حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
دار رضوان – حلب
موافقة وزارة الإعلام
رقم: 1033807
تاريخ: 19 / 9 / 2013م
صراعٌ بين الحقّ والحقّ...!!!
الطبعة الثانية
لا يجوز الاقتباس أو الانتحال
وتحت طائلة المساءلة القانونية
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى مؤسس موقع تيريج عفرين الأستاذ الفنان المبدع: عبد الرحمن حاجي عثمان ( أبو تيريج ) الذي أوصل عفرين بالعالمين الداخلي والخارجي... وجعل من عفرين نجماً لامعاً في فضاء الشهرة والألق والانبهار، وموقعاً ملفتاً ومثيراً لأنظار القراء عامَّة ولمحبّي عفرين خاصَّةً... أَحْيِيْتَ تراثاً شعبياً نفخْتُ فيه روح الانبعاث والحياة... فأخرجته من قمقمه العتيق، ونفقه المظلم إلى مسرح الوجود... فنّاناً عاشقاً من الطراز البارع بامتياز وعبر غسق أرجواني (لازوردي) تتعالى همسات العشاق بليل أبدي يغفو على نهر عفرين السلسبيل الجاري...
رأيتُك يا عاشق الجمال، وعاشق سوريا وعاشق مدينتك عفرين رأيتُك ملتفاً بغلالةٍ( لازوردية ) تتأمل في وشم عفرين بطمأنينة جذلى، وابتسامةٍ خجلى بين أباريق الورود...
هيهات أن تحجب جوى النفس البنفسج والزيزفون...
يأتي الألم من صراخ النشوة والحبور... أفكان ( الحلاج ) يبتسم للحجر إذا لم يكن يبصر فيه أريج الورد..؟؟؟!!!
أنْطَقْتَ يا أخي أحجار عفرين وأوابدها بلغتك البليغة، وحدسك الصادق المبدع وبأغانيك وموسيقاك الحزينة الممتعة الهادئة....
من زلال ينابيعها الجارية أبدعت موقع تيريج... ومن سبحات أفكار عمالقة الفلسفة ومن شطحات أولياء الله ومن روائع الشعراء زَخْرَفْتَ موقعك بأطيافٍ مترعةٍ بالنشوة الغامرة... قد أوثقت مشاعر الشعراء بخيوط حريرية... فلا نبرح عاكفين على مجالي حسنك، وجمالك البهي نهيم نهيم...!!!
دَخَلْتَ خدر عفرين، وَأَمَطْتَ الّلثام عن خدر الخدر.....
إليك سلام ( اللازورد ) المطيّب بالرَّحيق المختوم في ليل عفرين السّاجي مع السعادة الأبدية الطافحة بسكينة الخلود والدخول في محراب التاريخ....
إبداعك هذا قطرات ندى اعتصرت من أفواف الزهر وعبق الحبق... رأيتك تنشر روائح المحبة بين كروم القلوب، وحدائق الأحبة... كما قال الفيلسوف الايطالي ( بتزيني ): بالمحبة تعلو شواهق الأمم، وتعتلي تسانيم المجد.....
أخوكم المخلص
جعدان جعدان
حلب في 15-7-2013م
حينما وطَّدْتُ العزم في تأليفي هذا [ صراعٌ بين الحقّ والحق ] تلفّفْتُ بإزار الجلال، وتزمَّلْتُ بالقلق، وتدثرتُ بالكآبة المترعة بالنشوة والانشراح...
يقول تعالى في بيانه الحكيم: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ)/الدخان38ـ39/... بالحق أي بالحجة والبرهان، والعلم، والصدق، والعدل، والميزان...
لقد تكرّر كلمة الحقّ في التنزيل الحكيم في كل سورة من سور البيان الإلهي... والحقُّ اسمٌ من أسماء الله الحسنى... والحق هو منحُ الحقوق لجميع المخلوقات والكائنات... حتّى البهائم لها حقوقٌ علينا... فبالحق نعيش أحراراً سعداء شرفاء كرماء... وبالحق وليس بأشباه الحق نحيا حياةً مطمئنةً هادئةً عادلةً كريمة... وبالحق نبني حضارتين الجسديّة والرُّوحيّة... حيث تسعد البشرية تحت قبّته الذهبيّة النورانية أسعد أيامها وأروع أعمارها...!!!
لقد ورد صراع الحق مع أشباه الحقَّ في الدستور الإلهي البليغ... قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وإن بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا فإن الله يحب المقسطين ـ سورة الحجرات الآية 9.
فالحقُّ في صراع مرير مع أشباهه وشركائه المتشاكسين الذين هدموا صروحه وبنيانه... وقد قال فيهم المعري:
يسوسون الأمور بغير عقلٍ ينفّذ أمرهم ويقال ساسـة
فأفٍّ من الحياة وأفٍّ مني ومن زمنٍ رئاسته خساسة
وقال هيجل في كتابه نقد العقل: (( القرآن دستورٌ عادل، ومعجزة الصحراء في ذلك الزمن البائس ))... والرعيل الأول من الصحابة الكرام الذين تلقّوا مبادئ القرآن أصبحوا سادة الأرض بفضل القرآن الحكيم لأنهم طبّقوه نصّاً وروحاً... ونحن نتباهى بانتمائنا إلى هؤلاء الرجال الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها بحقهم وعدلهم ونبلهم... فإما نحن لسنا حفداء لهم ولسنا من أصلابهم... وينطبق علينا قوله تعالى في سورة القلم (عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم) تخلّينا عن مبادئ الحق وأركانه... واتخذناه مكائداً للوصول إلى مبتغانا الفردي، وإرواء غرائزنا بحضارة الجسد... فأصبحنا من أتباع أشباه الحق. هل أفعالُنا وأعمالُنا تمت بصلة إلى عدل عمر، وشجاعة علي، وتضحية أبو بكر الصديق، وسلم عثمان، وحكمة خالد وصلاح الدين ؟؟
يقول ابن خلدون في مقدمته: لا يقوم للعرب قائمة إلا بتمسكهم بالقرآن، وأتباعهم بهدي القرآن يمتلكون مفاتيح الأرض من العدل والمحبة والجمال...
هذا الكتاب هو الكتاب الحادي عشر من سلسلة كتبي من خلاصة فكري، وعصارة ضميري ووجداني، ونقاء تأمُّلِ باحثٍ، ومصفاة بصيرتي وملاحظاتي الطافحة بنور الأيمان
ومن خلال عنوان الكتاب قد يندهش القارئ مستغرباً...!!! فلا يوجد حقّان متصارعان في هذا الكون بل يوجد حقٌ واحدٌ أحد... هناك صراعٌ بين الحق والباطل... وقد يتصارع الباطلان... والفوز للأقوى عدّةً وعتاداً... الحق الأول الذي أقصده هو الحق الإلهي الوارد في التنزيل الحكيم... وهو علم وحجة وبرهان وعدل وصراط مستقيم... ومنحٌ لحقوق الكائنات كلَّها سواءً بسواء بالقسطاس المستقيم... ويرادفه العدل والميزان والمساواة، أما الحق الثاني الذي أقصده وأعنيه هو أشباه الحق الذي هو ذاك الحق المشبوه الذي انفصل عن الحق الكلي الذي بات ممسوخاً ومشوهاً... وطفق يناور ويخادع باسم الحق... وأمسى يأكل ويشرب ويلبس وينام في فنادق ذات النجوم الهائلة على حساب الباطل... وأخذ يهتك بالقيم والمقدسات... صانعاً من ذاته خادماً ذليلاً في قصر الباطل المدجج بقوة التقنية والرأسمال...!!!
ولمّا خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وأدخل فيها كنوز الخيرات ما لذَّ وطاب من طيبات الرزق الرغيد... وقال للعالمين:{ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ولم يرسم سبحانه وتعالى خرائط سياسية للأرض لقومٍ دون قوم... وأن هذه الخزائن التي أودعها الله في الأرض تكفي للجميع... يحيون عليها حياة سعيدةً إذا اتخذوا الحقَّ والميزان والعدل والمساواة دستوراً لهم... لكنهم زاغوا وانحرفوا واتخذوا من شهواتهم وغرائزهم أوثاناً لهم يعبدونها قياماً وقعوداً...!!!
إنَّ الحقَّ يحتضر ويرزح تحت وطأة أشباه الحق... وهؤلاء الأشباه العاقّون تمرّدوا على تعاليمه، وتاهوا في مزابل الفساد والرفث... فالصراع ناشبٌ بين الحقَّ وأشباه الحق في كلَّ بقعهٍ من بقاع الأرض ومنها شرقنا اليتيم والغني بثرواته الباطنية، وقيمه الروحية حتى الأعناق وأصحابه هم السفهاء وأشباههم... ويرقدون في أروقة الباطل الباطر المكابر... أجل!... الحق يحتضر وأشباهه شاخصة أبصارهم ترهقهم ذِلَّةٌ....!!!
لأنهم خانوا العهد والميثاق... وخاضوا في وكالات اللغو واللّهو... من خلال بحثي هذا متأملاً... وقارئاً جيداً لصفحات التاريخ في مراحله المتعاقبة... خرجتُ بموعظةٍ لا تنسى... وعبرةٍ ماثلةٍ شاخصةٍ أمام أهل البصائر والبصيرة وهي: أنَّ البكاء على الأطلال من حيث تلافيف الدماغ لأهل الفكر والفلسفة لا يجدي نفعاً بل يزيد تقهقراً وارتكاساً إلى الخلف....!!!
إنَّ قراءة التاريخ تدفعنا إلى مراجعة الذّات، وتصحيح الأخطاء والشُّروع بالصحوة واليقظة... ونسيان كهوف الأحزان والتخبط في جحور المياه الآسنة... لكي نمحو آثار الخذلان، وننهي دور أشباه الحق... وننهض لولادة مباركةٍ ونستظل بظلال التنزيل الحكيم، ونفيء بفيئه تحت عرش الرحمن... لنستعيد عزَّنا الآفل، ومجدنا الزائل....!!!
اعتمدتُ في منهجي هذا على التجربة الحياتية، والملاحظة الدقيقة، والحدس والتخمين، والتأمل العميق، والاطلاع الواسع لعظماء الفكر والفلسفة أمثال: العلّامة بديع الزمان سعيد النورسي، وابن خلكان، وابن تيمية، وابن خلدون، وابن رشد، وأحمد أمين، ومصطفى محمود، والعقاد، وسيد قطب، وبنت الشاطئ... وغيرهم... رحمهم الله جميعاً... وأقف متهيباً و خاشعاً أمام مدادهم المهراق للبحث والتأليف مقتبساً من آرائهم ومضيفاً عليها اجتهادي المتواضع المغلّف بعمق الرؤى، وبعد النظر....
وُلِدَ كتابي هذا ( صراعٌ بين الحقّ والحق ) من رحم مخاضٍ عسير... من غمرات الشعوب والأمم وانتكاساتها، واصطدام مصالحها الفردية بالحق الكلي المطلق المتمثل في البيان الإلهي الحكيم... وإنَّ أهل الحق عندما يتقاعسون ويتكاسلون عن أداء واجبهم يولد من حمأة العجز والكسل وعبادة الذات أشباهُ الحق... فأردتُ أن أسلّط العين الثاقبة، والبصيرة النافذة إلى هؤلاء المارقين الذين أنزلوا الحق من أبراجه العالية إلى الحضيض... عسى أن يكون كتابي هذا يبلَّ صَّدىً، ويريح النفس وينعش القلب ويساهم في إحقاق الحق نحو الفكر القرآني الجليل، والهدي الصحيح....
وأوجَّه شكري وامتناني إلى أغلى الغوالي الشاب الأنيق: عمر عبد الرحمن مصطفى الذي ساهم في تنضيد الكتاب، حَفِظَتْهُ السَّماءُ بجنودها البررة......
وأرحَّب بورود النقّاد وأشواكهم ولكلَّ كبوةٍ ارتكبتُها... وأكون شاكراً لهم... مستفيداً من نقدهم البنّاء العلمي الرّشيد ولسوف تنتفع الأجيال الآتية من أعماق السنين المكنونة...
وأقول كما قال الفيلسوف جان جاك روسو: ( قد أختلف معك في الرأي لكنّني أساعدك للدفاع عن وجهة نظرك حتّى الموت.... )
وختاماً أردّد قوله الله تعالى في بيانه المحكم الرّصين: ( وفوق كلّ ذي علمٍ عليم )
التوقيع: خادم الحق وأحد جنوده المجهولين في إعلاء شأنه في الأرض الملآى بالآثام. جعدان جعدان
حلب في 15-7-2013
الخائفون لا يصنعون الحرية... والضعفاء لا يخلقون الكرامة... والمترددون لا تقوى أيديهم المرتعشة على التعمير والبناء...!!!
لماذا تذهب صرخات الدّاعين إلى الفضيلة في بلادنا مع الريح ؟؟؟
نعم كأنهم ينادون دمى خشبية لا أناساً يمورون مورا بانفعالات وجودهم والحياة ؟؟؟
أجل... هذا هو الهتاف المجلجل للسيد المسيح وهو هائم على روابي الجليل ونداءٌ صارخٌ لمحمد وهو يتهيأ نفسه للتبليغ وهو ثاوٍ في غار حراء وهذا في وعي ( بوذا ) وهو يتواثب وراء الحقيقة بين سهول الهند ونجودها... وهذا في خطاب سقراط وهو يدعو إلى الحق فيقول: اعرفوا الحق ثم اتّبعوه وسيجعلكم الحقُّ أحراراً... ويقول حكيم صيني: من غير الحكمة أن يكون الإنسان حكيماً إذا لم تساهم التجربة في تكوينه... أما الاكتفاء بمشاعرنا الذاتية والاهتداء بانفعالاتنا العارضة، وتقليدنا الضرير لآراء لا ندري كيف تكوّنت فأسبابٌ لا تمنحنا الدليل لعمل ناجح أو إصلاح نافع.
يقول كنفوشيوس: الاستبداد الداخلي والخارجي أخطر على روح الإنسان من الوحش المفترس. ويقول أيضاً إضاءة شمعة أفضل من أن تلعن الظلام... والسمع والطاعة لنداء الديمقراطية هو الذي يعشب البيداء... وما الديمقراطية إلا ثمرة أثمرتها الحاجات الملحة للتخلص من المهانة والعجز... وإن الطغيان بشتى أنواعه هي تلك الحالة الإنسلاخية التي ينسلخ المجتمع فيها عن إرادته ومشيئته... وحتى عن ذاته... وعندما يفقد الإنسان حريته يفقد سيادته على نفسه... وحينما يفقد هذه السيادة يحرم الوسيلة المجدية للاكتمال الخلقي، ويمسي كل إيحاء له بالفضيلة مجرد رطانة أعجمية لا ينال منها سوى التلمظ بها... كما يفعل أي حيوان مجتر بملء فمه من علف لذيذ... وكل الجهود التي تبذل لأخذ الناس إلى مكارم الأخلاق في ظل التسلط الذي يسلبهم اختيارهم هو ذلك الجهد يحرث في البحر... ويزرع في المحيط...!!
إن طغيان المؤسسات وطغيان المجتمع والقانون والعادات هي العنوان الضخم لكل هذه الأثافي التي تقوَّض المجتمع وتهدم أركانه...
والطغيان يسلب من الروح روحها وطهرها وبسالتها... والخوف يشوّه الضمير ويعطّل الإرادة ويبطل القدرة... فالضمير هو ذلك الرقيب في داخل ذواتنا الذي يصلصل أعماق ذواتنا عندما يستهوينا الشر وتقودنا الرذيلة... فحاجة الشرير إلى الضمير ترجح حاجة الخير... وفي هذا المنحى يقول هادفيلد: ( الضمير لسان الخير المقموع ) عندما يكون الشر هو المسيطر وهو السائد...؟ فالضمير ليس جزءاً من تركيبنا العضوي ليس قطعة لحم أو مضغة دم بل هو وظيفة كالغواية سواء بسواء وهو بهذه المثابة يحيا بالمران المستمر فإذا أخلد إلى السكون تحلّل ومات...!!
( نيرون ) ولّى الملك بكى بكاءً مراً إذ جاءوه بأمر إعدام أحد الذين يستحقون الإعدام كي يمهره بتوقيعه... أجل...! بكى وصاح ( ليتني ما تعلمت الكتابة ) والفساد مزرعة للرذيلة... يعطل وظيفة الضمير... والضمير ذلك جرس الإنذار الذي لا يكف عن القرع موقظاً اتجاهاتنا الخيرة النبيلة... والإرادة هي كالضمير ليست جزءاً من جسدنا الحي أو عضواً من أعضائه بل هي وظيفةٌ تنمو بالمران وتعيش بالعمل... يقول هادفيلد: الإرادة وظيفة الذات وهي تتماسك بالعمل والمران وتلتحم بعضها ببعض حين يكون لها نشاط عام مثل الكائنات الحية تماماً.
إن عظماءنا يجب أن نجلَّهم... إننا نتذوّق العظمة وسجاياها الدافئة المشرقة... هؤلاء الأفذاذ الذين أنجبتهم الإنسانية... هؤلاء الذين تتمثّل فيهم القدوة الصالحة... فالعظيم الذي نعنيه بكلمة عظيم ليس هو صاحب المنصب الرفيع... أو الجاه العريض أو المال الوفير إن عظيماً واحداً من هذا الطراز يفعل في أمة ما تفعله عشر جامعات... عندما فرغ ماوتسي تونغ من قراءة كتاب عن بطرس الأكبر وواشنطن ولنكولن وروسو... وتوم بين وقال: إنَّ الصين في حاجة لمثل هؤلاء العظماء وتعرَّفت على الطريق الآن...
وروى أحد رفاق ماوتسي تونغ عنه بأنه دائم الاهتمام بالآخرين بينما لا يهتم بنفسه... إنه ينام معنا على الأرض ويأكل من طعامنا نحن الجنود ويعطينا ما يهدى إليه من ثياب وأحذية وفي آخر معركة خضناها معه رأيته منبطحاً على الأرض يطلق النار من بندقيته...
ويتابع قوله: كنتُ تائهاً وتافهاً وتحت ظلاله أصبحتُ إنساناً... أسير أمام ضيائه... وأهتدي بأضوائه... ) إنَّ المتملقين يتظاهرون بالفضيلة... ولا يلبث أن يتحول إلى قطب عظيم من أقطاب الضلال والإفك... ولقد صدق نهرو قائلاً: الاستبداد والنفاق والمراوغة مفسدة مطلقة للروح والأخلاق... والضمير والإرادة...
قد يبدو المجتمع مريضاً مرضاً عضوياً... ويقدر الكشف الطبي الواعي أنه ليس مرضاً عضوياً بل مرضٌ نفسي... لقد تحوّل الاضطراب الانفعالي إلى اضطراب جسماني فكانت آلام معدته ومفاصله... وكذلك تشيع في المجتمع أمراض خلقية لا تكون في حقيقها أكثر من اضطراب انفعالي وقلق جاثم يتسللان في كيان الجماعة فيدمران سكينتها... وينتزعان الثقة من وجدان الجماعة على هذا النحو... فيتيّمُ وجهها شطر الإشاعات الملفقة والرأي العام الكاذب ويعيش في أخطبوط معتّم من هذه العادة السرية التي تنهش عافية عقلها وعافية عواطفها من حيث لا تدري... فالمجتمعات الواجفة المريضة تتسلى بالأكاذيب المصطنعة وتلتمس منها العزاء والأمل، وتضيف إليها الكثير من خزائن غيظها الموهوب فيتخدّر المجتمع بمكروب الإشاعات الآثمة... ذات القشور اليابسة القابلة للاشتعال والانتشار السريع وفي الحياة الحرة الطليقة تموت الإشاعات فور ميلادها.. ويتفرغ المجتمع ويخلو له السبيل في رؤى العظمة والجمال... والحياة العقلية الرفيعة الناضجة التي تثمر المكاسب الاجتماعية والخلقية والاقتصادية... والسياسية... والمؤسساتية...
أما المجتمع العفن يفكر تفكيراً عفناً ويعيش داخل تقاليد عفنة لأنه تعاقب على حكمه وحياته وأرضه طغاةٌ لم يتيحوا لعقله فرصة التبصر والتألق منذ قدم الزمان... بل شحنوه شحناً معتماً بشعوذاتهم وعنجهياتهم المضللة...
يقول توما الأكويني: إنه لما كان كل من العقل والإيمان هبة من هبات الله فهما بالضرورة متوافقان... أجل إنه صحيح عندما يذهب عقلك في إجازة يرفع الله عنك جميع التكاليف والمسؤولية... فالعقل هو الركن الركين في حياة الفرد والأسرة والمجتمع...
وذلك أن العقل الذكي الصارم ينأى بأصحابه عن دواعي العلة من تخمة في الأكل وإفراط في السهر، واستسلام للشهوة... شهوة النفس، وشهوة الجسد... وهو بهذا يؤدي دوراً وقائياً يتحاشى بها الكثير من أمراض الجسم... ويستطيع العقل البصير أن يعالج أمراض المجتمع الخلقية لأول ظهورها قبل أن تستفحل... فالمرض يبدأ رغبةً ثم يصير سلوكاً... ثم يكون عادة ثم يعقب عليها الإدمان الضاغط فيصير مرضاً خلقياً مقيماً... وهكذا يواجه العقل فرصاً كثيرة يستطيع بها أن ينقذ الضحية من سوء المصير... لست أعني بالعقل أن تكون فيلسوفاً أو مخترعاً أو مفكراً... أو أديباً كبيراً إنما أعني العقل المتزن، والذهن الثابت... أعني سكينة النفس... وسكينة التفكير... وآفة العقل في التعصب ذلك هو قرين الحكم المطلق وثمرة الحنظل التي تثمرها شجرته الملعونة... ذلك أن المتعصب هو العدو الأول للثقافة الحرة... وقاطع الطريق على قافلتها المباركة... يبدأ المتعصب صاحب الحكم المطلق متوسلاً بالرغبة فيطلق في نفوس المفكرين والكتّاب والأدباء والشعراء... أنواعاً من الشهوات، يبسط لهم موائد الجاه والمال والشهرة... فيستجيبون له... أجل لا يكتبون ليفيدوا مجتمعهم بل يكتبون ليشهروا وليكسبوا... فيتحولون هؤلاء فوراً من قدّيسين إلى أبالسة... فخير ما يهدى إلى الفضيلة أن تعيش الجماعة في كنف الكلمة الطيبة... والشر يدفعك أن تعيش في مستنقع آسن للكلمة الخبيثة... فالفكر والأدب لا يرتفعان بنزعة التكسب
ولا يرفع لوائهما بالهوس الغوغائي... ويرويان بالثقافة... ويحلقان بفضاء الحرية الفطرية الواعية...
إن الطغيان الوصولي يرفع أصوات التافهين الذين يتخذون من الفكر والأدب تجارة ولهواً فيغمسون أقلامهم من مداد اللهو والبهتان... بينما ينزوي الذين عندهم علم من الكتاب ونور من الحقيقة... عازفين عن الشهرة التي ثمنها الكذب... وعن المال الذي هو عن طريقة التسليم وعن الراحة التي ثمنها خيانة المعرفة... فمن أدب الأمة وأخلاقها رباط وثيق فمن أدب أثينا تعرف أخلاقها... ومن أدب الرومان تبصر سلوكهم... ومن أدب الفرنسيين وأخلاقهم وشيجة... ومن أدب الإنكليز وأخلاقهم صهر ونسب.
إنَّ الدوافع الغائية الشريفة تستمدُّ وجودها من القيم الفاضلة السائدة في المجتمع كما يستمدُّ الماء من عناصره المكونة له... وعلماء الأخلاق والنفس يقررون أنَّ دوافعنا مزدوجة فهناك دافعان: الابتدائي والغائي... فالأول هو الدافع والباعث تلقائي لأنه ينبعث من غرائزنا وقوانا الفطرية والثاني كسبي...
ويرى هادفيلد: أن رجلاً سياسياً يخدم وطنه فالدافع الأول ينبثق من غرائزه... يمنحه القوة المغامرة وحبّ التفوق والظهور والمجد...
أما الدافع الثاني يدفعه إلى تحقيق مكاسب عظيمة خدمة لمجتمعه ووطنه... وإنَّ الناس يحبون وطنهم لأنه المأوى الذي يصون حياتهم، ومصالحهم... والعش الجميل الذي يضم الذكريات الخوالي... فالسلام الاجتماعي الذي هو المناخ الصالح للفضيلة لا يتآتّى قطُّ لجماعة يحملون للوطن ضغناً وحقداً... هل نستطيع أن نقارن بين عمر ومعاوية... وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز الذي ساد في عهده السلام والرخاء والإخاء والفضيلة بأعلى رتبها... فأصبح عهده ينعت بأنه الأيام التي كان الذئب يرعى فيها مع الشاة..!! قول نبيَّ الوحدة الايطالية( متزيني ) الحب ثم الحب ثم المزيد من الحب... سأله يوماً ( توماس كوبر ) الانكليزي عن سبب دعوته العنيفة وتوسله بالعنف والقوة لنضال الطغيان النمساوي... فأجاب: كيف نعمل بهدوء والطغيان النمساوي جاثمٌ على صدورنا بجيشه المثلث: الجواسيس والضباط – ورجال الشرطة... إن الطغيان لا يتحدى الفضيلة وحدها بل والإيمان أيضاً... ولقد رأينا كيف أفضى اضطهاد البيض لزنوج أمريكا ببعض هؤلاء الزنوج إلى الكفر بالإله إذا كان أبيض البشرة... بل لقد ذهب بعضهم وزعيمهم ( ماركوس ) ينفث في القارة السوداء عقيدة جديدة... يجب علينا أن نستبدل بهذا الدين ديناً جديداً إلهه أسود وملائكته سوداء... وخاطبهم قائلاً: اعلموا أن من وراء هذا التفوق الخلقي حكماً ديمقراطياً راسخاً كرسوخ الجبال... ووراء ذلك حرية تملأ صدور الرجال...
إنه لجدير حقاً أن ننظف مجرى النهر من جديد... وتحرير الفرد من الخوف والفزع والجوع...والقهر وأن نتهيأ لمناخ الحوار والمحاورة... لخلق مجتمع متحرر من الأحقاد... مجتمع أخلاقي مدنيّ متطور يتحدى المتحديات... ويكشف سبيل الخلاص... يقول الفيلسوف جويو)فيضٌ في الحياة يريد أن ينفق وهو لا يأتي عن إكراه أو ضغط خارجي إنهُ لتعبير عن قوة طافحة تظهر إلى الخارج في حب وغيرية...) فمن خلال التسلسل لغزوات وكل غاز يجيئنا حاملاً تقاليده وسلوكه... والغزو لم يكن واحداً يذوب فينا أو نذوب فيه بل متكرراً ومتعاقباً كان كليل الشتاء بارداً. فلا نكاد نفيق من استعمار حتى ينالنا استعمار غيره... ولا نودع غازياً إلا على قرع طبول غازٍ جديد...!!!
إن استعماراً آخر أكثر ضراوة من الاستعمار الراحل يمثل كل أركان حياتنا... إنه لا يحتل المدائن إنه يتقمص أجساماً وأرواحاً ويسير في دمائنا ووجدان الجماعة... ذلك هو التربية عن طريق القوة... سواء في ثكناتنا... ومدارسنا... وجامعاتنا... وأسرنا...
في سويسرا مثلاً لا يكادون يستعملون عبارة ممنوع فحيث تقرأ ( هنا في حدائقنا ممنوع قطف الأزهار ) والعبارة المتألقة في حدائق سويسرا ( هذه الزهرة في يدك تكون لك وحدك ولكنها في مكانها تكون للجميع ) الإلزام والإكراه المبتديان في ظواهر حياتنا ليسا عرضاً طارئاً... بل عرضاً مزمناً لعلة مزمنة وآفة لابثة مقيمة... وهذه الأغراض تنتشر في المجتمع في سلوكه وتربيته وثقافته وتشريعه هذه الأغراض لا تمنحها إلاّ أكثر من زخارف وألوان باهتة قاتمة..!! أجل..! إن شجرة الحنظل لا تثمر الكمثرى والمجتمع الذي تنطلق دواعي سلوكه وتربيته من الإكراه والخوف ليس أكثر من شجرة حنظل مريرة الثمر والظلال... أجل إن السلوك الإرهابي هو الهدية النفسية التي يهديها الإرهاب للفضيلة... والطامّة الكبرى هو تحول هذا السلوك إلى نهج عام للمجتمع... فتصوروا كم يكون المصير ويبلا...!!!... ومما يؤسف أن التطور الباهر الذي أحال بيوتنا من أكواخ واطئة إلى قصور كالأبراج لم يزامله تطور مماثل في روح مساكننا وبيوتنا... إن الطغاة ملّة واحدة... طغاة المؤسسات والبيت والمجتمع كلها يشدّ بعضها أزر بعض وهذه الحكمة الصينية تكشف عن تضامنها العتيد فمن آداب الصين القديمة وتعاليمها المقدسة يقول: ( أيها الأمير كن أميراً ويا عبدُ كن عبداً ) بيد أن جميع عظماء الصين الذين صنعوا تاريخها الجديد والذين يصنعون الآن كانوا من الأولى حطموا هذه الحكمة وداسوها بأقدامهم الباسلة قدسها الشريف...
ولولا ( صن بات صن ) أب الصين... ولولا ماوتسي تونج لظلت الصين... قرية صغيرة يطن الذباب الضاري في خوائها ويتدحرج ضحايا الأفيون فوق أرضها...
إنَّ هناك ظاهرة اجتماعية مختلفة في مجتمعنا وهي دفع الفتيات اللاتي إلى أزواج لا يريدونهن.... أعرف فتاة كانت كالزهرة تقدم لخطبتها شيخٌ هرم في مثل سنّ أبيها بيد أنه من ذوي الجاه والثراء ورأت الفتاة أنها ستكره على معاشرته والاقتران به... فهددت أهلها بالانتحار ولم يأبهوا لها ولا لتهديدها وزفّت إلى مصيرها في ليلة حالكة السواد...
وبعد ستة أشهر طُلِّقت من زوجها بعد أن أعلنت حرباً على كل حرمات الحياة الزوجية... إنَّ معظم الخيانات الزوجية ناجمة عن هذا اللون البشع من الإكراه... إكراه الفتيات على زوج لا يردنه
ولا يحملن له مودَّة ولا توقيراً... وهذا الحكم لا نصدره عفو الحديث ولكنه صورة يقين أثمرته الشواهد والمثلات... إننا بقانون الغابة الذي نستعمله مع أبنائنا وبناتنا نملأ بواطن أنفسهم بالصراع الذي لا يكاد يفارقهم أبداَ... والصراع الداخلي في النفس يضعف القدرة على أداء الواجب... ويهيئ المجتمع لحريق لا يبقي ولا يذر... إنَّ روح السيطرة الشخصية تشيع في مؤسساتنا ومدارسنا وجامعاتنا شيوعاً يدعو لوجوب تفهم بواعثها ووقف امتدادها...
إنَّ روح التشريع والجزاء عندنا تعتمد على القانون كعقوبة لا كعلاج... والبلد الذي يستمرىً هذا الإشراف فيحل بقانون ويحرم بقانون لا يلبث أن يصير كالمدينة التي أهلكها السكوت... ( أميكلي ) إحدى مدن اليونان القديمة وكانت تزعجها الإشاعات عن قرب غزو الاسبارطين لها فصدر قانون شديد يحرم على أهلها ذكر كلمة أسبرطة أو غزو أسبرطة وبعد حين وصل الاسبرطيون الغزاة فلم يجرؤ أحد على انذار قومه ودخلوا المدينة واحتلوها فوصفت في التاريخ بأنها المدينة التي أهلكها السكوت...!!! والسؤال اللاهث... هل نستطيع أن نكافح رذائل النفاق والخنوع والكذب بقانون ؟؟؟ وإذا كان القانون هو النص الذي يتضمن الجزاء والعقاب...؟؟؟
ذلك التشريع... هو القانون النص والسجن أداة والاثنان يشبهان حجري الرحى يطحنان في بلاهة وقسوة... إنَّ السجن يجب أن يتحول من عقاب إلى علاج ومن أداة تعذيب إلى وسيلة تهذيب... إنَّ من آفاتنا الاجتماعية التزمت والتعصب... والنفاق الاجتماعي الذي يصد عن طلب الحق ونشدان الكمال... فماذا ينفع تصلي وتصوم فتؤثر الجبن على الشجاعة... والهوان على الآنفة والمداهنة على الصراحة... وتأكل الحرام وترتشي من أجل مطمع فانٍ وغرضٍ زائل وتتحايل على الحق؟؟؟!!!
الواجب كما يقول ( جويو ) ليس شعوراً بضرورة أن تضغط لأن ذلك يوحي إلى عدم الشعور بالاحترام العميق...
ويقول ماكولي: إن خير عمل يفعله المرء باختياره الحر... وفي خلوته... ولن يطلع على سرّه أحد... الواجب الذي تمليه ضرورات عادلة تتمثل فيها مصالح الأمة والجماعة ومن ثم يكون واجباً أخلاقياً نبيلاً... لا ذلك الذي تمليه مخاوف طغيان باغٍ أو تقاليد مجتمع متخلف...
في كتاب الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء يحدثنا المؤلف عن طفلة فرنسية أعطتها أمها قرشاً لتشتري شيئاً للمنزل وإذ هي تعبر الطريق دهمتها سيارة ألقت بها على الأرض وأصابتها بجروح وأغميت عليها غير أنها ظلت قابضةً على القرش في حركة عصبية عنيدة ولما أفاقت وجراحها تنزف... وجدت أمها أمامها ففتحت يدها المقبوضة، وبسطتها إلى أمها تناولها القرش قائلة: قرشك يا أمي... لم أضيعه... يقول جويو معلقاً على هذه الواقعة الرائعة: لقد كانت الحياة عند الطفلة أدنى قيمة من القرش الذي اؤتمنت عليه... فرحلتنا إلى الكمال الإنساني تبدأ من إيماننا بالواجب واعتمادنا عليه.
