في الصّحف الكرديّة والعربيّة وعلى الانترنت... وكان هو المحرّر في صحيفة البارتي" دنكي كرد " الجريدة المركزيّة النّاطقة باسم الشعب الكردي... وحيال المهمّات الجسيمة الموكولة على كاهله من هموم وأكدار وأحمال ثقيلة ومن تشرذم وانشقاقات في البارتي تعرّض لهجمات أمراضٍ خطيرة... وبات يُقاوم على محاور جبهات عدّة ورغم الشّدائد ظلّ وفيّاً لنهج البارزاني الخالد وبعض صعاليك السّاسة الكرد... كانوا يرونه صغيراً، وأعداء الكرد يرونه عملاقاً
من عمالقة النّضال... والمقرّبون منه أغفلوا عن علله وأسقامه، وعندما أدركوا أنه يحتضر بعثوه إلى إحدى مشافي أوربا للعلاج بعد فوات الأوان حفاظاً على ماء الوجه... ولكن سبق السّيف العذل... غير أنّ حالته ازدادت تدهوراً وانحطاطاً، ثمّ أُعيدَ إلى مشفى أربيل... وهنالك فارقت روحه جسده والتحقت بطلائع الرّكب الثوري أمثال البارزاني الخالد وقاضي محمد والشيخ سعيد بيران والدّكتور فؤاد وسمكو وغيرهم الآلاف من الثّائرين الخالدين وذلك بتاريخ / 23 / 5 / 2012م.
ثمّ أُعيدَ جثمانه إلى مسقط رأسه بالحسكة، وقد اهتزّت مشاعرها وقامت باستقبال جثمانه بموكبٍ جنائزيّ مهيب، ووُريَ الثّرى وسط جموعٍ حاشدةٍ... وتفتّحت قرائح الكتّاب والأدباء والشّعراء بإلقاء كلمات الوداع الأخيرة...
* وفي الختام السّؤال الذي يطرح نفسه: هل وفّينا لهذا الرّجل حقّه ؟؟؟!!!.
إنّ الأمّة الشّقيّة الجاهلة تقتل عظماءها بأنفاسها المسمومة المريضة، ثمّ تحيي ذكراها باكيّةً نائحةً...!!!.
وأشباه السّاسة المحنّطين يقودون الأمّة نحو الهاوية... !!!!!.
سلاماً طيباً وتقديراً قيّماً واحتراماً عالياً وبعد:
لا أبتغي من وراء ذلك مالاً ولا جاهاً ولا ترفّعاً... ولكن حرصاً على مستقبل الكرد وكردستان، وحفاظاً على عرش البارزاني الخالد، وخوفاً من السقوط والانهيار... إنّ البارزاني الخالد الذي لا يمحى في ذاكرة التاريخ بنى صرحاً من القيم والمبادئ تبقى ببقاء الكرد وكردستان... ويعتبر البارزاني معلّماً وهادياً لأمّته كأمثال" غاندي وتشرتشل وروزفلت وجورج واشنطن وديغول وماو ولينين..."
ولم يكن نضاله أقلّ من هؤلاء القادة الكبار في كوكبنا الأرضي... أريد أن أصارحك وأنت خليفة البارزاني في عرشه ولا تعاتبني في قولي الثقيل... ابتغاءً لمصلحة الأمة الكردية التي هي تجزئة المجزّأ وأنت حامل راية البارزاني وحملك صعب شديد تتصدّع من حمله جبال زاغروس ومتين وهاوار... ولكن مهما أوتي المرء من قوّة وحكمة فهو بأمسّ الحاجة إلى النقد البنّاء، والأمة التي تمارس النقد ولم تقبل به لهي أمة متقهقرة تعيش في أودية الانحطاط...
وكما علّمنا التاريخ بأنّ الفاتح الأكبر اسكندر المقدوني كان يعمل بتوجيهات الفيلسوف أرسطو، وأنّ البطل العظيم صلاح الدين الأيّوبي كان يقول: فتحتُ القدس بقلم ابن عساكر...
وكان نابليون يهيب بالأقلام الناشطة الفاعلة الثاقبة... ولا يهاب قذيفة المدفع...
أنا منذ نعومة أظفاري حين سمعت نبأ البارزاني وهو يخوض المعارك في جبال كردستان تعلّقت به كما يتلهف القلب لأبويه، وعلّقت صورته في صدارة بيتي منذ أكثر من أربعين عاماً، وكرّست حياتي ومماتي دفاعاً عنه في المحافل والأندية ومن مؤلفاتي عنه كتاب" البارزاني مثلي الأعلى" وتلقّيت مضايقات طاغية من قبل المستبدّين وأعداء البارزاني وما زلت على النهج الذي رسمه البارزاني لنا، وأزداد علماً يوماً بعد يوم من معين البارزاني العظيم...
وعندما كنت تزور دمشق في القرن الماضي كنت توّاقاً لرؤياك وللاجتماع بك، ولكن كانت الأبواب موصدة لأنّ المقربين إليك لا يريدون إيصال صوت الحقيقة، وهؤلاء يفقدون ثقة الشعب الكردي، فهم أهل الموائد والجفان والقدور...
وخوفاً من ضياع مصالحهم الجسديّة يمنعون أهل الصدق والوفاء للتقرّب إليك... إنّ ممثليك في دمشق من خلال محك التعامل ومعدن الامتحان تبيّن لي بأنّهم ليسوا برجال البارزاني وإنّما هم أشباه الرجال وغرّتهم الأماني الباطلة، إنّ الذين يحيطون بك إحاطة القيد بالمعصم... إنّما هم أصحاب البذخ والترف واللهو بعيدين عن نهج وسلوك البارزاني الخالد...
سيّدي الرئيس:
بعد انهيار جمهورية مهاباد التجأ البارزاني مع بيشمركته الأبطال إلى الاتحاد السوفييتي عبر مسيرة شاقة ودروب صعبة... هؤلاء البيشمركة هم المخلصون الصادقون الذين اعتمد البارزاني في مسيرة الموت والحياة وتكلّلت مسيرته بالظّفر... فماذا أعددتم يا سيّدي بعد عشرين عاماً من الفدراليّة... وهذه هدنة ليست بقصيرة... وماذا هيأتم من السياسة الرشيدة ومن الحكمة والعدل وإستراتيجية القوة والدفاع والاقتصاد العلمي التقني والمعنوي وأهم من هذا وذاك هو بناء الإنسان ذلك البناء الذي لا يهدم أبداً...
أجل يا سيّدي، بنيتم الفنادق والجامعات والمعاهد والقرى المدمّرة والطرق والمسالك الوعرة... ولكن لم تفلحوا في حراستها وحمايتها وبقائها لآفاق مستقبل مشرق وبين عشيّة وضحاها تزول وتفنى... لأنّ ثقافة الاقتتال منذ عام 1966م وحتى الآن ما زالت تجول وتصول في كردستان وسلوك الأحزاب المتجزّئة البعيدة عن الوطنية الراسخة يسود في طول كردستان وعرضها... والوطنيون المخلصون مهمّشون والمتملّقون هم المقرّبون وهم الذين يحكمون كردستان... وهؤلاء يبيعون أنفسهم في سوق النخاسين ومن معهم بأبخس الأثمان... وما يسمى بالمجلس الوطني الكردي هم فضلات الأحزاب الكرديّة المشرذمة وهم ولدان أنجبهم الاستبداد السوري واستلم ساحتهم زمام المبادرة وناصية القيادة BKK الذي يلعب ويمرح ولا يحسب لهم حساباً... إنّ نسبة هذه التنظيمات لا يشكلون بالنسبة للشعب الكردي 10% أما البقيّة الباقية من الشعب الكردي فهم وطنيّون مخلصون وبارزانيون صادقون لا يثقون بهذه التنظيمات المصنوعة في معامل الدخلاء والأعداد المتربّصين بكم... وهؤلاء الوطنيون من السواد الأعظم تجهلهم يا سيّدي ولا يستطيعون إيصال صوتهم إليك... فالأبواب مغلقة سداً منيعاً أمامهم...
سيّدي، إنّ زمن الثورة الكردية قد ولّى قبل عشرين عاماً وبدأ عهد البناء والعيش الكريم... إنّ الفقراء الذين كانوا مع الثورة ما زالوا فقراء أذلاّء في العهد الجديد... وأعداء الثورة هم اليوم يقطفون ثمار دماء الشهداء وهم المرفّهون والمنعمون...
إنّك يا سيّدي بحاجة إلى ثورة في داخل الإقليم وخارجه... وهناك مصلحون وفي تاريخنا الراهن ذهبوا ضحيّة الحاشية الفاسدة..
سيّدي الرئيس: إنّ عرش البارزاني يتزحزح يوماً بعد يوم، وإن لم تدرك وتستيقظ فإنّ الأفول نهايته والعاقبة أدهى وأمرّ.
فأرجو أن يصل صوتي إليك، وهناك ملايين من الأمة الكردية عيونهم إليك يطلبون منكم الالتفات إليهم.
وختاماً:
وفي الزرازير جبنٌ وهي طائرةٌ وفي البزاة شـموخٌ وهـي تحتضر
ودمتم حياً يقظاً وعادلاً وخادماً للكرد وكردستان...
أخوكم: أحد الجنود المجهولين في جبهة البارزاني الذين أغفلتهم.
19 / 9 / 2012م
سوريا – حلب
جعدان جعدان
عتابٌ بيني وبين الحق...!!!
يا أيها الحقّ الحقيق...! تحية واحتراماً كالظل العالي...، وحبّاً نابعاً من ينابيع الصراحة والصدق والوفاء... وشوقاً عارماً... كشوق الأمّهات لأفلاذ أكبادهنّ... وسلاماً كنسيم الهواء الذي يرتّل سيمفونية الحياة البهيجة عبر الدهور والأحقاب... يا سيّدي ويا سيّد الأسياد في أعلى الأعالي، كم أخرجتَني من جنّات وعيون؟ وكم هجّرتَني وأذقتَني ويلات الشقاء، ومقابر الأحزان، من بلدٍ إلى بلد؟... وكم أفقرتَني وأنا أقسم باسمك، ومن أتباعه الخلَّص، ورغم ذلك ألبستَني لباسَ الجوع والمسكنة، وجرّدتَني من الصحاب والخلاّن، وتركتَني وحيداً في براري الوحشة والعزلة والانفراد... وجعلتَني عبداً للناس جميعاً، وأنزلتَني من عرش القصور إلى سراديب الأطلال الدارسة، وأعماق الزنزانات المرعبة... وقذفتني إلى الصحارى العطشى تائهاً... حائراً في جزر المنافي الآسنة؟ وكم وكم نفيتَني إلى ممالك القلاقل والهواجس والوساوس، وجعلتَني أندب حظّي العاثر عبر ومضات جبران الرائعة:
أعطِني الناي وغنِّ فالغنا سرّ الوجـود
وأنين الناي يبقـى بعد أن يفنى الوجود
سيّدي الحق: لا تؤاخذني فيما إذا أخطأتُ معك أو تجاوزتُ من خلال فلسفتي الضحلة حدود الممكنات متجاوزاً الأسباب والمسبّبات... محلّقاً في الميثولوجيا والميتافيزيقا إلى عوالم الغيبيّات والقوى الخفيّة التي تحرّك هذا الكون المجهول ما وراء الحجُب، وإني أعتقد أن بيني وبينك الثقافات والوشائج، وقربى كقربى الأرحام على تباعد الديار، واختلال الأزمنة والأعصار، فهل النسب إلا نسب الروح؟!!
أرجو أن تتحمّل أخطائي وأوزاري وتغفر لي تجاوزاتي الممنوعة وشطحاتي الغوغائية... وأن تستوعبني كما يستوعب البحر ويخفي ما بين جوانحه الحيتان والحشرات وعناكب الفساد وفضلات البشر... وأنحني أمامك يا سيّدي، وأنا خادمك في كل الأحوال، فاغفر لي تطفّلي... وما أبوح به وفيما أعرضه عليك... كلّ ذلك ليطمئنّ قلبي ولتهدأ هواجس نفسي وليستيقظ الإيمان الباطني، ويخرج العقل من عقاله إلى سدّة الخلافة في الحكمة.
والآن يا سيّدي الحق، وإن أسأتُ الأدب معك، أرجو أن تصغي إليّ ولو بأذن واحدة أو بربع أذن... فيما أعرضه من جدليّتي التي استقيتُها من اطّلاعاتي المتنوّعة ومن ملاحظاتي، وتجاربي الحياتية... يا سيّدي، وأنا خادمك الأمين... سيّدي، الضدّان المتناقضان يصنعان مسيرة الحياة الطافحة ببديع الزينة والازدهار... فأنت موجود بوجود خصمك... وخصمك موجود بوجودك، وكلاكما من مشكاةٍ واحدة...
فلولاه لم تكن، ولولاك لم يكن... لولاه لم يكن لك أتباع من الحشود الهائلة الذين يلتفّون حولك، ويتسابقون قُدُما نحو الفناء ذوداً عنك. فلولاك لم يكن هؤلاء الجمهرة من الأنصار يهرعون خفافاً وثقالاً للدفاع عنك من خصمك اللدود... فأنت يا سيدي موجود بوجوده، وفانٍ بفنائه... سيّدي، السالب والموجب في صراعٍ مستمر، والسالب مع السالب لا يعجن عجيناً ولا يصنع خميرة، ولا يبتكر مادّةً؛ والذّكر إذا لم يتّحد مع الأنثى لا يُنجب ولداً؛ وكما أن إشارة (+) وحدها لا تحلّ مسألة رياضية ولا تبني نظريةً، فهي بحاجة ضرورية وحتمية لإشارة (-) ناقص. وكما أن الصفر وملايين الأصفار لا يشكّل قيمة عددية
ما لم يقترن بالأعداد... ويبلغ الصفر أو المعدوم حدوده القصوى إذا وقف في صفّه العدد... والعدد كذلك يرتفع بسرعة فائقة جداً إذا أدخل وصُفّ بجانبه الصفر، يقفز العدد إلى رقم هائل جداً يعجز الرياضي ويربك أولي الألعاب
لا أولي الأزناب...
يا سيّدي، وأنا على أعتاب بابك طارقاً... أريد أن أثير الجدل حول مفاصل أسرارك الباطنية الخفيّة وأنا أحد أتباعك الأوفياء... إن الأرض الجرز إذا لم تُحرث ولم يمسّها الماء ينبت فيها الشوك والعوسج... والخير إذا ركن إلى العجز والكسل والاستسلام وتقاعس عن واجبه، وأخلد إلى الغفلة والسهو تمادى الشرّ وتجبّر وطغى على حساب ضعفه واعتلى الشرّ وتسنّم المجد والكبرياء وبات يصول ويجول في ساحات الكَرّ ضارباً أروع البطولات في ميادين الانتصارات... ومنذ الجبلة الأولى... هذا خصمك الباطل سجّل عليك نصراً تلو نصر... وأنت المهزوم المنكسر... يوم طرد آدم من الجنّة وقتل قابيل هابيل ومصرع الأنبياء بأيدي عناصر الشر اللئيم... واضطهاد المسيح... وقتل عمر وعثمان وعلي وذرّيته من بعده... ويوم قُتل عمر بن عبد العزيز مسموماً... ويوم لبّى أبو مسلم الخراساني دعوة أبي جعفر المنصور السفّاح، حيث قُتل في عقر بلاطه غدراً ولؤماً ووحشيةً... ويوم قتل ابن المقفّع (روزبة)، ويوم حُكم على جُنيد والحلاج وابن عربي... وغيرهم وغيرهم بالموت والرجم بالحجارة حتى الرمق الأخير... ويوم نكبة البرامكة الذين قُتلوا ظلماً وطغياناً... ويوم قتل وصلب عبد الله بن الزبير... ويوم قُتل سعيد بن المسيّب بسيف الحجّاج لسؤال سأله الحجّاج: هل أنا ظالم أم مظلوم؟ فردّ عليه أنت لستَ ظالماً ولا مظلوماً، بل أنت الظلم بعينه... وإلى يومنا هذا وأنت المهزوم أمام جبروت خصمك فما السرّ يا سيّدي الحق؟
هل أنتما الخصمان ممثّلان بارعان في مسرحية الحياة، تؤدّيان دوركما كما يمليان عليكما في الدراما التراجيدية والكوميدية الأزلية عبر صراع لا تنتهي فصوله؟! فهل أنتما طلسمٌ مجهول في هذه الهيولى الكونية؟
وقد التفّ حولكما أنصاركما لعقدة هذا الصراع الذي بدونه لا تستمرّ الحياة وليس لها من مذاق ومتعة ولذّة!!! أم أنتما خاضعان لامتحان وابتلاء لمشيئة إرادةٍ صمدية في المسطور اللوح الأزلي؟... هذا كل ما في جعبتي من غموض واستفسارات جنونية راديكالية أقدّمها إليك يا سيدي الحق الذي أنحني أمامك طول حياتي فأرجو أن تردّ عليّ بقولك الحق البليغ، وحسبي سفاهةً وحمقاً وبلادةً يا سيّدي !!!!
وحينما جاء دور الحق في القول الفصل أشرقت السموات والأرض بنور ربّها، وجاء البرهان الساطع منذ خلق الكينونة الأولى، واستفتح الحق بقول الحق: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتَنا إنك العليم الحكيم." إن من يعترض على مقتضيات إرادة الحكمة الإلهية يعِش مخذولاً مثل المستحاثّات العفنة، والرؤوس الخاوية والأفئدة الضريرة... إن ما ذكرته من انتصارات... إنها انكسارات وهزائم متلاحقة... فالأحداث التي سردتها هي جميعاً خادمة لأولي النهى...!!
إنها تجارب حياتية مستقاة منها الدروس ليزدهر العقل البشري لآفاق جديدة، واجتهادات بازغة، فأولئك الضحايا هم شهداء للمثل العليا لبني الإنسان وبرهانٌ دافع لتزويد الإيمان الإلهي بطاقةٍ روحية هائلة لتغذية التجربة الإنسانية بزاد الاجتهاد والاطّلاع والتثقيف... ويستمدّ العقل إيمانه بتجلّيات الخالق في كائناته ومن خلال ذلك يبني إيمانه ويدرك الله...
إن آدم خرج من الجنة ونزل إلى الأرض لأن الأرض أمه فوُلد من ترابها وصلصالها فعاد إلى أمه وإلى وطنه... فأنت يا أيها المغفّل الأبله قراءتك للأحداث ضحلة مبتذلة، وهستيرية أحياناً أخرى. أما القراءة الباطنية الصائبة فهي عودة الجنين إلى رحمها... فعلّمه الأسماء كلّها... وهذا تشريف وتعظيم لآدم... وهذا الشابي العظيم يسأل الأرض:
ولمــا ســألت الأرض يا أمُّ هل تكرهيـــن البشر
فقالت أحبّ في الناس أهـ ل الطموح ومن يستلذّ الخطر
أما بخصوص الذين ذكرتهم ولاقوا حتفهم ظلماً وبغياً من الأنبياء والصدّيقين والشهداء، فقد فازوا درجات أعلى وأرفع من قصور الدنيا وزخارفها... فنزول الوحي الإلهي كان بالحق، وخلق الميزان والصراط المستقيم كان بالحق... وخلق قوانين الكون ودساتيره كان بالحق من نجوم ومجرّات وشموس وأقمار كان بالحق... ألم تعلم أيّها السفيه أن اسمي ورد في البيان الحكيم ثمانياً وتسعين مرّة؟... فبالحقّ منشأ الكون، وبالحق خلق الحياة والموت، ومعقود على جبينه الظَّفَر والفوز المبين... فإن خسر جولةً للعبرة والدرس فإن النصر له في نهاية المطاف. والرسول العظيم خسر معركةً واحدة وانتصر في جميع المعارك الأخرى التي خاضها.
أين عاد وثمود وأرم ذات العماد؟؟!!! أين الذين ظلموا وطغوا وبغوا؟؟!!
الفوز الكبير لا يناله إلا الصابرون والعلماء العاملون يدفعون جسدهم البيولوجي الترابي ابتغاء المكاسب الروحية في السموات العلا. فتأمّل في الإشراق الألمعي لأمير الشعر والشعراء:
وليس الخلـد مرتبـةً تُلقّى وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همـمٍ كــبارٍ إذا ذهبت مصادرها بقينـا
وسرّ العبقرية حين يفسرني فينتظم الصنائع والفنـونا
وآثـار الرجال إذا تنـاهت إلى التاريخ خير الحاكمينا
وأخذك من فم الدنيـا ثنـاءً وتركك في مسامعها طنينا
في معركة حطّين كان النصر الكبير لأن مبادئ الحق تمثّلت في القيادة المخلصة:
قل للملوك تخلّوا عن عروشكمُ فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
لقد كان صلاح الدين يتمنّى الشهادة لكنه لم يظفر بها، كما كان خالد بن الوليد يتمنّاها لكنها لم تُكتب له، فوصف نفسه بأنه يموت كما يموت البعير....
فيا أيها المغرور المصاب بجنون العظمة كفاك سفسطة وثرثرة، وُلدت من مني يمنى ومن نفايات مهترئة ومن كهوف وهام لم ترَ الشمس واضحاً في رائعة النهار فحقّ عليك قول الشاعر:
أيا حجر السن أما تستحي تسنّ الحديد ولا تقطع
إن الغرور وجنون العظمة نهاية كل مبتلٍ بهما في الخزي والعار... فستدفع الثمن غالياً عاجلاً أو آجلاً لآفاتك الخطيرة:(ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله)
إن ظاهر الأحداث لا يوحي لك بمضمونها ولا يفهمها إلا الراسخون في العلم. أنت تنظر بحضارة الجسد وليس بحضارة الروح يا قاصر البصر والبصيرة ولكنّ النابغين من أصحاب الألباب ينظرون في الاثنين معاً... من أنتَ؟ وماذا تشكّل في هذا الكون المترامي الأطراف الخاضع لموازين وقوانين دقيقة... لا تشكّل إلا جزءاً ضئيلاً من ذرّةٍ في الغبار الكوني... وأنت تُقاد في سفن علاّم الغيوب من حيث لا تشعر ولا تدري إلى أين يؤول مصيرك!!!
يا أيها الغافل جئت إلى هذه الدنيا بدون استشارة منك، ووُلدتَ لأبوين ولعرقٍ وطائفةٍ لا يؤخذ رأيك، وولدتَ في موطن ليس باختيارك... وهل تستطيع درء النوم والموت والشيخوخة عن حياتك؟؟!!!
اعلم أنك صائر إلى عالم الغيب والشهادة، فمصيرك أنت أجهل الناس بجهله، وناصيتك بيد الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فعُدْ إلى الحق، ومن أصدق من الله قولاً: "تلك آيات نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين."، "ولتعلمنّ نبأه بعد حين ".
وإليك هذه الأبيات التي صاغها الشافعي بقلم الحق:
دع الأيـام تفعـل مـا تشـاء وطِبْ نفسـاً إذا حكم القضاءُ
ولا تجـزع لحادثـة الليـالي فما لحـوادث الدنيـا بقـاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشـيمتك السماحة والوفـاءُ
ولا ترجُ السماحـة من بخيلٍ فمـا في النار للظمآن مـاءُ
ومن نزلت بسـاحته المنايـا فلا أرضٌ تقيـه ولا سمـاءُ
الحياة جميلة... ولكن أجملها على الإطلاق سكينة النفس المتكئة على رفرفٍ خضرٍ، وعبقري حسان والموشّحة بنمارق مصفوفة، وزرابيّ مبثوثة من الرّخاء والاطمئنان والأمن والسلام والسعادة... وفي رياضٍ من سندسٍ خضرٍ في رياحين من المحبة الفوّاحة بنكهةِ الصفاء والنّقاء... على بيدرٍ من مواسم سنابل الحصاد...
الرواية... هي ملحمة الشّقاء والعذاب... هي رحلة الموت إلى مقابر الأحزان... وسراديب الآلام في توابيتٍ ناعية... !!! هي رواية كلّ سوري اكتوى بجحيم النوازل الماحقة، والأزمات المستعصية... في الوطن الجريح النّازف دماً قانياً... هي رواية فصول دراماتيكية تراجيدية للروائي إبراهيم الخولي... أجاد في صياغتها بحبكةٍ فنيّةٍ رائعة...
وإليك عزيزي القارئ ملخّص الرواية لتصطلي بلهيب نارها عزاءً وسلوى... امرأة متزوجة ولها طفلتان... يأتيها النّبأ بأنّ زوجها مصابٌ... وهو راقدٌ في المشفى... وفي الطريق واجتياز الحواجز ذات الخرائط الموبوءة بالتمزق والانهيار... تقع طعماً سائغاً وفريسةً طازجاً في الأفخاخ اللعينة المنصوبة هنا وهناك... فوقعتِ الواقعة، وقَرَعَت القارعة... !!! فوقعت في فخّ البلايا وجحور الشّقاء ودهاليز القهر والإذلال... وشاء القدر أن تلتقي بخليلٍ صادقٍ أمين... في رحلة الموت والفناء... واستطاعت بصبرها وتحدّيها مع صديق دربها الإفلات من قبضة العصاة المارقين... ولما بلغت إلى شاطئ الحرية والانعتاق مع صديقها المخلص... اكتوت بنار الوسواس الخنّاس... طلّقها زوجها تحت وطأة أوهام عادات ذميمة ودميمة... فالتجأت إلى رفيق رحلتها لتكون زوجاً له... وزُفّت له مقتحمةً عقبات الأعراف الاجتماعية البليدة... وأقاما مركزاً علمياً لمعالجة ضحايا الأزمة التي ضربت أطنابها عرض البلاد وطولها...
اختار الكاتب الشخصية المحورية الأساسية في الرواية هي ( السبية ) التي كتبت ملحمة الشقاء بمداد من دمٍ قانٍ وروحٍ ثائرة هائجة متمرّدة... وبقية الشخصيات هي ثانوية مرادفة لتشقَّ الرواية سبيلها عبر العويص والوعر... نحو البناء والاكتمال والكمال...
والرواية هي بنت الواقع والأحداث الأليمة التي أنجبت الخلّ والعلقم... في طحالب اليأس القاتل والتشرّد المقيت... إنها تقود القارئ من ويلٍ إلى ويل... أشدّ عذاباً وعقاباً... إنها ملحمة الآلام... تريك أساليباً وحشيةً يندى لها جبين الوحوش المفترسة... فتشدّ القارئ إليها من هوّة قبرٍ مرعبٍ مفزعٍ سحيق... إلى ظلمات فوق ظلمات في التوابيت الناعية الباكية النائحة...
الروائي الأستاذ إبراهيم الخولي موهوبٌ أسلوباً وبياناً وفصاحةً منذ النشأة الأولى... فهو فارسٌ باقتدار... لا يشقُّ له غبار... يقحمك في غيهب أزمات لا مفرّ منها...
في الرواية الأزمات تتشابك وتتعقّد... والأحداث تبلغ الذّروة... يأتيك بعنصر التشويق نحو انقشاع الغيوم... وتزاحم الأضداد... وتتلهّف القلوب نحو ما وراء الأحداث في تصعيدٍ دراميٍّ غير مسبوق سلفاً... فتنفرج الأزمة... وتذهب الغُمّة... وعبر صراع مرهصٍ لا تنتهي أحداثه في سجالٍ ديناميكيّ صاعد...
الكاتب غير مقلّد في أسلوبه... إنهُ مبدعٌ في سرد الأحداث... وله أسلوبُه المميز في الروعة والإبداع... وذلك في قوله: / فسمعت تسابيح الماء والأعشاب وطيور الليل وذرات التراب.../.
ويدخل في أغوار النفس الإنسانية عبر فنيّة محاكاة الذات أو المونولوج الداخلي بفلسفته الروائية الرائعة:/ رأت نفسها وهي عروس بكامل أناقتها وزينتها وفتنتها ترتدي فستانها الأبيض الجميل وبيدها وردة حمراء جميلة ليزفَّ وحيداً إلى عريسها ذاك القادم إليها متّشحاً بغلالة رقيقة من أحلام..../.
ويستعمل الكاتب الأسلوب المحكي الذي يناسب الحدث أو الموقف:/ يمكن راحت عليه نومة... لأنو طوال الليل سهران... أكيد يا خوي /.
السبية هي مرآة لواقعِ وطنٍ جريحٍ لم يندمل بعد... السبية سوف ترتّلها الأيام وتلحنها السّنون في طقسٍ رومانسيٍّ كئيب...
قراءة في نداء مرفوع إلى علي بن أبي طالب
للشاعر علام عبد الهادي
بقلم: جعدان جعدان
5 – 12 – 2014م
في مساء له نكهة سدرة المنتهى... وروائح الرياحين من الفردوس نزلاً... ناديتُ قلمي متوسلاً قُمْ أيها الراقد في منافي الأحلام...!!! فردّ عليَّ قائماً كالكميت الجامح... ماذا تريد مني أيها المستبد تدفعني نحو فصول دراماتيكية هزلية ابتغاءً لنزواتك الفردية... تنفثُ فيني النفاثات في العقد، والوساوس الخُنّس...
وأنا الأسير في قبضتك منذ الأربعين عاماً... حيث اقتلعتني من عائلتي يوم كنت غصناً من أغصانها في بستان الحياة... أتمتع بجمال أمي الحنونة... ذات الهواء النقي والنسيم الطليق والينابيع الجارية... اعتقلتني أسيراً بين أصابعك الخمس... تذيقني ألواناً من أحقادك المكبوتة... ومآربك الشخصية البخسة... فهمست في أذنيه كلمات هادئة رخية ناعمة... لأزيحَ عنه مخاض أوجاعه ونقمة غضبه...
رويداً أيها المعصوم البريء... أنت إصبعٌ من أصابعي الخمس... وعنصر
من عناصري الجسدية والروحية... ألم تعلم أنّ التنزيل الحكيم أقسم بك وخصّك بسورةٍ منه وقال فيك:{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}/ العلق 3-5/.
اليوم يا عزيزي إنه لشرفٌ عظيمٌ... ستخطُّ أروع آيات البيان لهزارٍ ينشدُ الإمام عليّ في فضاء من سبحات روحية وشطحات صوفية عميقة والالتحام بذاتٍ قدسية من أسرار الغيب المكنون... يُنبئ عن مقامٍ كبيرٍ وعلوٍّ شاهقٍ... إنه الشاعر علام عبد الهادي إذ به يرفع ملحمته الشعرية إلى إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه... فهدأ القلم وانزاح الغضب وانشرح صدره قائلاً: سأكون رهن بنانك وأداةً طيّعة، ما توحي عليّ من يواقيت الحق وياسمين المحبة وزبرجد العدل وبلسم الشوق والحنين وكنوز الخير والعطاء...