إنَّ إنسان هذا العصر إنسان جديد... مبدع ورائد حضارة... وهو إذ يرفض أن يكون امتداداً أفقياً لسلطة باغٍ يريد أن يكون امتداداً رأسياً صاعداً... ولم يعد هدفه في الحياة أن يفلسفها بل أن يحياها فتأملوا قول عمر بن عبد العزيز من خير الذين حملتهم الأرض فوق ظهرها فهماً وزهداً وعلماً... اللهم اجعل ما أنا صائر إليه أحب إليَّ مما أنا مدبر عنه.
فدولاب الحياة إلى الأمام... والأمام يعني التقدم والمدنية...
هل نرى أنفسنا قوماً مارقين إذا لم نأكل في الجفان التي كان آباؤنا الأقدمون يأكلون فيها ؟ إنَّ كثيراً من تقاليدنا التي تحولت إلى أخلاق تشبه هذه الجفان التي ولّى زمانها وذهب... ليس من الصالح أن تتخلى أمة عن تقاليدها بل إن التقاليد ضرورة من ضرورات التقدم والمدنية ولكن لا يجوز الإسراف والتقديس لها... منذ أمدٍ بعيد وتحت عنوان: ماتت الخرافة تحيا الحقيقة... كتبتُ أتساءل كيف نامت جماهيرنا في زحمة الحياة وكيف زاغ نهانا ؟!! وكيف وقف نموها دهراً طويلاً، وتعطلت ملكاتها... وكيف ألقت عصاها، وأناخت كبرياءها حتى سامها كل مفلس، وحتى تسنّمت ظهورها الغربان؟!
ما الذي أسلس قيادها وأحنى ظهرها للهوان والخذلان ؟؟؟
ولماذا جعلت شعارها حسبي وجميع ما حولها ومن حولها يطلبون المزيد ؟؟؟!!!
إن الحقيقة تفصح عن أعماقها وتقول: لم يبق من تلكم الحضارات سوى التي قامت على احترام الحياة واستشراف حقائقها النيّرة...
ومن هنا يسوقنا القدر إلى حرية الإرادة والاختيار... وهذا هو القدر الأخلاقي... علينا أن نشطب على التعصب القبلي والنفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي... ذلك الذي يسلب ضحاياه أجلّ الفضائل الإنسانية وأزكاها... يسلبهم فضيلة الصدق والثقة بالنفس والأمانة والتسامح والحب والعدل والرحمة...
ولقد صدق ( فون بابن ) حين قال في مذكراته التي نشرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية: إنَّ الألمان لم تهزمهم القوات المسلحة في ميادين الحرب بقدر ما هزمتهم قوى الظلام التي هاجمتهم من داخل أنفسهم والتي هي التعصب ( الأنا السفلى )... إن قرآننا المكنون يلزمنا بواجبات عبادية يمنح لنا فرصة التأمل والاستشراف ويصل إرادتنا الواهنة بأسباب القوة والتفوق... ويصرف قلوبنا عن التشبث بالماضي الكئيب الذي فقد اعتباره وموضوعه... فهو إذن لا يضيق بالمدنية الرشيدة التي تستطيع أن تلعب دوراً نافعاً في مشاكلنا السلوكية الحياتية لنرتفع إلى مستوى الدورة من دورات التطور الحلزوني الصاعد... وحركة التاريخ تقتضي إنشاء أوضاع تتفق وحاجات العصر فلننطلق صوبها في شوق لاهب كما يفعل فرس الرهان عندما يشارف الهدف وتعصف حوافره في الأرض فتملأ الأفق رماداً... إنه رماد الخطوات لتعانق النصر وليس تراب الهزيمة والانكسار... فمن قوانين الحياة نشأت قوانين الأخلاق وقوانين الحياة لا تهبط من اللاحياة بل تنبعث انبعاثاً تلقائياً من الحياة نفسها ولنعلم جيداً أن بربرية الجسد والفكر والروح ضريبة التخلف وهؤلاء هم الذين تغشاهم غواشي الوصولية ويجب قطع أدبارهم ولننطلق نحو تطور أخلاقي مدني متطور... فلنرفع لواء الإيمان بيميننا ونمضي مع عقل التاريخ والإرادة الحرة الرغيدة... الكريمة... العامرة...
التاريخ هو ذاكرة الشعوب
قراءة التاريخ ضرورةٌ وطنية وسياسية واجتماعية وإنسانية... حينما نستعرض لوحات التاريخ البيضاء ثم مآسيه القاتمة الفاحمة.
إنَّ من ينظر إلى التاريخ الأموي والعباسي ويقارن بينهما ثم يتصفح ويقرأ تاريخ الأندلس... والعصر المملوكي وغيره نجدْ أنَّ متعة التاريخ ضرورية لكل قائد ولكل من يبتغي القيادة ولكل باحثٍ ومفكر ومن تهمُّه مصلحة أمته ولكني لا أرى هذه الضرورة متعة فحسب بل هي أيضاً شيء أعظم الفائدة... ونحن لن نقرأ التاريخ لنعرف أن معاوية هو كان أبا يزيد... ولكننا نقرأ التاريخ لشيءٍ أعظم وأخطر وندرسه لما هو أمثل وأهم وأنفع... ذلك أن فيه صورة موضوعية لماضينا ولما فيه من نقاط القوة ومواطن الضعف... وليست هذه الصورة صورة أمة فحسب بل هي صورة لكل فرد من أفرادها... فالتاريخ فهو إن شئت فهو حقيقة الأمة بالفعل لا حقيقتها بالقوة... وتاريخنا هو الوجه العفوي للأمة ولكن الحقيقة العفوية شيءٌ والحقيقة الإرادية شيءٌ آخر ولكن ما هو تاريخنا حقاً... هل نحن أبناء وأحفاد هؤلاء العظماء الذين فتحوا العالم أم أن الذين كتبوا التاريخ لم يكتبوه على حقيقته... انحازوا إلى الحكّام وساروا على هواهم...
إنَّ تاريخنا ليس غريباً عنا وهذا صحيح جداً غير أن تاريخنا ليس كل حقيقتنا وهذا صحيح أيضاً لأن الذين كتبوا التاريخ معظمهم مقربون من بلاط الخليفة... ولكن ما هو تاريخنا حقاً إنَّ قارئ هذا التاريخ
لا يستطيع إلا أن يدهش لتماثل حلقاته، وتجانس أحداثه فكأنك في كل ظرف من الظروف تحيا ذات المشاهد... فالمشهد واحدٌ... فكأنك أنت ممثل يتنكر بلباس خاصّ فإذا أنكرته قليلاً لم تنكره طويلا...
وعبثاً تسقط الدولة الأموية، وتحل محلها الدولة العباسية في بغداد
أو دولة الأمويين في الأندلس إنك لن تجد إلاّ المشهد نفسه حيثما كنت... والآن ما هو هذا المشهد... إنه مشهدٌ يتألف من دولة تقوم فيسعفها الحظُّ حيناً ويخذلها أحياناً... إلا أنها تبدو لأول وهلة ضخمةً ممتدة الأطراف موحدة الجوانب ولكنها تنتهي من الوحدة إلى التشرذم... ومن الامتداد إلى التقلص... ومن القوة إلى الضعف... ولكن المهم لم يكن هنالك وحدة تزداد مع الأيام قوة... على مثال
ما نعرفه عن تاريخ ألمانيا أو فرنسا أو ايطاليا أو اسبانيا ولكن كان هناك دوماً وحدة تضعف مع الأيام وتتغير حدودها حيناً بعد حين وتنقلب عواصمها بين أقصى الشرق وأقصى الغرب... إن عاصمة فرنسا وعواصم أوروبا لم تتغير ظلّت هي هي على اختلاف الملوك والأزمان أما عاصمة الدولة العربية فلها دوماً نزهات جميلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. فلقد كانت عاصمة الخلافة أولاً هي المدينة ثم انتقلت إلى دمشق ثم إلى بغداد ثم إلى القاهرة ثم إلى بلادٍ أخرى في المغرب والأندلس. وهذه حادثة قلما تجد لها في التاريخ مثيلا... هذا هو القلق الجغرافي السياسي إنما يعكس قلقاً نفسياً ليس أقل منه خطراً ينبئ عن قلق نفسي كبير وما نظنُّ أن هنالك من يجهل أن الدولة العربية كانت تقفز أحياناً إلى أعلى درجات الحضارة ثم تعود فتهبط إلى الحضيض فكان نقطة الصفر هي الملتقى للجميع... منه نبدأ لا نلبث أن نعود إليه كما كان... وهذا أمرٌ قلما نجد في تاريخ الحضارات القومية... أما نحن فحظّ النمو عندنا يهبط ويصعد بفعل القوى الخفية والغيبية دون أن نثق تماماً في يومٍ من الأيام أن ما نبنيه اليوم سيكون ركيزةً لما سنبنيه في الغد أو أنه لن يهدم في الغد...
وهذه القاعدة بالنسبة إلينا شاذَّة... تاريخنا قلقٌ دائم... لا نريد
إلاّ الإشارة إلى حقيقة موضوعية هذه الحقيقة هي القلق وعدم الاستقرار على وتيرة واحدةٍ... فنقول مثلاً: إن وضعنا الجغرافي
هو السبب أو أن بنيتنا النفسية الاجتماعية هي السبب منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم... ألا وهو المريدية أو التعصب للقبيلة والجماعة والعائلة والفرد الواحد الأحد الذي لم يأتِ قبله ولا بعده أحدٌ... ولعل هذا هو السبب الحقيقي والجوهري في انتكاساتنا الحضارية منذ زمنٍ بعيد... وأن التفاعل بين الوضع الجغرافي والبنية النفسية والتربية العائلية هي السبب... لكن الذي أريد قوله هو أن تاريخنا والقلق الذي فيه ليس إلا التاريخ العفوي الذي صاغته نفسيتنا السقيمة في تفاعلها مع الظروف المختلفة التي وجدت فيها ولكن هذه النفسية لم تكن في المستوى المناسب من الوعي ولم يكن ما تفعله إرادةٌ ولكنه كان رغبة...وكانت الرغبة اللاشعورية هي التي تحل دوماً محل الإرادة... أما اليوم ونحن لا نزال في نقطة الصفر الأولى فأظن أن شروط الحضارة العالمية تجعلنا أكثر وعياً لوجودنا وأعظم قدرة على تخطيط مستقبلنا وإنَّ تقدم الحضارة البشرية تتوقف على التفاهم والتعاون والتضامن بين جميع الشعوب أينما كانت في الشرق أو الغرب... وها هي الشعوب الآسيوية والأفريقية والهندية تسير في طريق التقدم الحضاري وتثبت للعالم بأنها قادرة على تخطي العقبات الكأداء والمساهمة في خدمة الإنسان و الإنسانية و تكشف بذلك عن زيف الأساطير التي تدَّعي الاستعلاء والأنا العليا... في عالمنا اليوم ثلاثة تفجرات أو انبثاقات أو انبجاسات... أو الصحوات العلمية. أولاها: في عالمنا الراهن هو تفجّر العلم من اختراع التقنية المتقدمة ابتداءً من الانترنيت... واختراق حجب السموات في الفضاء الخارجي البعيد...
لقد اعتاد المؤرخون أن يدّعوا التقدم العلمي الذي حدث في غربي أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الثورة العلمية... حمل لواءها أمثال ليوناردو وكوبر نيكس وفرنسيسن باكون وغاليلو وديكارت ونيوتن وقلَّبت هذه الثورة التفكير الإنساني رأساً على عقب... فإذا به يرتاد آفاقاً للمعرفة مجهولة ويفتح أبواباً مغلقة وأصبحت الاكتشافات النظرية تدخل حقول التطبيق فتصبح مبعثاً للثورة الصناعية التي بدّلت وجه أوروبا بل وجه العالم أجمع...
أجل إننا نعيش اليوم في خضم ثورة علمية تكاد تفصل بين الماضي والمستقبل وهي تفعل في حياتنا المادّية، ونظّمنا الاجتماعية و تفكيرنا وعقائدنا فعلاً أشدّ نفاذاً، وأوسع نطاقاً ولعلنا لا نخطئ صواباً إذا قلنا أن هذه الثورة العلمية الثانية هي الصفة الأولى المميزة لحياتنا الحاضرة بل هي الحقيقة الكبرى التي يجب أن نتفهمها ونسعى إلى امتلاك ناصيتها إذا أردنا أن نكون من أبناء هذا الزمان ومن بناة الزمان الآتي للثورة العلمية هذه أربعة وجوه... أولها الشمول فهي
لا تقتصر في انطلاقها على نواح محدودة من الطبيعة أو من الحياة الإنسانية بل هي تسير بموكب عريض شامل متنوع الوظائف، ولكنه موكب واحد بترابطه الذاتي الداخلي، وبتصديه لشؤون المعرفة جمعاء وبشموله كل علم من علوم الطبيعة والإنسان....
ووجهها الثاني: هو عمق فعلها النظري فجاءت الثورة الثانية فبدلت هذا المفهوم الجديد تبديلاً أساسياً... فالأسس والقواعد التي تقوم عليها فيزياء أينشتاين هي غير القواعد و الأسس التي تستند إليها فيزياء نيوتن ويكاد هذا القول يصدق في كل علم من العلوم وكل منحى من مناحي المعرفة... أما الوجه الثالث للثورة العلمية هو سعة فعلها التطبيقي التنفيذي إنَّ ما نشاهده من صناعات واختراعات وفتوحات تسابق الخيال، وتحيّر الألباب من أثر بليغ يكاد لا يعرف أحداً في تبديل الأوضاع، وتغيير معالم الحياة... والوجه الرابع للثورة العلمية هو تزايد سرعتها واندفاع تقدمها إنها لا تتمهل ولا ترحم وكل من يتباطأ أو يتنكب يقضي عليه بالتخلف والخذلان....
والتفجر الثاني بعد التفجر العلمي... التفجر السكاني فسكان العالم في تكاثر متفاقم يثير المخاوف ويدعو إلى القلق على المصير فمن ناحية التفجر العلمي تكثر الموارد والمنتجات (أغذية وألبسة ومساكن... ومن ناحية أخرى يزداد عدد مستهلكيها والمحتاجين إليها... فكأننا في سباق خطير (النتائج كثير المضاعفات.... يقدّر الباحثون أن عدد سكان العالم كان يبلغ في مطلع العهد الميلادي حوالي 250 مليون وفي منتصف القرن السابع عشر حوالي 500 مليون وفي منتصف القرن الثامن عشر حوالي 750 مليون.... وفي عصرنا تخطى الملايين إلى مليارات... قفز عدد سكان الأرض إلى مضاعفات مذهلة وسريعة جداً... إنَّ هذا التفجر الحياتي مضاعفات عدة خطيرة فمنها أن أضخم الزيادات هي عند الشعوب المتخلفة علمياً وتقنياً واقتصادياً... وأمر هذا التفجر على خطورته يصبح هيناً لولا تفجر آخر يلازمه وما ينفك يشتد تدفقاً فيهز الأوضاع القائمة من جذورها ويثير عواطف ويحدث انقلابات تتجاوب أصداؤها في كل جانب من جوانب الأرض ذلك هو تفجر الحاجات والآمال والمطامح والنقمة المتصاعدة على الظلم والعوز والمرض والجهل وشتى صنوف العبودية والشقاء... هذا التفجر الثالث من نتاج تفجر العلم والمعرفة وما صاحبه من تعزيز مبادئ العدل والمساواة ونشرها واتساع سبل الاتصال الانترنيت والجهاز المحمول وعبر القنوات الفضائية الغاية في التطور... لم تكن البشرية في الماضي تشعر بالفقر أمراً عجباً فلقد تعوّدت جموع كبرى من البشر حتى ألفته على مرّ الزمان ولكنها لم تعد تَأْلَفْهُا في هذا الزمان بل أخذت تحاول أن تنتفض منه وتطالب بسد حاجاتها في العيش بل بأن يكون لها منه مستوى يليق بكرامتها الإنسانية من العيش الرغيد، والعدل السْويّ... فكانت البشرية تقبل بالمرض والجهل والفقر بأنه قدرٌ محتوم أما اليوم فقد أخذت تتألم من الألم، وتتوق إلى الحق، وأخذ جسدها الجبار يتحلحل و يهتز فتهتز الأوضاع القائمة عليه فتصدع أو تنقلب أو تندثر..... هذا التفجر في الإحساس بالحاجة والحق وهذه الفورة في المطامح والآمال يضاعفان ويصبح السباق بين تدفق العلم والإنتاج، وتبدل الأوضاع السياسية وانتشار العدالة الاجتماعية من جهة وبين توفير حاجات تتوافر لعدد من الناس يتكاثر من جهةٍ أخرى يصبح هذا السباق أمراً عسيراً محفوفاً بالمزالق والأخطار باعثاً شتى المشكلات والأزمات عاقداً حول مصير الإنسانية غيوماً من القلق والاضطراب كثيفةً سوداء... هي ذي إذن ثلاثة مظاهر لتفجر الحياة الإنسانية وهي إن دلت على شيء... فالتطورات السابقة قد بلغت من السرعة والتجمع والتفاعل مبلغاً لم تعهده البشرية في ماضيها وإننا الآن أمام عصرٍ جديد فائق في التقدم المذهل السريع أمام مستقبل جليل رهيب.... جليل بما يحمل من تحقيقات، وقدرات هائلة تفوق خيال الشعراء، ورهيب بما ينطوي عليه منَّ شدائد وأخطار... هذا التفجر الهائل الذي اكتفينا بذكر ثلاثة من مظاهره البارزة يثير مشكلات عديدة لكل شعب من الشعوب وللإنسانية جمعاء وليس ممكناً الإحاطة بها أو سبر غورها... على أنه مما لا يقبل الشك أن هذه المشكلات لن تعالج ذاتها ولن يحل بعضها بعضاً وإن أمرها لا يصح أن يُترك للقدر وللقوى الخفية... فلعل من الخير أن نحاول استئناف الهيكل العقلي وتحكيم موازينه هو الشرط الأول والضامن الأقوى لرقي الحياة المقبلة والفوز في مصارع الحياة المقبلة وأن نعدّ أنفسنا وأن نكون من الجماعات الناشطة أمام التبدل المستمر والتغيير السريع سواءً في مجال التقنية الصاعدة أو التنظيم الاجتماعي أو الإنشاء التربوي أو غيرها من مظاهر النشاط البشري.. وهذا هو المعنى الأساسي للتخطيط إن التخطيط الصحيح يتطلع إلى المستقبل فيرسم الغايات ويحدد الوسائل على ضوء الصورة التي يكوّنها له... إنَّ عالم الغد سيختلف عن عالم اليوم وأشكال الحياة ونظمها في تحول وتبدل... فليس الزمن مجرد مرور سنوات ليس له طوله فحسب بل إنَّ له عرضه وعمقه... ليس من الضروري أن يتساوى عامٌ وعام وقرنٌ وقرن بل إن صفة كل من هذه وقيمته تتوقفان على الأحداث والتطورات... إنَّ للماضي عبره وما يحمله من خيرات وما يكنزه من ذخائر وإنَّ لنا من هذا كله عدة ومدداً ولكن غايات الحياة تتعدّل وأساليبها تتبدل ونظمها وأشكالها تتحول وعلاقاتها تتعقد ومشكلاتها تتسع وتتعمّق... فلا يمكن ضبطها إلا بفكر أقوى منها فعلاً وأسرع جرياً... وبقدرة على استباق الأحداث والإعداد لها بدلاً من التخلف عنها والخضوع لحكمتها إننا لا نحسن البناء في البدايات الثانية من القرن الواحد والعشرين إذا كان قادتنا أو بعض قادتنا على الأقل يفكرون تفكير ذلك الزمان الذي يحكمه الفرد الواحد بدلاً من الجماعة المنضبطة بالعلم والحق والعدل... والأمة التي لا تتميز عقليتها بالاستطلاع والاستكشاف ولا تجد السير قدماً إلى العلم الآتي سيوقظها يوماً عنف الصراع وستجد أنها في مؤخرة الركب وأنها ليست وفيه لماضيها وحاضرها لأنها لم تكن وفيه لمستقبلها... وصفة ثانية من صفات العقلية الجديدة هي عالمية نطاقها... فالثورات العلمية والصناعية والتقنية الحديثة المتتابعة وسواها من الانبثاقات والمتفجرات والصحوات العلمية التي تجتاحنا صَفَّرَتْ عالمنا الأرضي، وقربت أبعاده، وربطت بين أجزائه، وَوَحَّدَتْ مصيره... فالعلم لا يستسلم للقيود ولا يقف دون الحدود لأنَّ من طبيعته الانطلاق والاقتحام... ومثل سريان العلم والتقنية العلمية المادية ويقابلها الجبهة المعنوية من الفكر والآلام والآمال... وهذه الظاهرة هي نتيجة للتقدم الصناعي والتقنية الحديثة... وأي تطوّر يحدث في بقعة من بقاع العالم تتجاوب أصداؤه في البقاع الأخرى فتتعدّد مناطق الصحوات العلمية ومنافث الخطر وتتسرّب آثارها إلى كل ناحية من نواحي المعمورة... لم يعد ممكناً أن تبقى بعض شعوب الأرض سائدة وسواها مسودة.... لم يكن ممكناً أن تظل كثره من أبناء الأرض جائعة، وقلة متخمة... لم يعد ممكناً أن تنعم بلاد بالسلم بينما تذوق غيرها مرارة الحرب... إننا نعيش في عصر كوني وعلى هذا فالعقلية المنشودة لضمان البقاء في هذا الزمن وللوقوف في وجه تفجراته هي عقلية عالمية في نطاقها كوكبية بل كونية في سعة مداها فلم يعد يَصُحُّ للفرد أن ينظر إلى مشكلات أمته من زاوية مصلحته الخاصة أو من نافذة طائفته أو بلده بل يتوجب عليه أن يضع هذه المشكلات في موضعها من التطورات العالمية الظاهرة منها والخفية فيسعى إلى إدراكها في هذا النطاق وإلى معالجتها بما ينطبق على مقتضيات هذا العصر الفضائي العولمي... ولهذه العقلية المنشودة صفة ثالثة هي المرونة وهي من أسهل الأشياء للفكر الإنساني... وكان من أسباب التضعضع والاضطراب في الحياة الفردية والعامة تأخر عقلية الفرد أو المجموع عن اللحاق بالركب العلمي عندما تتصلّب هذه العقلية فتعجز عن التطور... فكانت اليقظة والمرونة وقابليته للنمو من أبرز الميزات التي يتطلبها عصرٌنا الذي نعيش فيه متميز بانطلاق العلم واندفاع الآمال والأهواء وليست المرونة التي أقصدها والتي لا تعرف لنفسها مبدأً صريحاً أو موقفاً معيناً وإنما هي نشدان الحق أينما وجد والاستعداد للاعتراف به وقبول نتائجه... وليست هذه المرونة مطلوبة في مواقف النظرية فحسب وإنما تتطلبها كذلك الحياة العملية... فيقظة الطبقات والشعوب المتخلفة وإحساسها الملتهب بحاجاتها وحقوقها لن تسمح للشعوب والطبقات المنعمة المترفة بأن تحتفظ بنعمها وترفها... إن المفاهيم تتغير أو تضطر إلى التغير والأوضاع تتبدّل أو يفرض عليها التبدل فلا غرور إذا تطلّب هذا كله عقلية تتميز بالمرونة والنمو المستمر... وهذا أمرٌ ليس جديداً في تاريخ الحياة... فإن النظر في تطور أنواع الأحياء على وجه الأرض يدل على أن تلك التي بقيت وسادت لم تكن أقواها وأضخمها بل كانت أشد استجابة لحاجات المحيط، وأكثرها تطوراً حسب مقتضياته... وهذه الصفات هي التي مكنت النوع الإنساني الحفاظ على ضعفه الجسدي بالنسبة لأنواع أخرى... وكذا الأمر في الجماعات والشعوب فإن درجة يقظتها ومرونتها واستجابتها للأحوال المتبدَّلة فكانت عاملاً من عوامل ازدهارها أو ذبولها... وإن رفع مستوى أي شعب أو رفع المستوى المعاشي لا يكون بحسن التوزيع فحسب بل بزيادة الانتاج في الوقت نفسه ولذا كان من أهم الواجبات المفروضة الاقبال على الموارد الطبيعية لتفجير طاقاتها واستغلال ثرواتها لسد الحاجات المتصاعدة...
وأن نعدَّ الناشئة لتتسم بالعقلية الإنتاجية... وكما أن القعود عن الإنتاج جرم كذلك يجرم من يسرف في تبديد المنتجات أو إضاعة الثروة... يصدق هذا في النطاق القومي وفي النطاق الإنساني عامة...
وإن انقسام أي قوم إلى فريق منعم وفريق معدم لم يعد جائزاً
أو ممكناً في هذا العصر فكيف يجوز أو يمكن ذلك إذا كان الفريق الأول يغالي في الإسراف وفي تبديد الثروة القومية التي كان مفروضاً أن يكون قيماً عليها ويضيعها في سبيل شهواته وأهوائه وينطبق هذا في النطاق الإنساني على الفريقين المماثلين الذين تنقسم إليهما شعوب الأرض.
إنَّ الإنسانية تسير سيراً جنونياً في هذا التبديد والتبذير مع أن العلم يمعن وفي ايجاد موارد جديدة للطاقة والإنتاج فالعلم بطبيعته رائد مستطلع يخترق الآفاق وينفذ خلال الحدود وهو بذلك عالمي النطاق بل هو الذي وحّد عالم اليوم مادياً وتقنياً وإن لم يستطع بعد توحيده عقلياً وروحياً والعلم متنبّهٌ مرن يعترف بالحق ويخضع له ويكيف نظمه وأساليبه بحسبه وكذلك منتجٌ مفجّر للطاقات بل هو العامل الأقوى في استغلال موارد الطبيعة وفي النظام العولمي الهائل الذي أنشأه لهذا الاستغلال والذي يزداد كل يوم ضخامةً وتعقداً ورقياً... من هنا أريد أن أشير إلى صفة بارزة للعقلية التي تتطلبها تطورات القرن الحادي والعشرين... وأول هذه الفروض يقع في صميم الشخصية الفردية وجوهره الإيمان الصادق بالحقيقة والعزم على احترامها والعمل على رفع لوائها وليس هذا بالأمر السهل فسبيل الوهم أوسع وأيسر من سبيل الإدراك والخضوع للحقيقة أو القبول بحكم العقل قد يؤدي إلى التنازل عن مصلحة أو الإعراض عن هوى أو عن تقليد متبع وهو يتطلب فوق هذا نقداً صريحاً للذات ومحاسبة مستمرة للنفس... وكل هذه المتطلبات عسيرة لا تأتي بالطبيعة، ولا تجاري السليقة بل تحصل بفعل قناعة مستحوذة وإيمان مستأثر ونتيجة ما يفرضانه من جهد وسعي ومن بذلٍ وتضحية... والحقيقة هي أرفع قيمة إنسانية وأنفس ما يمكن أن تكسبه المجتمعات وأنها في نهاية الأمر أسلم للفرد والمجتمع من الخطأ وأبقى وإن طريق الخلاص الأمينة هي طريق العلم والعقل.. وإذا حصل هذا القرار والإقرار سار المجتمع في السبل الذي يصبح العلم فيه محور اهتمامه ومدار سياسة دولته وأصدقها وعندها إذا برزت قضيةٌ من القضايا
لم يقبل بالناس بالكلام يلقي الكلام على عواهنه أو بما تمليه مصلحة الفرد والجماعة أو بما الشعور بل يثير الحماسةً بل إلى حكم الحقيقة ومنطق العلم...
يتساءل البعض أحياناً: لماذا تخفق الدولة حيث تنجح المؤسسات التجارية إن أهم أسباب هذا القائمين على هذه يشعرون بشدة التنافس في الميادين الموضعية والوطنية والعالمية... وبأنهم إذا اهتموا بالمصالح الآتية الصغرى وانتهوا بها عن بقية المصالح الكبرى ولم يكونوا أسرع من سواهم في متابعة تطورات العلم واقتباس نتائجه وتطبيقها فقد قضي عليهم بالتخلف... هذه الحقيقة ذاتها أصبحت تنطبق اليوم على الدولة والمجتمعات... فما كان منها أشد إحساساً بالتنافس والتسابق في هذا العصر وأكثر تقديراً للمصلحة الكبرى، وأوفر أهلية للإنتاج... وبكلمةٍ جامعة: ما كان أعظم إيماناً بالعلم وقياماً بفروضه غدا أقدر على البقاء والقيادة وأجدر بها ومن فروض هذا الإيمان في النطاقين الشخصي والعام.
العمل لتوفير وسائل العلم وبناء أجهزته وإن أهم أجهزة العلم معاهد التعليم الاختصاصي بالإضافة إلى معاهد البحث والاستقصاء لمستوياتها المختلفة وأن يحرس القائمون على العمل في سبيل نمو المعرفة البشرية، وزيادة الإنتاج وتطبيع العلم بطابعٍ وطنيٍُ أولاً وقومي ثانياً وإنسانياً ثالثاً... فالأمم الناشطة اليوم في تسابق وتنافس شديدين في هذه المجالات يقيناً منها أنها سبل القوة والمتعة ووفرة الإنتاج وازدهار الحضارة... لقد كانت قوة الأمم في الماضي تقاس بوفرة عددها أما اليوم فإنها تقاس بعدد الفاعلين الحقيقيين وبمستوى فعلهم في شتى فنون الإنتاج والإبداع، والثروة الصحيحة التي تتمتع بها أمة هي ثروتها العلمية القائمة بجامعاتها و بمعاهد الأبحاث العاملة فيها وبالأجهزة الاختصاصية المنبثة في مصانعها ومتاجرها، ومنظماتها الاجتماعية والتربوية ودوائرها الحكومية...
إنه الثروة المتمثلة بعمق العقلية العلمية في الأمة... وأن تطبعُ هذه العقلية العلمية حياة المجتمع وأن تغدو محور اهتمامه ومدار سياسته وأساس تنظيمه على أن العقلية العلمية على أهمية قدرها وجلال نتاجها إذا لم يزاوج يقظتها وفعلها بالضمير فيتسيب العقل إلى مزالق خطيرة، العقل يحدد الغايات ويبين الوسائل ويرسم الخطط ولكنه كثيراً ما يقف عاجزاً وذلك بسبب نضوب معين الضمير، وخفوت صوته ثمة ضمير فردي، وضمير مسلكيٌ وضمير قومي، وضمير إنساني... ويجب أن يتسرّب هذا الضمير إلى خلايا المجتمعات الإنسانية حافزاً أو رادعاً ومكوّناً الضمانة الأخيرة لسلامة الجسم الاجتماعي ومناعته الذاتية... ونحن إذا قلّبنا نظرنا اليوم في المجتمعات القومية والإنسانية ها لنا فقر هذه الخلايا ونضوب حيويتها، وضآلة فعلها... أين هي هذه الخلايا في مدارسنا ومعابدنا ومصانعنا ومتاجرنا ودوائرنا السياسية الحكومية ؟؟؟.... وإذا نظرنا إلى العالم الإنساني بوجهٍ عام ألسنا نرى أن أزماتها العنيفة راجعةٌ بنسبة كبيرة إلى هذا التفاوت الفائق بين تفجر علمها ونضوب ضميرها أو بين القدرة على إطلاق الطاقات الهائلة من معاقلها والعجز عن توجيهها... إنَّ الحضارة تقدَّر بنوع الوجدان الذي يتجسد فيها... هذا العنصر الضميري الإنساني الممزوج بقوى عقلية هائلة هو المثل الأعلى للحضارة البشرية... نحن في القرن الحادي والعشرين نعيش في زمانٍ ثوري لاشك في هذا ولا جدال... أجل إنه زمانٌ ثوريٌّ إنه ثورة إنه ثورات في كل بقعة من بقاع هذا العالم المترامي الأطراف... ثورات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والمطامح والآمال... ولا ننسى أبداً إنَّ من أعظم القوى الثورية في التاريخ... إن لم نقل أعظمها قوّتي العقل والضمير تلك القوتان العظميتان تطيحان بطواغيت الوهم والضلال وعلى الخداع والانخداع... وثورة العقل والضمير هي التي تمهد وتهيئ للثورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحدّد قدرها وجدواها... إن مواطن العقل عندما تكون أمينة لوظيفتها يغدو مصدر قوة ثورية عارمة دافقة عميقة الأثر لأنها ثورة على أرسخ عاملين من عوامل الجمود والتأخر وكذلك ثورية الضمير لولاها لما أنتشر دين ولا قام إصلاح ولما أعطت الحضارة بعضاً من أفضل ثمارها، وأصوات
من استيقظً ضميرهم في التاريخ لا تزال تحدث أثرها في تنبيه الفاضلين واستنهاض المكبوتين والمعذبين...