ركب الشاعر علام زورق شعر التفعيلة ليوصله إلى سرّ مَنْ اجتمع مع رسول الإنسانية نسباً وصهراً في بيت النبوة... متخذاً رموزاً وصوراً وتشابيهاً طافحةً بروائع البديع... عبر ثلّةٍ من الاستعارات والمجازات اللغوية... وصولاً إلى الرمز الخفي المكنون بنفحات قدسية عالية... إلى سيّد الشهداء وسيد البلغاء... وإمام الأئمة... فيقول بكلِّ إجلالٍ وخشوع: يا سرّنا المقروء... حروفاً... فواصل ألواح... نقاطاً تتبدّى كواكب... ترثي ثقل النور... جوارحٌ تترجرج فينا هوىً... تعشقت رؤايا محاكاتك... وتبسمت ورقاء وارفٍ... قافٍ تشظّى... فجراً لكلماتك الطالعة...
ويعاتب الشاعر الأمة التي تعاني البؤس الفكري والفقر الروحي والشحّ الأخلاقي التي نبذت تعاليمه وانتهكت حرمات مقدساته وتَشَرْذمت إلى فئات متخاصمة متناحرة...
فيعبر شاعرنا هذا الخذلان بأفصح صورة وأبلغ بيان فيقول متأففاً... متحسراً... متألماً:
كيف أستسمح خاطرك... ونحن لا نحمل من فيضك... إلا ما يطعنك... حاشاك... حاشاك... لا أبغي...لكني أوصّف واقعي... من بعد واقعك... إسلامك السلام... علينا من ذكرك السلام... صيّرناه ألف إسلام...لا ينتمي لغبار تحلّق حول مربعك...
الشاعر علام يتوجّه إلى ركن متين مستغيثاً بالغوث الأكبر عسى يجد بلسماً لهذا الجرح النازف، ويخاطب سيّد المتقين من خلال ملحمته الرائعة مناجياً الإمام لواقعٍ متشرذمٍ... يتلظى جحيماً وسعيراً في ويلات حربٍ لا تنتهي أوارها...
يا سيد الكلمات... عاملك في الفسطاط... ليس هنا... ولا من شبيهٍ... أو نصف شبيه... يا أول التشريق... يا فاتح التكوين... كافور عاد صدَّاحاً... وسيافاً... ونباحاً... تجرّه الأفعى من ذيلها...
ويناجي الشاعر علام روحه الطاهرة بأروع مشهدٍ مأساوي لحال الأمة التي آلت إلى نزاعات باطلة لا تجني منها غير البوار والدمار... قائلاً: ستون عاماً... ما زال الكفر كفراً... نصارع ثوراً لا يفقه غير الدّماء... ستون عاماً... والنخلة البكر تزأر غضباً... ولا تساقط من رطب مريم...
ويتشبّث الشاعر علام ببردة الإمام لا خلاص إلا به متدثّراً بهديه القويم طالباً عودة الأمن والسلام والمحبة والإخاء على ربوع وطننا الجريح وإرساء دعائم العدل والحق... وذلك بنبرةٍ حزينةٍ... وسيمفونية شعريةٍ طافحةٍ بأجراس هادئةٍ شجيّةٍ... قائلاً:
يا سيّد الكلمات... والصلوات... يا سيد العابرين إلى السماء... يا سيد الصمت... إذا تجلّى الكلام... راسماً وجهكَ... فانظر على رفق عيون المعذّبين... يا سيد الفجر المرصع... بالتلفّت... والتطلّع... والتحفز... والتشوق... والهيام...
ويستطرد الشاعر بأن إمام الأبرار... هو نهر الحب والحنان... يجرى بين منازل القلوب سلسبيلاً عذباً نقياً صافياً... موشحاً بهالات الإشراق الروحي من الفيوضات الإلهية البازغة...
يا سيد الحب... الذي سكن المنازل والسهول...
اغرورقت عينا زيتونة مازجها النور...
فارتفعت تمدّ ذراعها...
تسترجع رنين دعاء نوح...
وختاماً: ملحمة الشاعر علام هي حفيدة لملحمة الإمام البوصيري في بردتها النبوية الشريفة... وحذا حذوه ولكن ببريقٍ من مدادٍ ذهبيّ آخر...
كلَّ ما في الكون لقانونٍ لا يُرَدّ هو قانون الكون والفساد... فالأشياء تكون أو توجد ثم تفسد وتبلى لتولد أشياء أخرى تفسد بدورها وتبلى، ومن الموت تولد الحياة...، ومن الحياة يولد الموت...
لا شكَّ أن الحضارة الإسلامية قد عرفت بداياتها الطاهرة، وينابيعها المثالية الصافية في عهد الرسول الأكرم بعد أن اكتملت الأسس والقيم والمبادئ... فهذا ابن الخطاب يفتح القدس، ويرفض الصلاة في الكنيسة حتى لا تختلف الأمة من بعده عليها، وصلّى بجوار الكنيسة حيث يقوم مسجده الصغير ملاصقاً للكنيسة... وحتى اليهود الذين طردوا من القدس، وحرّم عليهم دخولها على يد روما المسيحية لم يسمح لهم بالعودة إلى زيارتها وسكناها إلا في ظلَّ خلافة عمر بعد أن حُرِموا من ذلك بقرون... إن التاريخ في المنطقة لم يخل بعد ذلك من الاضطهاد بكل أنواعه... الاضطهاد الديني، والاضطهاد العرقي... والحروب الدينية أو بالأحرى الحروب باسم الدين...
ولا شكَّ أن الحضارة الإسلامية الأولى عرفت كل ما عرفته الحضارات الأخرى... بعد ذلك من عهود الاستبداد ومن الصراعات السياسية التي ارتدتْ ثياباً بأنها الأحق في القيادة حتى دخلت مراحل الجمود ثم الاضمحلال والتحلل والضعف حتى تبارى في نهبها الطغاة... فكما أن هناك أمثلة كثيرة على الإقدام على قتل العلماء والعظماء من الأمة الذين كانوا هداةً لأمتهم... ك – سعيد بن المسيّب، وابن تيمية الذي مات مسجوناً، ومحنة أحمد بن حنبل أيام فتنة (( القرآن هل هو قديم أم مخلوق ؟؟ ))... وراح ضحية الفتنة غيره من الجهابذة الهمام، وأعلام الفكر والبيان... ففي أذهان أجيالنا المتعاقبة ما حدث خلال أربعة عشر قرناً هو كتلةٌ واحدة مضيئة من التاريخ الزاهر...نعم جاء الإسلام، ونهض أهله في حماس، يبنون دولته، وفي غمرة التفاؤل حسبوا أنهم يقيمون على الإيمان، والعدل، والخير دولة تدوم أبد الدهر وّمّضّتْ دولةُ الراشدين في طريقها فإذا هي في عنفوانها اقتحم الفساد دارها، وقطعت الفتنة مسيرتها وسقط ثلاثةٌ من الخلفاء شهداء الغدر والخيانة، وفساد الحياة الذي لا مهرب منه، وعندما استشهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رمز الإيمان والعدل والبيان والفروسية، وانتقل الحكم إلى معاوية... أيقن الناس بأن فساد الزمن جزء من الزمن نفسه، ولا مفرّ من دورة الحياة والموت... فجاء ابن خلدون في مقدمته 1332 – 1406 هـ يقيّم المجتمعات بأدوارها الدائرية، وَفَلْسَفَ التاريخ... وأتى بقوانين الطبيعيات والكيميائيات على كل ما يقع في الكون من تحولات... وقال: بأن التاريخ يتألف من دول... ولها أعمار كأعمار الأحياء... فكما يولد كل حيّ ثم ينمو ويشبّ ثم يهرم ويموت، أما دورة العمران عند ابن خلدون: أنَّ البداوة هي المرحلة الأولى من مراحل تطور كل جماعة إنسانية... وأن البداوة أصل العمران والأمصار... وعند ابن خلدون أن الجماعة البشرية تبدأ بدوّيةً ثم يشتدُّ عودها، وتتزايد قواها فتتّجه إلى غزو ما يجاورها من بلاد الحضر للاستيلاء عليها... فإذا تمكنت من ذلك، واستقرت في بلد متحضر وحكمته فقد بلغت قمة ما يسميه بالمجد أو قمة القمم ثم تؤول إلى النهاية... فللدول أعمارٌ كأعمار الأشخاص... وكما أن الشجرة تزهر وتثمر ثم تذبل... وهكذا دورة الحياة... وعند ابن خلدون المرحلة الأخيرة هي الترف بداية الفساد أو هو الفساد كله... ونظرية ابن خلدون رغم جاذبيتها فليس لها حظٌ من الصواب الكامل بأن الترف يفسد الأمة... غير أنَّ هناك ترف جسدي، وترفٌ روحيٌْ، وترف عقلي، فإذا اكتملت الثلاث اكتملت الحضارة والمدنية في أعلى مستوياتها، وأما إذا تشبثت الأمة بالترفين الأخيرين كُتِبَتْ لها الصيرورة والبقاء... وكلَّ جيل يسلّمُ الرّاية لجيلٍ بعده... فليست الحضارة عيباً اجتماعياً، ولا سبباً لفساد المجتمع بل هي قوّةٌ ودعامةٌ تشدُّ بنيانه... أمّا فساد الترف يأتي من سوء استخدامه... كما هو في دول الخليج...
تحوَّل الترف إلى البذخ والتبذير والإسراف في غير موضعه... فانقلب الترف إلى داءٍ سقيم بدءاً من الملك ثم الأمراء ثم المسئولين ثم الرعية... فالعيب ليس في الحضارة نفسها وإنما في موقف الإنسان منها... فالترف ليس مستوىً مالياً أو حضارياً وإنما هو خُلُقٌ وسلوك... هناك أغنياء غير مترفين... وهناك فقراءٌ مترفون... يتقنون جلب السّعادة لهم والعيش الكريم... ويمكن تحسين أحوال البشر وتحريرهم من الكثير من عوامل الفساد عن طريق العلم والثقافة والكشف عن أسباب العلل والأمراض التي تصيب البدن، وتسرع بفساده...
من هنا يقول الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جيوفاني 1668 – 1774 م إن تقدم الإنسانية حقيقة ولكنه يتم في حركة لولبية أي أنَّ دورات التاريخ المتعاقبة يتحقق معها شيءٌ من التحسن المطرد... وهذا ما جعل المفكر الفرنسي تورجو 1727 – 1781 م يقول: إن التاريخ يسير في خطٍ متقدم وأن دولابه يتقدم إلى الأمام بخط مستقيم... ويؤكد المفكر الفرنسي كوندروسيه ( أنطوان كاريتا ) 1743 – 1794 م أن سبل التقدم مفتوحة أمام البشر إلى ما لا نهاية... ويهاجم السفليين الذين يقولون بأن العصور الماضية خيرٌ من الحاضرة... وأكد أن الثورة الفرنسية حطّمت الأغلال، وأطلقت النشاط الإنساني من عقاله... والفيلسوف الإنكليزي سبنسر 1820 – 1913 م في كتابه المسمى ( التقدم قانونه وسببه ) يدعو إلى التفاؤل وإلى مستقبل باهر ويسوده روح الانفتاح والتنوير في تاريخ الفكر العالمي... ولكن أكبر المتفائلين دون شك هو سان سيمون 1760- 1825 م فقد كان شعلة من الذكاء، وطاقة من العمل، وآية في سعة الاطلاع والطموح... وكان إيمانه بالبشر، وبضرورة التقدم... وكان عالماً طبيعياً يسير في آثار اسحق نيوتن... وقد ألّف عشرات الكتب وقال: إن العلم وحده هو طريق الإنسانية إلى التقدم وإن حكومة الغد ينبغي أن يتولاها العلماء حتى يضمن أطراد التقدم... ومن فكرة التقدم تنبعث نظرية التطور والنشوء والارتقاء وصراع الحياة والبقاء للأصلح... وروح التقدم هو الذي دفع الناس إلى الابتكار والاختراع فانتقلت البشرية الواعية من تطور البخار إلى الكهرباء إلى عصر الذرة... وإلى غزو الفضاء الخارجي وإلى و إلى... فالجماعة الإنسانية على أرقى المستويات حينما يتصل بإطار حياتها المادي ولكنها تتعثر في النواحي الاجتماعية والإنسانية... وهذا ما يعرف عند علماء التاريخ والاجتماع باسم الركود الحضاري...
إنَّ في تاريخنا محطّات ظهر فيها: محمد عبده... والأفغاني... والعقاد... والكواكبي قاموا خلالها بجهود فردية في هذا المجال... وكانت ميزتهم أنها قد تهيّأ لهم رسوخ القدم في دراسة التاريخ من جهة ورسوخ القدم في فنون النقد والكتابة والفكر الحديث من جهةٍ أخرى... بعدهم جاءت أجيالٌ قلَّ فيها من يجمع بين الأمرين... فهو إما خريج الدراسة الدينية المحضة وإما نتاج التكوين الأوربي الصرف الخالص... فوقع الانقسام الفكري، ونقص عدد القادرين على التكامل... ولكن الأمر صار أكبر وأهم بحيث يحتاج إلى جهد جماعي مؤسساتي ترعاه هيئة أو دولة تدرك قيمة هذا النبوغ والاجتهاد الفكري الخلاّق... وقيمة هذا المجهود المبذول الثمين.....
لماذا تخلفنا ولدينا مفاتيح العمران
بقلم جعدان جعدان
9 / 2 / 2015م
قال سقراط ذات يوم: أفلاطون صديق، والحقّ صديق، ولكن الحقّ أصدق.
وقال الحلاج: أنا الحقّ... !!!
الحقيقة الطبيعية الفلسفية واحدة لجوهرٍ واحدٍ... هو جوهر عقلٍ محضٍ يعقِل ذاته بذاته... فهو عاقلٌ ومعقولٌ معاً... وكلّ من يعقلُ ذاته يفيض عنه عقلٌ أول بوصفه واجب الوجود... فالإنسان يسعى إلى حقيقة واحدة... والمنطق العقلي يبني أعمدته من الجدل والقياس والبرهان والتقويم... والنّبي والفيلسوف كلاهما يبحثان عن الحقيقة الواحدة...
الإنتاج العلمي والتكنولوجي يأتي من إبداعات العقل الإنساني... يتفاعل مع مكونات الطبيعة بالتأمل والتفكير والبحث والعمل... والإنسان يسعى بوحيٍ من عقله، وعقله يعمل بإيحاء المعلومات المخزّنة في خلايا الدماغ... والمعلومات المكتسبة بشتّى أنواعها من التعليم والأسرة... والخبرة الذاتية تكتسب ذاتها من خلال الاحتكاك المباشر مع الواقع، وممارسة الحياة بأصنافها المتعددة...
والسؤال الآن المثير جدلاً واستغراباً وتهكماً...!!! هل نحن أحفاد أولئك الأجداد الذين بنوا الحضارات منذ ستة آلاف عام ؟؟؟ أم أنّنا ولدنا من مورّثات منوية مختلسة لسنا من أصلابهم...؟؟؟ هؤلاء الأوائل الذين شيّدوا الحضارة في الشرق المتوسطي "سوريا الطبيعية" التي كانت مركزاً إشعاعياً حضارياً للحضارة الإنسانية التي وصلت إلينا بريقها... فيها عرف الإنسان لأول مرة الزراعة، وصناعة السيوف، وترويض الخيول، وصناعة المركبات، وبناء حكومات، وازدهار الشعوب، وسنّ قوانين، واختراع علوم الرياضيات والطبّ والكيمياء والفلك، وتشييد المكتبات، واختراع الحبر والورق، وإنشاء المدارس، واستخدام العملة الذهبية والفضية في تقويم البضائع، ووضع التقاويم، ونشر الأدب والشعر والنحت... فهذه الحضارة لم تأتِ عبثاً أو من فراغ فجاءت من البابلية والآشورية والآرامية...
وعلماء الغرب هم الذين نقّبوا فاستخرجوا منها وثائق التنقيب واكتشفوا من خلال الوثائق المكتوبة بأن سوريا هي مهد الحضارات الإنسانية... وهذه الوثائق الصادرة من التنقيب والبحث محفوظة في خزائنهم.. فتاريخنا ليس بأيدينا... وإنما بأيدي من ينوي الشرّ لنا...
نحن لم نكتب تاريخنا بأنفسنا ونصرّح بذلك حزناً وألماً بالغاً... أي جامعة في الأقطار العربية خصَّصت أو قررت تدريس لسان أوغاريت ؟ ؟ هناك جامعة عبرية في القدس المحتلة تدرّس هذه المادة... وأكاد أجزم وأقول لا تخلو جامعة في أوروبا وأمريكا إلا وهذه المادة فيها مقرّرة... وطلبة الدراسات العليا يحصلون عليها بدرجة الدكتوراه ؟؟؟
الدول شبيهة بالكائن الحي طفولةً وشباباً وهرماً وموتاً وليس الشعوب وأخالف ابن خلدون في هذا الرأي الشعوب لا تهرم تتجدد بالولادة وخصب الإنجاب لولا الغرب الذي استخرج النفط والغاز وكرّر لكان حتى اليوم نائماً في باطن الأرض ونحن نسير فوقه بالبغال والجمال والحمير... إننا نشعر بالخجل والدونية... حزناً وأسىً...
ألا نشعر بالخجل... إسرائيل ليس فيها نفط ولا معادن ولا مياه... وجاءوا من أقاصي المعمورة من كلّ طائفة احتلوا مقدساتنا وشرّدوا شعبنا... وهم لا يتجاوزون بضعة ملايين...
من هنا أبتغي استعراض بعض المحطات الهامة... ونقلّب أوراقنا المجهولة...!!!
عندما جاء الإسلام إلى الشرق الأدنى (سوريا ومصر) وجدوا البلاد التي أبدعت الحضارة الإنسانية قد تخلّفت وتقهقرت... ووجدوا لدى السريان كتب الطبّ والعلوم منقولة عن اليونانية... وكان قد مضى على الشرق الأدنى أكثر من ألف سنة تحت الاحتلال الأجنبي اليوناني والروماني... وكان قد مضى على انتشار المسيحية حوالي ستمائة سنة... وكان رجال الدين ذوي العقول الجامدة والمتزمتة كانت لهم نفوذ استبداد ورهبة ضد العلم والعلماء... ثمّ اضطرّ أولو الألباب إلى الهجرة قسراً خوفاً على حياتهم... وهاجر علماء ( الرّها ) فلجأ بعضهم إلى بلاد فارس، واجتمعوا ببلاط كسرى أنوشروان 531م، وأنوشروان رحّب بهم وآواهم وأكرم وفادتهم وكان منهم فلاسفة الأفلاطونية الحديثة الذين نفاهم إمبراطور (جستنيان) من أثينا، وأسس كسرى في جنديسابور داراً للعلم...
قام فيها العلماء بتدريس الطب والفلسفة... وفي أيام الخليفة المأمون حيث جعل شروط الصلح مع (تيوفيل) قبرص أن يرسل إليه كتب الحكمة لأرسطوطاليس، بحث عنها تيوفيل فوجدها في بيتٍ قديم وعليها أقفال كثيرة لأنها كانت تعتبر كتب كفر وهرطقة...
ففي فترة أربعة آلاف قبل الميلاد إلى ثلاثمائة قبل الميلاد ازدهار الحضارة في الشرق الأدنى سوريا الطبيعية وبلاد الرافدين ومصر، ونقل حضارتها إلى اليونان وإيطاليا وأسبانيا عن طريق التنوير والتجارة وليس الغزو... أما في الفترة 300 ق. م احتلَّ الاسكندر المكدوني الشرق الأدنى ثمّ الاحتلال الروماني... ثم الفارسي... أما في فترة 635م حتى عام 1492م فترة الفتوحات الإسلامية... وكان السريان في سوريا الطبيعية هم الورثة الحافظون للتراث الحضاري السوري... وكلّفهم بعض الخلفاء المسلمين المحبين للعلم بترجمة ما لديهم من كتب إلى العربية فوجد العلماء في هذه الكتب ذروة العلم من الطبّ والفلسفة والفلك والرياضيات، وقام علماء الفرس بترجمة بعض الكتب عن الفارسية والهندية... ودامت فترة الترجمة حوالي مئتي سنة
واستمرت هذه الفترة حتى القرن العاشر، واستمرّت شعلة الحضارة والعلم في الأندلس حتى عام 1492م حيث سقطت العروش وطرد العرب منها شرّ طردة... وفي الفترة التاريخية من 1492م إلى 1850م فترة الانقطاع العلمي وإغلاق المدارس ودور العلم وغياب العقل العلمي... وسيطرة الخرافات والشعوذة على عقول النّاس... فترة حكم المماليك... ثمّ الأتراك... بعيدين كلّ البعد عن التقدّم العلمي والتكنولوجي...فمنذ عام 1850م حتى بداية القرن الواحد والعشرين...
احتكينا مع العقل الغربي في نقل العلوم والتقنية... ما نقلناه كان عصياً بسبب غياب الإرادة المصممة الطموحة... والهوية الوطنية...
وفي هذا الصّدد يلعب الحكّام المستبدّون، ورجال الدين المتزمتون في تدمير البؤر العلمية وإنهاء الأدمغة المتنورة بالإضافة إلى سياسة الغرب اللئيمة...
إنَّ الغرب الأوربي تجاوز مرحلة التزمت الديني والجمود العقلي ففي القرون الوسطى كان يرفض كل إبداع واختراع ويعتبره هرطقة، وإنزال العقاب الصارم ومحاكمة غاليلي في اختراعاته العلمية الباهرة...
يقول غوركي في هذا المجال: ( تحالف الدولة المستبدة مع رجال الدين الجامدين... ومع الأمن هذا المثلث الثلاثي يدمّر بنية الدولة ويحوّل الأمة إلى عبيد...).
وحقيقٌ عليَّ أن لا أقول إلا الحقّ... التعصب والانحراف والتزمت ينجب تعصباً أشدّ والتزمت يولد تزمتاً أكثر مسوخاً وتشوّهاً... فالثورة العباسية لم تكن ثورة حقيقية بمعناها الجوهري... كانت ثورة انتقام فقط لإنزال القصاص على الأمويين المستبدين... ولهذا ظهرت تحديات نتيجة غليان التطرف المنحرف... ومن هذه التحديات المانوية والمزدكية والخرمية والزرادشتية والمسيحية والمعتزلة والأشاعرة والقرامطة وإخوان الصفا والحركات الإلحادية... وغيرها.
لم تأتِ هذه الثورات الفكرية عبثاً إنّما هي ردة فعل للتطرف المنحرف والاستبداد الأهوج... ولم تظهر الشعوبية من تلقاء ذاتها بل وجدت لواقع عقيم واستبداد مهين... فالأنظمة المتعصبة هي التي تجلب على نفسها وعلى شعوبها الهلاك والدمار... وبانعدام الحرية الفكرية والتعددية المذهبية والطائفية لا يمكن التقدم العلمي والتقني والوطني والإنساني...
إن انتصار الثورات الفكرية والاجتماعية كالبلشفية في روسيا وأوربا والثورة الفرنسية والثورة الصينية (ماو) وهذه الحالات تتصاعد وتهبط بحسب القيادة التي تدير شؤون المجتمع... وهذه الأشكال لا تدوم ولا تستمر في ظلّ الأنظمة الاستبدادية ولكن في ظلّ الأنظمة الديمقراطية... تستبدل الطبقات الحاكمة الهرمة الضعيفة بقيادات ناشطة زكية حاذقة... سياسية ماهرة... وتستمر ألق الحضارة في النماء والثراء...
فبعد موت لينين في روسيا استلم القيادة ستالين الرجل الفولاذي الحديدي... فكان مستبداً عادلاً متنوراً ففي عهده قفزت روسيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية حتى تفوقت على دول الغرب في مجال غزو الفضاء الخارجي بإطلاق قمر صناعي عام 1958م...
إنَّ الحكام المستبدّين الجهلة لا همّ لهم سوى عروشهم وشهواتهم والمتحالفين مع رجال الدين المتزمتين ومع جهاز الأمن ليصون عروشهم... هؤلاء يعارضون كلّ تقدّم أو إبداع أو اختراع بحجّة أنه يخالف الدين ويجلب غضب الله كما فعلت الكنيسة المسيحية في العصور الوسطى... وكما حصل في العصر الانحطاط المملوكي.. الدولة العثمانية كانت أكبر إمبراطورية على وجه الأرض اندحرت وهُزمت تكنولوجياً أمام روسيا ونمسا فأطلق عليها (الرجل المريض)...
كانت أمتنا حتى عام 1500م أكثر تقدماً من كلّ نواحي الحياة... كتاب الزهراوي في الطب يُدرّس في جامعة أكسفورد وكتاب الحاوي للرازي في جامعات فرنسا.
علماؤنا حتى عام 1300م كانوا أساتذة الدّنيا، ذلك تاريخٌ مضيءٌ... كان عدد العلماء يقدّر بألفين عالم من العصر العباسي الأول بدءاً من عصر هارون الرشيد 800 م وحتى عام 1300 م. وما عدا هذه الفترة التاريخية ظلامٌ حالكٌ تكاد تخلو الموسوعة للمكتشفين المخترعين من أسمائهم... ما عدا عالماً واحداً هو حسن كامل الصباح العالم اللبناني المبدع الشهير الذي أبدع في أمريكا خمسة وسبعين اختراعاً في الكهرباء والإلكترونيات وتوفي في ظروف غامضة عام 1935 م بينما كان يستعدّ للعودة إلى وطنه بإبداعاته الجديدة المبتكرة...
إن توفر قيادات سياسية وطنية مخلصة علمانية رشيدة تعتمد على حرية الاختيار وحرية الفكر والعمل وتقدير العباقرة الذين يشكلون من الألف واحد... علينا أن نستفيد من ثمارهم اليانعة الناضجة.
الهند حصلت على استقلالها عام 1947 م كانت فقيرة معدمة... وديانات كثيرة غارقة في الزهد والتقشف والهروب من الحياة... وجدت لها قيادات سياسة حكيمة... تحمل عقلاً متنوراً وحكمةً راسخةً كرسوخ الجبال... فأنشأ جواهر لآل نهرو 1000 مركزاً علمياً... وجلب العلماء وقدّرهم ومنحهم قدراً معنوياً ومادياً... فصنع الهند قنبلة ذريّة وفجّرها عام 1975م وأنشأ قمراً صناعياً عام 1980م وأنتجَ معامل الطائرات والغواصات والصواريخ هذا بالنسبة للتقنية والأبحاث العلمية...
أما في مجال الوضع الاجتماعي والدستوري... رفع شعار (الهند للجميع) وحرية الاختيار... فهناك خمسة وعشرون إقليماً... ومئتان وخمسون لغة... وكلّ فئة تدرس بلغتها وتعيش مع تقاليدها وتراثها الشعبي... أنفذ الهند من الدسائس والفتن من المتطرفين والمغرضين، ونشر ثقافة المحبة والتسامح والصفح الجميل... وتابع مسيرة الازدهار غاندي وابنته أنديرا وراجيف غاندي، ولكن هذه العائلة المخلصة الحكيمة دفعت ثمناً باهظاً لقاء رسالة المحبة بين الهنود... فاغتالهم رصاص التطرف والتعسف والانحراف البغيض...
إن تطبيق ثقافة المحبة قولاً وعملاً يوطد بنيان الأمة ويدعم أركان الوطن، ويوحّد ولا يفرّق... ويغرس بذور الرياحين لبناء مجتمع مزدهر... !!!
إنَّ المحبّة تولد محبّة، والاضطهاد ينجب اضطهاداً أشرس... والحقد يولد احتقاناً أرعناً... والعنف يولد عنفاً طاغياً... فلا سبيل غير العقل المنفتح المتنوّر...
ومن خلال هذا التبيان سؤال يطرح نفسه... لماذا الغرب يفتح ذراعيه للعباقرة والعلماء والمضطهدين والمشردين ويمنح لهم جنسية وهوية ورواتب مغرية وسكناً وأمناً وسلاماً...
إنّ الغرب كان متخلفاً في القرون الوسطى أكثر منّا... وعندما تحرّر من سيطرة الكنيسة وركن إلى العقل والوعي والمعرفة وسلّم مصير البلاد للمثقفين وأولي الألباب... نهض من رقدته ومن كابوسه المخيف، وأخذ بأسباب الحضارة والمدنية محتكماً إلى العقل الرصين... وشرع يبني أركان القوة بدءاً من التقنية... وجلب العقول الذكية إليه فنال جائزة التمكين وبرز العضلات في مشرق الأرض ومغربها... وغزو السماء...!!! وأمام واقعنا الجريح النازف دماً بريئاً طاهراً نقياً... لا بدّ لنا أن ننشر ثقافة المحبة والتسامح... والاعتراف بفكرة الاقتراب من الحقيقة... وغرس النوايا الصادقة والمصداقية، واستنبات بذور الثقة بيننا جميعاً، ونبذ سياسة المراوغات والمكائد... ومخاطبة الأمة بالصدق والوفاء... واحترام التنوع الثقافي والاعتراف بعدم العصمة... والتهيؤ لقبول النقد... ولو كان النقد خاطئاً... والإقرار بالاختلاف في طبائع الأمة... واتخاذ الموقف الإيجابي من الآخر... وضمان الدولة للعدل وعدم التمييز في التشريع والقانون ومنح القانون سلطة كبرى ونقل ثقافة المدارس والمعاهد والجامعات إلى شارع الأمة... في كل حانوت وبيت وذلك من خلال سلوك عملي جاد وإنزال العقوبة القصوى لمن يتجاوز حقوق وحدة الأمة أو من يثير الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية... وبناء مجتمع مدني يراقب مسيرة الدولة وسعيها نحو الإصلاح والبناء... وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية وتأمين ظروف عمل مناسبة والضمانات الصحية والاجتماعية وتكريم العلماء والموهوبين والكتاب والأدباء والشعراء والاحتكام إليهم في القرارات الصعبة... وتلقين الثقافة والتعليم من قبل الوزارات الثلاث التربية والثقافة والإعلام... وانتهاج سلوكاً عملياً وليس لفظاً يردّده اللسان...وتحريم العنف وتجريمه لأنه هو العدو الأوحد في بناء عمارة الوطن... وتحويل السجن إلى مدرسة تربوية وإلقاء المحاضرات فيه نحو الإصلاح والتثقيف بحيث يخرج السجين وقد نال شهادة التوبة وعدم الرجوع إلى ماضيه الأسود وتحقيق مدنيّة الدولة من خلال الديمقراطية المناسبة لظروفنا الذاتية والموضوعية التي تخدم أمتنا ووطننا قبل كل شيء وتخدم الإنسانية جمعاء... وبناء دولة حيادية والسيادة للقانون والدستور...
نحن اليوم نتبوأ الصفوف الخلفية في الميزان الحضاري المتقدم ولا ينافسنا في المقاعد الأخيرة سوى بعض الدول الأفريقية.
إنّ صراعنا الأجوف المقيت مع بعضنا البعض هو سبب جمودنا وتخلفنا عن مركب الحضارة والعلم... رغم ماضينا العريق في غابر الأزمان...
............................................
المصادر:
1-إسلام بلا مذاهب: د. مصطفى الشكعة.
2-مذاهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي.
3-قضية الحضارة: ديورانت
4-المعتزلة: محمد عمارة
5-تاريخ العلوم عند العرب: حسين حمادة
6-تاريخ العلوم: أنور الرفاعي.
7-تاريخ الفكر العلمي: د. محمد عفيفي
8-مدخل الحروب الصليبية: د. سهيل زكار.