تصوّر أخي القارئ: أي انقلاب يحدث في حياتنا لو انبعثت في نفوسنا ثورة ضميرية صحيحة وأخذ كل منا يسلك في حياته الخاصّة والعامة بوحي من ضمير واعِ حي على أن سبيل الثورية الضميرية كسبيل الثورية العقلية صعبة شاقّة لأنها تتطلب محاسبة مستمرة للذات واستعداداً للخضوع لأحكامها لأنها تتمثل في الجهاد الأكبر (جهاد النفس)... ها نحن نعيش في عصر متفجر (صحوة الذات) يتفجر في داخلنا لا يقل عنه دفقاً وفعلاً... تفجر لطاقات الضمير ولإمكانات العقل... إن الموارد الطبيعية التي يمكن الإنسان اعتمادها لحفظ بقائه ولضمان ازدهار حضارته هي موارد محدودة... أما الموارد في داخل الإنسان هي موارد هائلة لا تنضب... إن أيّ تبديل في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية لا يكون له أثره النافع الباقي إلاّ إذا صاحبه تبدّل جذري في صميم نفوسنا هي الثورية الداخلية الشخصية... ونحن أمة وأمثالنا من الأمم نطمح اليوم إلى بلوغ أهداف أصبحت محط أنظارنا ومعقد آمالنا أهداف السيادة والقوة والحرية والعدالة والفعل الحضاري... وخير قوةٍ تهدينا إلى السبيل الصحيح من تفتّح العقل ونقاء الضمير وسلامة الخلق.
وحريتنا لن تكتمل إذا لم تبلغ نطاق التحرر من النفس ولو تحررنا من المستعمرين... ولا سبيل إلى هذا التحرر الذاتي سوى سبيل الضمير والعقل التي أشار إليهما السيد المسيح:(تعرفون الحق والحق يُحرركم) لذلك أدعو إلى التفجير المرجو لطاقاتنا العقلية والضميرية وبهما نحقق آمالنا في السلامة والكرامة في هذه المرحلة العسيرة الفاصلة من حياة أمتنا وحياة الإنسانية... وحسبي كذلك أن أردد دعاءً صادراً من صدر نفسٍ عظيم في ميادين الفكر الطليق والأدب الصافي من صدر طاغور العظيم قائلاً: إلى تلك الجنةً.... حيث الفكر لا يخاف والرأس يرتفع عالياً... حيث المعرفة حرة طليقة... حيث لا جدران تضيق الإنسان، وتفتت العالم... حيث الكلمات تنبعث من أعماق الحق... حيث جدول العقل الصافي لم يضل طريقه في بيداء التقليد المقفرة... إلى تلك الجنة من الحرية أيقظ يا أبتي وعي أمتي...
هذه النظرية خاض غمارها كتّاب كثيرون ولم يفكوا رموزها حتى اليوم ومازالت تعيش في زحمة الضباب الرمادي... وجرَّبتُ نفسي في اقتحام أسوارها علّنَي أظفر بانجلاء الغموض عنها والوصول إلى قاع من قيعانها الباطنية.....
إنَّ الدّارس للدين المسيحي يجد أنَّ هذين المصطلحين: الحلول والاتحاد يدلان على معنى واحد ولكن يحدث اختلاف في التأويل والتفسير... واختلف معهم علماء مسلمون فهذا ابن تيمية يقول: عَظْمَ اضطراب النصارى في هذا الموضع، وكثر اختلافهم غير أنَّ المصطلحين مترادفان لأنَّ اللغة العربية تأبى الترادف بينهما قال البيروني: ت 440هـ ولكن من الألفاظ ما يسمح في دين دون دين، وتسمح به لغة، وتأباه أخرى... وقبل الخوض في هذه الجزئية اللغوية لا بد من الإشارة إلى عقيدة الثالوث في الفكر المسيحي باختلاف مذاهبه لأن لها علاقة بمصطلحي الحلول ولاتحاد... وثمة أمر لا بدَّ من بيانه وهو أنَّ علماء الغرب أنفسهم كانوا يعانون من صعوبة فهم المسيحية تولستوي: ت 1910 الذي يعد من أكبر أدباء العالم يقول: ( إن العقل الصريح يرفض ذلك ) ويقول اسبينوزا:( إن المسيح هو إنسانٌ وليس بإلـه ) و أهم المذاهب المسيحية التي ادَّعت الاتحاد والحلول: الملكية:إنَّ الكلمة اتَّحدت بجسد المسيح على طريق الامتزاج... أما اليعقوبية:( إنَّ اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء ) والنسطورية:( إنَّ اللاهوت حلّ في الناسوت كحلول الماء في الإناء... )
هذا بالنسبة إلى التراث المسيحي ورؤيته لعقيدة الثالوث من خلال مفهومي الحلول والاتحاد ثم اتفق العلماء: لا اتحاد بلا حلول... فالحلول هو حلول الحال في المحال... فَالْفُرَقُ المسيحية سواء قالت بالحلول أو الاتحاد فإن المآل واحد. وهو الامتزاج والصيرورة إلى تركيب آخر لا يضاهي مكوناته وما تركب منه بل يختلف تمام الاختلاف... وقد بيّن لنا ابن تيمية أن الاتحاد الذي لا يقتضي الامتزاج والاختلاط غير معقول بينما الحلول ربما يكون ذلك بحلول جزء من ذاته على فدر استعداد مزاج الشخص ويمكن ذكر بعض الفرق الإسلامية التي قالت بالحلول.
الحلمانية...( البيانية.. الخطابية.. المقنعية.. الرزامية.. وغيرها.. بغض النظر عن كيفية هذا الحلول الذي قالوا به... فإنَّ لهم تفسيرات مختلفة... ذهب أكثر الباحثين إلى أنَّ الحلاّج ت. 309هـ من أعظم دعاة الحلول. بل كلما ذكرت هذه النظرية ذكر الحلاّج معها.. ومنه الحلول هو أن يحل اللاهوت في الناسوت من غير امتزاج بحيث يفقد كل واحد منهما طبيعته.. ولهذا قال الحلاّج: (من ظنَّ أنَّ الإلهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالإلهية قد كفر... ثم قال: مع أنَّ ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير مستهلكة غير ممازجة ) إنَّ الحلاج لا يثبت وجوداً واحداً كابن عربي بل اثنيني المذهب وذلك لأنه أثبت وجود ذاتين منفصلتين إحداهما اللاهوت والآخر الناسوت فثمة حال ومحل... فالحال هو الإله والمحل هو الإنسان... وهذا هو الحلول الخاص أو نقول هو الإله والمحال هو ما سواه فيسمى حينئذ بالحلول المطلق العام... والذي دفع بعض الباحثين إلى نفي الحلول عن الحلاج. هو أنهم أخذوا كلام الحلاج المذكور في اثباته التمييز بين الحق والخلق، ونفيه الامتزاج وبنوا على ذلك أنه من نفاة الحلول، والحقيقة، فإن الحلاج أثبت التباين بين الحق والخلق، ونفى امتزاج الخلق، ونفى امتزاج الحق بالخلق لكنه لم ينفِ الحلول فإن الحلول غير الامتزاج لأن الثاني يفقد كل واحد منهما طبيعته عند الامتزاج بخلاف الحلول وهذه النظرية.. جاءت من تأثيرات المسيحية.. ولعل خَير دليل على ذلك تلك المصطلحات المتداولة بين الصوفية خذ مثلاً مصطلحي اللاهوت والناسوت... إنَّ ذينك المصطلحين: اللاهوت والناسوت وكذلك الحلول استعملها المسيحيون... بل نستطيع أن نقول مصطلحات مسيحية نفذت إلى دوائر الغلاة عامَّة ومنهم الصوفية ولأجل ذلك نرى المستشرق الأسباني: بلا ثيوس يشبه مذهب الحلاج بالمسيحية في بعض النواحي... وقد اختلفت الأقوال حول الحلاج... هذه الشخصية القلقة في الإسلام وذلك لأن البعض يعتبره سلطان العارفين والبعض الآخر يقدح فيه القادحون وهم: الرازي وابن حزم والغزالي وابن الجوزي وابن تيمية وأما المادحون وهم ابن عربي والفارس الدينوري وأبو القاسم النصر أبادي... قال عنه ابن تيمية: أنه كان من القرامطة وكان يظهر للشيّعة أنه منهم وأنه كان باطنياً... ومن الذين رجّحوا هذا القول المستشرق نيكولوسون... وأنه كان يدعو سراً إلى مذاهب القرامطة الذين أغاروا على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات، ونهبوا الحجر الأسود منها... ولهذا اتفق علماء المسلمين الأوائل وبعض المستشرقين عدم إقرارهم بطريقته الخاصَّة، وينكرون عليه ما ابتدعه من أفكار....
وروي أنَّ الحلاج مرَّ يوماً على الجنيد فقال له: أنا الحق..!!
فقال الجنيد: ( أنت بالحق أية خشبة تُفْسِدْ ) فتحقق فيه ما قاله الجنيد لأنه صلب بعد ذلك... ولكن من الإنصاف أن نقول: إن الحلاّج قد نسب إليه من الأقوال الباطلة وهو لم يقلها.. وصار كل من يرى شطحاً أو زندقة يعزوها إلى الحلاّج...
ومن أقواله المنسوبة إليه:( ظاهر الشريعة مشرك خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية.. والكفر واجب لديّ وعند المسلمين قبيح... ) وذكر أنهم ظفروا بكتابٍ له إلى أتباعه فيقول: يا ذات الذات، ومنتهى غاية الشهوات نشهد أنك المتصوّر في كلّ زمان بصورة وفي زماننا هذا بصورة الحسين ابن منصور.. ونحن نستجيرك، ونرجو رحمتك
يا علام الغيوب ) وأغلب الظن أن هذه الرسالة جاءت من خراسان لأنَّ ابن باكويه ذكر أنَّ أهل خراسان كانوا ينادونه بالمجير...!!!
أما نهاية الحلاّج فإنه قد قتل بفتوى الفقهاء... والذين سلكوا الدفاع عن الحلاج ومعهم المستشرق نيكلسون فقالوا: إن الحلاّج قد خان ربه بإفشائه السر الأعظم لكل من هبَّ ودبَّ... وهذا ينطبق عليه قول ابن عربي: ( من باح ناح ).
وقالوا: إن الحلاج قد قال ذلك تحت تأثير نشوة الجذب وقد ظنَّ أنه متحد بالذات الإلهية وقالوا: ليس الحلاج هو الذي صاح أنا الحق ولكنه الله نفسه تكلم بلسان الحلاج، ولما كان الحلاج متناقضاً في كلامه... خذ مثلاً مفهوم نظرية الحلول عنده فنجده أحياناً يصرخ بأن الحلول هو امتزاج اللاهوت بالناسوت كقوله:
مزجت روحك في روحي... كما تمزج الخمرة في الماء الزّلال... ولا شك أن هذه العملية فيها فناء النفس بالكلية وذلك لأن الخمرة إذا اختلطت بالماء تحوّلا إلى مادّة ثالثة بحيث يفقد كل منهما طبيعته وعلى هذا الأصل اعتمد بعض أتباعه في كون الحلاج لم يقل أنا الحق وإنما الله هو الذي تكلم بلسانه لأنَّ نفس الحلاج فنيت.
وخلاصة القول فإنه مهما تكن أقوال علمائنا القدماء... فإن التدقيق العلمي للتجربة الصوفية كظاهرة عمت الأديان يفيد وجود إقامة الفصل والتمييز بين الفناء الشهودي ووحدة الوجود. الفناء الشهودي حالة نفسية لخطية لا تدوم يَفْنىَ فيها وعي صاحب التجربة بوجوده ثمَّ إذا ذهبَ عنه انفعال العاطفة واستعاد وعيه وأقرَّ بالتنزيه وهناك فرق بين وجوده النسبي وبين الله وهو ما أسماه ابن تيمية بالفناء عن شهود السَّوِي.
أما الحلول فنظرية لاهوتية معقَّدة ومن خصوصيات المسيحية لأغراض لاهوتية صرفة إذاً جعلوا القول بالحلول حلول الروح الإلهية في عيسى ( عليه السلام ) قاعدة للقول بالخلاص من الخطيئة الأولى للإنسان توفيقاً في معتقدهم بين إلهٍ عادل لا بدَّ أن يعاقب المذنبين على ذنوبهم، وإلهٍ رحيم بعباده فضحى بابنه عيسى إنزالاً بالعقوبة بالبشر ورحمة بالخلق فَبِصُلْبِهِ كفَّر عن ذنوب بني آدم الأصلية ولهذا قالوا: لا خلاص إلا بالإيمان بعيسى. وأمّا وحدة الوجود فنظرية فلسفية عن العالم مؤدّاها أن العالم المادّي هو الله وأن الله هو العالم... فلا ثنائية ولا تمايز بين الله والعالم وينتفي القول بالخلق.
هذه النظرية لا تنطوي على معنى واحد عند كل من يقول بها فمثلاً ما يذكره ( اسبينوزا ) لا يماثل ما يقوله أشياع الفلسفة الهندية... ولأجل ذلك فمن الضروري ذكر هذه المذاهب بصورة وجيزة جداً حتى تتم معرفة هذه الآراء حول تفسير النظرية وتحليلها...
الفلسفة الهندية: فقد كان حكماء الهند يتبنون وحدة الوجود في تأملاتهم... ويصوّر لنا البيروني عن حقيقة وحدة الوجود فيقول: إنَّ الوجود شيءٌ واحد، وإن العلة الأولى تتراءى فيه بصورة مختلفة، وتحلٌ قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد. أما الفلسفة ( التاوية ) الصينية يقول ( لاوتسو ) مؤسس المذهب التاوي 517 ق.م تاو: ثمة شيء لا صورة له إلاّ أنه كامل... قائم قبل أن توجد السموات والأرض... لا صورة له ولا جوهر... موجود لا يتغير... إنه منشئ جميع ما في الكون ألا وهو ( تاو ) وكنيته (العظيم) أما الأفلاطونية المحدثة وشيخها أفلوطين 290 م فيقول: بأنَّ المبدأ تصدر عنه الموجودات، والله تصدر عنه المخلوقات أما بعض فلاسفة الغرب تبنّوا نظرية وحدة الوجود أمثال يوهان مايستر ايكهارت ت 1327 وهو صوفي ألماني اتّهم بالهرطقة...
فكان يقول: إنَّ كلّ الموجودات هي في الله، ولا يفصل الخالق عن المخلوق بشيء... وكل حجر أو خشب أو عشب تجليات وحدة كونية واحدة. وردّد قوله (اسبينوزا) الفيلسوف الهولندي اليهودي ت 1677م حيث يرى أنَّ الله والطبيعة شيءٌ واحد.
ومن ثمَّ تطرف فلاسفة الغرب(المتصوفة منهم حيث بلغ القول إلى أن التصوف إذا أريد تعريفه فهو الشخص الذي يشعر باتحاد في الكون الأعظم من الوحدة المعترف بها في الحياة العادية... فوحدة الوجود متجذر في التجارب الصوفية في معظم أديان العالم العريق... والتي يمكن إيجازها كالآتي:
1- النمط المنفتح على الخارج أي ثمة اتحاد بين الذات الإنسانية والطبيعة الخارجية... ونجد هذا عند الرومانسيين في الشعر والأدب والنحت والرسم.
2- النمط المنكفئ على الذات وهو الفناء بعينه مع الاتحاد الكلي بالواحد المطلق أو الاتحاد بالنفس الكلية... وهذا النوع ليس مكتسباً إنما هو نفحةٌ ربانية... حيث يقول ابن عربي عن علماء الرسوم
( وهم الفقهاء وطلبة العلم الشرعي... وعلماء الرسوم آثروا الدنيا على الآخرة... أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به عن العامة حجبهم ذلك عن أن يعلموا أنَّ لله عباداً تولى الله تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى ألسنة رسله )... وهذا المذهب شغل فلاسفة العالم وفلاسفة الإسلام خاصَّة ومن أجل ذلك يقتضي التركيز على ابن عربي فهو الممثل للنظرية في كلَّ أبعادها... ولعل هذه النظرية هي آخر ما انتهت إليها فلسفة ابن عربي ت 638 هـ الصوفية وذلك لأنه قضى وقتاً طويلاً في كيفية صياغتها وأرهقت خياله وذوقه ولم يستطع مع ذلك أن يذكرها جملة واحدة خوفاً من سطوة الفقهاء. قال ابن عربي: وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو فغوره بعيد والتلف فيه قريب ) ولمصير الحلاج دور فعال في تغييض عاطفة ابن عربي وإيقاف خياله الواسع دون تجاوز الحد حيث قال ابن عربي:
فمن فهم الإشارة فليصنها وإلا سوف يقتل بالسـنان
كحلاج المحبة إن تبـدت له شمس الحقيقة بالتداني
فقال أنا هو الحق الذي لا يغير ذاته مـرّ الزمـان
ولكن مع ذلك نجده يصرح بمذهبه أحياناً، وإذا ما وجد أي اعتراض أو سوء فهمٍ يوقعه في أمر لا يحمد عقباه منح لكلامه تأويلاً مستساغاً مثال ذلك قوله:
يا من يراني ولا أراه... كم ذا أراه ولا يراني... فقال لي بعض إخواني كيف تقول أنه لا يراك؟ فقلت له في الحال مرتجلاً:
يا من يراني مجرماً ولا أراه آخــذاً
كـم إذ أراه منعمـاً ولا يراني لائـذاً
والبيت الأخير صريحٌ في وحدة الوجود... ثمة أنواع من المصادر. التي كوّثتْ هذا المذهب ومن هذه المصادر: التأويلات الإشارية البعيدة عن مقتضى النص من القرآن الكريم والسنة، وأمشاج مستقاة من علم الكلام، وأقوال متصوفة الإسلام الأوائل، وآراء إخوان الصفا والقرامطة والفلسفة المشائية، والأفلاطونية الجديدة، وفلسفة فايلد الاسكندراني، والرواقيين أما بالنسبة لشخصية ابن عربي فإن الباحث يرى أنه لم يكن دساساً باطنياً يمثل حلقة في سلسلة من الحركات الهدامة بل كان تأثره بالثقافات الأخرى، واطلاعه على الديانات الأخرى واحتكاكه بشخصيات متعددة... كل أولئك كان سبباً في أخذه بهذه النظرية... فجمع من بين هذه الأفكار المشتتة، والنظريات المتباينة مذهباً يليق بخياله، ويناسب ذوقه، ويحرك عاطفته، ولهذا نجد عنده من ألوان التناقض، والاضطراب الفكري بدرجة غير عادية... ولقد كان ابن تميمة من المعظمين له من خلال كتبه: فصوص الحكم، الفتوحات المكية، ومطالع النجوم... يقول ابن تميمة: ( إنما كنتُ قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي، وأعظّمُه لما رأيت في كتبه من الفوائد... ) والحقيقة فإنَّ ابن عربي كان يحث على متابعة السنة والدليل على ذلك ما ألفه في السنة حيث ألف كتابين أحدهما المصباح في الجمع بين الصحاح، والمسند الصحيح لمسلم بن حجاج. ومن أقواله: ( لا يرتجى الوصول من لم يتابع الرسول ).
قال أسين بلاثيوس: إن الفضل في تكوينه الروحي إنما يرجع أولاً إلى التعليم الحي الذي تلقاه من شيوخه الأندلسيين... وتأثره بالرسالة القشيرية... وبالبسطامي... ) وألّف ابن عربي رسالةً أسماها
( المنهج السديد في ترتيب أحوال الإمام أبي يزيد... وكذلك ابن عربي قرأ كتب ابن حزم كلها على أبي محمد عبد الحق الاشبيلي... وله كتاب ( اختصار المحلى لابن حزم ) وهذه النظرية تذهب إلى أن الوجود واحد... ووجود الحق أصل لكل شيء يظهر بمظاهر مختلفة فهو وحدةٌ شاملةٌ مطلقة... ليس اتحاداً بين وجودين... ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول: أنا الحق وأن يقول سبحاني... وما وصل واصل إليه إلا ورأى صفاته صفات الله وذاته ذات الله... وهذه النظرية كمذهب فلسفي في الميتا فيزيقا اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفةً وذلك لأنه مذهب قديم... وهذه الأشكال المختلفة لمذهبٍ في الأساس تتخذ إحدى صورتين يمكن ذكرهما بإيجاز الأولى: صورة الاعتقاد بأن الله هو الطبيعة... فالحق هو الجامع لكل شيء في نفسه فكل الأشياء في العالم واحد والله هو الكل وتعرف هذه الصورة من المذهب بنفي العالم وهي صورة موغلة في الروحانية الخالصة... والثانية وهي الصورة المقابلة للوحدة الروحية المطلقة وفيها تغدو الألوهية اسماً على غير مسمّى، وينحصر الوجود فيما يتناوله الحس وتقع عليه التجربة ويصبح العالم المادي هو الكل الواحد الحقيقي ولا شيء سواه وتعرف هذه الصورة في الفكر الفلسفي naturlism Pan cosmis... ومذهب ابن عربي له علاقة بالصورة الأولى لكونه روحانياً بعيداً عن المظاهر الخارجية بقوله:
فإني ظـلٌ به ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
ولعل خير مثال يصور حقيقة هذا المذهب... ما نشاهده في أمورنا الحياتية... فلو أن أحدنا لاحظ الحديد وهو مادة أولية... يصنع منها أشياء كثيرة فالطائرة والسيارة والبواخر والأسلحة... فالحديد هو أصل هذه الأشياء كلها ولكن هذه الأشياء اتخذت صوراً متعددة وأشكالاً مختلفةً قال ابن عربي:
يا خالق الأشياء في نفسه أنـت لمـا تخلقـه جامع
تخلق مالا ينتهـي كونـه فيك وأنت الضيق الواسع
وقال أيضاً: إن الحق وإن كان واحداً فإن له إلينا وجوهاً كثيرة مختلفة... وكل هذا يقتضي أن وجود الحق مفتقر إلى وجود الخلق... فلولا وجود هذه الممكنات لما كان ثمة وجود لوجود الحق فكما أن الإنسان لا يرى وجهه عند عدم وجود المرآة... فكذلك الحق في نظر ابن عربي مفتقر إلى الخلق إلاّ أنَّ ابن عربي لكي ينفي تناقضه أثبت ثبوتاً موجوداً ولم يقل بإثبات وجودين لأن ذلك يخالف مذهبه مع أن الثبوت والوجود بمعنى واحد بل إن التفريق بينهما لا يصح وذلك لأن اثبات الشيء وجوده ووجوده دليل على ثبوته فهما متلازمان
لا ينفكان...
قال ابن تيمية: وكل من الوجود والثبوت لا ينفك عن الآخر... وهو شبيه بقول من يقول: الوجود غير الماهية وهو ملازم لها ولكي تكون هذه المسألة واضحة فمن الأولى الاطلاع على الآراء المختلفة فيها:
1- يذهب أرسطو ت 322 ق.م وأتباعه إلى أن الماهية والوجود متغايران في العالم الخارجي.
2- إن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي في الذهن، ومتغايران في العالم الذهني... ذهب إليه طباطباني.
3- إن الوجود والماهية متغايران إطلاقاً... وهذا ما قال به أتباع المذهب الظاهراتي وأشياع المذهب الوجودي... فالفلسفة الفينومينولوجية موضوعها الأساس الماهية فهي تجعل الماهية سابقة للوجود بينما الفلسفة الوجودية تجعل الوجود سابقاً للماهية.
4- إنَّ معنى الوجود والماهية واحد وإن مسألة كون الماهية تسبق الوجود أو الوجود يسبق الماهية فكرة هشة... ولهذا قال ابن تيمية ومعلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج... ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس... فالماهية هي الوجود وإن أريد بهما في الخارج فالماهية هي الوجود أيضاً... وبعد عرض كل هذا نستخلص: أن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي وبينهما تغاير في العالم الذهني...
فيقول ابن تيمية في هذا الصدد: والفرق بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه... ولكنه فارقٌ نسبي مقدر في الأذهان والمقدر في الأذهان أوسع من الوجود في الأعيان كما يقول ابن تيمية وسبب ذلك أن المقدر في الأذهان يختلف باختلاف العقول فلا يكون ذلك حقيقة ثابتة بينما الموجود في الأعيان حقيقة ثابتة... ) فإنه من الناحية الفيلولوجية نجد أنَّ ثمة فرقاً بين الوجود والماهية فعندما نقول ماهية الشيء فالمقصود البنية الداخلية أو التركيب الداخلي له ووجود الشيء يقصد به التركيب الخارجي ومعلوم الفرق بين ذينك التركيبين أو بين تينك البنيتين... وثمة مثال يقوَّي ما ذهب إليه ابن تيمية: وهو أن الإنسان عندما يفارق الحياة تخرج الروح من البدن ويتحول البدن إلى تراب تذروه الرياح وتبقى الروح وهذه الروح هي ماهية الإنسان ولا إخال أن ثمة عاقلاً يقول بأن هذا الإنسان لم يبقَ له وجود مع بقاء الروح ووجودها... وهذه الروح عائدةٌ إليه، وملك لهُ فدل على أن الوجود والماهية شيءٌ واحد فماهية الشيء وجوده، ووجود الشيء ماهيته.
وعليه فإن مذهب ابن عربي هو التفريق بين الماهية والوجود لكنه آثر استعمال الوجود والثبوت وهما عند ابن تيمية بمعنى واحد
لا يقتضي تفريقاً البتة. وقال ابن عربي في تعريف التوحيد بأنه نفي الاثنينية وإثبات العينية ومن هنا تنتفي فكرة الحلول عن أهل وحدة الوجود لأن الأولى تقتضي إثبات وجودين الحال والمحال بينما الثانية على خلاف أي وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ولهذا قال ابن تيمية: ولهذا من سمّاهم حلولية أو هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول في باطن أمرهم لأنه من قال: إن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجود أحدهما وجود الحق ( الحال )...
قال ابن عربي:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا من يدريه إلا من له بصـر
جمع وفرق فإنَّ العيـن واحـدةٌ وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر
وقد بين القاشاني أن الحق خلق باعتباره ظهوره في الأعيان وليس خلقاً باعتباره موجد الموجودات إن البيت الأول يفيد ما قاله القاشاني ولكن ابن عربي في البيت الأخير نفي كون وجود الحق غير وجود الممكنات وأثبت وجوداً واحداً...
قال ابن عربي: من عرف نفسه علم أن وجوده ليس بوجوده ولا غير وجوده بل وجوده وجود الله بلا صيرورة... وجوده وجود الله بلا دخول وُجُوْدُهٌ في الله ولا خروج وجوده منه... وقد ذكر ابن عربي مثالاً آخر يوضح مقصوده بوحدة الوجود حيث قال:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدّدا
وقد ذكر ابن تيمية أن كلام ابن عربي يدور على أصلين: أحدهما: أن الأشياء كلها ثابتة في العدم مستغنية بنفسها نظير قول من قال من شيوخ المعتزلة أن المعدوم شيء. ثانيهما: أن الوجود الذي لهذه الذوات هو عين وجود الحق الواجب... ومعنى ذلك أن هذه الأشياء غنية عن اللَّه وذلك لأنه يلزم منه أنها ليست مخلوقة، بل في ذلك تعطيل للخالق وقدرته إن لم يكن سلباً لجميع صفاته... وقد ذكرنا أن ابن عربي لكي ينجو من تناقضه سمّى وجود الممكنات ثبوتاّ... ووجود الحق وجوداً وثمة حتى لا يكون ثمة وجودان... وهذا التفريق الذي قال به ابن عربي بين الوجود والثبوت صوري وشكلي لا حقيقة له، وذلك لأنه قرر أن هناك وجوداً واحداً...
وحيث إنه يقول: بأن الحق وجوداً حقيقياً في ذاته ووجوداً إضافياً في الممكنات والوجود الإضافي عرض قائم بغيره ليس جوهراً كالوجود الحقيقي قال ابن عربي كما أسلفنا في القول:
فإنـي ظـلَّ بـه ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
فيرى ابن عربي أن الظل وجود إضافي قائم بغيره وهو الشيء الذي كان سبباً في إحداثه فاتضح أن الوجود واحد يظهر بصور مختلفة... وقال ابن عربي أيضاً: ناديت يا أنا فلم أسمع إجابة فخفت من الطرد، فقلت يا أنا لماذا لا تجيبني فقال لي: يا متناقض الحكم لو دعوتني أجبتك وإنما دَعَوْتَ أنانيتك فأجب نفسك عنك فقلت: يا أنا إنما قلت إمّا من حيث إن أنا في أنا أنا... كما أن الواحد هو الواحد الأحد قال: صدقت فأجب نفسك عني ولا تطلب فهي الإجابة فقل لأنانيتك تجيبك.
لكن ابن عربي لا يقول بإسقاط التكليف فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي، ويأمر بالسلوك مما أقرَّ به المشايخ من الأخلاق والعبادات ولهذا كثيرٌ من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك... وعند ابن عربي أن سر الألوهية يستكن في كل معبود وهذا هو حقيقة القول بوحدة الأديان... وقد سبق ابن عربي الحلاج في وحدة الأديان واعترف ابن عربي بعبادة التثليث واعتبرها من التوحيد وكما قال المستشرق الأسباني ( أسين بلاثيوس ) وهكذا فرعون
في نظر ابن عربي مات مؤمناً وبناءً على هذه النظرية يكون ابليس من الموحدين لأن كفره لم يكن منه وهو لا فعل له ولا قول ولا قوة ولا إرادة يقول ابن عربي: أنا مجبور ولا فعل لي والذي أفعله باضطرار... فالإنسان في رأي ابن عربي كالريشة في مهب الريح... وهذا يؤدي بدوره إلى الإيمان بالقدر والحتمية... وهذه جبرية صرفة في علم اللوح المحفوظ الأزلي...
من خلال هذا الاستعراض المسهب أستخلص القول بأن الله أودع في الإنسان سراً من أسراره الذاتية العالية المخزون في خزائن رحمته، وأن الإنسان معجزته في كوكبه الأرضي وبما أن الإنسان آية من آياته البيّنات فيمنح لبعض مخلوقاته كراماتٍ تصديقاً لقول الرسول الكريم ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله...).
إن في الإنسان قوة روحانية هائلة تتجاوز القوة الجسدية العضوية البيولوجية أضعافاً وأضعافاً... والقرآن قد أصبح دستوراً للبشرية بعد نزول الكتب السّماوية فكانت الكتب السماوية والصحف تبشر بنزول القرآن الحكيم ليغدو منهجاً وقانوناً للعالمين... فالأديان السماوية السابقة كانت تمهيداً ومقدمةً للقرآنٍ ليكون شرعةً ومنهجاً للإنسانية جمعاء ومن خلال نزول الكتب السماوية يريد الله أن يعلّمنا الصبر والتدرّج، والتسلسل، ومحطات الاستراحة ويفتح للإنسان باب الاجتهاد والتعقل والسّعي... فالأديان التي سبقت القرآن كانت لبيئة محلية ثم مهَّدت لبيئة عالمية... ففي زمن سيدنا موسى عليه السلام طغى الإنسان وتجبّر وانتشر السحر والشعوذة فسلّح الله نبيه موسى بمعجزة العصا واليد البيضاء... وفي زمن سيدنا عيسى عليه السلام تفشى الحقد والبغضاء فبعث الله نبيه بنور المحبة والسلام... وأتى بالقرآن العظيم ليكون كاملاً وجامعاً لما سبق للعالمين قاطبةً... والقرآن هو ذاته معجزة الله في أرضه ليس كتاباً نحوياً ولا طبياً
ولا فلسفياً... إنما هو قانون إلهي أزلي لخدمة الإنسان ولإعلاء شأنه وإسعاده في الدنيا والحياة الباقية، خاطب القرآن عقل الإنسان ليرتقي به نحو الأفضل وليخدم أخاه الإنسان للعيش الكريم المشترك تحت ظلال القرآن الكريم في أمنٍ وسلام وحبٍّ ووئام... أما بصدد ظاهرة التصوّف التي خرجت إلى التاريخ في أواخر العصر العباسي... والعصر المملوكي... كان ظهوره لبواعث عديدة... ظاهرة الضلال والشواذ والفقر... وانتشار الأمراض الاجتماعية... والتحزّبات والفرق المتنازعة... وضعف الدولة وانغماس السلطات في المجون واللهو والّلغو والنفاق المستشري بين الأئمة والعلماء والأدباء والشعراء... وتبوّأ المال الصدارة في تقييم الفرد فمن يجمع مالاً كثيراً من أي مصدرٍ كان وبأيّ أسلوب فهو موضع الإعجاب والاحترام... حيال هذه الظروف المعقدة الشائكة خرج رجال من المتصوفة يبتغون التقرب إلى الله للخلاص من المحن والكوارث... وأرادوا من ذلك إنشاء مريدين لهم للوصول إلى الزعامات الدينية عن طريق روايات شعبية خارقة للهيمنة على عقول البسطاء والسفهاء فجمعوا حولهم أتباعاً لهم... وخاطبوا بقولهم ولات حين مناص... فلا سبيل أمامنا من تخليص الأمة من غائلة الجوع والفساد والشقاق إلاّ بوحدة الوجود وإدغام ذاتك في الذات الإلهية وادّعى بعضهم بأنه يتحدث إليهم بالنيابة عن الله ولا فرق بينه وبين الله...
في هذه الحالة يطلق المتصوف عبارات فيها الهذيان والألفاظ الغريبة الهمجية والهلوسة كما يتلفظ بعض المرضى النفسيين بكلمات خارجة عن المنطق... مما أدّى هذه المرحلة من التصوف إلى الغلوّ والتطرف وأوصل الناس إلى العجز والكسل وقفل باب الاجتهاد والتسليم بأقوال المتصوف واتباعه... فالتواكل أخذ ينخر القلوب والضعف يسري في النفوس... فأصبح المتصوفون شفعاء ووسطاء بين العبد وربه فأصبح المتصوفون إماماً يقتدى، ونموذجاً يحتذى... والسُّذج من الناس التفوا حولهم يقدّسونهم...