9- نشوء وسقوط القرى العظمى: دول كيندي. ترجمة: مالك بديري.
لمحات من حياتي الفكرية ألقيها بصراحة...!!! بقلم: جعدان جعدان
9 / 10 / 2014م
كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُهُ يوماً على آلةٍ حدباء محـمول
لمّا رُزق أفلاطون بولدٍ بكى...!!! سأله تلاميذه: لماذا البكاء يا سيّدي ؟؟؟!!!
قال أفلاطون: آلهة الخير ضعيفةٌ، وآلهة الشرّ قويّةٌ جبّارةٌ...!!!
إنّ ولدي هذا سيتعذّب، ويلاقي أنكاثاً وآلاماً مريرةً، وحياةً دميمةً... لأنَّ قوى الظلام طاغيةٌ... وأنا السّبب في مجيئهِ إلى هذه الدّنيا الغاشمة... ! ودعا له قائلاً:
يا آلهة الخير ! امنحيه حظّاً سعيداً ليخدم به أصحاب العقول خيرٌ أنْ تمنحيه له عقلاً بازغاً يخدم به أهل الحظوظ...!!!
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشّـقاء ينعـم
وهذه تصريحاتٌ من حياتي الفكرية... أنا لستُ من أنصار التّعصب العرقي والمذهبي... تجاوزت هذه الأخاديد الملتوية... مذهبي هو الإنسان... ومبدئي
هو الإنسانية المعذَّبة... !!!
ولدتُ عام/1950م/ من رحم جبال الكُرد في قرية ماسكا- راجو – عفرين.. ومعناها في لغة الأم مصطبة الجبل، ومن أبٍ وجيهٍ في الصّدق والوفاء والفضيلة والمروءة والشّجاعة النّادرة ومحبَّة البؤساء من أهل المسغبة... وكان والده
في العشرينات من القرن الماضي أحد الثوّار البارزين في مقاومة الفرنسيين...
وقد جُرحَ في إحدى المعارك، وقُبِضَ عليه، وحُكِمَ عليه بالإعدام رمياً بالرّصاص
وأُلقيت جثّتهُ في النهر الأسود الفاصل بين الحدود السورية والتركية... وافترستها الوحوش الضواري ونسور السّماء... كما قال الشاعر الخارجي:
ولكنَّ قبري بطنُ نسـرٍ مقيلُهُ بجوِّ السَّماءِ في نسورٍ عواكفِ
وكان والدي ينصحني يا بُنيَّ: كُنْ من أولي الألباب، ولا تكن من أصحاب الأزناب لا تكُن زَنَبَاً يا بُنيّ حتى للأسود...!!! وكنْ رأساً ولو كان الرأس رأس حمارٍ...!!!
عشتُ في بيتٍ توارَثَ الرّجولة، وقول الحقّ... والوقوف بجانب الذين ينامون على الأرصفة السوداء في براري الفاقة والحرمان...
كنتُ توّاقاً للجلوس مع رجالات من أصحاب الفكر والقيم والمبادئ ورجال الدين والسّاسة الكبار...
ودفعتني عاطفتي السّاذجة... أن أعقد مع هؤلاء سجالاً منَ الصّداقات، وأُضحّي بنفسي وحياتي ومستقبلي فداءً وقرباناً لهم... وعندما هبَّتْ عليَّ عواصفٌ هوجاء، وحلّت بي الأنكال والأكدار، تركوني وحيداً أواجه مصير حياتي منفرداً في قفار الفقر والوحشة القاتمة... وبعد هذه التجارب والنوازل التي ألمّتْ بي خرجتُ بفكرٍ صائبٍ... أنّ هذه الرايات المرفوعة هي تضليل وخداع وأفخاخ لاصطياد الحمقى من أمثالي وإقحامهم في مدارك تخدم مصالحهم الغرائزية المنحطّة...
إنّ الثمن الذي دفعته علَّمني أن أكون حذراً من اليافطات الفخمة البرّاقة... وبعد مطالعاتي لكتّاب التّاريخ ورجال الفكر وعمالقة السّياسة ورجال البيان والشّعراء الكبار... تبيّن لي أنّ الشّرق كلّه ليس قادراً ومؤهلاً أن يقيم دولاً يسودها دستورٌ عادلٌ وصراطٌ مستقيم... ويربّي شعوباً على الحقّ والخير والنّماء والرّخاء والازدهار... لأنّ مورّثات الدّراماتيك التّاريخي التّراجيدي تنتقل من جيلٍ إلى جيل... ولا بُدَّ من تلقيح الأجيال الحاضرة والقادمة بمقوّيات العدل وحريّة الاختيار والحوار البنّاء والفكر المتنوّر والعقل الطّليق والحبّ النّبيل الإنساني...
إنّ الرسول العظيم بنى إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ في تلك الجزيرة الجرداء خلال ثلاثة وعشرين عاماً... فكانت معجزةً في التّاريخ البشري... واستطاع بعدله الإنساني أن يستقطب حوله أقطاباً من كلّ الملل والنّحل والطّوائف والأعراق... وبنى دولة العدل في فترةٍ قصيرةٍ من حياته... وبفضله دخل العرب في محراب التاريخ فقدَّرهم الشّعوب واحترمهم احتراماً جمّاً بقيادة معلّمهم الأوّل الرّسول الملهم...
وحينما التحق الرّسول الأعظم بالرّفيق الأعلى استيقظت العصبيات القبلية من رقادها... واستفحلت في هذه الجولة أكثر خطراً من العصبيات القبلية من ذي قبل...
وبَرَزَتْ إلى ميدان الواقع المنازعات والمخاصمات الدّموية مهرولةً نحو من هو أجدر بالخلافة... وزلزلت كيان الأمة ودكّت دكاً دكّاً من قواعدها وأصولها... فتفتّت الأمة وانقسمت إلى شيع وأحزاب متناحرة... فذهبَ عليٌّ وأولاده وذريّته ضحيّة هذه العصبيّات الدّسيسة المقيتة...
حدث أول انشقاق في كيان الأمة... واستلم معاوية الخلافة، وطفق يلاحق معارضيه ويضرب بمقامع من حديد كلّ معارضٍ وكلّ من لم يقدّم الولاء له...
الأمويون أثاروا النَّعرات القبليّة لإحياء التّباغض والأحقاد ليتمكّنوا من استمرارهم
في سدّة الخلافة... وظهر شعراء النّقائض/ جرير وفرزدق والأخطل / وخرج الشّعر من مساره الصّحيح وهبط إلى الحضيض في الهِجاء والكلام المبتذل الرّخيص... فأصبحت الأنانيّة والسفسطائيّة الفارغة هي سيّدة المحفل الشّعري والأندية الثقافية الأدبيّة... ومارس الأمويون ذلك لإلهاء الأمّة وإقحامها في اللغو والهذيان والثّرثرة الجوفاء...
وجاء العصر العباسي ردّاً عنيفاً وثورةً ناقمةً على الأمويين والذين فجَّروا هذه
الثّورة من الأعاجم وعلى جبهتها الأولى القائد الكردي البارز أبو مسلم الخرساني
إذ أعلن نجاح الثّورة... وكان العباسيّون مختبئين ومتوارين عن الأنظار، فخرجوا من مخابئهم واستلموا الخلافة في بغداد، ومن هؤلاء أبو العبّاس جعفر المنصور الملقّب بالسّفاح...
وكان أبو مسلم قد قضى على التمرّد والعصيان الذي قاده عمّ أبو العباس السفّاح في حلب...
وحرّك السفّاح التّعصّب الغوغائي واستدعى أبا مسلم إلى قصره وقتله غدراً
في رواق قصره... ووزّع الدّنانير لحرّاسه الذين رافقوه بأنه تخلّص من شعوبيٍّ لئيم..!! ولهذا تفرّغ لتصفية أعدائه من الأمويين ومن الموالي والأعاجم الشّعوبيين ليتفرّد في السّلطة بنفسه ولبني العبّاس... وهم الصّفوة الممتازة لحكم البلاد...
والأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام بنيّة صالحة وبإيمان قويٍّ ثابت أجدر من العرب الذين كانوا يفكّرون باعتلاء المناصب... وظهر منهم علماء كبار في مختلف جوانب العلم ومنهم:/ ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي وابن تيمية والإمام
أبو حنيفة وابن خلكان وأبو حامد الغزالي.../ وغيرهم من نوابغ العلماء الأجلاء... الذين خدموا الإسلام بصدقٍ وإخلاص وتفانٍ منقطعِ النّظير...
ولكن تعرّضوا للاضطهاد والتّنكيل والقتل الوحشي... ومنهم الكاتب الكردي البارز
ابن المقفّع " روزبة " الذي قُتلَ أشنع قتلة بحجّة الزندقة والارتداد... وغيره أمثال:
/ أحمد بن حنبل، وسعيد بن المسيب وابن تيميّة والحلاّج وابن جنيد وابن عربي / وغيرهم من قوافل طلائع الفكر الإنساني...
تميّز الحكم الأموي بالذّكاء الخارق، ووظّف للتشبّث بالسّلطة للأمويين وتصفية
كلّ من يعارضهم والتّنكيل بهم... وشجّع الأمويون المذاهب التي تخدمهم والنّظريات الدّينية منها نظريّة الجبر الإلهي التي تقول: بأنّ الخلافة هبةٌ من الله وصادرة من اللوح المحفوظ...
أمّا النّظريات التي تحتكم إلى العقل والمنطق كنظرية المعتزلة حاربوها حرباً شعواء بلا رحمة، وتوارت هذه النّظرية عن ساحة الفكر، واضمحلّتْ بجبروت الاضطهاد...
أمّا العصر العباسي فقد تجلّى فيه التنوير المقرون بالتعصّب والانغلاق والانتقام منَ الذين اضطهدوه... فلم يبادروا إلى تلاوة قوله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم
مِّن قُوَّةٍ}/الأنفال60/. فلم يوفّروا للعلماء طقساً ملائماً ومناخاً مناسباً للإبداع والاختراع والإسراع في بناء التقنيّة الحديثة...
إنّ الأوربيين عانوا مطاحنات دمويّة بين المذاهب المسيحيّة من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت... وأُهرقت دماء غزيرة، وعاشوا في ظلمات الجهل والمرض والفقر من جرّاء المخاصمات والاحتراب فيما بينهم... وبعد هذه المآسي والآلام استيقظوا وركنوا إلى حكمائهم وانتبهوا إلى مفكّريهم وأدبائهم وشعرائهم...
ففي بداية القرن السّادس عشر في العالم الغربي قامت النّهضة الأوربية بشكل عفوي من إبداعات علميّة واختراعات تكنولوجيّة:
" جيمس واط " اخترع المحرّك البخاري وبنى مصنعاً لتصنيع المحرّكات.
والعالم سوهر في بريطانيا، وأديسون المصباح الكهربائي والمولّد الكهربائي وجهاز تسجيل الصّوت، وباسونز الإيرلندي صنع التوربين البخاري عام 1884م وأسس شركة لاختراعه وإنتاجه في بريطانيا، واخترع أوتو الألماني محرّكاً يشتغل بالغاز ثمّ طوَّر دملر ما صنعه أوتو وبعدئذٍ صنع كارل بنز محركاً يعمل بالنّفط...
واتفقوا جميعاً بإقامة مصنع مرسيدس المشهور بصناعة السيارات... وبدأ تفجير الذرّة من قبل العالمين الألمانيين أوتوهان وستراثمان في برلين العاصمة الألمانية
عام 1938م ممّا أثار حفيظة الغرب وقلقله من إمكانية حصول هتلر على صنع السّلاح النووي...
وفي عام 1940م بادرت أمريكا بصناعة القنبلة الذريّة جلبت لصناعتها علماء
من أوروبا أمثال " نيلزبور الدانماركي، وفيرمي الإيطالي، وهانزبيت، وجيم فرانك
من ألمانيا، وجورج كوستيافسكي من الاتحاد السوفييتي " وأسست أمريكا وأنتجت شركة " جنرال داينمكس "، وصنعت أحدث الطائرات الحربيّة واختراعات نووية والصواريخ عن طريقة الإلكترونيّات الصناعيّة الحربيّة...
ووصلت أمريكا في القرن العشرين في مجال العلم والتقنيّة الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة ما لم تخترع البشريّة في تاريخها الكوني في مضمار التفوّق التّقني والعلمي...
فالعباقرة يحققون أحلامهم... أما السّاسة الغاوون يسخّرونها لمآربهم القذرة...
وأنفق الرئيس الأمريكي السابق ترومان في بناء المفاعل النووي عام 1940م بتصنيع القنبلة الذريّة بجهود علماء من بلدان العالم، وتمَّ تفجيرها بنجاح، وصرف ترومان أموالاً باهظة لنجاح القنبلة الذرية بدون علم من الكونغرس... ليكون عمله في غاية السرية متحمّلاً المخاطرة في محاكمته إذا فشل، ومغامراً بسمعته في سبيل بناء القوة لأمريكا... وأبلغ الجنرال كروفر الرئيس ترومان الذي كان في بوتسدام لتوقيع معاهدة استسلام ألمانيا ببرقيّة التهنئة بنجاح تفجير القنبلة الذرية في تموز عام 1945م وفي زمن الرئيس روزفلت بنى مصنعاً للمفاعل النووي وسمّاه مشروع " يانهاتن "ألمانيا بخبرة عالمين ألمانيين هما " أتوهان وفزتز ستراثمان "...
في عام 1907م كان كامبل بنرمان قد تولّى رئاسة الوزراء البريطاني، وكان يومها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس... وكان كامبل أديباً ومفكراً فجمع حوله حشداً من كبار العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء وحاورهم وطرح عليهم سؤالاً: كيف ننقذ بريطانيا من الانهيار والسّقوط كما سقطت وانهارت إمبراطوريات عظيمة في التّاريخ كإمبراطورية ميديا وآشور والإمبراطورية الإسلامية والعثمانية...
وبعد نقاش طويل وحوار مثير اتفقوا على قرار واحد هو: أنَّ هناك خطراً يأتي من جنوب وشرق البحر المتوسّط... هؤلاء القوم لهم تاريخٌ واحدٌ وأرضٌ واحدةٌ... ولهم قيمٌ عظيمةٌ ويحاولون أن يتّحدوا فقرّر كامبل مع اللجنة إقامة دولة غريبة في فلسطين تفرّقهم وتمزّقهم وترتبط بأوروبا بروابط مصلحية فبعد عقدٍ من الزمن استعمرت بريطانيا فلسطين 1917م... والرئيس الباكستاني السابق " علي بوتو " عندما علم أنّ الهند صنعت القنبلة النووية تحمّس وقال: سنصنع قنبلة نووية حتى لو أكلنا أوراق الشجر وقاسينا الجوع...
الدّول النفطية عام/1976-1977م/ صرفت /188/ مليار دولار في القصور وللملك والأمير وحاشيته... !!! تعاني هذه الممالك والإمارات عجزاً مالياً من الفوائض الهائلة لم تصرف في التقنية العلميّة...!!!
يتوفّر لدينا جلّ المقوّمات لتصنيع القنابل النووية الحربيّة من أدمغة... ومواد... ومال... ولكن نفتقر إلى الإرادة والهويّة الوطنية والعدل وسيادة القانون...!!
الحاكم المستبد يجمع حوله هياكل ذات أقنعة مزيّفة من المنافقين المأجورين... ويلاحق المخلصين الوطنيين من المبدعين...
إنّ التقدّم والبناء تابع لإرادة الدولة الحاكمة... فإنّ ما يبنيه حاكم معين قد يهدمه خلفاؤه من بعده كما فعل خلفاء محمد علي باشا في مصر...!!!