نحن في إسلامنا بقيادة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم يركن الرسول إلى التواكل... كان حياته كلها جهاداً في شتى مناحي الحياة فمن خلال سعيه يريد أن يعلّمنا أن الحياة علمٌ وعملٌ وجهادٌ وكفاح... وأن الله كان بإرادته أن يحوّل جهاده إلى معجزات... لكن الله ابتغى من وراء ذلك أن يعلّم الإنسان على التفكر والسعي وأن متعة الحياة لا تذاق إلا بعد جهدٍ ولُغوب... وفي آيات التنزيل الحكيم يعاتب الله رسوله في بعض مواقفه الهزيلة ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى )
( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ).
فالذين انغمسوا في الروح الباطنية للتصوف ألهبوا مشاعرهم القلبية فاتخذوا من القلب سبيلاً للاتحاد مع الذات الإلهية... والقلب يخطئ ولا يستطيع السير في الهدي الصحيح إلاّ بأنوار العقل فهم مخطئون في مسلكهم ولهذا أصاب بعضهم مرض الجذب والهذيان، وأضغاث أحلام... فخرجوا عن واقعهم المألوف، ودخلوا إلى عوالم خيالية رمادية ضبابية سديمية غامضة وألفاظ ردّدوها واعتبروها طلاسم وشفرات للوح المحفوظ... إن ما اتخذه المتصوفة من سلوك في الشذوذ والانحراف لا يستقيم مع التنزيل الحكيم والنهج النبوي الرشيد.
إن الكرامات قائمة إلى يوم القيامة وهي صفة فردية يمنحها الله لمن يشاء من عباده... وهي أمر فرديٌّ مخصوص لا يقبل التعميم وهي صفة نادرة قلّما نكتشفها ويظهرها الله في إنسان يختاره لحكمةٍ قدَّرَتْها الإرادة القدسية الأزلية...
وختاماً أقول قولي هذا وأفصح في التصوف أخيراً.... كن مع الله صادقاً فالله يحفظك وهو أرحم الراحمين وأقول ما قاله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام:
يا غلام: احفظ الله يحفظك.... احفظ الله تجده تجاهك.... فالتقرب سبيل الصدق مع الله... أما الاتحاد أو وحدة الوجود لا يليق بالخالق والمخلوق... كلام نُسِج من خيالٍ سقيم لا يمت بصلة إلى المنطق العقلي والتدبر القرآني العميق.
المصادر والهوامش:
1- هاشم تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان د. م مكتبة وهبة ــ ط1 1384 هـ، 1965 م صفحة 291.
2- الفخر الرازي ــ محمد بن عمر: كتب الأربعون في أصول الدين ــ الهندة دائرة المعارف ط1 1353 هـ صفحة 116.
3- الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطّيب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ــ بيروت مؤسسة الكتاب الثقافية ط3، 1414 هـ 1993 م صفحة 107.
4- الخزرجي أبو عبيدة بين الإسلام والمسيحية ــ تحقيق الدكتور محمد شامة د. م مكتبة وهبة. ط. ت صفحة 69.
5- البيروني: أبو الريحان في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو ( مرذولة ) الهند ــ مطبعة مجلس دائرة العثمانية د. ط 1377 هـ 1958 م صفحة 94.
6- الطرازي عبد الله بِنَيّ الإسلام في مرآة المستشرقين بحث مقدم للندوة التي أقيمت بالهند حول الاستشراق ( جدة عالم المعرفة ) ط1 1405 هـ ــ 1985 م صفحة 327.
7- ديورانت ويل ــ قصة الفلسفة من أفلاطون...
8- زيغور علي ـ الفلسفات الهندية ـ بيروت دار الأندلس ـ ط2 ـ 1983 م ص 156.
9- البيروني أبو الريحان مطبعة دائرة المعارف العثمانية د.ط 1958 م ص 33.
10- بدوي ــ عبد الرحمن خريف الفكر اليوناني ــ الكويت ط 1979 م ص 165.
11- هـ - أ – فرانكفورت جون ــ أي ولسن ــ بيروت ط2 1980 م ص 267.
12- بدوي عبد الرحمن موسوعة الفلسفة 213.
13- فتاح عرفان عبد الحميد محاضرات في التصوف ــ ماليزيا ــ نسخة مصورة ص6.
14- بدوي عبد الرحمن ــ موسوعة الفلسفة بيروت المؤسسة العربية د. ط 1984 م وانظر إلى خريف الفكر اليوناني ص 165.
15- ح.ج كولتون عالم العصور الوسطى ترجمة جوزيف يوسف ــ الاسكندرية ــ دار المعرفة د.ط 1989 ص 310.
16- ابن عربي ــ الفتوحات المكية د.م دار الفكر د.ط. ت 2791.
17- ابن عربي الفناء في المشاهدة ص 8.
18- ابن عربي الإسراء إلى مقام الأسرى 1 ــ 4.
19- ابن عربي ــ الفتوحات المكية 1 ــ 47.
20- مجلة ــ كلية الآداب الجامعة المصرية 1933 الجزء الأول عفيفي أبو العلا ص19ــ20.
21- ابن تيمية مجموعة الرسائل ــ د.م مكتبة ابن تيمية ط1 1969 م 1/179.
22- ابن عربي التدبيرات الإلهية ــ بيروت مؤسسة بحسون ط1 1993 م ص25 ــ 26.
23- أسين بلاثيوس ابن عربي حياته ومذهبه ترجمة عن الإسبانية عبد الرحمن بدوي الكويت وكالة المطبوعات د.ط 1979 م ص 105.
24- التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية ص 26.
25- ابن عربي ــ الرسالة الوجودية في مصر ــ مكتبة القاهرة ( د. ط.د ) ص 5.
26- ابن عربي ــ الأسفار في نتائج الأسفار ص 63 الرسالة الثانية.
27- الكاشاني شرح فصوص الحكم ــ مصر مطبعة الباب الحلبي ط3 1987م ص 109
28- ابن تيمية بغية المرتاد ــ مكتبة العلوم 1988 م ص 407.
29- طباطباني ــ مصطفى ــ ترجمة عن الفارسية عبد الرحيم البلوشي ــ بيروت ــ دار ابن حزم ــ ط1ــ 1990 ص 99.
30- بوشيسكي ــ الفلسفة المعاصرة ــ ترجمة عزت قرني ــ الكويت ــ عالم المعرفة د.ط1993 م ــ ص 220.
31- ابن تيمية الرد على المنطقين ــ بيروت ــ دار الكتاب اللبناني ــ ط1ــ 1993 أو بيروت دار الكتب العلمية ط1 1985 1/214.
32- ابن تيمية شرح العقدة الاصفهائية تحقيق حسين مخلوف د-م-ط-ت دار الكتب الإسلامية ص 75.
33- ابن عربي ــ تنبيهات على علو الحقيقة المحمدية العلية ــ رسائل محي الدين ص 11
34- الحراني ابن تيمية ــ مجموع الفتاوى د.د-د-ن ط1 2ــ140.
35- ابن عربي ــ فصوص الحكم ص 84 بشرح القاشاني.
36- ابن عربي ــ الرسالة الوجودية ص 10-11.
37- ابن عربي كتاب المسائل ضمن رسائل ابن عربي 2-29.
38- ابن تيمية بغية المرتاد في الرد على القرامطة ص 395.
39- ابن عربي الاسفار ــ ضمن رسائل ابن عربي ص 63.
40- ابن عربي ـ كتاب الجلالة ضمن رسائل ابن عربي 1-13.
41- ابن تيمية مجموعة رسائل ومسائل ـ مجموع الفتاوى 2-143.
42- ابن عربي الفتوحات المكية 2-156.
43- ابن عربي الفتوحات المكية 2-439.
44- أسين بلاثيوس ابن عربي حياته ومذهبه ص 268.
45- ابن عربي ــ الفتوحات المكية 2-607.
1- مسبّب الأسباب:
المناجاة الإلهية حينما تسقط الأسباب كلياً ولا ملجأ سوى مسبّب الأسباب، فينكشف للملتجئ سرُّ الأحدية خلال نور التوحيد في الذات الواجب الوجود بنور الإيمان وضياء القرآن. فصورة حوت يونس هي صورة مركوب وغوّاصة له وبحره تشكل بصورة صحراء طيبة، والليل تصوّر بصورة لطيفة مقمرة على أثر مناجاته.
2- أمراض معنوية:
إنّ هناك أمراضاً تهدّد حياتنا الدنيوية القصيرة، وثمّة أمراض معنوية تهدد حياتنا الأبدية المديدة تمسّ باطن القلب... لا حقّ للإنسان للشكوى من المصائب والأمراض لأنه يمس سرّ القدر لأن الله فصّل لباس البدن ويظهر عليه جلوات أسمائه المختلفة فإن اسم الرزاق يقتضي الجوع، وكما أن اسم الشافي يطلب المرض... والحياة تتصفّى وتترقّى بالمصائب والعلل وتؤدي الوظيفة الحياتية، وإن الحياة المتناسقة على فراش الراحة أقرب من الوجود الذي هو الخير المحض... وإن هذه الدنيا لا بدّ من الشكر عليها لا الشكوى منها، والآلام المعنوية تنشأ من زوال لذائذ الزمان القديم وعن فراقها لأن زوال اللذة ألمٌ وقد ينتج لذة فانية ألماً دائماً... وإن اللذة المعنوية الدائمة الناشئة عن زوال الآلام التي قضاها المرء في حياته القديمة هي التي تنطق بالحمد لله فبها يصبح عمره القصير بمثابة عمر طويل لأنه يُولّد نتائج حياته كعمر طويل..
وإن عمره الفاني الماضي يصبح في حكم عمر باق وسعيد... فكما أن شرب الماء وأكل الطعام متتالياً بزعم أنه سيجوع ويظمأ غداً وبعد غد جنون على وجه الحمق... كذلك أن تفكر المصائب والأمراض في الأيام الآتية التي هي معدومة الآن والتألم بها وإظهار الجزع منها والظلم بنفسه على نفسه بدون أي اضطرار بلاهة تسلب لياقة الشفقة والرحمة في حقّه..
لي صديق مريض زرته يوماً وقال لي منذ مئة يوم لم أضع راسي على الوسادة، فلم أنم، وشكا شكوى أليمة فتألمت له كثيراً وخطر لي خاطر فجأة فقلت: يا أخي إن أيامك المئة الماضية المنغّصة هي الآن بمثابة مئة يوم ذات سرور فلا تذكرها فتشكو منها وانظر إليها فاشكر عليها، وأما الأيام الآتية فلم تجئ بعد، فتوكّل على الرحمن الرحيم، ولا تبك بدون أن تُضْرَب، ولا تخش من المعدوم، ولا تعط العدم صبغة الوجود، واذكر هذه الساعة فقط، فيكفي لها ما فيك من قوة الصبر، فاحشد كل قوتك إزاء هذه الساعة واذكر رحمة الله وتحويل عمرك القصير الفاني إلى صورة طويلة باقية، وأشكر الله شكراً جزيلاً عوضاً عن هذه الشكوى
الأليمة، ففرح كلَّ الفرح، وقال الحمد لله لقد هبط مرضي من العشرة إلى الواحد..
إن التشكّي والتأوّه اعتراض لقدر الله واتهامٌ للرحمة الربّانية.. فمن انتقد القدر يضرب برأسه على السندان فيكسره، فكما أن استعمال اليد المنكسرة للانتقام بها يزيد في كسرها، واستقبال الإنسان المبتلى بالمصيبة بلسان الشكوى يضاعف المصيبة.
إن الإنسان كلّما استكبر المصيبة الماديّة تتكبّر وكلما استصغرها تتصاغر.. إذا لمس خيال بصر الإنسان في الليل كلما اهتمَّ به ينتفخ، وإذا لم يهتم به يغيب.. دع العويل والشكوى أيها البائس إذ العويل بلاءٌ في بلاء.. واضحك في وجه البلاء بالتوكّل.. وكلما ضحكت يتصاغر ويزول.. فالبلاء أحياناً لطفاً إلهياً يخوضه المبتلى بسكر الشباب وسفه الزمان.
3- أسرار الإنسان:
إن في جهاز الإنسان آلافاً من الآلات فلكلّ منها ألم آخر ولذة أخرى وعمل آخر ومكافأة أخرى ويمنحه الله له الالتجاء إليه بألسنة أعضاء الشكر..
كأن الإنسان قلمٌ متحرّك يتضمّن ألوف الأقلام المختلفة، وكأنه قصيدة منظومة تعزف على كل الأوتار المتنوعة ويؤدي وظيفته الفطرية..
وإن اختلط بعض الحسّ والذوق فلا توزن بموازين المنطق لأن إفراط الحسِّ والذوق لا يستمع إلى دساتير العقل ولا يراعي موازين الفكر..
إنَّ في فطرة الإنسان عشقاً شديداً إزاء البقاء حتى إنه يتوهّم في كلِّ شيء يحبّه، فإذا تصور زواله يستغيث من أعماقه.. فكل النياحات الناشئة عن الفراق مترجم للبكاء الوارد من عشق البقاء.. يعلن النص القرآني أن ليلةً واحدة كليلة القدر في حكم ألف شهر هي عبارة عن ثمانين سنة وبضع سنين، وكذلك إذن عدة دقائق من زمن المعراج الذي هو في حكم سنين كثيرة تثبت وجود هذه الحقيقة وتدل على وقوعها بالفعل، لأنه دخل عالم البقاء بطريق ذلك المعراج.. وعدة دقائق من عالم البقاء تتضمن آلاف السنين من هذه الدنيا، ويبنى على هذه الحقيقة ما وقع بكثرة بين الأولياء من حادثات بسط الزمان..
(إن يوماً عند ربّك كألف سنة مما تعدّون) على بسط الزمان.
إن الإنسان وإن كان فانياً إلا أنه خلق للبقاء وليكون مرآة لذات باقٍ وأن يتوجه إلى الباقي بجميع جهازاته وبكل استعداداته (يا باقي أنت الباقي).
4- سيدنا علي مرجع للأولياء الصالحين:
إن إقرار سيدنا علي كرّم الله وجهه نفسه وأتباعه لأولئك الخلفاء الثلاثة وقيامه في مقام المشيخة لهم أزيد عن عشرين عاماً تنقض دعوى الغلاة المتطرفين هذه، وكون سيدنا علي مرجعاً للأولياء والطرق الصوفية بالأكثرية المطلقة، وقول الرسول الكريم فيه ما معناه: كلُّ نبي نسله منه ونسلي هو نسل علي، وعلي هو المثل والشخص المعنوي لآل البيت المتسلسل منه، وشخص آل البيت المعنوي من حيث كونه ممثلاً لحقيقة محمدية لا يوازن.
فالرأي الصائب فيه إيماء خفيّ.. غلو الحب في حقّ علي خطر كما أن إفراط المحبة في حقّ عيسى عليه السلام خطر للنصارى، فالإفراط والتفريط في كلّ شيء يرقى إلى التهوّر وإلى اللاعقلانية...
فصحابة رسول الله لم يفتحوا الفتوحات ببرق السيوف إنما بشوق بارقة الحقيقة الربانية في التنزيل الحكيم، وأشير إلى لمعة مهمة من لمعات القرآن في أبجديته التي تفيد أسراراً كثيرة بجهة التوافق وبحساب الأبجدية الذي هو نوع من علم الجفر ومفتاح له...
5- القرآن حمّال أوجه:
فمن إعجاز البيان الإلهي من النبيين والصدّيقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، فإن كلمة الصدّيقين هو أبو بكر الصدّيق، والشهداء هم عمر وعثمان وعلي (وحسُنَ أولئك رفيقاً) هو سيدنا حسن بن علي، فلمعات الإعجاز من إخبار الغيب الذي هو نوع من أنواع إعجاز القرآن... إن آية: {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً }النساء69/. والصالحين إلى معان إشارية ورمزية، وهم التابعون يعبّر عنها في علم البلاغة بمعارض الكلام ومستتبعات التراكيب غير المعنى المقصود، والتنبؤ النبوي الغيبي قوله عليه السلام: (إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وهو الحسن الخليفة الخامس، وهذا ما يسمى الإخبار الغيبي، وإن الكائنات مرآة، وماهية كل موجود مرآة أيضاً، وإنها معروضة للإيجاد الإلهي بالقدرة الأزلية، وإنّ كل موجود يصير نوع مرآة.
6- سرّ تحريم لحم الخنزير:
وإني لأسأل يا للعجب أليس لأكل لحم الخنزير دخل في توغّل بلاد الإفرنج في ظلمات الضلالة المادية والطبيعية المنافية كلياً للترقيات الحضارية والكمالات الفنية والعلوم الإنسانية، مع تقدمها بهذا القدر في تلك الترقيات والكمالات والعلوم الخارقة؟ والدليل على أن الإنسان يتأثر مزاجه بما يتغذى به ما صار في حكم المثل (مَنْ أكل كل يوم لحماً أربعين يوماً يتأثر بقساوة القلب).. فإن للخالق حيوانات على صورة فلاسفة سفهاء...
لا موجود إلا هو، فيتصوّرون بسكر العشق، وبمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، وإن في وحدة الوجود مشرباً حالياً ذا ذوق للغاية، فاتخذوا مسألة وحدة الوجود ملجأ للنجاة عن المفارقات الرهيبة.
7- الإيمان بإرادته الأزلية.. ولا يحيطون بشيء من علمه:
فإذاً، فإن منشأ السبب الأول صدر من عدم إدراك العقل إلى بعض الحقائق الكونية الإيمانية
العالية الواسعة للغاية، ومن عدم إحاطته بها، وعدم انكشاف العقل بتمامه في نقطة الإيمان، ومنشأ السبب الثاني ورد من انكشاف القلب فوق العادة ومن انبساطه وتوسعه خارقاً للعادة في نقطة العشق، وأما مرتبة التوحيد العُظمى التي رآها أولياء وراثة النبوة العظام، وأصفياء أهل الصحو بصراحة القرآن فهي عالية جداً، وتفيد المرتبة العظمى من مراتب الربوبية والخلاّقية الإلهية، وتبين أن الأسماء الإلهية كلّها حقيقية وتحفظ الأسس ولا تُفسد موازنة الأحكام الربوبية، فإنهم يقولون إن الله تعالى مع أحديته الذاتية وتنزهه عن المكان أحاط بكل شيء مع جميع شؤونه وعيّنها بعلمه بدون واسطة ورجّحها وخصصها بإرادته، وأثبتها وأوجدها بقدرته بلا توسط، وإنه يُوْجد جميع الكائنات ويدبّرها كوجود واحد ويخلق زهرة بسهولة وكما يخلق الربيع العظيم بتلك السهولة، ولا يكون شيء مانعاً لشيء ولا تجزُّؤ في توجهه ولا توزيع وانقسام في تصرفه المبتلى بضرورة الاختلاط بأناس معجبين ومتكبرين فأضطرّ إلى الرياء والتبصبص لهم بوجه غير لائق بالمروءة... فكان الشيطان الجني والإنسي يستفيدان من حال هذا المنفى لروح خدمة القرآن الحكيم مع أنه كان يورث برودة وفتوراً في خدمتنا فذقْتُ إزاء قصوري هذا صفعة شديدة ولكن مشفقة، ولم يبق لي شبهة أنّ هذه الصفعة أتت من ذلك التقصير، والآن قد اعتقدنا قطعاً أن تلك الحقائق القرآنية أنوار وأضواء لا تجتمع مع ظلمات التصنع والتملق والتذلل...
8- سعادة المؤمن وشقاء الضالّ مؤيدة بالشواهد:
إنّ المؤمن سعيد أكثر من المنحرف أو الضالّ في نظر الحقيقة المثلى، حتى إن إيمان المؤمن يصبح في حكم جنة معنوية في روح المؤمن، وإن كفر الكافر أو الجاحد يوقد جهنماً معنوياً في ماهية الكافر.
ذلك البديع ذا الجلال بديع السموات والأرض الذي زيّن هذه الكائنات بهذا القدر من معجزات صنعته، وكذلك إن ذلك الجميل ذا الكمال الذي جعل هذه الكائنات مظهراً لتجليات جماله وكمالاته التي لا تعدّ ولا تحصى، يعطي أكمل كيفية من العبودية قطعاً وبالبداهة، فطوبى لمن كان حظُّه وافراً، وويل لمن لا يقدرّها.
إن مسائل الشريعة ودساتير السنّة السنية كل منها دواء نافع في الأمراض الروحية والعقلية والقلبية ولاسيما في الأمراض الاجتماعية وأحسست بالمشاهدة أن المسائل الفلسفية والحكمية لا تسدّ مسدّها، تلك مسائل النور للحياة الأبدية، ونافع للحياة الدنيوية بأي مقدار.. فاتباع السنّة السنية ركن سعادة الدارين ومعدن الكمالات ومنبعها.. {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}/آل عمران53/.
إن هذا الإنسان الصغير يسع قلبه الصغير مقدار الكائنات عشقاً.
إن خالقي أنقذني من العدم الذي هو ظلمات أبدية، وأعطاني في هذه الدنيا دنيا جميلة، وإنه سينقذني إذا جاء أجلي عن الهلاك والفناء الذي هو إعدام أبديّ، وسيحسن إليّ بعالم أبديّ محتشم في عالمٍ باقٍ، وينعم عليّ بحواس ظاهرة وباطنة تستفيد من جميع لذائذ ذلك العالم، ومن محاسنه، وتجول متنزّهة في ذلك العالم.
يقال، إنهم قالوا للنعامة: إن لك جناحين فطيري، فقصّت جناحيها، وقالت: إنّي جَمَل. فما طارت، ولكنها وقعت في فخّ الصياد، فأدخلت رأسها تحت الرمل كي لا يراها الصياد، مع أنها تركت جثتها في الخارج، وجعلتها هدفاً للصياد. ثم قالوا لها: إذا كنت تقولين إني جَمَل فاحملي حِمْلاً، فحينئذ بسطت جناحيها، وقالت: إني طائر فنجت من محنة الحَمل ولكن أصبحت هدفاً لسهام الصيادين.
لو أستند الرسول الكريم إلى المعجزات وخوارق العادات في حياته الشخصية الاجتماعية لما كان حينئذ إماماً مطلقاً ومرشداً أكبر، فلهذا السرّ كان يظهر المعجزات أحياناً قلائل عند الحاجة لتصديق دعواه ولكسر إنكار المنكرين.. فكان يلبس الدرع إزاء العدو، ويأمر أن يدخلوا الكمين، ويصبح مجروحاً، ويقاسي المحنة، حتى يظهر رعايته وإطاعته لقوانين الحكمة الإلهية والشريعة الفطرية الكبرى في الكائنات...
إن اللبن الرائب إذا فسدا يؤكلان أيضاً، وإن السمن إذا تغير لا يؤكل، وقد يصير مثل السمّ، كذلك إن الإنسان الذي هو أكرم المخلوقات
إذا تفسّخ يصبح أفسد حيوان متفسخ فيتلذذ بالشرور ويفتخر بالأخلاق الفاسدة في وحل الضلالة كحشرات متلذذة برائحة مواد متعفنة.
9- العلل والآثام والالتجاء إلى القرآن:
كما أنه جعل الأمراض حجاباً للأجل لإنقاذ ملك الموت عليه السلام من سخط العباد الذين يموتون، كذلك جعله الله حجاباً لقبض الأرواح حتى لا تتوجه إلى الله تعالى الشكايا من تلك الحالات التي تتوهم بدون رحمة.
العالم إنسان كبير كما أن الإنسان عالم صغير فهو فهرس وخلاصه لذلك الإنسان الكبير، كما أن وجود القوة الحافظة في الإنسان دليل قاطع على وجود اللوح المحفوظ في العالم، كذلك إن القوة الواهمة المفسدة وآلة الوسوسة المسماة باللمة الإبليسية في زاوية من قلب الإنسان، التي يشاهد كل أحد في نفسه حسّاً وحدساً أنها أصبحت في حكم إبليس صغير، دليل قطعي على وجود كبار الأبالسة في العالم..
إنَّ القران الحكيم يفيد إفادة معجزة أن الكائنات تغيظ عن شر أهل الضلال.. وذلك هجوم السموات والأرض بالطوفان النازل على قوم نوح، وغضب عنصر الهواء على عادٍ وثمود، وعنصر الماء على قوم فرعون، وغيظ عنصر التراب على قارون وقومه، زجراً على وجه الإعجاز وبأسلوب وعملية رهيبة.. فيا أيها لإنسان البائس الصغير الجرم والجسم، وكبير الجرم والظلم، وعظيم العيب والذنب، إن أردت أن تخلص من غيظ الكائنات، وعن نفرة المخلوقات، وعن غضب الموجودات، فها: إنَّ وسيلة الخلاص هي الدخول في دائرة القرآن الحكيم القدسية والاتباع لسنة الرسول الأكرم السنية عليه الصلاة والسلام فادخلها واتبعها.
10- مخاطبة الإنسان:
فيا أيها الإنسان البائس المخلوق لعالم البقاء، والمفتون بالعالم الفاني، تدبّر واسمع إلى سرّ آية:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ}/الدخان29/، مفهومها الصريح: إن السموات والأرض التي لها صلة بالإنسان
لا تبكي بموت أهل الضلال على جنائزهم، يعني: إنها تفرح بموتهم.. وتفيد الآية المشار إليها: إن السموات والأرض يبكينَ بموت أهل الهداية على جنائزهم ولا يرضين بفراقهم، لأن جميع الكائنات لها علاقة بأهل الإيمان وهي مسرورة بهم، فيا أيها الإنسان تبكي عليك السموات والأرض متأثرة من فراقك حسب درجتك، وتشير إلى أن لك استقبالاً حسناً بالنسبة إلى درجتك في عالم البقاء الذي تدخله بباب القبر بمأتم رفيع، وتشييع محتشم.
11- فساد القلوب والانقياد إلى الله:
أهمّ ورطة في هذا الزمان هو فساد القلوب، وتزلزل الإيمان بضلال ناشئ، والوسيلة الوحيدة هو النور وإرادة النور حتى تصلح القلوب وينجو الإيمان.. المنافق هو أضر من الكافر.. (إن الحادثات الجزئية في آيات القرآن رؤوس لحادثات كلية) لمعات فكرية وتوحيدية وسياحة قلبية وانكشافات روحية في المعرفة الإلهية..
مخاطبة النفس أيها الإنسان الفاني اعلم أن ما لا يفارقك بعد فناء هذا العالم... ولاسيما أمور فانية تتركك محولة ظهرها إليك... ولاسيما ما لا يصاحبك في سفر البرزخ، ولاسيما ما لا يشيعك إلى باب القبر... ليس من شأن العقل أن تعلق قلبك به، فإن كان لك عقل فاترك الأمور التي تضمحل وتفنى تحت اصطدامات التقلبات الدنيوية، وفي الأطوار البرزخية والانقلابات الأخروية، ولا تهتمّ به ولا تغتمّ من زوالها، فانظر إلى ماهيتك فإن بين لطائفك لطيفة
لا ترضى بغير الأبدي، فتلك اللطيفة هي سلطان حواسك ولطائفك، فأطع سلطانك ذاك المطيع لأمر الفاطر الحكيم، وأفلح(إذ المخلوقات كما تتساوى في جهة البعد لمن كونها معبودة تتّحد في نسبة كونها مخلوقة) باتفاق العلوم وشهادة الفنون يحكم بحدس قطعي بأنّ كلّ فرد من البشر سيعاد بعينه وجسمه وباسمه ورسمه في الحشر والنشر الأكبر.
12- حضارة أوربا وفلسفة الروح:
إن أوربا اثنتان، إحداهما هي أوربا التي تتبع العلوم التي تخدم العدل والحقّ وتراعي الصنائع النافعة لحياة مجتمع البشر، وذلك بالفيض الذي استفادته من الدين العيسوي الحقيقي. أما القسم الثاني الفاسد، هو ظلمة الفلسفة الطبيعية، الفلسفة الضارة الباطلة، والحضارة السفيهة المضرّة...أيتها الروح الشقية الناشرة للكفران، السعادة في الروح وليس في الجسم.. لقد أهديت هذه الحالة الجهنمية إلى روح البشر بدهائك الأعور، أسقطت الإنسان إلى أسفل السافلين كأشقى الحيوانات فالعلاج الذي وجدته لهذه العلة هو ملاهيك الجذابة المزخرفة ومشتهياتك المنومة التي تخدم إبطال الحواس إلى حين، فحكمت حمقاً بأن الحياة جدال... الدنيا مناحة عامة والأصوات في الدنيا نياحات ناشئة عن الموت والآلام.. الذليل يظهر دناءة بحيث يقبل قدم الإبليس لنفع خبيث.. شهادة من أهل الذمة مقبولة في مذهب الحنفية ولكن الفاسق مردود الشهادة لأنه خائن، لأنه يتلذذ بالتسميم كالحيات..
إن الوالدات الحيوانية تحمي أولادها باللذة.. وإن الجمادات تطلب شرفاً وكمالاً وانتظاماً.. قطرة ماء وذرة من زجاج ترى نفسها في عرش الشمس فالذرات الموجودات تصعد من الظهور والتنوّر باسم الفاطر الذي وظّفها بتلك الوظائف وأدرج فيها اللذة برحمته.. وامتثال النباتات والأشجار لأوامر الفاطر الجليل بوجه يشعر بالشوق واللذة.. كشجرة التين تتباهى بنفسها وبخزينة الرحمة وغذاؤها الطين، وشجرة الرمان تأخذ شراباً صافياً من خزينة الرحمة وهي تقنع بماء حمأ كدر.
إن الكسالى والعاطلين يشتكون دائماً من عمرهم فيطلبون انقضاءه فوراً بالملاهي، وأما الساعي والناشط فهو شاكر وحامد، ولا يطلب زوال عمره، فكل سعي وحركة في الكائنات من دوران الشموس وسيرها وسياحتها إلى اهتزاز الذرات وتحولها ودورانها كالمولوي يجري على قانون القدر الإلهي، ويصدر عنه يد القدرة الإلهية، ويظهر بالأمر التكويني المتضمن للإرادة والأمر والعلم.. حتى إن كل ذرة وكل موجود يشبه مجنداً فكما أن لذلك المجند وظائف ونسباً مختلفة في الجيش وفي الدوائر المختلفة.. إن لذرّة في عينك نسباً، ولها وظائف حسب تلك النسب.. وفي أعصاب الوجه وفي شرايين البدن، وهكذا فَقِسْ كلَّ شيء عليها، فبناء على هذا يشهد كل شيء على وجود قدير أزلي.. الإيماء الإلهي إلى النحل:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}،{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
الإنسان الذي هو مخلوق ضعيف وصغير كالذرة بين الكائنات، عبد محبوب لخالق الأرض والسموات وخليفة الأرض وسلطانها، وذلك بسرّ الاتحاد الكوني(الهيولى الكونية) إفادة القرآن المعجز البيان شفقة ورحمة، يكرّر القرآن ما كتب على صفحات السموات والأرض من الآيات.. في أسلوبه جزالة وسلامة وحالة فطرية، كأنّ القرآن حافظ يتلو ما سطر بقلم القدرة على صفحات الكائنات من الآيات.
13- مناجاة التأويل الروحي:
فيا ربي أراني عنه قريب، لبستُ كفني، وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت إلى باب قبري، فأنادي في باب رحمتك: الأمان.. الأمان، يا رحمن، يا حنّان، يا منّان، خلصني خجل العصيان، وأنادي: الأمان.. الأمان، من ضيق المكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبح وجه الآثام.
14- الالتجاء إلى الله:
يا خالقي.. مخلوقك وعبدك العاصي العاجز الغافل الجاهل.. الشقي الآبق معترفاً بالذنوب والخطيئة الكبرى، وأنت أرحم الراحمين، فأي بابٍ يقصد غير بابك، وأنتَ الحقّ المعبود...
(طوبى لمن عرف حدَّه ولم يتجاوز طوره).
خذْ قبضة من مختلف بذور الأشجار والأزهار والنبات، فادفن تلك القبضة التي هي بمثابة صندوق الأزهار والأشجار والنبات المختلفة الأنواع والمتغايرة الأجناس، وازرعها في الظلام وفي تراب مظلم بسيط وجامد، ثم اسقها بماء بسيط بلا ميزان، لا يميز بين الأشياء، ويجري حيثما صرفت وجهه، ثم أنت في فصل الربيع الذي هو عرضة الحشر السنوي، وانظر إلى زمان صيحة ملك الرعد الشبيه بإسرافيل على الغيث في الربيع من قبيل نفخ الصور، وإلى وقت تبشيره بنفخ الروح بالنوى المدفونة تحت الأرض، فكيف تمتثل الأوامر التكوينية الواردة من الفاطر الحكيم بكمال الامتثال تحت تجلّي اسم الحفيظ، وأن تلك البذيرات المتشابهة تتمايز ويفترق بعضها عن بعض، وذلك بالقصد والإرادة والعلم وكمال الحكمة. مثلاً: أصبحت هذه الشتلة شجرة تين فشرعت تنشر نِعَم الفاطر الرحيم، وتنثرها على رؤوسنا، وتمدُّها بأيدي الأغصان، وكذلك شقائق النعمان ودوار الشمس، فتزينت لنا وتبتسم في وجوهنا وتحبب إلينا.. فتنكشف تلك البذيرات بحيث أصبحت تلك القبضة في حكم حديقة مليئة بأشجار مختلفة وأزهار متنوعة.. ويظهر سرّ قوله تعالى:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}/الملك3/. فيحفظ كل بذرٍ على الإرث الذي أعطاه الله بإحسانه وحفظه الخارق(أيحسب الإنسان أن يُترك سدى) سيظهر التجلي الأكبر في القيامة والحشر حجّة قاطعة على أن أمثال الناس الذين هم حملة الأمانة الكبرى وخلفاء الأرض وآثارهم وحسناتهم وسيئاتهم ستحفظ في كمال الاعتناء وستحاسب حسابها.. الإنسان مبعوث إلى الأبد ومرشح للسعادة الأبدية والشقاوة الدائمة، وسيرى الحساب عن عمله، صغيراً وكبيراً، قليلاً وكثيراً، فالشواهد في كتاب محفوظ لا تعدّ ولا تُحصى، والشاهد الذي بيّناه هو قطرة من مياه البحر.