إنّ مرض غرور العظمة يدمّر البلاد...!!! رفض نابليون الأول اقتراح أحد المهندسين بإدخال البخار إلى سفن الأسطول الفرنسي... وهذا سبب تأخّر وتخلّف الإمبراطورية الفرنسية عن الإمبراطورية البريطانية...
وساهم السلاطين العثمانيون في تخلّف الشّرق كلّه... والحكام المستبدّون يصرفون أموالاً هائلة على أجهزة الأمن ليحفظوا أنظمتهم مع أنّ مهمّة الأمن أن يراقب تحركات الأعداء... !! هؤلاء المستبدّون يحيطون أنفسهم بأجهزة أمنية تحت مسمّيات متعددة... ويعلم المستبدّ أنّ شعبه يكرهه لأنّه يهين شعبه...
النّظام الدّيمقراطي يزيح الحاكم بسبب أخطائه كما أزيح نيكسون بسبب أخطائه وذلك في عام 1974م، وفي عام 1993م أُحيل قادة الدولة في إيطالية إلى المحاكمة بتهمة الفساد... إنّ الأنظمة الدّيمقراطيّة توفر الشّروط المناسبة والملائمة لعلمائها المهاجرين وعباقرتها التّائهين للعودة إلى وطنهم... وتدعو أصحاب رؤوس الأموال
إلى وطنها ومساهماتها في بناء اقتصاد بلادها...
والعالم المصري أحمد زويل هو الذي حقّق إبداعه في أمريكا لأنّ ظروف بلاده مضطربة...
إنّ الأنظمة التي تعتمد على مُبدعيها ومخترعيها وعلمائها هي تتقدّم في مراكب التقدّم والتفوق التكنولوجي العالمي... وتوفّر لشعبها الأمن والأمان والاستقرار وسيادة القانون وحريّة الكلمة والحوار الهادئ الرزين الرّصين في أجواء من المحبّة والاحترام... تدفع بشعوبها إلى الكرامة والمحبّة والمهابة وسيادة الوطن...
والإمبراطوريات تنهار حينما تخرج عن مبدئها الإنساني كما تنبّأ العالم الأمريكي بول كيندي عام 1989م في كتاب " صعود وسقوط القوى العُظمى " وقد تحقّقت نبوءته في الاتحاد السوفييتي... وستتحقّق نبوءته في أمريكا... "
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}/ص88/.
ما مستقبل إقليم كردستان الجنوبيّة ؟؟؟ !!!
بقلم: جعدان جعدان
ذلك من أنباء الغيب لا يعلمها إلاّ الرّاسخون في سياسات الدول والمجتمعات البشريّة وأولو الألباب...
بينما أخطّ مقالي هذا ودمعُ العين ينهمر وقلبي يعتصر حزناً وعقلي يتهكّم هزواً... وأتمنى أن أكون مخطئاً في تأويلي للمنظور المستقبلي لهذا الإقليم الذي طال عمره أكثر من عقدين من الزّمن... ويعود بقاؤه في تصوّري إلى سياسة أمريكا والغرب الأوربي للحفاظ عليه لأنّ هدف السياسة هو المصالح القوميّة والوطنيّة والاقتصاديّة... وأخيراً استيقظَ الكرد على تحقيق مصالح وأغراض السياسة الدّوليّة...
وحريُّ بنا أن نتحدّث عن إيجابيّات الإقليم ثمّ نعلن عن سلبياته... إنّه لا يُخامرني شكّ أنّ الكردستانيين منذ أكثر من قرن حاربوا العثمانيين والبريطانيين والفرس والأتراك والجيوش العربية والعراقيّة المتعاقبة... وبعد قرار مجلس الأمن/ 688/ الملجأ الآمن، ذلك لفتة إنسانيّة وحظّ عظيم وفرصة ذهبيّة قلما تنزل على الشعوب المظلومة فتنفّس الكرد الصعداء وشرعوا يُعمّرون القرى المدمّرة ويبنون المنشآت الحيوية بدعمٍ من الغرب الأمريكي والأوربّي، وأسّسوا المدارس والمعاهد والجامعات وفتحوا الطّرق، واستخرجوا البترول بأيدٍ ماهرة، وفتحوا أبواب كردستان للاستيراد والتّصدير مع الدّول المتحالفة والصديقة، فأخلد أهل الإقليم إلى الراحة وأخذ يضمد جراحه وينسى آلامه بعد عقودٍ عجاف من الظلم والاحتلال والهجرة القسريّة المرغمة... وبدأ الإقليم يمنح الحريّة السياسية للأحزاب ويُطلق العنان للصّحف للتعبير عن آرائها في النّقد البنّاء، وأسّس البرلمان والحكومة وتمثيل جميع القوى السياسية فيها بانتخابات نزيهة تحت إشراف هيئة الأمم ولهذا غدا الإقليم أكثر أمناً وأماناً من الحكومة العراقيّة المهلهلة ونار العصبيّة القبليّة تعصف بها أشدّ ضراوة كما كانت حالتهم منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا وينال رئيس الإقليم حظّاً وافراً من الشعبيّة الواسعة في العراق قاطبة، وذلك بتسامحه ونبله الموروث...
حقّاً إنه أحد القادة البارزين وأثبت جدارته في الكفاح الثّوري المُسلّح والمعتركات السياسية المستعصية واستطاع أن ينقذ شعبه من المهالك الدّاخليّة والخارجية وأعاد الأمن والاستقرار لكردستان بفضل صلابته وسياسته الصائبة الرّصينة، واستطاع هو والمخلصون معه أن يجعلوا للإقليم مكانةً لا بأس بها في المحافل الدولية والأندية العالمية في الغرب الأوربي وشرقها وبين الدّول العربية ودول الجوار...
ومن خلال عمر هذا الإقليم الفتي نُشرت الثقافة الكردية بصنوفها وألوانها البديعة... فأخذ المثقّفون ينهلون من مناهلها... وتلقّوا الثقافة الكرديّة وأبدو آراءهم فيها بعد أن كانت من ذي قبل طي الكتمان والإهمال والاستخفاف والنّسيان... وإلى غيرها من المنجزات الباهرة في بحرٍ متلاطم الأمواج... غير أنّ ميزاني للإقليم يرجّح السلبيات على الإيجابيّات...
وذلك لتهافت المتهافتين، فالمتهافتون على القصعة وهم يعتلون المناصب العليا ويسعون جاهدين أن يبلعوا خيرات الإقليم ويتركوا الفضلات للشعب المسكين... وهؤلاء يُثيرون التعصّبات الحزبيّة ضغناً وحقداً لملئ جيوبهم وديمومة استمرارهم في السّلطة ويعزفون على الاسطوانات القديمة البالية... وهؤلاء الأغلبيّة المسيطرة على خيرات الإقليم...
وحتى اليوم لم يوحّدوا اللغة الكرديّة وتركوها على لهجاتها تعصّباً وجهلاً وتطرّفاً... ولم يوحدوا وزارة البيشمركة...
إنّهم همّشوا المخلصين وقرَّبوا الدّهناء والمداهنين... واتّبعوا سياسة كلاسيكية اتباعية كرّ عليها الزّمن وتجاوزها فلا تقاس الحضارة ببناء الأحجار المرصوفة والقصور الشاهقة المزخرفة ولا ببناء الهياكل، وإنّما تقاس وتوزن بالعقل المنفتح وببناء الإنسان وبالإبداع وبالتّجديد... فلا بد من تطهير النفسيّة الكردية والعقل الكردي المهزوم المعتقل...
إنّ الثّورة الداخليّة في النفسيّة الكرديّة والعقليّة الكرديّة ضرورة حتميّة...
إنّ أولئك الذين وقفوا ضد هذه الثّورة خوفاً على مكاسبهم أن تتزحزح... هؤلاء يريدون أصناماً كردية من الخشب المسندة ليصفق لهم وتبارك لهم وتُهنّئهم على أعمالهم... إنّ المخزون الهائل في النفس الكرديّة لم يحركوها من رمادها... إنه لمخزون يستمدّ طاقاته من كردستان الغنيّة بمواردها الإبداعية النبيلة وطاقاتها الماديّة المدفونة في أصلابها ذلك الخَبَأ خارج وعيهم لكي لا يوقظ الدّماغ الكردي وينسف لهؤلاء الأزناب أصحاب الجفان والقدور...
إنّ بناء الإنسان الكردي من أولى المهمات الوطنيّة والقوميّة... فالعقل خالدٌ والأشخاص زائلون... والمقدّسان هما الأمة والوطن... وتأليه الإنسان بأنّه الواحد الأحد الصّمد باطلٌ لا يخدم كردستان ولا الأمة الكردستانيّة، تلك ثقافة متخلّفة منذ تاريخٍ بعيد نابع من المغالاة والتّعصّب والانحياز المقيت... وإذا لم يزامل البناء المادي توجيه عقلي رشيد فإنّ تلكم الحضارة الماديّة ستتحوّل إلى أوابد وآثار دارسة...
يجب أن يكون العقل الكردستاني عقلاً مستقلاً بعيداً عن الاملاءات الخارجية وطلاسم الكهنة والمنجّمين... إنّ لنا تجارب مثقلة بالأنكاث والزلازل الماحقة التي أودت بنا إلى شفا جرفٍ هارٍ فألقى بنا في هاوية الانمحاق فنامت خلايا دماغنا ولم نفق إلا بعد القارعة فدفعنا ثمناً باهظاً لتلك الغفلات الضّارّة... تاريخنا لم يكن الأعداء سبب سقوطنا بل خصامنا وقتالنا مع بعضنا وارتباط فئاتنا بالمتربّصين بنا...
وحالنا اليوم تنطق بصراحة بهذه الآفات التي اختلطت في خلايا أدمغتنا وسياساتنا الخاطئة... نحن بأمسّ الحاجة إلى ثورة في داخل ذاتنا نطهّرها من رواسب التقليد الأعمى والعلل القاتلة... ذلك هو القول الفصل في إبداع إنساننا الكردي من الطراز الحديث نموذجاً يُحتذى به في عرض كردستان وطولها...
إنّ الأمة الكرديّة من العرق الآري، ومن مميزات هذا العرق حسب السيكولوجية النّفسيّة له قابليّته في التّطوّر والتّأقلم مع البيئات المحليّة والعالميّة... فالإبداع مغروسٌ في فطرته... الواجب يدفعنا أن ننمّي فيه هذه الشتلة الحيويّة لتونع وتثمر وتأتي بالثّمار النّاضجة...
فالأوربيون ليسوا مُبدعين منذ الخليقة ولم ينزل عليهم وحيٌ من السّماء... إنّما سقوها ورووها بأمطار عقولهم النيّرة وتخلّصوا من وبائهم يوم كانوا يتخبّطون في ظلمات القرون الوسطى فاستيقظوا وعملوا... واليوم وصلوا إلى المرّيخ في غزو الفضاء الخارجي... تراهم يهنّئون بعضهم بعضاً في الفوز في الانتخابات يهمهم أولاً وأخراً أمنهم الوطني والقومي ورفاهية شعوبهم...
وإنّ الكردي الحقيقي لا يقلّد وإن قلّد يُقلّد الأقوياء المتنوّرين، لأنّه يُدرك أنّ التقليد سلاح الضّعيف فإن سنحت له فرصة التوجيه السّديد والتربية الناجحة لأصبح قدوةً مُثلى للأمم جمعاء...
إنّ الفكر سيّد السياسة وأستاذها البارع المُبدع...
اسكندر المقدوني قال مرّة: انتصرتُ وفتحتُ البلدان بنصائح وتوجيهات أرسطو... وكذلك القائد الكردي البارز صلاح الدّين " يوسف " يستشير بابن عساكر في كلّ عملٍ يقدم عليه... والرسول الكريم كان يأخذ رأي أصحابه في المعارك التي خاضها... لقد استشار سلمان الفارسي في غزوة الخندق...
نحن نريد كردستاناً يحكمها عقل طليق، وعدلٌ عادلٌ وإنسانيّة رحبة... لا نريد وطناً تحكمها الديماغوجيات والعصبيات البائدة... نريد وطناً يسوده الإخاء والمساواة والمحبّة المكلّلة بأثمار الحقّ والخير والجمال... نريد أن نبني مجتمعاً راقياً كالمجتمع الفنلندي والسّويسري والدانمركي والسويدي...
يجب أن يكون ذلك محفوراً في أذهاننا وفي ذهن كلّ كردي متحضّر ومتنوّر... وأن نربّي أطفالنا على هذا النحو وننطلق من سفن العقل المتحرّر من آثام التعصّب والتّطرّف الذي يبتغي من وراء ذلك إلى بناء فردوس ينعم فيها مجتمعاتنا المظلومة البائسة... لماذا نحتكم إلى السّلاح في خصوماتنا السياسية...؟ ولماذا نغضب حين نناقش من هو الأصلح والأصوب... ؟ ولماذا نثور من النّقد والنّقد البنّاء... ؟ ولماذا يعتبر كلّ حزبٍ نفسه بأنه معصوم من الخطأ والخطيئة...؟ ولماذا نعاقب كلّ من يعرّي أخطاءنا.... ؟ ولماذا نصفّي حزبنا من العناصر الوطنيّة المخلصة... ونقرّب المشبوهين والمارقين...؟؟؟ ولماذا هذا العدد الهائل من الأحزاب...؟ ونسمّي أحزابنا بأسماء لامعة لنغطي ونستتر عناصر الفشل والإحباط بأسماء وطنيّة فضفاضة... أليس ذلك في سبيل إغواء شعوبنا...؟؟.
إنها ليست سياسة الحكماء بل هي مكرٌ وخداعٌ واحتيالٌ على الشّعوب المسكينة...؟؟؟ ولماذا... ولماذا... ولماذا...؟؟؟
إنّ الذين ينادون بالشعارات البرّاقة ويزيدون فيها ليسوا بالوطنيين المخلصين إن هم ينصبون أفخاخ الخراب لشعوبهم... وهناك أمثلة غارقة بالآلام عبر التّاريخ الذين تاجروا بدماء شعوبهم...!!
والكاتب الصّادق المخلص هو المُخلّد في ذاكرة الشّعوب وليس الحكّام المعلّبون من علبٍ مسبوقة الصّنع...
وإنّ التّضحية وحدها لا تكفي إذا لم يوجهها عقلٌ سديدٌ وفكرٌ منيرٌ...!!!
وعندئذٍ تتحوّل التّضحية إلى التّهوّر والانتحار...
الكاتب الحقّ لا ينحاز إلى فئة دون فئة، ولا يبتغي وراء ذلك مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، وإنّما يتألّم لحال شعبه... ويستهدف فيما يكتبه عملاً مثمراً ناضجاً، فالكاتب الحقيق ليس من شيمته المدح ومداد الكتّاب الحقيقيين هي دماء الشهداء، والذين قدّموا أرواحهم بالعلم والعمل إنقاذاً لوطنهم وقرباناً على مذبح حريّة وطنهم... وأن نلقّن أجيالنا ( العمل يجب أن يسبق القول )، والقول وحده يُصبح بلاءً إذا لم يقترن بالتضحية فما معنى المحبّة إذا لم تترجم إلى التّضحية بالمال والنّفس...؟؟؟.
ولا عيب أن نكون خدماً لبعضنا ولأمّتنا، وأن نكون أبطالاً أشدّاء أمام غطرسة أعدائنا..
الواجب الوطني يقتضي أن ننشر ثقافة الصّراحة والصّدق والتّسامح النّبيل لأهلنا وذوينا..
لقد شبعنا من الشعارات الخلّبيّة خلف العباءات الوطنيّة... هو من صنيعة الأنظمة الدكتاتوريّة ذلك أسلوب تقليدي نقلّد به الحكّام المأجورين الذين صاروا حكاماً خلف ظلمات الغرف المعتّمة... والذين حكموا البلدان وكانت نهايتهم فضيحة الموت الدّنيء والخزي والعار... إنّ التلاعب بمصير الشّعوب هو آفة الآفات... أليس هناك اعتبارٌ عن مصير هؤلاء الطّغاة الذين دخلوا التاريخ، والتاريخ ينتقم منهم ليلاً ونهاراً وسرّاً وجهاراً... وحسبنا تلك التجارب التي خضناها هي أعلى الثقافات لنا لتكون لنا عظةً ودرساً لحاضرنا ومستقبلنا...
والذين يتحدّثون عن الشعوب وهم براءٌ منهم، والشعوب براء منهم... والشّعوب المحكومة تحت سلطة هذا النموذج لا حول لهم ولا قوّة وهم مطوّقون بأغلال الظّلم والقهر والكبت والإذلال، وسيأتي يوم ستطيح بهم الشعوب إن عاجلاً أم آجلاً، والأمثلة الحيّة كثيرة... والتاريخ أعظم شاهد وإنه من خلال تجربتي الطويلة مع القضيّة الكرديّة منذ نعومة أظفاري وحتى اليوم وأنا في العقد السّادس من عمري أهتزّ لوعةً وأسىً أمام الانحرافات المضلّلة التي تقود المجتمع الكردستاني إلى هاوية سحيقة...
فإنّي أشيد برئيس الإقليم وهو من سليل المعالي الأصيلة الذي هو خرّيج مدرسة وطنية مخلصة... وأدعو أصحاب القرار جميعاً بأن المسؤوليّة تقع على الجميع ولكنّها بنسبٍ متفاوتة قبل أن يستفحل الوضع ويتفاقم ويتدهور نحو الهلاك... وأن يُبادر من هؤلاء وهؤلاء أن يزكّوا أنفسهم أوّلاً وأن يُساهموا ويفجّروا الطاقات الكامنة في الدّماغ الكردي للإبداع والاختراع، وان يسلّموا الأمانة للجديرين المخلصين من الكرد بتطهير النّفس الزّكيّة من الموبقات الضالّة... وغرس رياحين المحبّة والتسامح والكرم والمروءة والشّجاعة في العائلة الكرديّة الواحدة، ووأد التعصّب الأعمى وشبح الإرهاب الفكري والأيديولوجي وبناء مجتمع قائم على العدل والمساواة قولاً وعملاً فإن لم يُوضَع حدّ لهذه الاختراقات الخطيرة التي تُنذر بالهدم والخراب فإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت...
آذار / 2014م
ما هو البحث العلمي وما الفائدة منه ؟؟؟
بقلم : جعدان جعدان
البحث العلمي هو المحاولة الدقيقة الناقدة للتوصل إلى حلول المشكلات التي تؤرّق البشرية وتحيّرها... والبحث العلمي يقوم على أساس من حب الإطلاع والشوق إلى المعرفة وكشف الحقيقة... وحينما يصادف الإنسان مشكلة معقدة لا يجد لها حلاً وحينئذٍ يبدأ بطرح الأسئلة : لماذا ؟ متى ؟ كيف ؟ أين ؟... والبحث العلمي يشاطر هذه الأسئلة لغايةٍ نظرية وعملية معاً وأن الطريقة العلمية واحدة وإن اختلفت أشكالها من علم إلى علم بسبب طبيعة المادة العلمية المدروسة... وكلّ علمٍ على حدة... وكما يقوم البحث العلمي على أساس من ذكاء وتدريب ودراية معرفية خاصّة... ولا بدَّ من تدريب هؤلاء الباحثين في مختبرات جامعية في أرفع مستويات ( المختبرات العلمية الدقيقة )... فهؤلاء الباحثون العلمانيون هم ثروة ثمينة لأمتهم ووطنهم... وهذه المراكز والبحوث العلمية إذا لم تتحرر من الروتين والبيروقراطية... أصبحت أدوات للتعويق والتقهقر إلى الخلف بدلاً من أن تكون وسائل للتقدم والازدهار... وتكون وسائل للتنسيق والتنظيم والتوجيه.
يبدأ البحث العلمي الشعور بالمشكلة، ويكون هذا الشعور بناء على ملاحظة والملاحظة أمرٌ ضروريٌ للبحث العلمي ولا تنفصل عنه دقيقة واحدة، وتصاحبها في كل مراحله... والملاحظة قد تكون عشوائية وقد تكون منهجية منظمة هادفة... وقد تكون عملية إرادية ومسلحة ومنهجية مثمرة... ويتفق علماء النفس أن الإلهام لا يهبط إلا من استعدّ له، وتهيّأ له بالعلم والمعرفة... ودقة الملاحظة، وحسن الربط بين الوسائل والغايات، وبين الأسباب والنتائج... وتأتي بعد الملاحظة صياغة الفرضية... يفترض الباحث، ويفترض فرضاً أو أكثر من أسبابها وعللها ومراميها وحلولها... وإنه من واجب الباحث الذكي الدقيق الموضوعي أن ينظر في فرضياته دون تحيز أو تعصب... وبعده يأتي دور التجريب وهو لبُّ البحث العلمي وجوهره.. وهو الأساس المتين الذي يقوم عليه البحث العلمي... وعلى الباحث أن يتأكد من صحة التجربة... ( فالكلس يفور إذا صببنا عليه حامض الكبريت ) وذلك بأن يجرب لنفسه صبّ الحامض على الكلس، ومشاهدة فورانه بنفسه... ويرى العلماء أن التجريب ليس إلا ملاحظة في المخبر... وهي ملاحظة منهجية في المخبر تقوم على أساس من حصر العوامل المختلفة للمشكلة المدروسة... ثم تثبيت كل العوامل باستثناء عامل واحد يحرك ونلاحظ النتائج... ثم تأتي بعده مرحلة التعميم... والحق أن التجريب حين يثبت صحة الفرضية يكون قد توصل إلى قاعدة أو قانون وذلك بحسب درجة اليقين التي تتمتع بها النتيجة التي تمَّ التوصل إليها... وكل باحث وكل إنسان حريص على التواصل إلى قواعد عامة، وقوانين ثابتة ونظريات تفسيرية... ومن نافلة القول: إنَّ هذه القواعد والقوانين تسهّل الحياة، وتمكّن الإنسان من التعامل مع الطبيعة والناس تعاملاً ميسوراً يقوم على أساس من علمٍ ويقين... والتوصل إلى القوانين والعلوم الإنسانية أصعب من العلوم الطبيعية والبيولوجية... في حين أن الحادثة الإنسانية شديدة التعقيد ومتداخلة الأسباب... وبعد التعميم يأتي دور التطبيق... وذلك حينما يدرك الإنسان أن المعادن تتمدّد بالحرارة... فقد أفاد من هذه الحقيقة إفادات نظرية وعملية شتّى، وفي مختلف ميادين العلم والتطبيق... والتطبيق العملي غاية كبرى من غايات الباحث العلمي المقتدر وهدف من أهداف العلم والحياة... وأن العلوم النظرية على خطرها وجلال قدرها إنما تكون في النهاية لخدمة العمل، والتطبيق العملي...
هذه النظرة الوجيزة التي أسردتُها على البحث العلمي حرصاً منّي على تبصير القارئ بالمقصود من البحث العلمي.......
مَنّ الخاسر في هجرة الأدمغة ؟؟؟!!!
بقلم: جعدان جعدان
هناك سياسةٌ مدروسة خلف الكواليس المعتمة لإبقائنا ضعفاء أمام التحديات والأعداء...
هجرة العقول بين دول العالم المختلفة ليست وليدة هذا العصر ولكن منذ عهود طويلة... وهجرة الكفاءات ذاتها ليست لحناً من ألحان هذا الجيل بل هو لحنٌ عزفته المملكة المتحدة مثلاً عندما شعرت أن العلماء لديها بدأوا يهاجرون من وطنهم إلى الولايات المتحدة بعد أن شعروا أنَّ الأخيرة قد فتحت لهم ذراعيها... وفرشت لها ولغيرها من السوفييت الطريق بالورود والرياحين... واستقطبت علماء ألمانيا أمثال
( فون براون ) أبو الصواريخ في أمريكا كان في ألمانيا الهتلرية... وشرقنا المتوسط كان مصدراً خصباً لتزويد الولايات المتحدة وغيرها بالعلماء، وبشتى الاختصاصات العلمية... ولعل الأسباب التي تدفع بالعلماء إلى الهجرة أسباب مادية ومعنوية وفكرية... فالولايات المتحدة تعطي بسخاء من الرواتب ما هو كفيل ببقاء هذه العقول لديها... ومن أسباب هجرة العلماء ما ذكره الدكتور محمد عيد مصطفى أستاذ ورئيس قسم المحاسبة بجامعة كاليفورنيا إن سبب هجرته إلى الولايات المتحدة هو تحقيق الذات، وردّ الاعتبار، والبحث عن الكينونة والإحساس باحترامها وتقديرها... وكان من أسباب الهجرة ضياع وطن... ولعلَّ للهجرة حالاتٌ... فهناك فئةٌ تعلّمت في وطنها لكنها اصطدمت بعد تخرّجها بعقبات قد تكون مالية اقتصادية أو فكرية أو اجتماعية أدَّت بها إلى هجرتها خارج وطنها الأم... وفئةٌ أخرى تعلّمتْ في الخارج ثم عادت لخدمة وطنها لكنها شعرت أنها لم تعط الاهتمام المناسب لتخصّصاتها فعادت إلى حيث أتت لتقدم خبرتها إلى وطن غير وطنها وفئةٌ ثالثةٌ تلقَّتْ علومها في جامعات الخارج، وطاب لها العيش هناك، والإغراءاتُ كثيرةٌ فأحبَّت العيش هناك وفضَّلتْهُ على العودة إلى وطنها...
وكيفما تكن حالة هذه الهجرة ودوافعها... فإننا نصل إلى نقطةٍ واحدةٍ تتلخّصُ في أن الوطن وطن المهاجر هو الخاسر الوحيد في هذه الهجرة المرغمة هرباً من شبح الاستبداد وغوائل الجوع وديدان الفساد... وعندما نصنع من وطننا جنَّةً من العدل والمحبة والإخاء... تتلهف الأدمغة للعودة إلى وطنها المزدهر... علينا أن نسعى جاهدين لإعادة هؤلاء المتنوّرين إلى أوطانهم... وتوفير سبل العيش الكريم لهم...
هل الخوارق لها صلةٌ بعلم النفس ؟؟؟!!!
بقلم : جعدان جعدان
الحكايات والوقائع المتفرقة التي كانت تثير الدهشة والاستغراب ظَّلت مستمرةً منذ قرون... وكانت جزءاً من حكايات الميثولوجيا والأساطير ومعجزات الأنبياء والأولياء والقدّيسين... فإنسان القرن الواحد والعشرين حينما يقرأ حادثة ( زرقاء اليمامة ) التي كانت تستطيع الرؤية بوضوح على مسافة مسيرة ثلاثة أيام... وقيل إنها رأت علائم غزو صوب قبيلتها... فلما حذَّرتهم سخروا منها ثم وقعت الواقعة وأتاهم الغزو ولات ساعة مندم يشعر ابن هذا القرن بمبالغتها أو أنها خرافية... أما في نظر علم النفس تعتبر واقعة محتملة... هذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى لم تمر على الباحثين مروراً عابراً بل دفعتهم إلى تجميعها وتدقيقها بالطرق العلمية وبمناهج البحث هذه الدراسات تتعلق بالعقل والنفس والروح... فعلماء النفس الذين تخصّصوا بالخوارق نظروا إلى هذه الحوادث باهتمام وحرصٍ شديدين... مستندين على حقائق دامغة فانتهجوا سلوك الدرب الوعر... فشرع البروفسور ( وليم باريت ) أستاذ الفيزياء في كلية العلوم الملكية في دبلن عام 1876م يعلن عن تجاربه حول قضايا تواصل، وقراءة الأفكار ثم تأسَّستْ في لندن عام 1882م جمعية أبحاث خوارق الإحساس، وامتدت الأبحاث والشُّعَبُ والأقسام إلى جامعات كبرى كجامعة كمبردج واكسفورد، ونيويورك... ولندن... وانتقال موضوع الخوارق إلى الجامعات العلمية قفزة كبيرة في إزالة الالتباس والغموض والريب... فعلم النفس المتصل بالخوارق توصّل إلى الكشف عن الخوارق المتصلة بالأحاسيس بالتخاطر وتواصل الأفكار وذلك بإمكان الشخص أن يتعرّف على أفكار الآخرين من مسافات بعيدة بدون أن يمتلك واسطة الاتصال به... تنكشف لصاحب الخوارق ظاهرة التجلي أو الاستبصار وهي القدرة على رؤية الأشياء والناس والحوادث خارج نطاق البصر وهنا تغدو قصة زرقاء اليمامة شيئاً محتملاً جداً لأنها كانت ترى الأشياء بقوة الاستبصار وليس من خلال العين، وأعصاب الشبكية بالأضواء والظلال التي ينقلها الجهاز العصبي... والظاهرة الثالثة هي التنبؤ أو الإدراك المسبق وهي قابلية الفرد على استباق الحوادث وتوقع ما سيحدث قبل وقوعه بساعات أو أيام أو أشهر... وعلم النفس الحديث المختص بعلم الخوارق يؤيد ذلك فالناس ليسوا سواء في إدراك الشيء الواحد... إنَّ حدود الإحساس لدى البشر لها معدل طبيعي... ومن المحتمل جداً أن يمتلك بعض الأفراد قابليات حسية تتجاوز الحدود الطبيعية وهي التي تبدو لنا من جملة خوارق الإحساس والملاحظ أن الأحاسيس الخارقة تولد أو توهب لأناس منذ الولادة يمتلكها عقلٌ موهوب، وجهازه العصبي دون تمرين أو تعلم... فخوارق الإحساس إذاً غير شاذة، وغير فرضية بل هي تجانب الطبيعة المألوفة كما أنها لا تأتي باليوجا والتدريب والتمرين وليست لها علاقة بالجهد والإرادة وهي تتصف باللاشعورية أو غير المتعمدة... لا يزال من العسير وضع صيغة علمية أو تفسير لهذه الظواهر يتلاءم مع منطق العلم المادي الحديث وهنالك مجموعة من النظريات والفرضيات التي تقول إحداها بوجود موجات مخية تختلف عن الموجات المعروفة وأنها أشبه بموجات الراديو وتقوم بعملية نقل الأفكار... تلك نظرية أستاذ ( كروكس ) ونظرية أخرى تقول : باحتمال انتقال جزيئي الذرة الإلكتروني من دماغ لآخر... تلك نظرية الأستاذ السويسري ( فوريل ) ونظرية أخرى تقول : بوجود قوة روحية متنقلة... نظرية الألماني ( اوستوالد )... والمتفق عليه أنه ليس بمقدور علم الفيزياء وحده في مجال التفسير المادي أن يقدم تفسيراً كاملاً لظواهر خوارق الإحساس كما لا يمكن القول إنَّ التجارب العَلمية لعلم النفس الروحيات ستسد الطريق أمام علم الفيزياء... بل إن الأفضل للاثنين إيجاد تفسير يجمع بينهما يوماً ولا يناقضهما... ويحق لنا أن نتساءل ماذا يفيدنا هذا النوع من البحث... وإلى أين سيقودنا؟؟؟ إنَّ ما أثبته علم النفس الخوارق من الحقائق التالية يمكن أن يفتح أمام الإنسان أبواباً أخرى من المعرفة... فقد أثبت أنَّ بإمكان العقل أن يتصل بعقل آخر دون واسطة مادية معروفة... وأن بإمكان العقل بموجودات أو مخلوقات أخرى يشعر بها دون واسطة وأن بإمكان العقل تخطي المسافات الشاسعة وإن بإمكانه سباق الزمن، وتوقع الحوادث وإن بإمكانه التأثير في حركة الجماد والحيوان دون أثر لواسطة مادية، وإن هناك شيئاً لا يدخل في صفات المادة قد يكون طاقة أو روحاً، ويدخل في تلك العمليات العقلية...