إن الفاطر الحكيم خلق بدن الإنسان صورة على صورة قصر مكمّل، وعلى مثال بلد منظّم، وجعل القوة الذائقة في الفم كحاجب، والأعصاب والعروق كأسلاك البرق والهاتف، والمعدة في جهة تدبير الجسد سيداً وحاكماً.. الروح حاكم الجسد.. والعقل على المعدة.. يفدي بعزته ويقبل الذلّ، ويقع في حالة المسكنة المعنوية بحيث يقبّل أقدام الأرذال، ويفدي أحياناً مقدساته التي هي نور الحياة الأبدية..
إن حاتماً الطائي المشتهر في العالم بالسخاء.. أهدى لضيوفه هدايا كثيرة وانطلق إلى الصحراء، فرأى شيخاً فقيراً حمل على ظهره حملاً من الشوك والحطب يشوّكُ جسمه ويدميه، فقال له الحاتم: إنّ حاتم الطائي يقري قرىً مهماً مع الهدايا فاذهب إليه تأخذ خمسمائة درهم عوضاً عن هذا الحمل الشائك بخمس دراهم، فقال ذلك الشيخ المقتصد: إني أرفع حملي هذا وأحمله مع عزتي ولا أقبل منّة حاتم الطائي، ثمّ سألوا الحاتم: من وجدته أسخى وأعزّ منك؟ فقال: رأيت ذلك الشيخ الذي لقيته في الصحراء أعزّ وأعلى وأجود منّي.
إن اللذة التي يذوقها فقير من قطعة خبز يابس أسود بسبب الاقتصاد والجوع أزيد من لذةٍ يذوقها سلطان أو غني مما يأكله من أفخر الحلويات مع فقدان الاشتهاء، وبالملل الناشئ عن الإسراف.
لا إسراف في الخير كما لا خير في الإسراف، وعدم القناعة يهدم شرف السعي والعمل ويجعله شاكياً بدل أن يشكر، ويلقيه في الكسل، ويترك المال النظيف المشروع فيطلب مالاً غير مشروع وإن الحريص خائبٌ خاسر.. والقناعة الفطرية للأشجار المحتاجة إلى الرزق تسوق رزقها إليها، إن قناعة الأسماك برزقها كانت وسيلة لأرزاقها المكملة، وإن الحيوانات الذكية مثل الثعالب والقردة تبقى نحيفة وغير سمينة لعدم تحصيلها المقدار الكافي من الرزق وذلك لعلّة الحرص الشديد، أو الركض وراء التخمة الزائدة، فهذا الحرص سبب المحنة، والقناعة مدار الراحة...
والبدويون في الصحراء والجبل قانعون برزقهم الكافي، ويعيشون بالعزة على وجه القناعة، وهكذا إن وقوع كثيرين من العلماء المفكرين والأدباء والكتّاب والشعراء في حال الفقر في سبيل الحرص بنتيجة ذكائهم، وغنى كثيرين من البله بحال قناعتهم الفطرية.. وبصورة قاطعة إن الرزق الحلال يأتي حسب العجز والافتقار وليس بالاقتدار والاختيار.. بل إن ذلك الرزق يتناسب عكساً مع الاقتدار والاختيار.. سألوا بزرجمهر العالم الشهير بالعقل وزير أنو شروان العادل من عدول ملوك إيران، لماذا يُشاهد العلماء بأبواب الأمراء ولا يُرى الأمراء على أبواب العلماء؟ مع أن العلم فوق الإمارة، فأجاب: إن ذلك من علم العلماء وجهل الأمراء...، يعني أن الأمراء لا يعرفون قيمة العلم بسبب جهلهم حتى يذهبوا إلى أبواب العلماء ويطلبوا منهم العلم، أما العلماء فلكونهم يعلمون قدر المال أيضاً بسبب معرفتهم يطلبون المال بأبواب الأمراء.
هكذا أجاب بزرجمهر جواباً لطيفاً.. فحرص العلماء الذي هو نتيجة ذكائهم المفرط والمسبب لفقرهم.. ولذلك القناعة كنزٌ لحسن العيش ولراحة الحياة وأما الحرص فهو معدن الخسارة والسفالة..
نعم إذا اجتمعت بأي مسرف أو حريص على المال تسمع منه الشكايا، فيشكو لسانه مهما كان غنيّاً وإذا التقيت بأفقر إنسان ولكنه قانع تسمع منه الشكر...
إن أفلاطون وحكماء الإسلام وشيخ الأطباء وأستاذ الفلاسفة الداهية الشهير عليّ (ابن سينا) جمع الطب في الأبيات الشهيرة:
جمعتُ الطبَّ في البيتينِ جمعاً وحسن القول في قصر الكلامِ
فقلّلْ إن أكلـت وبعـد أكـلٍ تجنّبْ فالشفا في الانهضــامِ
وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعام على الطعامِ
إننا بحاجة إلى التساند والاتحاد الحقيقيين بتحصيل الإخلاص مع أنفسنا ومع الآخرين، وإن كل فرد منا يستطيع أن ينظر بعيون سائر إخوته، وأن يسمع بآذانهم في اتفاق صميمٍ حقيقيٍّ، ويتفكّر بعقولهم... فلهم جميعاً قيمة مادية وقيمة معنوية عالية.. فالقوة في الاتحاد والحقّ والإخلاص...
15- فلسفة الموت:
رابطة الموت بين البشر فوائدها كثيرة، التخلّص من المباهاة والرياء بملذات الدنيا، فجنازة أي إنسان هي ثمرة وحيدة على شجرة عمره القصير هذا، فمن خلالها يرى المرء موته كما أنه إن ذهب قليلاً إلى ما وراءها يرى موت عصره، وإن ذهب إلى ما وراءه نبذةً أخرى يشاهد موت الدنيا أيضاً، فيفتح الطريق للإخلاص الأتمّ... وإن التحاسد الوارد من جهة النفع المادي ينقص الإخلاص شيئاً فشيئاً... سرّ الإخلاص هو فناء النفس في المجموع دحضاً للشهرة الناشئة عن حبّ الجاه والعجب والرياء وجنون العظمة المعبر عنه بالشرك الخفي.
يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء... ذلك النور الأسود السائل من الأقلام الخالصة المباركة التي تخدم الحق والإيمان الصادق.. شهادة هؤلاء كل الشهداء الذين يصدّقون دعوى أن الموت حقّ ويوقعون عليها بخواتم جنائزهم كل يوم، ذلك الإيمان الذي هو ورقة جواز السفر للسياحة في طريق الأبد، ومشعل القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح السعادة الأبدية، والتواضع أمام المتكبرين تذلّلٌ، وأن تلك الذرات الموجودة في بدن الإنسان مأمورات صغار من مأمورات القدير الأزلي، تتحرّك بقانونه أو أنها جيشٌ من جيوشه أو رؤوس القدر وكلّ ذرة ريشة..
إن بدنك يشبه قصراً خارقاً له ألف قبة، تساندت الأحجار في كل قبة منها رأساً إلى رأس، وأُوقِفَتْ في الهواء بدون عمد..
وإن الحبّ الإلهي يستوجب الإخلاص في الحبّ والطاعة، كما يقول ابن المبارك رحمه الله:
تعصي الإله وأنتَ تُظْهِرُ حبَّهُ هذا لَعمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُّكَ صادقاً لأطعتَـهُ إنَّ المُحبَّ لمـن يحبُّ مطيعُ
إن ذلك الوجود الواحد خرج عن يدٍ واحدة قديرة وحكيمة غاية القدرة والحكمة، وإن تلك الذرات الموجودة في بدنك مأمورات صغار من مأمورات القدير الأزلي، تتحرك بقانونه، إن ما يشاهد في الموجودات ولاسيما في ذوي الحياة من الإيجاد الحكيم والصفة البصيرة.
مواد البذور متساوية كالنطف والبيضات، فإنها عبارة عن خليطة من مولِّد الماء ومولِّد الحموضة والكربون والآزوت، كعجين بلا شكل ولا انتظام، مع أن الهواء والماء والحرّ والضياء كل منها بسيط
لا شعور له يجري إلى كل جانب جري السيل... فلذلك يقتضي نشوء تلك الأزهار التي لا حدّ لها من ذلك التراب مصنعة ومنتظمة للغاية ومختلفة الأشكال، يقتضي بالبداهة والضرورة أن يوجد في ذلك التراب في الكأس مطابع ومصانع معنوية على مقياس صغير، فكيف شذّ فكر الطبيعيين عن دائرة العقل؟ وكيف اتخذوا خرافة ممكنة، والسكارى الحمقى باسم العقل والفن واتخذوا هذا المسلك الضالّ؟.
16- الفكر الروحي والمادي:
إن إسناد كل موجود إلى واجب الوجود له سهولة في درجة الوجوب، وإن إسنادها إلى الطبيعة في جهة الإيجاد مشكل في درجة الامتناع وخارج دائرة العقل.. فنقول لهذا الوجودي والطبيعي، أنت السكران الأحمق المتحقق عن أحمق الحمقى، أَخْرِجْ رأسَكَ عن وحل الطبيعة وانظر إلى ورائك, أبصر صانعاً جليلاً تشهد له الموجودات كلها من الذرات إلى السيارات بألسنة مختلفة وتشير إليه بأصابعها.. إنّ ذلك الأمر الموهوم بلا حقيقة الذي يسميه الطبيعيون بالطبيعة، إن وجد وكان ذا حقيقة خارجية فإنما يكون صنعة، ولن يكون صانعاً، وإنه نقش ولن يكون نقاشاً.. إن الله تعالى ليس بحاجة أو بمحتاج إلى عبادتك.. العبادة للعابد بمثابة الأدوية لجراحاتك المعنوية، وتحد حدوداً لطغيانك وتجاوزاتك لحقوق الآخرين، أي تهذّبك تهذيباً, إن الإنسان الذي يعبد ويسبّح مخلصاً ومتفكّراً يرى تسبيحات الموجودات وعباداتها، وأما تارك العبادة يتوهّم الموجودات بصورة خاطئة... ومن المصدّق لدى أهل العقل أجمعين أن الأسباب تخلق من العدم... ففي الوحدة والتوحيد سهولة وفي الشرك والضلال مشكلات... الفلاسفة الوجوديون يقولون: إنّه لا يحدث شيءٌ ما من العدم، والذي يشغل مصنع الكائنات هو تركيب وتحليل، والردّ عليهم أنهم لم ينظروا إلى الموجودات بنور القرآن... قسمٌ منهم السفسطائيون استقالوا عن العقل الذي هو خاصة الإنسان وسقطوا إلى أسفل من البهائم، فوقعوا في الجهل المطلق. والقسم الآخر أنكروا الإيجاد ضرورة إنه لا يمكن الوجود من العدم فيحكمون أن الموجود
لا ينعدم، وإنما يتخيلون وضعاً اعتبارياً على صورة تركيب وتحليل واجتماع وافتراق بحرمان الذرات وبرياح الصدفة... فالضلال جعلهم دريئة للجهل والسخرية... إن للقادر المطلق نوعين من الإيجاد على صورة الإبداع والإنشاء وإن إعدام الموجود وإيجاد المعدوم قانون أسهل وأهون عليه، بل قانون دائم وعام من قوانينه... فلينعدم من يقول إزاء قدرة توجد في الّربيع أشكال آلاف الأنواع من النباتات والكائنات من ذوات الحياة وصفاتها...
17- التستر في النساء فطري:
إنه فطري تقضيه فطرتهنّ لأنهنّ ضعيفات نحيفات، فتحتاج المرأة إلى الحماية الزوجية وأولادها... ويوجد ميل فطري لتحبّب نفسها إلى زوجها... إن العري للمرأة مخالف للفطرة والتستر ينقذها من السقوط والذلة والسفالة والإسار المعنوي... وإن العلاقة الشديدة بين الزوج والزوجة هي علامة الدنيا والآخرة... إن الزوجة ليست رفيقة حياة زوجها رفاقة مخصوصة بالحياة الدنيا وحدها، بل إنها رفيقته في الحياة الأبدية، إن سعادة حياة أسرة تدوم بمحبة خالصة واحترام صميم وبأمن متقابل بين الزوج والزوجة، وأن التبرّج ينقض تلك المحبّة والاحترام المتقابل وتفسد ذلك الأمن... والمرأة المتستّرة التي تحصّن جمالها بزينة آداب القرآن في دائرة تربية الإسلام، يصبح ذلك الجمال الفاني جمالاً باقياً، ويوهب لها في الجنة على وجه أحلى وأجلى من جمال الحور...
18- بدنك هو هيكلك المؤقّت:
فيا أيها المريض المشتكي..! إنّ حقّك هو الشكر والصبر لا الشكوى، لأن جسمك وأعضاءك ليست ملكاً لك، وإنك لم تصنعها ولم تشترها من مصانع أخرى، فإذاً إنها ملك الغير، ومالك الملك يتصرف في ملكه كما يشاء... ويهب الله الصحة لبعض الناس فيفسدونها بالخمور والشهوات.
19- إنَّ الأشياء تعرف بأضدادها:
إذا لم تكن الظلمة لا تعرف الضياء وتبقى بلا لذّة... وإذا لم تكن البرودة لا تفهم الحرارة وتبقى بدون ذوق... وإذا لم يكن الجوع لا يورث الطعم لذّة، وإذا لم تكن العلّة فلا ذوق للعافية.. إذا لم يكن هذا المرض في رأسك أو في يدك أو في معدتك فهل كنت تشعر بالنعمة الإلهية اللذيذة الطيبة في صحتك... ما كنت تتشكر عليها بل
لا تذكرها ولصرفت تلك الصحة بالغفلة بدون الشعور... بل صرفتها للسفاهة... إن أكبر علاج لك أيها الإنسان هو علاج الإيمان الذي هو ترياق شافٍ وعلاجٌ ناجع، وإن الطريق الأقصر هو معرفة قدرة قدير ذي جلال ومعرفة رحمته... إن من لم يعرف الله تكون الدنيا مليئة بالبلاء، ومن يعرف الله فدنياه ممتلئة بالنور والسرور المعنوي الذي لا حدّ له.. ويذوب فيه ألم الأمراض البدنية، ويضمحل ذلك الألم تحت ظلال السرور والشفاء... واللذة المعنوية الناشئة عن هذا الإيمان المطلق الذي لا يتزعزع أمام الرياح العاتية من الأمراض والبلايا والمصائب... والموت لأهل الإيمان ليس هائلاً بل هو تسريح عن كلفة خدمة الحياة, وعطلة عن العبودية التي هي تعليم وتدريب في الابتلاء في ميدان الدنيا ومسرح الحياة، ووسيلة للوصول إلى أحبابه، وواسطة للدخول في وطنه الحقيقي وفي مقام سعادته الأبدية... ودعوة من سجن الدنيا إلى روض الجنان... ورحلة للظفر بالمكافآت وعرابين الأوسمة... فلا ينظر إلى الموت بمنظار الفزع بل ينظر إليه ببصيرة الرحمة والسعادة الخالدة... والدعاء إذا لم يتقبل فإن الخالق الحكيم هو الذي يعلم الخير فيعطي ما هو لنفعنا، فيصرف أحياناً دعاءنا العائد إلى الدنيا، يصرفه لنفعنا، إلى الآخرة فيتقبله كذلك...
19- المرض نوعان:
إن المرض قسمان: قسم حقيقي... وقسم وهمي... أما الحقيقي، فإن الشافي الحكيم الجليل خلق لكل داء دواء، وادّخرها في صيدليته الكبرى التي هي كرة الأرض، فكما أعطى الداء يعطي الشفاء... أما القسم الوهمي من المرض، فإن علاجه الذي يكون تأثيره أشدّ هو عدم الاهتمام به، فإنه كلما يهتمّ به يتكبَّر، وإذا لم يبالِ به يتصاغر، كما أن أحداً كلما خالط النحل تهجم عليه وإذا لم يبال بها تتفرق... كما أنّ في عمر الإنسان يسقط كل يوم حجر من بناء عمره على الأرض وينام الروح غافلاً... وفي كل سنة في الربيع ما لا تعدّ
ولا تحصى من جنائز أشجار ميتة واقفة على الأقدام، وفي الربيع الذي يليه يظهر ما لا يعدّ ولا يحصى من أنواع الزينة والمحاسن، وإن الإيمان بالله وبالآخرة تحفّز الإنسان إلى التمسّك بالعروة الوثقى حجّة للتفاؤل وإثباتاً قاطعاً بأنّ بعد هذه الدار الفانية دار سعادة، وهي دار الخلد في الآخرة الباقية... وعندما نظرتُ إلى ذروة شجرة عمري فرأيت أن لتلك الشجرة ثمرة واحدة وهي جنازتي تقف فوق تلك الشجرة... فخفضت رأسي إلى الأسفل، رأيت جنازتي تحت التراب يداس عليها بالأقدام... فرأيت أن الدنيا فانية بلا أساس تسافر متدحرجة في أودية العدم, وظلمات الفناء، وبينما أنا في هذه الحالة من الدهشة والوحشة واليأس... فإذا بأنوار الإيمان المتلألئة في سماء القرآن المعجز البيان أمدّتني... شقّ الإيمان صورة القبر الأكبر وحوّله إلى مجلس ضيافة رحمانية في قصور السعادة الطيبة... فأصبح الإيمان دواء وعلاجاً لعالمي.
20- وجه الموت:
نظرت إلى وجه الموت الذي يخوّف كل أحد، وبتوهّمٍ أفزع، فرأيت بنور القرآن أنّ لثام الموت وإن كان أسوداً مظلماً إلا أن سيماه الأصلية جميلة ومشرقة للمؤمن، وأن الموت ليس إعداماً ولا فراقاً بل إنه مقدمة الحياة الأبدية، وإنه تسريح عن كلفة خدمة الحياة وتبديل مكان، ووصال إلى ركب الأحباب الراحلين إلى عالم البرزخ، ونظرت إلى وجه الموت مشتاقاً إليه وفهمت سراً من أسرار رابطة الموت، إن ما بعد الموت حياة البرزخ هي روضات الجنة من غرسات وحدائق وجنان.
أولئك الأرواح تركوا أفكارهم العتيقة تحت التراب فيسير بعض منهم في الكواكب وبعض منهم في طبقات عالم البرزخ... والقرآن والإيمان قد أثبتا هذه الحقيقة بصورة قاطعة.. قال قلبي لنفسي المتفلسفة إن الشيء الأصغر كأكبر الأشياء، وأما الأسباب فهي حجاب، وذلك ما نظنه أصغر من المخلوقات قد يكون أعظم في جهة الخلقة والصنعة، والذباب قد يكون أعقد وأصعب صنعة من الكائنات العملاقة... إن الذرات والخلايا في حكم جيش منظم وتعمل بدساتير علم أزلي، فإن ذباباً يقتل نمرود, والنمل يدمر قصر فرعون, وبذر الصنوبر كالذرة يحمل على عاتقه حمل شجرة جسيمة كالجبل... يطوف خيالي في أصغر الأشياء, وأكبرها... وقادني الإيمان إلى وطن أزلي أبدي إلى حياة البرزخ... وأعتبر المدافن هي المواطن الثابت والساكن.. فيتألم القلب من أعماقه بحيث لو كانت آلاف القلوب لي لبكت معاً، لولا الفراق عن الأحباب لما وجد الموت سبيلاً إلى أرواحنا حتى يأتي ويقبضها. فإذاً إنّ أشدّ ما يميت الإنسان هو الفراق عن الأحباب... فلولا المدد من القرآن والإيمان لأثر ذلك الغم والكدر والحزن تأثيراً كبيراً، إننا ولدنا لنموت، فلولا الولادة لما كان الموت، فالموت وصال لا فراق، وتبديل مكان، وتسنبل ثمرة باقية، نبني القصور للخراب... القلاع القديمة كانت قصوراً شاهقة وأمست اليوم خراباً مهدماً، فنحن نبني للخراب... وأعظم بناء أن نسعد الإنسان وأن نجله ونحترمه، ونحقق أهدافه في العيش الكريم... والكرامة الإنسانية.
21- سرّ الأحرف في بدايات سور القرآن:
إن حروف: ألم, طس, حم... الحروف القدسية، من الرموز الإلهية، هي حروف عقد وأزرار تهز خطوط المناسبات الدقيقة الخفية بدون زمان بين ذرات الهواء، تؤدي مخابرات قدسية وهواتف معنوية من الأرض إلى العرش، إن كل ذرة وكل الذرات من الهواء تمتثلها الذرات المنتشرة في أقطار العالم... فهذه الحروف هي الرموز الإلهية في أوائل السور، كأنها تسمع الأوامر، وتعمل لها منتظمةً وحساسةً بلا نهاية، بدون زمان.. يصحّ أن يحصل الشفاء، وسائر المقاصد بقراءة تلك الحروف وبكتابتها كالعلاج البدني والباطني...
22- الحديد وأسراره في التنزيل الحكيم:
(وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس) لماذا لم يقلْ أخرجنا... فجهة النعمة ليست في الأسفل بل تنزل عن خزينة الرحمة، ولا شك أن خزينة الرحمة عالية وفائقة وفي المرتبة العليا، وأن النعمة تكون من الأعلى إلى الأسفل. وإن كلمة الإخراج لا تشعر جهة الإحسان... فالنعمة الواردة من خزينة الرحمة التي هي تجلٍّ من تجليات مرتبة علو الرحمن... فالحديد أعظم نعمة إلهية، وإن الأعلى والأسفل نسبيان فالأعلى يكون أسفل بالنظر إلى مركز كرة الأرض... حتى إن ما هو أسفل بالنسبة إلينا يصير أعلى بالنظر إلى قارة أمريكا، فإذاً إن الموادّ الواردة من المركز إلى جانب سطح الأرض يتغير كيفيتها بالنسبة إلى من هم على سطح الأرض... إنه ليس مادة عادية تخرج عن مخزن كرة الأرض التي هي دار الإنسان، وليس معدناً فطرياً استعمل في الحاجات تصادفاً، إنّ الحديد نعمة أعدت في مصنع الكائنات العظيم، وفي خزينة الرحمة من جانب خالق الكائنات، ليكون مداراً لحاجات سكان كرة الأرض، لإفادة النفع العام في الرحمة والضياء النازلة من السماء، كأنه يرسل من مصنع الكائنات لا من مستودع الأرض الضيق... بل أعد في خزينة الرحمة العظيمة في قصر العالَم، فَوُضِعَ في مستودع كرة الأرض، فيخرج قطعاً قطعاً عن ذلك المستودع حسب احتياج الأعصر... فيقول البيان المعجز لنا: اعملوا لإخراج الحديد المُنزَل، واستفيدوا منه وأدّوا بهذا الحديد حاجاتكم فيسخّر كرة الأرض ويسير في البر والبحر والجو بصورة خارقة ومحيرة للعقول، فأظهر لمعة من لمعات الإعجاز من قبيل الإخبار عن الغيب لكلمة ( فيه بأس شديد).
23- سرّ المخلوقات:
وقوله تعالى:(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}/النمل25/. إن من مزايا كلامٍ بليغٍ أن يُشير الكلام إلى عمل المتكلم وصنعته التي يشتغل بها كثيراً، وإن الهدهد السليماني كان عريف الحيوانات والطيور كالعرفاء البدويين الذين كانوا يكشفون بالفراسة، شبه الكرامة، أماكن الماء المخفي في صحراء جزيرة العرب القليلة الماء... فإنه كان طيراً مباركاً موظفاً يجد الماء ويعمل عمل المهندس لسليمان عليه السلام....
(وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ) إن المخلوقات مثل الإبل والبقر الجسيمة التي هي من الحيوانات المهمة مسخرة ومطيعة للإنسان... حتى أنها تعطي زمامها بيد صبي ضعيف وتطيعه... فهي حيوانات جنة معنوية فأنزلت من الأعلى... من خزينة الرحمة، فالأنعام هي الرزق.. ومبادئ هذه الحيوانات نزلت من السموات:(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ) ورزقها، أي رزق هذه الأنعام النباتات، ورزق النبات هو المطر، والمطر الذي هو رحمة وماء حياة، هذا الرزق من السماء، وتهزج الأمطار بشهادة فوائدها... اللهم فأبِّدْ على صفحات الكائنات وأوراق الأوقات إلى قيام العَرَصَات أصْدِيَةَ تسبيحاتِ خاتم النبيين... ويا من تسبح بحمدك الأرض ساجدة تحت عرش عظمة قدرتك بلسان محمَّدِها عليه السلام...
ونور الإيمان يزول الزوال, وينقلب إلى تجدد الأمثال، وفي التجدد لذّة أخرى، طلسم الفعالية الدائمة في الزوال والفناء والموت والحياة عنوان لوجودات مختلفة، وإنها تثمر وجودات كثيرة، وإن موت ذي حياة وزواله يثمر وجودات كثيرة ويتركها وراءه ثم يذهب.. نعم إن فانياً يبقى بجهات كثيرة, وإن نواة تموت بالتفسخ وتترك في موضعها سنبلاً جامعاً لمئة حبة.. وكما أن شجرة التين تموت ويبقى روحها الأمْريّ الذي هو قوانين تشكلها ويدوم في نواتها الشبيهة بالذرَّة
ولا يموت ذلك الروح... بل تتجدّد عليه الصور، بل تدوم ماهية ذي الحياة، إذ ماهيته ظل اسم من الأسماء الحسنى الباقية، فتبقى تلك الماهية تحت شعاع ذلك الاسم الباقي، وتبقى هويته أيضاً في كثير من الألواح المثالية، فلا يكون العدم إلا عنواناً لانتقال وجود زائل إلى وجودات دائمة... إن الأرض مصنع كبير وهو يتوسخ بالأقذار ويتلوث بالقاذورات فهو مصنع الكائنات... فإذاً من يتعهد بالكائنات يعتني بها جداً... وإن لها مالكاً يكنس ذلك المصنع الكبير والقصر العظيم وينظفه كغرفة صغيرة، ولولا ذلك الاعتناء بالدقة عن تطهير دقيقه وتنظيف حكيم، ولولا هذا التطهير لغرقت الكائنات... وأمطر على رؤوسنا حجارة في عظمة الجبال وشردتنا عن وطننا الدنيوي... ولو سئل عن فنّ الطب ما هي الأرض وكائناتها، لأجاب إنها صيدلية كبرى مكملة ومنتظمة غاية الانتظام، أعدَّ فيها كل أدوية ونضدت تنضيداً جيداً... ووصف الكيماوي: إنها مصنع كيماوي مكمّل ومنتظم جداً، معمل مكمّل للغاية لا نقص فيه.. وقال عنها الخبير الزراعي: إنها حديقة مكملة، ومزرعة منتظمة ذات محصولات عالية تنضج كلّ أنواع الحبوب في أوقاتها... وقال عنها التاجر: إنها معرض منتظم للغاية، وسوق منظم جداً، ودكان مصنّفة البضائع.. ويقول عنها فنّ الإعاشة: إنها مستودع منتظم جامع لكل أنواع الأرزاق... وقال عنها الخبير في الأرزاق والبركات: إنها مطبخ رباني، وجفنة رحمانية تطبخ فيها مئات ألوف أطعمة لذيذة معاً بكمال الانتظام... ويقول عنها الخبير العسكري: إن الأرض معسكر يوجد فيه أربعمائة ملّة مختلفة اجتلبت ووضعت خيامها على وجه الأرض في كل فصل ربيع... ولو سئل عن فنّ الكهرباء لقال: إن سقف قصر هذا العالم المحتشم قد زين بما لا حدّ لها من سراج كهربائية منتظمة موزونة، وعلى مقدمتها الشمس والسرج السماوية ولا تولّد الحريق ولا تفسد موازنتها... وهذه هي السرج الكهربائية تعطينا النور والضياء بدون ثمن... وإنكار ذلك جهل وجنون عجيبان لا يعرَّفان.
إن الموجودات تخلق بوجهين: أحدهما إيجاد من العدم ويقال له الإبداع والاختراع والآخر إيجاد بصورة الجمع بين الأشياء والعناصر الموجودة ويطلق عليه الإنشاء والتركيب... فالروح من العوالم المعنوية بميزان مخصوص... فإيجاد ذبابة بهذه الصورة يشكل مقدار إيجاد الكائنات... وذلك لأن أهل الفنّ متفقون على أنه
لا يستطيع شيء أن يَخلُقَ من العدم سوى الخالق الفرد الواحد الأحد الصمد... وإن من يسندون الإيجاد إلى الأسباب والطبيعة يقعون
في جهل مضاعف وذلك لأنه يوجد على الطبائع والأسباب أيضاً أثر صنعه منتظمة وأنها أيضاً مصنوعة كسائر المخلوقات، فمن صنعها كذلك، فإنه يصنع نتائجها أيضاً، ويظهرها معاً، ومن صنع النواة يصنع عليها الشجرة، ومن يصنع الشجرة يخلق عليها الثمرة، وإلا فإنها تقتضي طبائع وأسباباً منتظمة أخرى أيضاً لإيجاد طبائع وأسباب مختلفة أخرى... وهكذا دواليك، وهلم جرى، فيلزم أن يقبل وجود سلسلة موهومات غير متناهية لا معنى ولا إمكان لها، وهذا أعجب أنواع الجهل، وإن أهم أسباب الحاكمية هو الاستقلال والانفراد فلهذه الخاصة الأساسية المهمة جداً ترد الحاكمية الإلهية في درجة الربوبية المطلقة... وكما أن الانتظام الأكمل والانسجام الأجمل في نهاية الدرجة على وجه الكائنات من المجرات إلى النباتات والحيوانات والمعادن وحتى الجزئيات والذرات شاهد عدل وبرهان باهر على تلك الفردية والوحدة، لا يقبل الشبهة بجهة أصلاً، إذاً لو كان تدخل الغير لفسد هذا النظام والانتظام وموازنة الكائنات الحساسة لغاية الحدّ... هذا النظام المكمل الخارق:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}/الأنبياء22/، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}/الملك3/. وكما أن الأنبياء والأولياء كلهم يجدون أعظم أذواقهم وسعاداتهم في كلمة التوحيد... وإن جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تثبت قطعاً رسالة النبي الكريم وحقيقة وظيفته وصدق دعواه... وهناك الدلائل الدافعة التي تشهد على درجة قيمة الشخصية المعنوية للذات الأحمدية التي أدت تلك الوظيفة أتم أداء، وعلى أن تلك الشخصية المعنوية هي شمس هذه الكائنات في مصنع هذه الكائنات... يصفي الأشياء، نعم إن الحياة جهاز للتصفية، ويطهرها وينورها دائماً في كل جانب، وكأن ذلك الجسم الذي هو وكر الحياة مصيف ومعسكر ومدرسة لقوافل الذرات لتوظيفها وتدريبها وتنويرها، فكأن ذات الحي المحيي يلطف هذا العالم الدنيوي السفلي المظلم وينوره، ويعطيه نوع بقاء، ويعده للسفر إلى عالم باقٍ، وذلك بواسطة جهاز الحياة هذا... حتى إن المطر لم يجعل وقت نزوله تابعاً لقانون مطرد لكونه نوعاً من الحياة والرحمة، حتى تفتح الأيدي إلى الباب الإلهي في كل أوقات الحاجة لطلب الرحمة... فلو كان المطر تابعاً لقانون كطلوع الشمس لما سئلت تلك النعمة الحيوية كل وقت بالرجاء علامة الحصر والتخصيص، إن الرزق والشفاء والغيث تأتي من جانب الحي القيوم بدون حجاب، وإن ذلك الشافي الحقيقي هو الذي أعطى الأدوية الخواص وخلق فيها التأثير{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}/الشعراء80/،{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}/الذاريات58/، {فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، نعم كما أنه تخير عناصر الإنسان عن عناصر الكائنات، وعظامه من أحجارها وصخورها، وشعراتُهُ من نباتاتها وأشجارها، والدم الجاري في بدنه أنهارٌ، والمياه المختلفة عن عينه وأذنه وأنفه وفمه تنبئ عن عيون الأرض ومياهها المعدنية وتدل عليها وتشير إليها, كذلك يخبر روح الإنسان عن عالم الأرواح وحافظته عن اللوح المحفوظ وقوته الخيالية عن عالم المثال وهكذا يخبر كل جهاز منه عن عالم ويشهد على وجوده قطعاً...
الكائنات خُلِقَتْ للإنسان، والإنسان خُلِقَ للمعرفة والمحبة الإلهية، ولا ريب إن الإنسان سيذهب إلى دار بقاء ويصبح مظهراً لحياة باقية قطعاً، وعلى كل حال.
وإن محمداً رسول الإنسانية ذلك المرشد الأعظم والإنسان الأكمل الذي يعلم قيمة الإنسان ووظائفه وكمالاته يثبت بإظهاره جميع الكمالات والوظائف في حق الإنسان في نفسه ودينه بأكمل صورة... وإن المقصود والمنتخب عن الكائنات هو الإنسان، كذلك أن المقصود الأعظم والمنتخب الأقوم عن الإنسان والمرآة الزهراء للأحد الصمد هو محمد عليه الصلاة والسلام...