وإن العقل أو الروح و المادّة يتفاعلان بعملية واحدة ذات اتجاهين أو يسيران في طريق واحد ذي ممرين... والحادثة التالية تثبت ما سبق... مات رجل ثري في إحدى مدن أمريكا وترك وصية تجعل من أحد أبنائه الأربعة الوريث الوحيد لثروته، وبعد تنفيذ الوصية بأربع سنوات رأى أحد الأبناء الأربعة حلماً يقول له والده فيه أن وصيةً أخرى موجودة في دارهم القديمة فإذا ذهب هناك وجد في جيب جاكتة القديم لوالده ورقة مكتوبة فيها وصيته... وقد عثر الابن على وصية والده فعلاً وقد جاء فيها : إنَّ الثروة توزّع على الأبناء الأربعة بالتساوي وحكمت محكمة كارولينا الشمالية في مقاطعة ( دافي ) بتنفيذ الوصية بعد أن تأكد لديها بأنها صحيحة ومكتوبة بخط الميت مما تقدم نرى أن علم النفس الخوارق يرسم خطوطاً جديدة على اللوحة الهائلة للكون وموقع الإنسان منه... كما يضع في ذهن الإنسان مسألةً تقول : إن الحقيقة لا تحددها القوانين الفيزيائية السائدة فحسب بل لابدّ من وجود قوى أخرى لا تخضع لقوانين المادّة بل لقوانينها هي... إذن فمن الجهالة الجزم بأنَّ كل ظاهرة خارقة أو غير مألوفة تعتبر خرافة أو تدجيل أو بالأحرى إن بعض المعجزات الدينية شيء يقبله العقل والمنطق والعلم الحديث النفسي الخارق... إن الإنسان لا يزال عالماً غريباً معقداً فهو والكون المحيط به مجموعة أسرار عالمية تستوجب التواضع البشري والحماس العلمي لكشف المجهول والإيمان بعظمة الخالق فعلم النفس الخوارق يحاول تفسير كيفية التوافق بين العقل والبناء العضوي للدماغ بأسلوب يختلف عن الإطار العلمي السائد وبذلك يمكنه أن يسلط أضواء جديدة على علاقة الفكر بالمادّة.... الكون في ذاتنا وفي الفضاء حوالينا... وما علينا إلا أن نتدبر وأن نستعد لمزيد من البحث والتواضع والإيمان... ولا شك أن علم النفس الخوارق هو الذي يحمل راية الروحيات وهو الذي سيكون أقرب العلوم إلى الفكر الروحي بل إنه فعلاً يتلاءم مع الروحانيات ويسير معها جنباً إلى جنب والمستقبل وحدة كفيلٌ بجلاء الحقائق... وما علينا إلا أن نردّد مع ( سوفوكليس ) قوله : كثيرةٌ هي عجائب الدنيا... ولكن أعجبها هو الإنسان... وأن عظمة الخالق تتجلّى في كائناته ومخلوقاته...
هل تنتهي الصحراء بانتهاء النفط؟؟؟!!!
بقلم: جعدان جعدان
إنَّ هذه الجلبة والضوضاء في كلَّ مكان جعلت أعصابنا متوترة... وتلك ظواهر لم يعهدها الأجيال من قبلنا التي كانت تنعم باستقرار الحال، وهدوء البال... إنَّ التقنية الحديثة من السيارات والطائرات والبواخر... انتقلبت من نعمه إلى نقمة وأن الأيام المقبلة تحمل في طياتها بشرى المستقبل الآتي من مفاجآت سارّة... يخاف العالم اليوم من نفاذ البترول في الصحارى... ولولا الطاقة الهائلة المخزونة في جوف الصحارى لتوقفت كل وسائل النقل، وتوقفت الحياة... والطاقة نحصل عليها من مصادر شتّى منها أخشاب الوقود، والفحم الحجري والبترول، والغاز الطبيعي، والمعادن المشعة كالراديوم واليورانيوم... وهذه كلها مصادر مهدّدة بالنفاذ... وقد اهتدى الإنسان الباحث الألمعي إلى أن الشمس مصدر الطاقة لا تنفد مادامت الدنيا تسير على حالها... والشمس كما نعلم تشرق على كل جنبات الأرض مع اختلاف في فترات الشروق والغروب... ففي المناطق الباردة والقطبية يضعف الإشعاع الشمسي، ولكن في المناطق الحارّة... المدارية يطول الإشعاع الشمسي، ويشتدُّ حرارةً... وفي الصحارى حيث تكون السماء صافيةً... والأرض قفراء وجرداء... تبلغ الحرارة أقصاها وذروتها... والعلماء المتنورون بعلم الفضاء يعملون في الاستفادة من الطاقة الشمسية على نطاقٍ واسع... والاستفادة من الطاقة الشمسية قديمة قدم الإنسان في توليد النار بعد أن استطاع تجميع الأشعة الشمسية بواسطة عدسات محدبة... وأن هناك بلداناً في العالم تستفيد من هذه الطاقة عن طريق عمل سخانات ضخمة ذات مرايا كبيرة وضخمة تعكس ضوء الشمس وتجمعه فتحصل على حرارة تسخن المياه وهذا معمولٌ به في استراليا واليابان و فلوريدا وغيرها... ويؤدي هذا إلى رفع التكلفة الاقتصادية... وتمَّ تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية وذلك بواسطة امتصاصها بطرق فنية ( سلكون ) بلوري مقطّع ولامع... وعبارة عن نوع خاص من بطاريات الوقود... ولكن هذه الطريقة غير شاملة تعتمد في استعمالها على تكنولوجيا الفضاء... إنَّ علماء اليوم يفكرون بإقامة محطات ضخمة للطاقة ذات مرايا كبيرة تستقبل الأشعة وتجمعها وتحولها إلى طاقة يمكن تصديرها إلى المناطق الباردة والمستهلكة للطاقة... ويكون هذا التصدير عن طريق أنابيب وأسلاك ضخمة أشبه بأسلاك الحمل الكهربائي... أو عن طريق الموجات على غرار موجات البث الإذاعي والتلفزيوني واللاسلكي وأن الأقمار الصناعية تستقبل الطاقة من المحطات الصحراوية وتقوم بإرسالها إلى المناطق المحتاجة إليها ستصبح الصحارى مخزوناً كبيراً للطاقة الشمسية يوم أن كانت من ذي قبل مخزوناً كبيراً للنفط وأنواعه... غير أن الطاقة الشمسية تفوق عليها بأنها لا تزول ولا تحول ولا تنتهي إلا بانتهاء الشمس... ستقوم مستوطنات في الصحارى، ويشرف عليها مهنيون ومحترفون، وأصحاب المهن وستنشأ فيها مشافي ومدارس وبنوك وغير ذلك من مرافق الحياة... ويمكن للإنسان أن يستغل بعض الأراضي للزراعة... ويمكن في هذه الحالة تحليه مياه البحر لأغراض زراعية... وإنه إمكان تطبيق وتنفيذ المطر الصناعي في المناطق الجافة لم تعد مستحيلة أو مستعصية لدى العلماء الباحثين... وبهذا ستشهد الصحراء نشاطاً بشرياً لم تشهده من ذي قبل... وسوف يكون شكل مستوطنات الصحراء بسيطاً جداً... فالمساكن ستبنى من المواد العازلة للحرارة... وسيشيع نمط ونموذج المباني الجاهزة وبأقل قدر من التكاليف... وبسرعة فائقة... ويمكن أن تحاط مدن الصحراء بغطاء كامل وبسور منيع يقيها من العواصف الترابية، ويسهّل تكييفها مركزياً... وتصبح المدينة بأجمعها مكيّفة للهواء الطلق... وسياراتها لا تستعمل النفط بل تعمل على الكهرباء بعيداً عن التلوث... وستتحول الصحارى إلى مدن نموذجية رائعة... يشدُّ إليها الرحال للإقامة فيها....
ولادات متعاقبة تنتظر الإنسان...!!!
بقلم: جعدان جعدان
الولادة الأولى يأتي الإنسان من رحم أمه مشحوناً بالدّماء والقاذورات... وهي ولادة آتية من أوجاع المخاض مُبكيةً ومُضحكةً في وقتٍ واحدٍ... ويكون قد تحرّر من أسر قفصٍ ضيّقٍ إلى قفصٍ أرحب في هذه الدّنيا المليئة بقتام الآثام ودخان الآلام... والولادة الأولى هي أصعب الولادات لأنّه أتى من وطن يألفه إلى وطنٍ لم يألفه وسيكدّ ويتعب بهم حتى يستكين ويألف...!!! " والله أنبتكم من الأرض نباتاً " وعندما ينمو ويكبر ويصبح شاباً قويّاً وطموحاً يختار شريكة حياته ويتزوّج... ذلك ولادة ثانية، لأنّه انتقل من شكل الحياة إلى شكلٍ آخر من الحياة... إلى حمل الأمانة... ولمّا يُرزق بمولود يتخيّل بأنّ حياته لا تتوقّف بموته، بل يستمر ولدهُ من بعده فيدرك أنه ليس عقيماً فتخصب الحياة وتخضرّ وتورق لحياة بعده...!
ويوم يتخرّج من معاهد العلم ومن الجامعات يشعر بالولادة الثّالثة بأنه أصبح رجلاً منتجاً وشجرةً مثمرةً يقتطف من ثمارها العابرون والمقيمون والرّاحلون والمسافرون... وحينئذٍ يشعر لولادته المرتقبة بأنّه سبيلٌ للظامئين والجائعين والمحبّين... ويدرك باعتزاز أنّ له كياناً ذاتيّاً يخدم نفسه ويخدم الآخرين, فيشعر بالغبطة والابتهاج في جداول قلبه... ويدفعه الإصرار والسّعي إلى مزيد من الإنتاج والإنجاز، ويتفاءل بحياة واعدة وبولادة أخرى...
وعندما يتقاعد المرء يولد ولادة أخرى... يتخلّص من أعباء الرّوتين والالتزام التقليدي إلى نمط مريح وقد أثقلته التجارب الحياتية وارتوى من شرابها الحلو العِذَاب، والمرّ المرير، والرّمد المرمود... فأمسى قويّاً متسلّحاً بحكمة الأيّام والسّنين ويدخل إلى مرحلة الشيخوخة بكلّ معدّاته وعتاده... وطفق يتأمّل بأسرار الحياة وبأطوارها وفصولها الدراماتيكية منذ أن كان وليداً وحتى أمسى شيخاً هرماً
قد ضعف جسمه وهدر طاقاته البيولوجيّة وحلّتْ محلّها طاقاته الباطنية والرّوحية ويحلّق في فضاءات الخيال الحقيقي ما بعد الموت... بأنّ الموت قادمٌ بلا مواربة
ولا شكّ...!! فماذا قدَّم ليولد ولادة أخرى حتى يعيش حيّاً في الضّمائر الخيّرة اليقظة لبني قومه ولبني الإنسان... وما أصدق الشّاعر حين قال:
سـيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظّلماء يفتقـد البـدرُ
وكما تنبّأ سقراط ذات يوم بحياة أخرى وبولادة جديدة بعد الموت فقال:
إمّا الموت لقاءٌ مع الله وهذا أعلى اللقاءات...
وإمّا الموت نومٌ عميقٌ لا تخالطه الأوهام والهواجس والقلاقل...
وإما حياةٌ أرقى من هذه الحياة التي نحياها فيها:( الحقّ والعدل والخير والجمال ) فلا تخافوا من الموت... إنه ولادة إنسانية جديدة مبدعة وبأسلوب مغاير أجمل...
يولد الشهيد من رحم القيم والمثل العليا من أقحوان نكران الذات... ومن عبق زيزفون الترائب... ومن أرائك العشق الروحي والمحبّة والعطاء...
إنّ الشّهيد يؤمن بطاقاته الباطنية بمعارج الخلود في الحياتين فيدخل في أتون المعارك ليبني على جسده الفاني قصور الحياة وأبراجها المستقبلية في الحياة الحرّة الطليقة الكريمة، فهو حيٌّ في أدمغة المفكّرين والكتاب والأدباء... فهو مقيمٌ في أفئدة الشعراء المنشدين:
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيهـا غبـار التعـبِ
وكما يقول الجواهري الكبير:
تزهو الحياة بألمعـي ثائـرٍ يهـب الحيـاة كأنّـه لا يفهمُ
شعبٌ دعائمه الجماجم والدّم تتحطّـم الدّنيـا ولا يتحطّـمُ
والشهيد ينال مقاعد الصّدق في جنات الفردوس، فهي ولادة ميمونة مباركة... فهو حيٌّ يرزق... ويتمتّع بحياة تفوق حياة الدّنيا بمضاعفات لا تعدّ ولا تحصى...!
في جنات الفردوس هم فيها خالدون...
والكتّاب والمفكّرون والأدباء والشّعراء والعظماء الحقيقيون يولدون ولادة جديدة
بعد ما يتخطّون حدود الموت بلا خوفٍ ولا وجلٍ إلى حياةٍ ساميةٍ ينالون جوائزهم العالية من شعوبهم أولاً والحياة التي استقبلتهم واحتضنتهم في ملكوت عالم الغيب والشهادة...
أما الأشرار من بني البشر فهم منذ الولادة الأولى فهم موتى الأرواح في جلود الأحياء ولو عاشوا عمراً فيزيائياً وجسداً بيولوجياً فهم ولدوا ولادة عقيمة... ومسخوا مسخاً بأشكال كائنات مخيفة وضارّة... تفترس الإنسانيّة بأنفاسها المسمومة ولهاثها المقيت الكريه النتن... فالشّرير هو الأب الرّوحي للإرهابي المحترف فهو الذي يولد مشوّهاً كالحاً ضالاً... هو ذاك الذي يُعكّر راحة حياة الآخرين ويفترس أخاه الإنسان في ظلمة الليل وفي البراري الموحشة... وفي رابعة النهار... وفي المحافل الآهلة وفي القصور والسرادقات وأمام أعين النّاس الأبرياء...
يولد المولود في رحم أمه بريئاً نقيّاً... ولكن يلوّثه أهل النفاثات في العقد، ونافخو الوساوس الخنّس في التطرّف المنحرف والبيئة المتخلفة المتفسّخة...
إنّ الذي يحوّل حياة الإنسان إلى جحيم هو الإنسان الشرير الأبتر الذي لا يولد
إلاّ مرّة واحدة, ويموت موتاً أبديّاً, وتلعنه الأجيال الحاضرة واللاحقة وبئس الورد المورود.
الدولة تولد من صلب الشّعب إذا كان انتخابها نزيهاً... والدولة هي ملك للجميع... وهي أنا وأنت ونحن...
وكما قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر: أنا الدّولة.. والدّولة أنا... فاستقم تستقم الدّولة...
فالدّولة هي النّموذج الأرقى لثقافة الشّعب... والدّولة هي ابنة الشّعب، فإذا كان الشّعب جديراً بالأبوّة والصّلاح كانت الدّولة صالحةً... وإن كان ظالماً جاهلاً كانت الدّولة جائرةً...
فالدّولة هي خلاصة ثقافة المجتمع وهي المقياس الذي ينعكس على وعي ومعرفة وديمقراطيّة المجتمع الذي أنجبها... !!!