وأخيراً: إن الإنسان يصير مرآة للكمالات الإلهية.. والإنسان يفهم قوة خالقه المطلقة بعجزه المطلق, ويفهم درجات قدرته بدرجات عجزه... ويفهم قوة خالقه بضعف نفسه... وهكذا يصير بصفاته الناقصة مرآة شبه مقياس لأوصاف كمال خالقه, وتختم خاتمَ أحديّة على وجه كل شيءٍ وتعلن بأسمائها العظمى وبألسنة لا نهاية ولا حدّ لها...
- أجيالنا عرفاناً بروحهم الانتماء للوطن شريان الحياة للشعوب ومقياسٌ لا يقبل الريب في صلابتهم وصمودهم حين يداهم الوطن الخطر... فهم درعنا الواقي وزادنا الخالد الذي لا تمحوها الأيام....
- لقد انتهى العصر الحجري بنقص في الحجارة فقط ونحن بحاجةٍ إلى ثقافة الصمت... وعملنا يسبق كلامنا.....ومادامت قدراتنا العقلية محدودة فإنه من الضروري أن نكتفي بالتفكير بالفن الممكن....
- والفرق الجوهري بين الشعوب المتخلفة و المتحضرة ينحصر في كلمةٍ واحدةٍ هي قدرات العلم التطبيقي والتجريبي.
- علينا أن لا نستهين بالمستضعفين في الأرض:
لا تستصغرنَّ صغيراً في صغارنه إنَّ الذبابـة تدمـي مقلة الأسـد
- المفكر القومي دون تعصّب هو حصان جامح... تمتزج فيه أنشطة الثقافة بروح الانعتاق... والحرية بمعناها الحقيقي هي حرية العقول لأنه من دونها تتخبط الأمم والشعوب في وهدة الظلام نتيجة الانغلاق العقلي والاستبدادي وامتدت نيرانه لتحرق كل ما يحيط به فالمسرح اليوناني شاهد ومعبّر عن نعمة الاستنارة.... ونشأ في اليونان بلاد الديمقراطيات ولم يكن لينمو ويترعرع إلا في ظلَّ إدارة حكيمة وعقلية مستنيرة على مستوى الحكم والشعب...
- صحيحٌ أن التاريخ وليد ظرفٍ موضوعي خارج عن إرادتنا وظرف ذاتي يخصُّ كل شعب على حدة ولكن يبقى للفرد تأثيره على تطور الظرف الذاتي في علاقته بالظرف الموضوعي محلياً وإقليميا ودولياً ويحفل التاريخ بنماذج لشخصيات استغلّت الظرفين الموضوعي والذاتي لصالح شعوبها ورقيها وأخرى استغلتها لتحقيق طموحات شخصية أو أطماع فئوية أتت على شعوبها بأوخم العواقب...
- إنه من الواجب الملّح علينا أن نبني جيلاً جديداً معافى بدنياً وذهنياً مشرئباً بالحق والعدل وفي ظلّ مؤسسات وقوانين تخدم الأمة والوطن... علينا أن ندرك ببصيرتنا الثاقبة... أن نعمة الانعتاق والانطلاق من قمقم التبعية والعبودية يدفعنا إلى التفاؤل بمزيد من الحرية السياسية والثقافية ومن غير المعقول أن تمر ريح التغيير التي تعبر كل بلدان العالم دون أن تقتلع أشجار الأفكار القديمة المزمنة والنظم السياسية الغائبة عن الوعي... وأن نستعد على المستوى السياسي و الثقافي لكل هذه التغييرات وإلا سوف نتحول إلى غرباء في عالم غريب... وعلينا أن لا ننتخب لخدمة حزب وإنما لخدمة أمة وخدمة وطن... أن يكون نضالنا خدمة للمقدستين:(الأمة و الوطن)، وإن الذي يبصر الغاية والمرتجى سينكشف له الطريق، لأن أصحاب القضايا همهم الأول قضاياهم وليس أشخاصهم...
- وأنهي كلامي بقول أمير الشعراء:
وليـس الخلد مرتبةً تلقّـى وتؤخذ من شـفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همـم كبــار إذا ذهبت مصادرها بقينـا
وآثار الرجـال إذا تناهـت إلى التاريخ خيـر الحاكمينا
وسرّ العبقرية حين يسـري فينتظـم الصّنائع والفنونـا
وأخذك من فم الدنيـا ثنـاءً وتركك في مسامعها طنينا
أرصفة المدن السورية... ملتهبة بنار الحريق , وهجير السعير... تتلظى بشظايا الموت الرهيب... تنعي الأرصفة السوداء بألسنة حدادٍ هول الفاجعة، وجهنم الكارثة... الموت يحمل في ذراعيه مناجل الحصاد يحصد بها رؤوس الأهلين والأحبة و الأبرياء، شوارع المدن يعقد فيها الموت أعراس الفناء بدوي القنابل وقصف الطائرات وتحيلها رماداً ملطّخاً بأشلاء الموتى تنطق بمقابر جماعية... وجثث متفسخة ترتل صحائف المآسي الدامية إنها أسطورة الملحمة الباكية... يرقص الموت في شوارعها وزواياها رقصة الوحش الكاسر حينما يصطاد قطعان الخراف والنعاج... إنها مأساة شعب طيب نشيط متسامح ووطن شامخ عزيز مقتدر... إنها سورية الحبيبة...
ويا درة بين المزابل ألقيت ويا جوهرة بيعت بأبخس قيمة
خاضت الأنظمة الحاكمة المتعاقبة ثلاث حروب ضد العدو وباءت بمسرحيات هزلية هابطة مضحكة حيناً ومبكية حيناً آخر وبالهزائم الفاضحة المتتالية...
وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغـزال
إنه قدر أحمق الخطا، إنها سورية تكابد مرارة الخذلان ووصمة عار...
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
إنها قتال داحس والغبراء التي دامت أربعين عاماً...
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
لقد حولت الحروب العربية والنزاعات الأهلية المواطن إلى فأر مذعور هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر والرعب من القصف العشوائي والقتل على الهوية واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفذ كل شيء وهو يتحول بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحركه فقط غريزة البقاء.
إن الوطن السوري يكفي لمائة مليون إذا طبقنا ميزان العدل والإنصاف... ألم يقل الشاعر القروي - رحمه الله - ذات يوم في حبة القمح بأنها مشطورة إلى نصفين... نصف لك ونصف لأخيك...
من حبة الندى اتخذ مثل الندى يا من صرفت عن الندى يمناكا
كأنما الشـّقُّ الذي في وسطها لك قائـل نصفي يخص أخاكا
وحالتنا المأساوية تعبر عن الانفصام بين السلطة والجماهير ولو أن الإنسان الوطني خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حد معقول أن يتشارك في صنع القرارات السياسية التي أثرت على مصير حياته لتغير كثير من معالم الصورة التي نعيشها... دماء ودماراً، إن لدينا ذاكرة مثقلة بكل مرارات الماضي، وثارات التاريخ محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والاثنية والطائفية الدينية... وكلما وقفنا على أبواب المستقبل ردتنا هذه الذاكرة إلى الخلف... وإذا كنا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة بشكل عاطفي ووجداني فإن هذا الحلم كان مثالياً راديكالياً متطرفاً.
علينا أن نسأل أنفسنا... لماذا قتلنا عمر الفاروق الذي ملأ الأرض عدلاً وعثمان بن عفان الذي ضحى بماله ونفسه في سبيل بناء دولة العدل وعلى الذي حمى الحمى وطبق المبدأ على نفسه وأولاده أولاً وعمر بن عبد العزيز الذي عاش في عصره المسلمون وقد تخلصوا من الفقر نهائياً، ولماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت الثنائية والثلاثية والرباعية... لماذا ترتفع شعارات الوطنية والحب والعدل في لحظة ونلتجئ إلى التباغض و الأحقاد و حمل السلاح... علينا أن نتخلى عن هذا الحلم المثالي هذا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءاً... ونتجاوزه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون كرامتنا وثروتنا ووطنيتنا... إنها مهمة المفكرين والحكماء من شتى المكونات السورية في نسيجها البديع... دعوها لهم دعوة إلى أهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس بشرط أن لا نصل إلى مرحلة العداء تحت الأشكال الظاهرة تقبع تناحرات القبلية في أقطار شتى...
إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين أتو من كل بقاع الأرض ومن ملل مختلفة متنوعة, لا تجمعهم اللغة والجنس والعرق والتاريخ المشترك, وهم رغم ذلك متفقون موحدون لا يختلفون وإن اختلفوا
لا يتقاتلون...!!
في الهند شعوب كثيرة متباينة ولغات عديدة أكثر من مائتي لغة... وأديان لا تعد ولا تحصى وفوق ذلك هم مخلصون للهند و مدافعون عنها دفاعاً مستميتاً...
وفي السويد وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية... هؤلاء جميعاً يجمعهم وطن واحد وهدفهم بناء وطنهم و تعميره والعيش فيه بالمحبة والعدل والإخاء...
إننا بأمس الحاجة إلى ثقافة المحبة والتسامح و الإيثار... وكل هذا مدونٌ في صحفنا السماوية المقدسة ولكننا نرددها بألسنتنا لنصب الفخاخ لإخوتنا ومليء الجيوب وتجويع الآخرين... يساورني الخجل الجم الغفير حين أرى طائراتنا الحربية تناور في سماء المدن السورية بعنجهية ماكرة... يا ليتها رأيتها وهي تحلق في سماء حيفا و يافا و هضاب القدس و الجولان... نعم... عليَّ أسدٌ وعلى الآخرين نعامة , يؤرقني هدم البيوت على رؤوس ساكنيها وقتل الأبرياء من الولدان والشيوخ والنساء من الشعب المسكين... ليست المدن هدفاً لمدافعنا وراجماتنا بقذائفنا وقنابلنا...
حينما هوجمت سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي وكان البطل الشهيد يوسف العظمة وزيراً للدفاع وهو من أصول كردية من البديع السوري الخلاّق عقد العزم أن يتوجه مع رفاقه إلى ساحة ميسلون لمواجهة العدو وجهاً لوجه نصحه الحكماء من ذويه بالتخلي عن المواجهة لأنه لا تكافؤ في القوة العسكرية من حيث العدة والعتاد وخاطب البطل جنوده قائلاً: لا يجوز أن نقاتل بين الأبنية والمساكن لأن العدو يلجأ إلى القصف... وقتل الآمنين وهدم مساكنهم... علينا أن نقاتل في ساحات البطولة وإني ذاهب إلى حتفي إلى الاستشهاد لكي لا يكتب التاريخ أن فرنسا دخلت دمشق بدون مقاومة... وسنقاتل في ساحة ميسلون ونرويها بدمائنا ولن أسمح لفرنسا أن تجعل دمشق منتزهاً لها... و تقدم إلى ساحة ميسلون و بأسلحة بدائية... قاتل حتى استشهد... وأنشد الشعراء الوطنيون عنه بأعذب الألحان وأدق الكلمات وبقواف تقطر دماً ودمعاً تخليداً لبطولاته...
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيهـا غبـار التعب
إن التراجيديا السورية لا تحل في أروقة الأمم ولا في المحافل الكولونيالية... إن السوريين هم الجديرون بحلها... فالأولى أن يجتمع النخبة الممتازة الوطنية النزيهة التي تحب سوريا وشعبها قولاً وعملاً وتضحية أن يرفعوا شعار السلام لأن السلام أقوى من قعقعة السلاح ودوي المدافع... وهدير الطائرات , ونسعى جاهدين بدون تلكؤ لحقن شلال الدماء... ومسلسل الموت الرهيب، أما كفانا قتلاً وتدميراً... زوراً وبهتاناً... على كل فرد في هذا الوطن الغالي، أن يكون وطنياً قبل أن يكون سياسياً حزبياً أو مصلحاً أو كاتباً أو شاعراً، أن يتحلى بالوطنية... أن يؤثر وطنه سوريا على نفسه وأهله وبنيه وبلده... لأن سوريا هي الأشمل والأرحب... لأن سوريا هي الرحم وسكانها ولدوا من ذاك الرحم، سوريا هي السور الذي يحمي كرامة الأمة والحصن الحصين لأهلها...
إننا في سوريا أسرة ضمائر الرفع المنفصلة ( أنا أنت نحن ) لنرفع وطننا إلى أعلى الأعالي حباً وسلاماً وتسامحاً ونبلاً.
بنيَّ: أتحدث إليك بحكمة الستين.....
بنيَّ: لا تستخف بالأشياء وأيّ شيءٍ تلمسه فهذا الكوب بين أيديك
لا تعلم من شفاه مَنْ ومن خدود أيّة غانية....
اعلم يا بنيَّ: تعلّمتُ نصف معلوماتي من أنصاف المجانين... ومَنْ خُلِقَ لأن يزحف لا يستطيع أن يجد للطيران سبيلا...
بنيَّ: لا يوجد حقَان متصارعان بل يوجد باطلان متصارعان وصراعٌ بين الحق والباطل...
بنيَّ: الإنسان الحكيم كشجر الحور أصلها ثابت وفرعها في السّماء يتمايلُ وينسجم مع الأجواء... وكل شيءٍ يعود إلى أصله... وليست العبقرية أن تخترع شيئاً ما بل العبقرية أن توجد أشياءً من لا شيء أو من أشياء تافهة...
بنيَّ تأمّلْ هذا البيت:
يخادعني العـدوُّ فلا أبالـي وأبكي حين يخدعني الصديق
بنيَّ: فإذا حَسُنَتْ أخلاق المرء كثر مصافوه، وكلَّ معادوه فتسهلت عليه الأمور الصّعاب ولانت له القلوب الغضاب...
بنيَّ: إيّاك والبخل بكلَّ أصنافه... إنه يشوَّه روحك ويحطُّ من إنسانيتك ومن قدرتك على الخلق والابتكار...
بنيَّ: خبزٌ جاف مع الراحة النفسية ألذّ من العسل مع الخوف والقلق، وخيمةٌ مع ستر أحبّ من قصرٍ فيه فتنةٌ...
بنيَّ تأمل في البيت التالي:
لا تسألوني المدح أو وصف الدّمى إنّي نبـذتُ سفاسف الشعراء
باعوا لأجل المال ماء حيائهم مدحاً وبتَّ أصون ماء حيائي...
بنيَّ: إذا أَمَرْتَ أن تُطاع فَأْمُرْ بما يستطاع...
بنيَّ: ليس المهم أن تفوز أو ترسب ولكنَّ الأهمَّ أن تنهض كلّما سَقَطْتَ.
بنيَّ: الغضب سلاح الأحمق وسيد الشرور والآثام... يقود صاحبه إلى المهالك واتخذ الحكمة في كلَّ باب من أبواب الحياة واتخذها سبيلاً لك حتّى في ساحات الكرَّ والفرَّ...
بنيَّ: من سلَّ سيف البغي قُتِلَ به، ومن هتك حجاب أخيه انكشفت عورات بيته ومن اقتحم البحر غرق ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبّر على الناس ذلّ، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن خالط الأنذال حُقِرَ، ومن جالس العلماء وقر... ومن مَزَحَ استخف به، ومن ترك الشهوات كان حرّاً، ومن ترك الحسد كان له المحبة بين النّاس... والسعيد من وعظ بغيره والأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين...
بنيَّ: تجنَّبْ مجالسة السّفهاء... وأغلى شيءٍ في الحياة صحتك وكرامتك...
بنيَّ: من كثر كلامه كثر خطؤه ومن كَثْرَ خطؤه قلَّ حياؤه ومن قلَّ حياؤه مات قلبُهُ... وإعجاب المرء بنفسه دليلٌ على ضعف عقله.
بنيَّ: كم من نظرةٍ جلبت حسرة وكم من كلمةٍ جلبتْ نعمة أو نقمة...
بنيَّ: الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب وداعٍ إلى التقحم في الآثام... ومَنْ تورّط في الأمور من غير نظر في الصواب فقد تعرّض لمفاجأة الغرائب...
بنيَّ: التدبير قبل العمل يؤمنك الندم ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
بنيَّ: طولب لعالم علم فكف، وعمل فجد... إن سُئِل أفصح وإن ترك سكت...
بنيَّ: من لانت كلمتهٌ وَجَبَتْ محبَّتهٌ... ومن لم يكن له حياءٌ ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة...
بنيَّ: اليأس أمرُّ من الموت فلا تيأسْ:
فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيـا بقاء
بنيَّ: صغتُ لك هذه التجارب بصياغة المداد الذهبي، ورسمتُ بريشةٍ بريقةٍ أين منها ريشة الرسامين... كلماتي ايجازٌ ناصعٌ لحمأة التجارب التي خُضْتُها في تاريخ حياتي... فالتزمْ بها تعشْ حياةً سعيدةً.....
هو: جعدان جعدان ولد في(ماسكان ناحية راجو في عفرين)عام1950
مدرَّس لغة عربية متقاعد أمضى في التدريس خمسةً وثلاثين عاماً... له أحد عشر كتاباً ونشر مئات المقالات في الصحف المحلية والعربيّة وناشطٌ ثقافي ألقى أكثر من خمسين محاضرةً في المراكز الثقافية في حلب والثورة والرقة وسلقين وقامشلي والراعي ومارع وأدلب والحسكة وعفرين وجنديرس وغيرها...
أنا لستُ أنا
جميــع الحقـوق محفوظـة للمؤلف
الكتاب: أنا لستُ أنا
المؤلف: جعدان جعدان
الطبعة الأولى 1436 هـ / 2015 م
لا يجوز الانتحال
تحت طائلة المساءلة القانونية
ملتقى النقد والإبداع
لبنان - بيروت
2015
أنا لستُ أنا
جعدان جعدان
أهدي كتابي هذا إلى نجلي البار أغلى الغوالي الدكتور مصطفى المختص بعلم الاقتصاد... الذي هدر ريعان شبابه لإنقاذ هذه الأسرة النبيلة من براثن المثلث الأعور" المرض والفقر والجهل "...
وإلى ولدي نوزاد الصّحفي والكاتب والشّاعر والقاصّ والأديب الذّائع الصّيت في المحافل المحليّة والإقليمية والعالميّة...
وإلى النجم المتألق في فضاءات السينما العالمية المخرج السينمائي والتلفزيوني ولدي المبدع رولان...
متمنّياً لهم وللأسرة جمعاء ولكلّ الصّالحين... ولذوي المبادئ المخلصة الحياة السعيدة، والعيش الرّغيد... والسّير نحو الارتقاء ... والإصلاح... والبناء...
والدكم المخلص
جعدان جعدان
سوريا
27/ 5 / 2015
قال جستنيان الفقيه الروماني والمفكر الكبير منذ أكثر من ألفي سنة:
( عجباً لشعوب شرق البحر المتوسط كيف لا يقبلون بحكم الآخرين، ولا يتّفقون في حكم أنفسهم بأنفسهم...؟؟!! ).
بحثتُ عن الله في المساجد والكنائس والمعابد والمحاكم والجامعات فلم أجده...!!! عثرتُ عليه في الكتب السّماوية المنزّلة على الأنبياء والرّسل... وفي الكتب الأرضية لقادة الفكر والحكماء أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو ونهرو وغاندي وطاغور وزرادشت وعلي وصلاح الدين ... أبصرته ببصيرتي متجلّياً في ابتسامة طفلٍ رضيعٍ... وفي نمارق قلوب الفقراء واليائسين الراقدين على الأرصفة السوداء... رأيته في قطرات المطر اللؤلؤيّة الذّهبية... وهيجان أمواج البحر... وتسبيح الرّعود والبروق... ساعة احتضار الموتى... ودموع مَنْ وَهَنَ العظم منه وبلغ من العمر عتيّا... ودموع الثّكالى واليتامى على قارعة الأرصفة النّاعية... شاهدته في ضمير كلّ مصلح يبتغي الحقّ والخير والمحبة والجمال...!!!
نحن ولدنا من هذه الأرض وفيها نحيا وإليها نعود... وكلّ حيّ هالكٌ... وحتى الكون ميتٌ ولكن أعمار الكون أطول... والأرض بالنسبة إلى الكون لا تساوي ذرّة متناهية في الصّغر بالنسبة لحجم هذا الكون الهائل الذي يتمدّد ويكبر في كلّ لحظة اتّساعاً بلا حدود... هذا بالنسبة للأرض التي نعيش فيها... وما أدراك ما حجم الإنسان في هذا الكون الذي يحيّر الألباب...؟؟؟!!!
فحياة الإنسان هي منحةٌ وهبةٌ من قيّوم السّموات والأرض... فلماذا نعكّر صفاء حياتنا بالعصبيّات والأحقاد والاحتراب...؟؟؟!!! بدلاً من إخاء الإنسان للإنسان والعيش بسعادة تحت ظلال الرحمة والتسامح والعدل والرّخاء... وإنه من لبّ الألباب وزبرجد الحق والحقيقة أن نستلهم من عظماء الفكر والإبداع أعمالهم وسلوكهم أمثال: " أنشتاين، نيوتن، وبسمارك، وغوركي،..." لنعمّر الأرض بأركانٍ ثلاث:" الأخلاق، والعلم، والإنتاج " لأنه لا خلود لأحد إلا الواحد الأحد الصّمد... وبروح المحبّة نَسْعُد جميعاً في عائلة نموذجيّة راقية...
كُنتُ مُدرِّساً لمادّة اللغة العربيّة أكثر من ثلاثة عقود... حينما كنتُ أدخل على الطلبة وأنا مضطرب النّفس كان إعطائي فاشلاً... وعندما كنتُ أتمتّع بانشراح الصّدر كان إلقائي ناجحاً... فالمدرّس الناجح هو مَنْ يتحلّى بحسن إدارة المتلقّي بسوسن المحبّة، ونسيم الرّحمة وسلامة الضّمير، فروح الحياة هي المودة الصّادقة... وهي من أسماء الله الحُسنى الودود اللطيف...
غايتي من وراء تأليف هذا الكتاب، وهو الكتاب الثاني عشر هي أن تتمتّع البشريّة بحياة سعيدة هانئة مطمئنة تجاوباً مع التنزيل الحكيم:{شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}/الحجرات13/. ونبذ الحميّات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة والتّخلّي عن/ أنا / النرجسيّة التي تحرق الأخضر واليابس... وأن نعتكف على الخَلْقِ والابتكار لإسعاد الأجيال الآتية ليقتطفوا من ثمارنا ولينعموا ما تركنا لهم من ميراثنا من قطافٍ دانية وخيراتٍ ناضجةٍ نافعةٍ...
أدعو في كتابي هذا أولي الألباب من الكتّاب والأدباء والمفكرين والشعراء والمصلحين والمثقفين الاحتكام إلى العقل والمنطق ... والتجرّد عن أهوائهم الذاتية التي لا تجلب إلا الخراب والدّمار... والوقوف بإخلاص ونيّة صادقة لتضميد الجراح وسفك الدماء... والجلوس على مائدة التسامح والغفران لإنقاذ الأمة من هذا الشقاق اللئيم والأليم حتى الأعناق...!!!
أرجو / أنا / العنجهيّة تذوب وتنصهر في / نحن / الجماعية النموذجية العالية بامتياز...{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}/العلق5/...
أقدّم كتابي هذا إلى أولي النُّهى... كما قال المعرّي في شروق يوم:
( لا إمام سوى العقل )... لعلّنا نضمّد الجراح ونبني عمارة الوطن... جسداً وروحاً على أسس المحبّة والإخلاص والوفاء والعدل والإخاء والتسامح الشامل البنّاء...
أدفع كتابي هذا إلى سجال الفكر الوهّاج عسى أن يكون بلسماً للجرح النّازف والدّم النّقي الطّاهر ....
في: 27 / 5 / 2015م
التوقيع
جعدان جعدان
كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُهُ يوماً على آلةٍ حدباء محـمول
لمّا رُزق أفلاطون بولدٍ بكى...!!! سأله تلاميذه: لماذا البكاء
يا سيّدي ؟؟؟!!!
قال أفلاطون: آلهة الخير ضعيفةٌ، وآلهة الشرّ قويّةٌ جبّارةٌ...!!!
إنّ ولدي هذا سيتعذّب، ويلاقي أنكاثاً وآلاماً مريرةً، وحياةً دميمةً... لأنَّ قوى الظلام طاغيةٌ... وأنا السّبب في مجيئهِ إلى هذه الدّنيا الغاشمة...! ودعا له قائلاً:
يا آلهة الخير ! امنحيه حظّاً سعيداً ليخدم به أصحاب العقول خيرٌ أنْ تمنحيه له عقلاً بازغاً يخدم به أهل الحظوظ...!!!
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشّـقاوة ينعـم
وهذه تصريحاتٌ من حياتي الفكرية... أنا لستُ من أنصار التّعصب العرقي والمذهبي... تجاوزت هذه الأخاديد الملتوية... مذهبي هو الإنسان... ومبدئي هو الإنسانية المعذَّبة... !!!
ولدتُ عام/1950م/ من رحم جبال الكُرد في قرية ماسكا- راجو – عفرين.. ومعناها في لغة الأم مصطبة الجبل، ومن أبٍ وجيهٍ في الصّدق والوفاء والفضيلة والمروءة والشّجاعة النّادرة ومحبَّة البؤساء من أهل المسغبة... وكان والده في العشرينات من القرن الماضي أحد الثوّار البارزين في مقاومة الفرنسيين... وقد جُرحَ في إحدى المعارك، وقُبِضَ عليه، وحُكِمَ عليه بالإعدام رمياً بالرّصاص وأُلقيت جثّتهُ في النهر الأسود الفاصل بين الحدود السورية والتركية... وافترستها الوحوش الضواري ونسور السّماء... كما قال الشاعر الخارجي:
ولكنَّ قبري بطنُ نسـرٍ مقيلُهُ بجوِّ السَّماءِ في نسورٍ عواكفِ
وكان والدي ينصحني يا بُنيَّ: كُنْ من أولي الألباب، ولا تكن من أصحاب الأزناب لا تكُن زَنَبَاً يا بُنيّ حتى للأسود...!!! وكنْ رأساً
ولو كان الرأس رأس حمارٍ...!!!
عشتُ في بيتٍ توارَثَ الرّجولة، وقول الحقّ... والوقوف بجانب الذين ينامون على الأرصفة السوداء في براري الفاقة والحرمان...
كنتُ توّاقاً للجلوس مع رجالات من أصحاب الفكر والقيم والمبادئ ورجال الدين والسّاسة الكبار...
ودفعتني عاطفتي السّاذجة... أن أعقد مع هؤلاء سجالاً منَ الصّداقات، وأُضحّي بنفسي وحياتي ومستقبلي فداءً وقرباناً لهم... وعندما هبَّتْ عليَّ عواصفٌ هوجاء، وحلّت بي الأنكال والأكدار، تركوني وحيداً أواجه مصير حياتي منفرداً في قفار الفقر والوحشة القاتمة... وبعد هذه التجارب والنوازل التي ألمّتْ بي خرجتُ بفكرٍ صائبٍ... أنّ هذه الرايات المرفوعة هي تضليل وخداع وأفخاخ لاصطياد الحمقى من أمثالي وإقحامهم في مدارك تخدم مصالحهم الغرائزية المنحطّة...
إنّ الثمن الذي دفعته علَّمني أن أكون حذراً من اليافطات الفخمة البرّاقة... وبعد مطالعاتي لكتّاب التّاريخ ورجال الفكر وعمالقة السّياسة ورجال البيان والشّعراء الكبار... تبيّن لي أنّ الشّرق كلّه ليس قادراً ومؤهلاً أن يقيم دولاً يسودها دستورٌ عادلٌ وصراطٌ مستقيم... ويربّي شعوباً على الحقّ والخير والنّماء والرّخاء والازدهار... لأنّ مورّثات الدّراماتيك التّاريخي التّراجيدي تنتقل من جيلٍ إلى جيل... ولا بُدَّ من تلقيح الأجيال الحاضرة والقادمة بمقوّيات العدل وحريّة الاختيار والحوار البنّاء والفكر المتنوّر والعقل الطّليق والحبّ النّبيل الإنساني...
إنّ الرسول العظيم بنى إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ في تلك الجزيرة الجرداء خلال ثلاثة وعشرين عاماً... فكانت معجزةً في التّاريخ البشري... واستطاع بعدله الإنساني أن يستقطب حوله أقطاباً من كلّ الملل والنّحل والطّوائف والأعراق... وبنى دولة العدل في فترةٍ قصيرةٍ من حياته... وبفضله دخل العربفي محراب التاريخ فقدَّرهم الشّعوب واحترمهم احتراماً جمّاً بقيادة معلّمهم الأوّل الرّسول الملهم...
وحينما التحق الرّسول الأعظم بالرّفيق الأعلى استيقظت العصبيات القبلية من رقادها... واستفحلت في هذه الجولة أكثر خطراً من العصبيات القبلية من ذي قبل...
وبَرَزَتْ إلى ميدان الواقع المنازعات والمخاصمات الدّموية مهرولةً نحو من هو أجدر بالخلافة... وزلزلت كيان الأمة ودكّت دكاً دكّاً من قواعدها وأصولها... فتفتّت الأمة وانقسمت إلى شيع وأحزاب متناحرة... فذهبَ عليٌّ وأولاده وذريّته ضحيّة هذه العصبيّات الدّسيسة المقيتة... حدث أول انشقاق في كيان الأمة... واستلم معاوية الخلافة، وطفق يلاحق معارضيه ويضرب بمقامع من حديد كلّ معارضٍ وكلّ من لم يقدّم الولاء له...
الأمويون أثاروا النَّعرات القبليّة لإحياء التّباغض والأحقاد ليتمكّنوا من استمرارهم في سدّة الخلافة... وظهر شعراء النّقائض/ جرير وفرزدق والأخطل / وخرج الشّعر من مساره الصّحيح وهبط إلى الحضيض في الهِجاء والكلام المبتذل الرّخيص...فأصبحت الأنانيّة والسفسطائيّة الفارغة هي سيّدة المحفل الشّعري والأندية الثقافية الأدبيّة... ومارس الأمويون ذلك لإلهاء الأمّة وإقحامها في اللغو والهذيان والثّرثرة الجوفاء...
وجاء العصر العباسي ردّاً عنيفاً وثورةً ناقمةً على الأمويين والذين فجَّروا هذه الثّورة من الأعاجم وعلى جبهتها الأولى القائد الكردي البارز أبو مسلم الخرساني إذ أعلن نجاح الثّورة... وكان العباسيّون مختبئين ومتوارين عن الأنظار، فخرجوا من مخابئهم واستلموا الخلافة في بغداد، ومن هؤلاء أبو العبّاس جعفر المنصور الملقّب بالسّفاح...
وكان أبو مسلم قد قضى على التمرّد والعصيان الذي قاده عمّ أبو العباس السفّاح في حلب...
وحرّك السفّاح التّعصّب الغوغائي واستدعى أبا مسلم إلى قصره وقتله غدراً في رواق قصره... ووزّع الدّنانير لحرّاسه الذين رافقوه بأنه تخلّص من شعوبيٍّ لئيم..!! ولهذا تفرّغ لتصفية أعدائه من الأمويين ومن الموالي والأعاجم الشّعوبيين ليتفرّد في السّلطة بنفسه ولبني العبّاس... وهم الصّفوة الممتازة لحكم البلاد...
والأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام بنيّة صالحة وبإيمان قويٍّ ثابت أجدر من العرب الذين كانوا يفكّرون باعتلاء المناصب... وظهر منهم علماء كبار في مختلف جوانب العلم ومنهم:/ ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي وابن تيمية والإمام أبو حنيفة وابن خلكان وأبو حامد الغزالي.../ وغيرهم من نوابغ العلماء الأجلاء... الذين خدموا الإسلام بصدقٍ وإخلاص وتفانٍ منقطعِ النّظير...
ولكن تعرّضوا للاضطهاد والتّنكيل والقتل الوحشي... ومنهم الكاتب الكردي البارز ابن المقفّع"روزبة " الذي قُتلَ أشنع قتلة بحجّة الزندقة والارتداد... وغيره أمثال:
/أحمد بن حنبل، وسعيد بن المسيب وابن تيميّة والحلاّج وابن جنيد وابن عربي / وغيرهم من قوافل طلائع الفكر الإنساني...
تميّز الحكم الأموي بالذّكاء الخارق، ووظّف للتشبّث بالسّلطة للأمويين وتصفية كلّ من يعارضهم والتّنكيل بهم... وشجّع الأمويون المذاهب التي تخدمهم والنّظريات الدّينية منها نظريّة الجبر الإلهي التي تقول: بأنّ الخلافة هبةٌ من الله وصادرة من اللوح المحفوظ...
أمّا النّظريات التي تحتكم إلى العقل والمنطق كنظرية المعتزلة حاربوها حرباً شعواء بلا رحمة، وتوارت هذه النّظرية عن ساحة الفكر، واضمحلّتْ بجبروت الاضطهاد...
أمّا العصر العباسي فقد تجلّى فيه التنوير المقرون بالتعصّب والانغلاق والانتقام منَ الذين اضطهدوه... فلم يبادروا إلى تلاوة قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}/الأنفال60/. فلم يوفّروا للعلماء طقساً ملائماً ومناخاً مناسباً للإبداع والاختراع والإسراع في بناء التقنيّة الحديثة...
إنّ الأوربيين عانوا مطاحنات دمويّة بين المذاهب المسيحيّة من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت... وأُهرقت دماء غزيرة، وعاشوا في ظلمات الجهل والمرض والفقر من جرّاء المخاصمات والاحتراب فيما بينهم... وبعد هذه المآسي والآلام استيقظوا وركنوا إلى حكمائهم وانتبهوا إلى مفكّريهم وأدبائهم وشعرائهم...
ففي بداية القرن السّادس عشر في العالم الغربي قامت النّهضة الأوربية بشكل عفوي من إبداعات علميّة واختراعات تكنولوجيّة:
" جيمس واط " اخترع المحرّك البخاري وبنى مصنعاً لتصنيع المحرّكات. والعالم سوهر في بريطانيا، وأديسون المصباح الكهربائي والمولّد الكهربائي وجهاز تسجيل الصّوت، وباسونز الأيرلندي صنع التوربين البخاري عام 1884م وأسس شركة لاختراعه وإنتاجه في بريطانيا، واخترع أوتو الألماني محرّكاً يشتغل بالغاز ثمّ طوَّر دملر
ما صنعه أوتو وبعدئذٍ صنع كارل بنز محركاً يعمل بالنّفط...
واتفقوا جميعاً بإقامة مصنع مرسيدس المشهور بصناعة السيارات... وبدأ تفجير الذرّة من قبل العالمين الألمانيين أوتوهان وستراثمان في برلين العاصمة الألمانية عام 1938م ممّا أثار حفيظة الغرب وقلقله من إمكانية حصول هتلر على صنع السّلاح النووي...
وفي عام 1940م بادرت أمريكا بصناعة القنبلة الذريّة جلبت لصناعتها علماء من أوروبا أمثال " نيلزبور الدانماركي، وفيرمي الإيطالي، وهانزبيت، وجيم فرانك من ألمانيا، وجورج كوستيافسكي من الاتحاد السوفييتي " وأسست أمريكا وأنتجت شركة " جنرال داينمكس "، وصنعت أحدث الطائرات الحربيّة واختراعات نووية والصواريخ عن طريقة الإلكترونيّات الصناعيّة الحربيّة...
ووصلت أمريكا في القرن العشرين في مجال العلم والتقنيّة الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة ما لم تخترع البشريّة في تاريخها الكوني في مضمار التفوّق التّقني والعلمي...
فالعباقرة يحققون أحلامهم... أما السّاسة الغاوون يسخّرونها لمآربهم القذرة...
وأنفق الرئيس الأمريكي السابق ترومان في بناء المفاعل النووي عام 1940م بتصنيع القنبلة الذريّة بجهود علماء من بلدان العالم، وتمَّ تفجيرها بنجاح، وصرف ترومان أموالاً باهظة لنجاح القنبلة الذرية بدون علم من الكونغرس... ليكون عمله في غاية السرية متحمّلاً المخاطرة في محاكمته إذا فشل، ومغامراً بسمعته في سبيل بناء القوة لأمريكا... وأبلغ الجنرال كروفر الرئيس ترومان الذي كان في بوتسدام لتوقيع معاهدة استسلام ألمانيا ببرقيّة التهنئة بنجاح تفجير القنبلة الذرية في تموز عام 1945م وفي زمن الرئيس روزفلت بنى مصنعاً للمفاعل النووي وسمّاه مشروع "يانهاتن "ألمانيا بخبرة عالمين ألمانيين هما " أتوهان وفزتز ستراثمان "...
في عام 1907م كان كامبل بنرمان قد تولّى رئاسة الوزراء البريطاني، وكان يومها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس... وكان كامبل أديباً ومفكراً فجمع حوله حشداً من كبار العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء وحاورهم وطرح عليهم سؤالاً: كيف ننقذ بريطانيا من الانهيار والسّقوط كما سقطت وانهارت إمبراطوريات عظيمة في التّاريخ كإمبراطورية ميديا وآشور والإمبراطورية الإسلامية والعثمانية...
وبعد نقاش طويل وحوار مثير اتفقوا على قرار واحد هو: أنَّ هناك خطراً يأتي من جنوب وشرق البحر المتوسّط... هؤلاء القوم لهم تاريخٌ واحدٌ وأرضٌ واحدةٌ... ولهم قيمٌ عظيمةٌ ويحاولون أن يتّحدوا فقرّر كامبل مع اللجنة إقامة دولة غريبة في فلسطين تفرّقهم وتمزّقهم وترتبط بأوروبا بروابط مصلحية فبعد عقدٍ من الزمن استعمرت بريطانيا فلسطين 1917م... والرئيس الباكستاني السابق" علي بوتو " عندما علم أنّ الهند صنعت القنبلة النووية تحمّس وقال: سنصنع قنبلة نووية حتى لو أكلنا أوراق الشجر وقاسينا الجوع...
الدّول النفطية عام/1976-1977م/ صرفت /188/ مليار دولار في القصور وللملك والأمير وحاشيته...!!! تعاني هذه الممالك والإمارات عجزاً مالياً من الفوائض الهائلة لم تصرف في التقنية العلميّة...!!!
يتوفّر لدينا جلّ المقوّمات لتصنيع القنابل النووية الحربيّة من أدمغة... ومواد... ومال... ولكن نفتقر إلى الإرادة والهويّة الوطنية والعدل وسيادة القانون...!!
الحاكم المستبد يجمع حوله هياكل ذات أقنعة مزيّفة من المنافقين المأجورين... ويلاحق المخلصين الوطنيين من المبدعين...
إنّ التقدّم والبناء تابع لإرادة الدولة الحاكمة... فإنّ ما يبنيه حاكم معين قد يهدمه خلفاؤه من بعده كما فعل خلفاء محمد علي باشا في مصر...!!!
إنّ مرض غرور العظمة يدمّر البلاد...!!! رفض نابليون الأول اقتراح أحد المهندسين بإدخال البخار إلى سفن الأسطول الفرنسي... وهذا سبب تأخّر وتخلّف الإمبراطورية الفرنسية عن الإمبراطورية البريطانية..
وساهم السلاطين العثمانيون في تخلّف الشّرق كلّه... والحكام المستبدّون يصرفون أموالاً هائلة على أجهزة الأمن ليحفظوا أنظمتهم مع أنّ مهمّة الأمن أن يراقب تحركات الأعداء... !! هؤلاء المستبدّون يحيطون أنفسهم بأجهزة أمنية تحت مسمّيات متعددة... ويعلم المستبدّ أنّ شعبه يكرهه لأنّه يهين شعبه...
النّظام الدّيمقراطي يزيح الحاكم بسبب أخطائه كما أزيح نيكسون بسبب أخطائه وذلك في عام 1974م، وفي عام 1993م أُحيل قادة الدولة في إيطالية إلى المحاكمة بتهمة الفساد... إنّ الأنظمة الدّيمقراطيّة توفر الشّروط المناسبة والملائمة لعلمائها المهاجرين وعباقرتها التّائهين للعودة إلى وطنهم... وتدعو أصحاب رؤوس الأموال إلى وطنها ومساهماتها في بناء اقتصاد بلادها...
والعالم المصري أحمد زويل هو الذي حقّق إبداعه في أمريكا لأنّ ظروف بلاده مضطربة...
إنّ الأنظمة التي تعتمد على مُبدعيها ومخترعيها وعلمائها هي تتقدّم في مراكب التقدّم والتفوق التكنولوجي العالمي... وتوفّر لشعبها الأمن والأمان والاستقرار وسيادة القانون وحريّة الكلمة والحوار الهادئ الرزين الرّصين في أجواء من المحبّة والاحترام... تدفع بشعوبها إلى الكرامة والمحبّة والمهابة وسيادة الوطن...
والإمبراطوريات تنهار حينما تخرج عن مبدئها الإنساني كما تنبّأ العالم الأمريكي بول كيندي عام 1989م في كتاب " صعود وسقوط القوى العُظمى "وقد تحقّقت نبوءته في الاتحاد السوفييتي... وستتحقّق نبوءته في أمريكا... "
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}/ص88/.
9 / 10 / 2014م
أي بُني: عمر الإنسان قصيرٌ في هذه الدّنيا الغادرة... وإنّ الإنسان البائس المسكين لفي خسر لأنه محكوم عليه بالفناء... وهو يدرك ذلك... وبقيّة الكائنات لا تدرك...
بنيَّ: الحياة تبتلع الضعفاء وتستهين بهم... وهي تحترم الأقوياء... وقلما تبتسم فإذا ابتسمت لك فابتسم لها
هيِّأ نفسك يا بُني لأسوأ الاحتمالات وأحسنها ما دمت حيّاً لكي
لا تصطدم وتفقد توازنك... إنّ الشّرق غارقٌ في القيم والمبادئ الإنسانية لكنه يصطاد بها الغَفَلَة والحمقى لإرواء نزواته...
فكن حذراً يا بُنيّ... إنّ سرّ الحياة يكمن فيك فابحث عنه في أغوار نفسك...
إنّ الاستكانة وراحة النفس معدوم في هذا الشرق لأنَّ أشراره ينصبون أفخاخاً للرؤوس الآدمية... ولا يقام له ميزان العدل... لانَّ منبته أُسّس على جنون العظمة والفردية الطاغية، وهيئ نفسك للمفاجآت المجهولة الماحقة لأنها خارجة عن القوانين والموازين العقلية العادلة... فلا تعلم نفسٌ ماذا تفعل غداً ولا تدري نفسٌ خاتمة حياتها ؟؟!!!
اعلم يا بني إنّ الحياة مدرسةٌ فخُذ منها الصالح ودع الطّالح منها... تعلمك الحياة كيف تعيش ؟؟؟ وكيف تحيا ؟؟؟ وكيف تسعد ؟؟؟
إذا استعملت نباهتك وعقلك وحواسك الخمس الظاهرية والباطنية...
تدرك كيف تنسجم معها وتتآلف وتصاحب ؟؟؟!!!
والحياة لا ترحم السُّفهاء وأهل الأزناب الطويلة... تسحقهم سحقاً في طواحين الخزي والعار... وكل خطوة تخطوها ستدفع ثمنها إن عاجلاً أو آجلاً إن كان خيراً أو شراً... !!!
كن بئراً جافةً يرجموك الناس بالحجارة خيرٌ من أن تكون نبعاً يمرُّ العابرون أمامك غير مبالين بك ولا ناظرين
إليك... بني عبرات من بلغ به العمر عتيّا ووهن العظم منه... هي دموعٌ صادقةٌ نابعةٌ من تضاريس العظام... هي فضلات بقايا حياته تنسكب من أغوار الأحداق على خارطة الوجه....أجل!... هي دموع المستسلم الحيران... !!! كن كوخاً حقيراً يطرق بابك المتسكعون أفضل من أن تكون قصراً منيفاً... والطارقون ساهون عنك... أحذرك يا بنيّ من خلفاء الشرق يا عزيزي يضطهدون أولي الألباب وذوي الأقلام الراسخة رسوخ الجبال...
النّسر يا بني: لا يبني عشّه في الأودية والمنحدرات... بل يبني عشه في قمم الأعالي كي لا يورّث العبودية لأولاده وأحفاده...
وإذا أتتك السّعادة فكن معتدلاً وإن أتتك المآسي فكن وسطاً فلا إفراط ولا تفريط... لا تكن مدّاحاً لا لنفسك ولا للآخرين لأنك تستهين بنفسك وبالممدوح...
أي بني: إنّ مناخ الشرق يتحلى بالدّفء والخير والعطاء... وأجواؤه معتدلةٌ فيه الفصول الأربعة الجميلة... ولكن أشرار النفّاثات في العقد يلوّثون مناخه بأنفاسهم المسمومة وأفعالهم الشنيعة... ومناخ النفس الجميلة الهادئة تنبثق منها السعادة وراحة البال والنفس... الشّرقُ غنيٌّ بخيراته الظاهرية والباطنية ولكنها تذهب هدراً في جيوب العملاء السفلة والأعداء وأمريكا وأوروبا يبيعون ديمقراطيتهم الزائغة ببرميل من النّفط ولا يهمّهم سوى مصالحهم الساقطة وإغراق الشّرق بطوفان من الدّماء...
وإذا فقدت أخاً فابحث عن أخٍ آخر في العائلة البشرية...
الدنيا مهزلةٌ يا بُنيّ... وأنّ أذهان البشر حقائب خاوية تملؤها الحوادث والأفعال...
بنيّ: استخدم جودة التعبير والأسلوب الفائق وحسن الحديث والمنطق، واستخدام اللباقة مع جلسائك، وتجنّب الصراحة الواضحة التي تجرح الآخرين... وتدريب النّفس على عدم إساءة الظنّ في الآخر... واستخدام المجاملة في الوقت والمكان المناسبين... واستخدم التّلميح
لا التّصريح عندما تَسْتَاء من تصرف الآخرين... وتعرّف على ميول جليسك وطرق تفكيره، وتحدَّث معه ما يناسب أهواءه وميوله باتزان وهدوء... وتجنّب السبَّ والشّماتة حتى لأعدائك...
الدنيا جميلة يا بُني، ولكن يعكرون جمالها ونقاءها هم ذوو الوساوس الخنّس من أشرار البشرية...!!!
يا بُني: حاول مساعدة أهل الحاجة وتقديم العون لهم... قدّم الهدايا لمن تحب بحيث تكون في الوقت المناسب... درّب نفسك على تجنّب الغضب الطائش والانفعال المقيت والتسرّع اللاإرادي... واعتذر لتصرفك المكروه عمَّا بدر منك من تصرفات خاطئة... تقبّل النّقد وإذكاء روح النقاش، واحترام رأي الآخرين في فنّ الجوار، وابتسم لكسب روح الدعابة، والقدرة على فهم النكتة الذكية البارعة، وإسعاد الآخرين والمشاركة معهم في الفرح والمرح...
عليك أن تتعرّف على الحالة النفسية لجليسك... وتدريب نفسك على إقامة علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين... سرّ الذّكاء يا بُني
هو الابتسامة العذراء... والبصيرة النّافذة... والقدرة على التّصرّف في المواقف الاجتماعية الملحّة، والمرونة في تعاملك مع الآخرين...
روّض نفسك في الاعتراف بأخطائك، وتقبُّلك النقد البنّاء... واحرص على التواضع إنْ أتاكَ المجد... ولا تقبل المدح من أفواه المدّاحين... حرّر عقلك من سجن التّقاليد النّتنة.
والسياسة في عصرنا هذا: صداقةٌ ظاهرةٌ... باطنها عداوةٌ كامنةٌ...
وهذه الدّنيا التي أتيت إليها رغماً عنّي هي مسرحية هزليّة كقول المعرّي:
يا موت زُرْ إن الحياة دميمة يا نفس جدّي إنّ دهرك هازل
هذه الكلمات التي أبثّها إليك هي خلاصة تجاربي، وعصارة حياتي وذكريات إقامتي في هذه الدّنيا الهازلة على غير رغبتي...!!!
وداعاً يا بُني يوم يفرُّ المرء من صاحبته وبنيه ومن كلّ شأنٍ يغنيه واجعل هذه النّصائح سلوكاً عمليّاً لك لتتحصّن بدروعها وقايةً لك من مكر الأيام وتقلّباتها وغدر الزّمان.
وما المال والأهلون إلاّ ودائع فلا بدَّ يوماً أن تردَّ الودائع
بنيَّ: حينما المرء يتجاوز السّتين يتماثل أمام مرآة مخيّلته شبح الفناء فيوقن بأنه ضيفُ التراب:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}/طه55/.
بنيَّ: إذا نزلت عليك نازلة فالتجأ إلى أركان الإيمان والصبر والثبات...
فلا تجـزع لحادثـة الليالي فمـا لحوادث الدنيـا بقــاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلدا وشـيمتك السّـماحة والوفـاءُ
بنيّ: الوداعُ مرٌّ...!!! والموت أمرُّ، ولكن لا مفرّ منه... قضاءٌ مبرم... فتقبّلهُ باطمئنان راضٍ... فكلُّ حيٍّ هالك...!!!
بنيَّ: لا تطلب حاجتك من عبدٍ ذليلٍ اغْتنى... ومن شحيحٍ مارقٍ... وما أصعبَ الحاجات عند بخيل...!!! ولا تطلب من كريمٍ أفلس...!!!
اطلب مسألتك من ذوي السيرة الحسنة... ومن سليل المعالي... ومن أرباب الخير أهل السّمعة الطيبة...
بنيَّ: تعلَّم كلّ شيء في حياتك... الصّالح والطّالح، فاختر الصّالح وانْبُذ الطّالح...!!!.
21 – 11 – 2014م
أي بُني: غالباً زواج الشّرقي تقليديٌّ جامدٌ لا روح فيه...
تزوّج بنيَّ غادةً ذكيّةً تنظرُ في سيماه وجهك... تدرك ماذا تُريد، وتغوص في أعماق وجدانك... تهدّئك، وتذهب روعك، وتصرف عنك القلق، وتأتيك بطمأنينة النّفس وراحتها... ليس المهم أن تكون طبّاخة جيّدة، وترتّب أثاث البيت، ولكن الأهم أن تطبخ ما في قرارة نفسك من هدأة البال، وراحة النّفس... والخلود إلى متاع الراحة...
بُنيّ: قد يصدفك الحظُّ في عمرك مرّةً أو مرّتين... فحاول استثماره بعقلانيّة... وتواضع... وحكمة...
بُني: عامل أهلك وأولادك بالحُسنى... مهما بلغ السّيل الزّبى... وطفح الكيل كما عَاملَ سيدنا يعقوب أبناءه إخوة يوسف...
بُني: قادة الفكر والثقافة لا يهتمون بعمرهم الجسدي الميكانيكي الآلي، يُبصرون ما بعده... من عمر عقلي وروحي...
بُنيّ:إذا عشتَ عمراً طويلاً ستذوق مرارة الفراق والوداع...ستشهد رحيل أبيك، وأمّك وأحبابك المخلصين... فروّض نفسك لتودّع الأهلين والأصحاب... ولسوف يأتيك يومٌ وأنتَ ضيف التّراب... وتشدّ الرّحيل...
بُنيَّ: في بلادي يقدّسون المال والجنس، ويهرقون على قدميهما كرامتهم وشرفهم... ويُقاس المرء بما يملك من مال ولا يسألون من أين له هذا ؟؟؟!!!
بُنيّ:إذا جالَسْتَ جليساً، ولم تضع ملاحظاتك عليه... فأنت ناقص الرّشد... وسيكون الفشل حليفك في علاقاتك مع النّاس...
بُني: حتى تكون قوياً اعتمد على الأركان الثلاث: العلم، الأخلاق، الاقتصاد...
بنيَّ: لا تكره أحداً، ولا تتسرّع في قرارتك... واصدر قرارك عن بيّنة وبرهان...
بُني:العظماء يعلون ويسمون على القلاقل والهموم والأكدار، فهم المسيطرون على حوادث الليالي الظّلماء... ويقارعون قوى الظلام، وجحافل الاضطرابات النفسية بأسلحة المعنويات العالية المدعومة بأنوار العقل... وسراج الفكر...
بُني: عندما تتولّى مصير شعبك ووطنك... عليك أن تتحلّى بالشّجاعة والقول الحق...والعطف والرحمة والصدق والعدل والمحبة لشعبك ووطنك... إنّ المراوغة والخداع... والمكر... سيختم حياتك بالخزي والعار والفضيحة الكبرى...
بُني: إذا لَدَغَتْكَ أفاعي الأيام ستتحمّل الآلام بمرارة الصّبر الحزين...
بُني: إنَّ المدرِّس النّاجح هو من يغرس المحبّة في نفوس طلاّبه...
بُني: إنَّ السّجين مهما أوتي من رغد العيش يظلُّ مقموعاً مقهوراً...
وكذلك النّسر في القفص يظلُّ عبداً مُكبّلاً بأغلال العبودية...
بُني: عشْ مع العاقل الألمعي ولو على شظف العيش خيرٌ من أنْ تصاحب وتجالس سفيهاً وقد أغدَقَ عليكَ طيبات العيش...!!!
بُنيّ: اقرأ عن العظماء لتستفيد من علومهم وحكمهم وتجاربهم... واسلك سبيلهم
بُنيّ: الساسة الكبار من الأوربيين والأمريكان يضعون لنا ما وراء الكواليس حكومات مستبدة متناحرة ومتنازعة فيما بينها تغزو بعضها بعضاً لكي تكره شعوبها قيمها القومية والدينية والوطنية... وتنبذ مقدّساتها... وعندئذٍ تؤثر المستعمرين على حكامها المستبدّين وتلوّح بمقدمهم... وترحّب بهم بأكاليل الورود وتيجان الزّهور...
بُني: إنّ معظم المرضى النفسانيين هم أُناسٌ طيّبون صالحون...!!!
المجتمع الشّقيُّ الفاجر هو السّبب في دائهم الذين ابتلوا به...
بُنيّ: الدّيمقراطية ثقافةٌ نظريّةٌ وبراغماتيّة وسلوكٌ عمليٌّ بعيداً عن الذاتية المتطفلة وقريباً من الموضوعية المتنورة... ولا تترسّخ في الأفئدة والألباب بين ليلة وضحاها ولكن من خلال أجيال متعاقبة...
بُني: صراعنا في شرقنا الجميل... هو صراع الخلافة على السلطة، وضحايا هذا الصراع هم الأبرياء المسالمون والحكماء الصّالحون...
بُني: في المجالس الرسمية أتقن علم الكلام وفنونه... وحسن آداب الحديث... فاحذر الثرثرة فإنها تنزل من قدرك وتسقطك في زلات اللسان أشنع من زلاّت الأقدام.
بُنيّ: الطّيبون والصالحون والنبلاء كالبحر صفاءً ونقاءً وطهراً... وإذا خالفتَ قوانينه وسننه فإنه يغضب عليك، ويبلعك من حيث
لا يدري ولا يُبالي...
ولا تضع نفسك أمام مواجهة العاصفة والإعصار والطوفان... تنحَّ قصيّا... حتى يهدأ... ويستكين... ويخمد...
بُنيَّ: الطريق المجهول لا تمرّ فيه فإنها تجرّك إلى الغربة والضياع والهلاك...
بُنيّ: لا تصاحب أهل الفسوق فإنهم ليسوا بأصحاب لك...
بنيّ: اطلب رغيف خبزٍ من فقير شريف ولا تطلب من غنيّ فاجر فاقد الإحساس
بني: الهمّ ينخر الجسم كما ينخر الدود الشّجر.
29 / 12 / 2014
يا أيها الحقّ الحقيق...! تحية واحتراماً كالظل العالي... وحبّاً نابعاً من ينابيع الصراحة والصدق والوفاء... وشوقاً عارماً... كشوق الأمّهات لأفلاذ أكبادهنّ... وسلاماً كنسيم الهواء الذي يرتّل سيمفونية الحياة البهيجة عبر الدهور والأحقاب... يا سيّدي ويا سيّد الأسياد في أعلى الأعالي، كم أخرجتَني من جنّات وعيون؟ وكم هجّرتَني وأذقتَني ويلات الشقاء، ومقابر الأحزان، من بلدٍ إلى بلد؟... وكم أفقرتَني وأنا أقسم باسمك، ومن أتباعه الخلَّص، ورغم ذلك ألبستَني لباسَ الجوع والمسكنة، وجرّدتَني من الصحاب والخلاّن، وتركتَني وحيداً في براري الوحشة والعزلة والانفراد... وجعلتَني عبداً للناس جميعاً، وأنزلتَني من عرش القصور إلى سراديب الأطلال الدارسة، وأعماق الزنزانات المرعبة... وقذفتني إلى الصحارى العطشى تائهاً... حائراً في جزر المنافي الآسنة؟ وكم وكم نفيتَني إلى ممالك القلاقل والهواجس والوساوس، وجعلتَني أندب حظّي العاثر عبر ومضات جبران الرائعة:
أعطِني الناي وغنِّ فالغنا سرّ الوجـود
وأنين الناي يبقـى بعد أن يفنى الوجود
سيّدي الحق: لا تؤاخذني فيما إذا أخطأتُ معك أو تجاوزتُ من خلال فلسفتي الضحلة حدود الممكنات متجاوزاً الأسباب والمسبّبات... محلّقاً في الميثولوجيا والميتافيزيقا إلى عوالم الغيبيّات والقوى الخفيّة التي تحرّك هذا الكون المجهول ما وراء الحجُب، وإني أعتقد أن بيني وبينك الثقافات والوشائج، وقربى كقربى الأرحام على تباعد الديار، واختلال الأزمنة والأعصار، فهل النسب إلا نسب الروح ؟!!
أرجو أن تتحمّل أخطائي وأوزاري وتغفر لي تجاوزاتي الممنوعة وشطحاتي الغوغائية... وأن تستوعبني كما يستوعب البحر ويخفي
ما بين جوانحه الحيتان والحشرات وعناكب الفساد وفضلات البشر... وأنحني أمامك يا سيّدي، وأنا خادمك في كل الأحوال، فاغفر لي تطفّلي... وما أبوح به وفيما أعرضه عليك... كلّ ذلك ليطمئنّ قلبي ولتهدأ هواجس نفسي وليستيقظ الإيمان الباطني، ويخرج العقل من عقاله إلى سدّة الخلافة في الحكمة.
والآن يا سيّدي الحق، وإن أسأتُ الأدب معك، أرجو أن تصغي إليّ ولو بأذن واحدة أو بربع أذن... فيما أعرضه من جدليّتي التي استقيتُها من اطّلاعاتي المتنوّعة ومن ملاحظاتي، وتجاربي الحياتية...
يا سيّدي، وأنا خادمك الأمين... سيّدي،الضدّان المتناقضان يصنعان مسيرة الحياة الطافحة ببديع الزينة والازدهار... فأنت موجود بوجود خصمك... وخصمك موجود بوجودك، وكلاكما من مشكاةٍ واحدة... فلولاه لم تكن، ولولاك لم يكن... لولاه لم يكن لك أتباع من الحشود الهائلة الذين يلتفّون حولك، ويتسابقون قُدُما نحو الفناء ذوداً عنك. فلولاك لم يكن هؤلاء الجمهرة من الأنصار يهرعون خفافاً وثقالاً للدفاع عنك من خصمك اللدود... فأنت يا سيدي موجود بوجوده، وفانٍ بفنائه... سيّدي، السالب والموجب في صراعٍ مستمر، والسالب مع السالب لا يعجن عجيناً ولا يصنع خميرة، ولا يبتكر مادّةً؛ والذّكر إذا لم يتّحد مع الأنثى لا يُنجب ولداً؛ وكما أن إشارة (+) وحدها
لا تحلّ مسألة رياضية ولا تبني نظريةً، فهي بحاجة ضرورية وحتمية لإشارة (-) ناقص. وكما أن الصفر وملايين الأصفار لا يشكّل قيمة عددية ما لم يقترن بالأعداد... ويبلغ الصفر أو المعدوم حدوده القصوى إذا وقف في صفّه العدد... والعدد كذلك يرتفع بسرعة فائقة جداً إذا أدخل وصُفّ بجانبه الصفر، يقفز العدد إلى رقم هائل جداً يعجز الرياضي ويربك أولي الألعاب لا أولي الأزناب...
يا سيّدي، وأنا على أعتاب بابك طارقاً... أريد أن أثير الجدل حول مفاصل أسرارك الباطنية الخفيّة وأنا أحد أتباعك الأوفياء... إن الأرض الجرز إذا لم تُحرث ولم يمسّها الماء ينبت فيها الشوك والعوسج... والخير إذا ركن إلى العجز والكسل والاستسلام وتقاعس عن واجبه، وأخلد إلى الغفلة والسهو تمادى الشرّ وتجبّر وطغى على حساب ضعفه واعتلى الشرّ وتسنّم المجد والكبرياء وبات يصول ويجول في ساحات الكَرّ ضارباً أروع البطولات في ميادين الانتصارات... ومنذ الجبلة الأولى... هذا خصمك الباطل سجّل عليك نصراً تلو نصر... وأنت المهزوم المنكسر... يوم طرد آدم من الجنّة وقتل قابيل هابيل ومصرع الأنبياء بأيدي عناصر الشر اللئيم... واضطهاد المسيح... وقتل عمر وعثمان وعلي وذرّيته من بعده... ويوم قُتل عمر بن عبد العزيز مسموماً... ويوم لبّى أبو مسلم الخراساني دعوة أبي جعفر المنصور السفّاح، حيث قُتل في عقر بلاطه غدراً ولؤماً ووحشيةً... ويوم قتل ابن المقفّع (روزبة)، ويوم حُكم على جُنيد والحلاج وابن عربي... وغيرهم وغيرهم بالموت والرجم بالحجارة حتى الرمق الأخير... ويوم نكبة البرامكة الذين قُتلوا ظلماً وطغياناً... ويوم قتل وصلب عبد الله بن الزبير... ويوم قُتل سعيد بن المسيّب بسيف الحجّاج لسؤال سأله الحجّاج: هل أنا ظالم أم مظلوم؟ فردّ عليه أنت لستَ ظالماً
ولا مظلوماً، بل أنت الظلم بعينه... وإلى يومنا هذا وأنت المهزوم أمام جبروت خصمك فما السرّ يا سيّدي الحق؟
هل أنتما الخصمان ممثّلان بارعان في مسرحية الحياة، تؤدّيان دوركما كما يمليان عليكما في الدراما التراجيدية والكوميدية الأزلية عبر صراع لا تنتهي فصوله ؟!
فهل أنتما طلسمٌ مجهول في هذه الهيولى الكونية ؟
وقد التفّ حولكما أنصاركما لعقدة هذا الصراع الذي بدونه لا تستمرّ الحياة وليس لها من مذاق ومتعة ولذّة!!! أم أنتما خاضعان لامتحان وابتلاء لمشيئة إرادةٍ صمدية في المسطور اللوح الأزلي؟... هذا كل
ما في جعبتي من غموض واستفسارات جنونية راديكالية أقدّمها إليك
يا سيدي الحق الذي أنحني أمامك طول حياتي فأرجو أن تردّ عليّ بقولك الحق البليغ، وحسبي سفاهةً وحمقاً وبلادةً يا سيّدي !!!!
وحينما جاء دور الحق في القول الفصل أشرقت السموات والأرض بنور ربّها، وجاء البرهان الساطع منذ خلق الكينونة الأولى، واستفتح الحق بقول الحق: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتَنا إنك العليم الحكيم." إن من يعترض على مقتضيات إرادة الحكمة الإلهية يعِش مخذولاً مثل المستحاثّات العفنة، والرؤوس الخاوية والأفئدة الضريرة... إن
ما ذكرته من انتصارات... إنها انكسارات وهزائم متلاحقة... فالأحداث التي سردتها هي جميعاً خادمة لأولي النهى...!!
إنها تجارب حياتية مستقاة منها الدروس ليزدهر العقل البشري لآفاق جديدة، واجتهادات بازغة، فأولئك الضحايا هم شهداء للمثل العليا لبني الإنسان وبرهانٌ دافع لتزويد الإيمان الإلهي بطاقةٍ روحية هائلة لتغذية التجربة الإنسانية بزاد الاجتهاد والاطّلاع والتثقيف... ويستمدّ العقل إيمانه بتجلّيات الخالق في كائناته ومن خلال ذلك يبني إيمانه ويدرك الله...
إن آدم خرج من الجنة ونزل إلى الأرض لأن الأرض أمه فوُلد من ترابها وصلصالها فعاد إلى أمه وإلى وطنه... فأنت يا أيها المغفّل الأبله قراءتك للأحداث ضحلة مبتذلة، وهستيرية أحياناً أخرى. أما القراءة الباطنية الصائبة فهي عودة الجنين إلى رحمها... فعلّمه الأسماء كلّها... وهذا تشريف وتعظيم لآدم... وهذا الشابي العظيم يسأل الأرض:
ولمــــــــا ســــــألــــت الأرض يا أمُّ هـل تكرهيــن البشـــــــــر
فقالت أحبّ في الناس أهـ ل الطموح ومن يستلذّ الخطر
أما بخصوص الذين ذكرتهم ولاقوا حتفهم ظلماً وبغياً من الأنبياء والصدّيقين والشهداء، فقد فازوا درجات أعلى وأرفع من قصور الدنيا وزخارفها... فنزول الوحي الإلهي كان بالحق، وخلق الميزان والصراط المستقيم كان بالحق... وخلق قوانين الكون ودساتيره كان بالحق من نجوم ومجرّات وشموس وأقمار كان بالحق... ألم تعلم أيّها السفيه أن اسمي ورد في البيان الحكيم ثمانياً وتسعين مرّة ؟... فبالحقّ منشأ الكون، وبالحق خلق الحياة والموت، ومعقود على جبينه الظَّفَر والفوز المبين... فإن خسر جولةً للعبرة والدرس فإن النصر له في نهاية المطاف. والرسول العظيم خسر معركةً واحدة وانتصر في جميع المعارك الأخرى التي خاضها.
أين عاد وثمود وأرم ذات العماد؟؟!!! أين الذين ظلموا وطغوا وبغوا؟؟!!
الفوز الكبير لا يناله إلا الصابرون والعلماء العاملون يدفعون جسدهم البيولوجي الترابي ابتغاء المكاسب الروحية في السموات العلا. فتأمّل في الإشراق الألمعي لأمير الشعر والشعراء:
وليــس الخلـد مرتبـةً تُلقّى وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همـمٍ كــبــــــارٍ إذا ذهبت مصادرهـــا بقينـا
وسرّ العبقرية حين يفسرني فينتظم الصنائع والفنـونا
وآثـار الرجال إذا تنــــــــاهت إلى التاريخ خير الحاكمينا
وأخذك من فم الدنيـا ثنـاءً وتركك في مسامعها طنينا
في معركة حطّين كان النصر الكبير لأن مبادئ الحق تمثّلت في القيادة المخلصة:
قل للملوك تخلّوا عن عروشكمُ فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
لقد كان صلاح الدين يتمنّى الشهادة لكنه لم يظفر بها، كما كان خالد بن الوليد يتمنّاها لكنها لم تُكتب له، فوصف نفسه بأنه يموت كما يموت البعير....
فيا أيها المغرور المصاب بجنون العظمة كفاك سفسطة وثرثرة، وُلدت من مني يمنى ومن نفايات مهترئة ومن كهوف وهام لم ترَ الشمس واضحاً في رائعة النهار فحقّ عليك قول الشاعر:
أيا حجر السن أما تســــتحي تســــــنّ الحديـــــد ولا تقطــــــع
إن الغرور وجنون العظمة نهاية كل مبتلٍ بهما في الخزي والعار... فستدفع الثمن غالياً عاجلاً أو آجلاً لآفاتك الخطيرة:(ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله).
إن ظاهر الأحداث لا يوحي لك بمضمونها ولا يفهمها إلا الراسخون في العلم. أنت تنظر بحضارة الجسد وليس بحضارة الروح يا قاصر البصر
والبصيرة ولكنّ النابغين من أصحاب الألباب ينظرون في الاثنين معاً... من أنتَ؟ وماذا تشكّل في هذا الكون المترامي الأطراف الخاضع لموازين وقوانين دقيقة... لا تشكّل إلا جزءاً ضئيلاً من ذرّةٍ في الغبار الكوني... وأنت تُقاد في سفن علاّم الغيوب من حيث لا تشعر
ولا تدري إلى أين يؤول مصيرك!!!
يا أيها الغافل جئت إلى هذه الدنيا بدون استشارة منك، ووُلدتَ لأبوين ولعرقٍ وطائفةٍ لا يؤخذ رأيك، وولدتَ في موطن ليس باختيارك... وهل تستطيع درء النوم والموت والشيخوخة عن حياتك؟؟!!!
اعلم أنك صائر إلى عالم الغيب والشهادة، فمصيرك أنت أجهل الناس بجهله، وناصيتك بيد الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فعُدْ إلى الحق، ومن أصدق من الله قولاً: "تلك آيات نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين."، "ولتعلمنّ نبأه بعد حين".
وإليك هذه الأبيات التي صاغها الشافعي بقلم الحق:
دع الأيــــــــام تفعـل مـا تشــــاء وطِبْ نفسـاً إذا حكم القضاءُ
ولا تجـــــــزع لحادثــة الليـــــالي فمــــا لحـوادث الدنيـــــا بقــــاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلـداً وشـــــيمتك السـماحة والوفـاءُ
ولا ترجُ الســـــماحـة من بخيلٍ فمـا في النار للظمـــآن مــاءُ
ومن نزلت بســــــاحته المنايـا فلا أرضٌ تقيــــه ولا ســـمـاءُ
29 / 12 / 2014
قادني هذا البحث الديناميكي إلى مسائل شائكة في تاريخ أمتنا،
ما الحاضر إلا مولود وُلِدَ من رحم الماضي والتاريخ هو محفوظات الأجداد، والأمة بلا تاريخ كالجثة الهامدة بلا روح... والتاريخ
لا يغفر لأحدٍ لأنه يسلك مسلك القاضي العادل، ويستند إلى الوثائق والبراهين، والحجة البالغة...
والتاريخ للعظة والاعتبارية... نقرأ التاريخ لكي لا نقع في الأخطاء كما ارتكبنا من ذي قبل...!!!
أُقلّبُ صفحات تاريخنا كباحثٍ نزيهٍ مستقلّ أرى فيه أخطاءً جسيمةً في الفكر والتأويل والتطبيق، والذين ركنوا إلى التأويل الخاطئ، إما لقصورهم الفكري أو اتّبعوا مآربهم الذليلة البخسة... ففي التنزيل الحكيم: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللّهِ}/آل عمران127،الأنفال10/.
تشير الآية أن النصر يعود إلى مشيئة الله وإرادته، وهناك من فسّر الآية حسب فكره المزاجي والوقوف بجانب فئة دون أخرى ووظّفها لمصالحه... ولكن النصر بدون أسباب القوة والتهيؤ لا يفعل شيئاً
إلا أنّ الآية تطلق صفة المطلق بأنَّ الله على كلّ شيء قدير، فعّال
لما يريد وبيده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو... ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب...
فإنَّ للنصر أسباباً... فمن لم يأخذ بالأسباب سيكون حظُّه الفشل والخسران تأكيداً لقول الله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...}/الأنفال60/.
إن المشرك أو الملحد إذا أخذ بأسباب القوة سينتصر على خصمه الذي أهمل استعداده للمعركة أو استهان بعدوّه واستخفَّ به أو تكاسل... والقوة الحربية تتألف من الجيش المنظّم المسلّح بالسلاح القويّ... والتدريب المستمر المتواصل... والخطة الذكية والإستراتيجية العسكرية والصبر والثبات والشجاعة والإيمان بالتضحية والفداء ابتغاءً لهدف أسمى وأعلى...
إن المسلمين الذين خسروا في غزوة أحد بقيادة الرسول الأعظم لأنهم خالفوا خطة قائدهم الأعلى... فكان النصر للمشركين، لأن المشركين قاتلوا قتالاً شديداً... ونفذوا خطتهم الحربية بجدارةٍ... وخسر المسلمون في أُحد ليعتبروا للدرس ومراجعة الذات...
إنَّ إهمال شرط من شروط المعركة سيؤدي إلى الهزيمة والاندحار... وإنّ الله سبحانه من خلال تنزيله الحكيم يريد أن يعلّمنا أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه وأن عقله صُدِرَ من علمه الأزلي... وبهذا العقل الذي وهبه الله إياه أن يعمّر الأرض والتمكين فيها... وحمل الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً... وحيال هذا الموضوع الذي أثيره تنهال عليَّ أسئلة صريحة تزحزح كيان الأمة كيف يمكن أن نفهم انتصار معاوية على الإمام علي... ؟؟؟ وانتصار يزيد على الحسين بن علي في كربلاء ... ورأس الحسين معلَّق في بلاط يزيد في الشام لثلاثة أيام بلياليها... واللعنة على عليّ على المنابر في المساجد... وقتل ذرية عليّ بلا هوادة ولا رحمة ؟؟؟ وكيف نفسّر قصف الكعبة وهدمها بالمنجنيق من قبل حجاج بن يوسف الثقفي عام/73هـ/ واستباحتها وهدمها مرة أخرى بقيادة أبو طاهر الجنابي زعيم القرامطة وسفك دماء من فيها... وألقوا الحجر الأسود في صحراء/ الجوف / مدة /22عاماً/...
واحتراق المسجد النبوي مرتين ضربته صاعقة من السماء عام/654هـ/ و/886 هـ/ ، وكيف انتصرت أمريكا على العراق وليبيا ؟؟؟ وكيف انتصرت الطائرات الفرنسية على حركة المريدين بقيادة الشيخ إبراهيم خليل التركي في جبل الكرد/منطقة عفرين بلاليكو/ ؟؟؟ وكيف انتصرت أمريكا على حركة الطالبان بقيادة ملا عمر في أفغانستان عام 2002م وانهزم هو وأتباعه أقل من شهر ؟؟؟ ولماذا انهزم العرب أمام إسرائيل في حربين 1948 – 1967م ؟؟؟
ولماذا انتصرت حركة الفيت كونغ في فيتنام على أمريكا رغم أنها حركة إلحادية ؟؟؟ وأمريكا تدين بالديانة المسيحية ؟؟؟
إن ربط النتائج بالأسباب ذلك هو الواقع الحي المجتسد الذي يؤدي إلى بناء القوة وصنع النصر..
إن الإفراط في الفضيلة تهوّر وإسراف، وإن الشحّ يؤدي إلى سلوك مهين... وإن الصواعق والطوافين والزلازل تمكّن الأرض وتعمل على توازنها وترميمها وتحديدها وصلابتها...!!!
إنَّ العنصر الذي جعل ينتصر معاوية على عليّ وذريّته فقد استباح الأول كل غالٍ ومقدّس في سبيل الوصول إلى الخلافة... بينما الآخر لم ينزل إلى مستوى الاستهانة بكرامة أمته وبيت النبوة الذي تربّى فيه وآثر مصلحة الأمة على حقّه... كان شاقّاً عليه أن يستعمل المكر والخديعة والاحتيال، فأضحى هو وذريته من بعده ضحية الغواية والمراوغة... فلو أنَّ إمام علي حكم وذريته من بعده لتغيّر وجه تاريخ الأمة أحسن ضياءً وبهاءً وعدلاً وإخاءً وكنا على حال حضاري إنساني بهيج ونبيل لأنَّ الإمام كان قدوةً في الحقّ والعدل والتسامح، ولأنه فُطِرَ على الخلق النبيل واستقى مبادئه من فيض النبوّة الطاهرة والجدير بالذكر فلم ترفع اللعنات عن عليّ على المنابر إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس ودام حكمه عاماً ونصف عام ومات مسموماً... قتله الأعراب المفسدون وهم الذين غدروا بعليّ وأبنائه ... والأعاجم هم الذين اخلصوا لعليٍّ وأولاده... لأنه كان إنساناً عادلاً قلّما يجد التاريخ مثله في الحقّ والعدل والمحبة والشجاعة النادرة... وكان يُقدّم لقمته للفقراء ويبيتُ طاوياً... {وَيُؤْثِرُ ونَعَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}/الحشر9/. الأمويون الذين استلموا الخلافة جعلوا الإسلام شعاراً لهم للتستر على جرائمهم ومظالمهم فأبعدوا القواد الكبار من قصورهم ليتفرّدوا بالسلطة ويبيحوا لأنفسهم إصدار القرارات التي تخدمهم وخلق فئات تؤيدهم وتهْزُج لأهازيجهم... وذلك باسم الفتح المبين أرسلوا جيوشهم بقيادة قتيبة بن أبي مسلم الباهلي وموسى بن نصير وطارق بن زياد لإقصاء هذه الجيوش وقوادها عن مصدر القرار وإلهائها بالزحف المقدس والجهاد في سبيل الله... والذين التفُّوا حول القيادة الأموية هم جماعات منافقة هجروا الحقّ وتوجّهوا إلى الباطل المزهوق...
والإنسان إذا خَبُثَ تحوَّل إلى إبليس مارد... وما الصواعق والنوازل التي نُزِلت على الكعبة والمسجد النبوي إلا غضبٌ من الله نزل على المقدستين لأنَّ المنافقين فسدوا فيهما والمعتكفون فيهما هم نجسٌ... ولذلك انتقم الله منهم {وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}/آلعمران4/. بنزول الصاعقة عليهم... وقتل الحجّاج لعبد الله بن الزبير وصلبه... ورأت أسماء بنت أبي بكر الصديق هذه الجريمة الوحشية النّكراء والتي تندى لها جبين الإنسانية فقالت قولها المأثور الذي ردّدته الألسنة إلى يومنا هذا:
(أما آن لهذا الفارس أن يترجّل).
وكانت نهاية الحجاج مرعبةً مفزعةً أثناء احتضاره يظهر أمامه شريط أشباح الموتى الذين قتلهم... وهو يصيح بين الفينة والأخرى مرتعشاً أمام جرائمه في مسلسل إجرامي فظيع...!!!
وإذا فسدت الأمة ينزل عليها عقابُ الله... وتصديقاً لقول الله تعالى:
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}/الإسراء16/. فنزول الصواعق على الكعبة وتدمير المسجد النبوي مرتين غضبٌ من الله لأنّ المسلمين وقفوا مع الباطل وتركوا الحق... فكان جزاؤهم وعقابهم نزول صواعق السماء عليهم...
{إِنَّ اللّه َلاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}/الرعد11/. وسلّط الله عليهم طغاةً مستبدين يذيقهم ضروباً من الخزي والرجز والعقاب... وتصديقاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...}/الممتحنة13/.
ثمّ إنَّ الأمويين لاحقوا أئمة الفلسفة وطاردوا المعتزلة وأودعوهم في السجون، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... إنهم حرّموا الفلسفة: قولهم" من تفلسف تزندق " لأنّ الفلسفة هي أم العلوم ولأنَّ الفلسفة تكشف عوراتهم وأسرارهم المختبئة خلف شعاراتهم المزيفة والزائفة في تضليل الشعوب وإغوائها...
ولأنَّ الفلسفة تعتمد على الجدل والقياس والتجربة والبرهان...
وهي تحليل وتركيب للوصول إلى الحقيقة المُثلى والمثل الأعلى... والفلسفة تبني الأمم على أسس من المعرفة والعلم والمنطق والحق والعدل... وتعرّي وتفضح نواياهم المخبوءة ما وراء الكواليس...
وقد صدق الشاعر جبران حين قال:
والعدل في الأرض يبكي الجنَّ لو سمعوا
به ويســـــــــتضحك الأمــــوات لـو نظـروا
وقاتـــــــــــــل الجســـــــــــــمِ مقتـــــــــــولٌ بفعلتـــهِ
وقاتــــــلُ الـــرّوحِ لا تــــــدري بـه البشـــــرُ
وما أحداث اليوم إلا تراكمات لأخطاء الماضي الجسيم المظلم الذي استبدّ به الحكّام وتفرّدوا في الاستئثار لمصالحهم البالية... وزجّوا بجيوشهم في معارك هامشيّة بعيدة عن تطلعات الأمة وطموحاتها، فهذا الطاغي المستبد صدام حارب شعبه أولاً من الكرد والشيعة ولم يتورّع عن قتل أقرب المقربين إليه إذا شكَّ فيه أو قدّم اقتراحاً
لا يوافق مزاجه... وحارب إيران ثماني سنوات بتحريض من أمريكا، ثمّ غزا الكويت بموافقة أمريكا وقد أحسن الشاعر وأجاد في تشخيص علة الحمية القبلية العشواء:
وما أنا إلا من غزيّة إنْ غوتْ غويتُ وإنْ تُرشَــــد غزيّـــــة أَرْشُــدِ
في حلبجة وحدها راح ضحية الغاز الكيميائي خمسة آلاف من الكرد
ما عدا الجرحى والمشوهين وإلى اليوم لا ينبت فيها لا زرع
ولا نبات ولا عشب...
وأخذت أمريكا تحشد الحشود من أوروبا والعالم العربي لطرد صدام وجيوشه من الكويت وعقد حلفاً عسكرياً من الناتو والدول العربية لمحاربة صدام... وجرّبت التقنية والتكنولوجيا الحربية على العراق أولاً، والتجأ صدام إلى حفرة مختبئاً فيها مع حارسه الغادر الذي خانه ولم يستنجد بشعبه لأنه ظلمه، والشعب يكرهه، فأصبح بين عدوين الغرب وحلفائه والشعب الناقم عليه، فدفع ثمن استكباره الإعدام خنقاً بعد أن قضى بظلمه على شعب العراق، وأتى بالمستعمرين يحتلونه لاكتمال عملية الهدم والخراب...
وفعل الغرب ذلك من أجل النفط وامتصاص خيرات الكويت والعراق والعرب جميعاً... وليس من أجل الديمقراطية وحرية الشعوب وبيع ديمقراطيتها ببرميل من النفط...
أما هزيمة العرب مرتين في القرن العشرين تعود إلى قياداتهم الهرمة المنخورة والمتناقضة والمتنافرة... فلم تجمعهم وحدة الكلمة والمصير الواحد... ودخولهم في صراعات عقيمة...!!!
ويوم نصح غاندي الرئيس عبد الناصر... لو أنَّ كلّ عربي أطلق رصاصة نحو إسرائيل وحرّم التعامل بالدولار الأمريكي لانتهت إسرائيل... وصارت كلّ فئة تلعن أختها بأنها الأجدر وطنية وقومية وتنطبق عليها الآية الكريمة:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}/الحشر14/..
وكلّ جماعةٍ ترتدي ثوباً وطنياً مزخرفاً، والمعصومة من الأخطاء وتتشدّق بشعارات أكبر من حجمها وأوسع من فمها وأعلى من شأنها...!!!.
أما بشأن " ملاّ عمر "في أفغانستان الذي يريد أن يعيد الإسلام إلى عصره الذهبي المتمثل في الرعيل الأول... إنه ليس ملا عمر إنه العبد الذليل الاستخباراتي المرتبط بالاستخبارات العالمية، إنه صنيع الأجهزة الأمنية الإقليمية والدولية سخّرتها لأهدافها وأغراضها الذاتية... الإسلام ليس ملكاً لأحد، وليس حزباً سياسياً بل هو دستورٌ للعالمين أجمع وسلوكٌ عملي يرسِّخ مبادئ الحقّ والعدل والمحبة بين الناس جميعاً، ويزوّد الإنسان بطاقات إنسانية نبيلة نحو أواصر وروابط اجتماعية متينة مبنية على الإيثار والتسامح والعدل والخير والرّخاء والنفس المطمئنة...
الإسلام دعا إلى بناء القوة للتمكين في الأرض وربط بناء القوة بالإيمان بالواحد الأحد الصمد الإيمان وحده لا يحقق النصر... والإعداد بالقوة وحدها لا يحقق انتصارات لأنه ينقصه الإيمان بالواحد القهار... ولو أنَّ هذين البندين متوفران للملا عمر لانتصر على أمريكا... وأعتقد جازماً أنه فاقد العنصرين ... ولهذا فرَّ من المعركة ولم يصمد إلا أياماً معدودات...
أما بخصوص فيتنام وانتصار سان تياغو على أمريكا كانت أسباب وأركان القوة متوفرة لدى الفيتناميين الذين تمرَّسوا على فنون القتال في الجبال والأدغال معلنين حرب عصابات طويلة الأمد، تجمعهم الكلمة والإخلاص وروح التفاني في الكفاح الثوري... وكانوا يتلقون إمدادهم العسكري من الاتحاد السوفييتي سابقاً ورغم أنهم كانوا ملحدين... وأمريكا تدين بالديانة المسيحية... فانتصر الإلحاد على الإيمان الظاهري الزائف وذلك بتوفر شروط بناء القوة والإخلاص الذي كان شعارهم الرائد بقيادة بطلهم الرّمز " غيفارا " الذي كان عنواناً بارزاً للفداء والتضحية في سبيل مبدئه الذي آمن به عقيدةً ومنهجاً، وبهذه الروح الثورية والإخلاص بالمبدأ استطاعت فيتنام أن تهزم أكبر إمبراطورية في الأرض في القرن العشرين لأنها اجتمعت فيها عناصر القوة وربط النتائج بالأسباب...
أما بخصوص الشيخ إبراهيم خليل زعيم المريدين في جبل الكرد بعفرين حيث عملت فرنسا وجهدت على تقسيم سوريا إلى مناطق إدارية بمنح الحكم الذاتي لمناطق النفوذ، لكن الزعماء الوطنيين ادّاركوا هذا التقسيم فلم تفلح فرنسا في مخططها الاستعماري الهادف، فأرسلت المخابرات التركية الشيخ إبراهيم الخليل إلى قرى عفرين بهدف ضم المنطقة الشمالية إلى تركيا وقد درّبته على أن ينشر رسالة الإسلام فيها على المذهب السنّي... فجاء الشيخ إلى قرى" ميدانا " وهي سبعة قرى على الحدود التركية عام 1937م، ويتميّز أهلها بالطيب والبساطة وحبّ الإسلام وإكرام الضّيف وبقوة البأس إلى حدّ التهوّر والصِّدق في التعامل والكلمة الفاصلة إلى درجة السذاجة... فاستطاع الشيخ بدهائه ومكره اختيار هذه البيئة... فدخل على مسجد القرية فأمَّ المصلّين وتلا الآيات جعل الدموع تنهمر من عيون المصلين ثمّ خطب بالمصلّين قائلاً: فررتُ من تركيا من ظلم وإلحاد كمال أتاتورك (الدولة الكمالية) وجئتُ إليكم لأعلِّمكم الدين الحنيف ولا أُريد منكم شيئاً... سأُقيم في المسجد ومن أراد أن يتصدَّق عليَّ بطعامٍ فجزاه الله خيراً.
وكان الشيخ كما رواه لي والدي كان يتمتع بطاقة جسديّة رياضية هائلة... وهو شاب في الثلاثين من عمره... أشقرٌ جميل... فارسٌ متمرّسٌ مقدامٌ... متمرّن على كلّ أنواع الأسلحة من المسدس إلى البارودة الألمانية والرّشاش المتوسّط... فاستطاع الشيخ ببلاغته المعهودة وذكائه الحاد أن يجمع حوله التلاميذ من أتباعه وسمّاهم " المريدين " وأخذ الشّيخ يتجول في القرى الجبلية في منطقة عفرين... ويخطب في الناس الخطب النّارية، فأجمع حوله حشداً كبيراً من المريدين... وأمرهم أن يحمل كلّ مريد سلاحاً، وفرض حمل السّلاح لأنّ المسلم يجب أن يملك سلاحاً... ودعا إلى الجهاد بأناشيد دينية حماسية... وخاطب الأتراك بأنهم أعداء الإسلام ووجوهم كوجوه الخنازير... وأوعز الشيخ إلى مريديه بمقاتلة الإقطاع هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة... والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي...وفرض النكاح... بدأ بنفسه أولاً... نكح بنات مريديه... فكان يتزوّج بناتهم ثمّ يطلّقها ويتصدّق بها على أحد أتباعه، ثمّ أصدر فرماناً مفاده:" كلّ من لم يلتحق بحركة المريدين يعتبر مرتداً وآثماً... وحلالٌ قتله ولو كان شقيقاً له"... وإزاء هذه المناورات المشبوهة تحوّلت منطقة عفرين إلى جماعات وعصابات... فالإقطاعيون جمعوا حولهم أنصارهم وحمل كلّ فرد من أفراد المنطقة السلاح للدفاع عن نفسه وفُقِدت الثقة بين الأسرة والعائلة وأصبح القتال سيّد الموقف... فلا تمييز بين العدو والصديق... وأصبح الجار يحسب ألف حساب لجاره الملاصق لبيته... وكان الشيخ يذهب إلى حلب ويجتمع بالقادة الوطنيين بأنه ضد فرنسا وقتاله في سبيل تحرير سوريا... فاحتدمت المعارك بين الشيخ والثوار الذين قاوموا المستعمر الفرنسي... فكان الشيخ ينوي قيادة جميع الحركات الثائرة ضد فرنسا تحت قيادته وأن يكون هو الشخصية الأولى في الحركة الثورية الكفاحية... وكان بعض قادة الإقطاعيين مع الثورة السورية وبنفس الوقت كانوا في صراع دموي مع المريدين... فأحرز المريدون تقدماً في المعارك... ويبدو أنَّ المستعمر الفرنسي أدرك خطورة تحركات الشيخ وأنه ينافسه في مخططه العدواني فقصف بطائراته الحربية معاقلهم الجبلية في قرية بلاليكو ومواقع أخرى... وكان الشيخ قد سَحَرَ المريدين بكلماته بأنهم سوف يتلون الآيات القرآنية وتسقط الطائرات الفرنسية في الجو ولكن (هيهات هيهات لما توعدون)... فتمزّقت حركة المريدين كلّ ممزّق وتشتّت وقضي عليها والتجأ الشيخ إبراهيم خليل إلى تركيا واغتيل هناك في ظروف غامضة... وهكذا انتهت حركة المريدين بفرار الشيخ والتجائه إلى تركيا وأسدل الستار عن مسرحيته الدمويّة...
وفي نهاية المطاف أقول باختزال: ليس الإسلام كياناً سياسياً...
ولا حزباً... ولا مذهباً ولا طائفةً كما أسلفنا... !!!
الإسلام أعلى وأسمى شأناً... وأرقى نظاماً... الإسلام هو تشريعٌ كامل لأهل الأرض جميعاً... قانونٌ عمليّ تطبيقيٌّ وعدلٌ وإخاءٌ وقوّةٌ وبناءٌ وعلمٌ وأخلاقٌ وإخلاصٌ ووفاءٌ وتسامحٌ وتواضعٌ
وقد صدق الشّيخ محمود شلتوت حين زار الصين وهي دولة شيوعية ملحدة فقال: الصّينيون مسلمون ستة أيام في الأسبوع ... أما نحن مسلمون يوماً واحداً "يوم الجمعة"...
....................................................................................................
المراجع:
1- قصة الحضارة – ديورانت
2- مذاهب الإسلاميين - عبد الرحمن بدوي.
3-تاريخ المذاهب الإسلامية - محمد أبو زهرة.
4-حركة المريدين في جبل الأكراد – رشيد حمو.
ورد في الأساطير الميثولوجية أن سيّدنا موسى مرّ في طريقه إلى طور سيناء ليكلم الله وجد رجلاً يرمي الأحجار صوب السّماء ويشتم الذات الإلهيّة بشتائم غريبة تعبّر عن شقائه في الحياة بأنه خلقه الله فقيراً ويتيماً وقميئاً، فلم يلقَ من الحياة الدّنيا إلاّ مرارة البؤس والشّقاء... يرجم السّماء بالأحجار ويقول: لماذا خلقتني لأبٍ ضعيف ميئوس وأم سوداء ذات حظّ سيء وعائلة مفكّكة الأوصال...وأقارب عقارب... وفي بلدٍ خاوية على عروشها كأنّها أعجاز نخلٍ منقعر...وأصدقاء منافقين لهم أقنعة مزيّفة... وأنّ يوم ولدتني أُمي لم يجدوا ثوباً ليلفوني فيه... وولدتُ أسوداً هزيلاً نحيفاً...
بينما ابن جارنا وُلِدَ على كومة من ذهب ولفّوه بأقماط من استبرق وسرير نوم من الآرائك والبساط السّندسيّ... فماذا جنيتُ ؟ وما هي جريرتي ؟... وجئتُ إلى هذه الحياة رغماً عنّي وصفحتي بيضاء ولم أرتكب إثماً ولا ذنباً... وابن جارنا مراوغٌ ماكرٌ وأنت تمنحه المكافآت والأوسمة... فمنحته السعادة... ووهبت له مالاً كثيراً وجاهاً عظيماً.. فكلّما تمادى في غيّه... أعطيته بلا حساب... وأنا صلّيت لك بإخلاص... ولم أغشّ أحداً من بني البشر... أذقتني علقم الفقر والإملاق... ولن أصلّي لك ما دمتُ حيّاً...
استغرب موسى من هذا المتمرّد الأبله... وكاد أن يبطش به ويقتله... ثمّ فكّر وقال في نفسه إني ذاهبٌ إلى ربّي وأسأله عن ارتداد هذا الرجل وتصرّفه الهستيري، ولماذا يتحدّى الله في عنته وركوب رأسه... ؟؟؟
تركه سيّدنا موسى في تصرّفه الشّاذ المقيت وسلوكه الباطل المهزوز
ووجد في مسيرته نحو طور سيناء رجلاً آخر... وقد اعتكف في صومعة يعبد الله ليلاً نهاراً... فسلّم عليه وسأله ماذا تفعل هنا ؟
قال: إني انهزمتُ من أهل الشّقاء والكفر جئتُ إلى هنا لأعبد الله... هذه خلوتي مع الله فراراً من أهل الشقاء والنّفاق...
يا موسى عليك أن تنظر أمامك لكي لا تدوس بأقدامك نملة لأنها هي مخلوقٌ مثلك...
فقال موسى في نفسه: ما أعظم هذا الرّجل وما أرحمه !! إنه رجلٌ صالحٌ، ثمّ ودّعه موسى وأثنى عليه.. وقال في غيهب قلبه: سأسأل الله عن هذا العابد الزاهد التقي النّقي، وتوجّه إلى طور سيناء، وهناك كلَّم الله تكليماً فقال: اللهمّ إنّي أسألك بمعاقد العزّ من عرشك وبمنتهى الرحمة في كتابك الأعلى... يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار... يا بديع السموات والأرض... أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبرحمتك التي وسعت كلّ شيء... أن تخبرني
عن الرجل الذي يرميك بالحجارة، وعن ذلك العابد في صومعته...
الأول يا موسى إنّ مثواه الجنّة لأنه صريح وصادق مع نفسه ومع معتقده الذي آمن به، فهو لا يشكو لأحد... يلتجئ إليَّ في شكواه باحثاً عن الحقيقة لأنّه يدرك أنا مغيّر الأحوال... أرفع من أشاء وأذلّ من أشاء... فأنا سأجزيه الخلود الأبدي لقاء شقائه في دار الدّنيا الفانية..
أمّا الثّاني فهو في الجحيم... إنّه مكّار ودسّاس فهو لا يؤمن بي تقنّع بقناع الإيمان ليصطاد الحمقى من النّاس... إنّه عَبْدٌ لشهواته الجامحة ونزواته الطّائشة ونفسه الأمّارة بالسّوء...
تمهّل يا موسى... رأيتُك قلقاً مضطرباً... أنت تنظر إلى الشّكل دون المضمون وَكِدتَ ترتكب جريمة بحقّ الرّجل الذي تجرّأ عليّ بالشّتم... فأنا أكافئه بالفردوس الموعود ابتغاء مرضاته وجزاء عذابه وشقائه...!!!
قرأتُ منذُ عًقود مسرحيّة للأديب المفكّر رئيف الخوري ( العصفورة والفخ) رأيتُ فيها تشخيص الداء ووصف العلاج، هناك أفخاخٌ منصوبةٌ بأقنعة مغرية وتتباهى بأنّها حاملة لمبادئ السّماء السامية ومبادئ الشعوب المناضلة في سبيل حقوقها المشروعة في الحياة الكريمة، لكنّها هي حبلى بالدّسائس والفتن، وإشعال نار الحريق بين الطوائف والمذاهب والقوميّات لتُبيد بعضها بعضاً خدمةً لأسيادِها الأعداء... فهي أذناب الأعداء المارقين لسحق الشّعوب ونهب خيراتها...
والعصفورة هي الشّعب البسيط العاطفي الذي يعمل بقلبه الأبيض النّظيف، ويهمل حكمة العقل وبصيرة الفكر وموازين الألباب...
فالكاتب منذ نصف قرن تنبّأ بالفتنة الكبرى وخاف على أمّته من أن تقع بين فكّي كلّ فخّ من هذه الأفخاخ المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة، ودعا إلى تنبيه الشّعب وتثقيفه وتعبئته فكريّاً واجتماعيّاً وسياسياً، وإقامة موازين العدل في بلداننا ليعيش مجتمعاتنا في مأمن من أخطار الفخاخ العرجاء .. وأدرك الكاتب ببصيرته الثاقبة أعداء الأمة هم أصحاب الفخاخ النكراء، وأنّ الأمة الحيّة لا تحيا إلا تحت ظلال العدل والمحبّة والإخاء...
توخّى الكاتب من وراء عرض مسرحيّته توعية الأمة وبنائها بناءً ثقافيّاً حضاريّاً لدرء مكائد هذه الفخاخ المرصودة هنا وهناك... إنّ الشّعوب العاطفيّة الغائبة عن موازين المحاكمة العقليّة وانعدام الثقافة الذّاتيّة والموضوعيّة تقع في حبائل هذه المكائد التي تعبث بمصائر الشّعوب والأمم، وبتنا نكره عناوين المقدّسات.. ونكره كلّ من ينصب نفسه خليفة الله في أرضه.. وحتى نكره أهل العمامات وصولجانات رجال الدّين.. ونكره المتشدّقين في القوميات العرقية ذوات الأقنعة الحرباء.. وصرنا نشكّ في هؤلاء وهؤلاء الذين نفخوا في سعير الحرائق ولهيب اللظى ليس في المدن والأرياف والسّهول والبراري والجبال فحسب، بل أحرقوا كنوز القيم ما في الصّدور وأوقدوا في مواقدها الأحقاد والأضغان والثارات.. تلك ثقافتهم الكارثيّة الماحقة التي تلقوها من طواغيتهم أعداء الإنسانيّة ضد الشّعوب المستضعفة...
إنّ داء السّرطان لا يهاجم المريض دفعةً واحدةً.. يتحيّن الفرص حينما المريض يستكين إلى إهمال صحّته فيبني السّرطان بخفاء وحين غفلةٍ يبني أعشاشاً مدمّرةً في رواق هيكل الخلايا، يزرع فيه عبوات ناسفة، وينصب الفخاخ المفخّخة لهدم الجسم وتخريبه في عقر داره...
وهكذا ثقافة التّخريب هي امتدادٌ لماضٍ مزمنٍ مريض وبيئة ملائمة قذرة فاتحة ذراعيها للتّرحيب بخليلها الحميم... وما ينفكّ ينخر جسم الأمة حتى العظام...
وهذا ليس صراعاً.. إنّما هو فتكٌ ودمارٌ...! وُجِدَ الصّراع من أجل البقاء وصيرورة الحياة.. هناك صراع الخير مع الخير في سباقٍ نحو الأفضل.. وصراع التّضحية مع التّضحية نحو العلوّ السامق والفضيلة مع الفضيلة في ساحات الخير والعطاء التي تبتغي تطوّر حياة الفرد والمجتمع والوطن إلى غدٍ مشرقٍ جميل...
وها نحن أولاء في وطننا الغالي العزيز علينا أن ننشر في أعماق وجدان مجتمعنا ثقافة الحكمة والمودّة... وهويّة الإنسان الحضاري المتميّز المتنوّر.
ثقافة التنوير... إنّها ثروة ضخمة لأمتنا، ونادى بها قبل عقود من الزمن عمالقة الفكر وأقطاب العقول النيّرة، ولكننا أغفلناهم واليوم ندفع الثّمن باهظاً...
واخترنا سلوك الارتداد ليشمت بنا الأعداء ويحزن علينا الأصدقاء... لسنا فقراء وبؤساء في مخزوننا الفكري عبر حقب تاريخية طويلة... ولكنْ مناجمنا " العقلية والروحية والمادية " الهائلة غشَّاها عجاج أكدَر وريح السّموم فحوَّلتها إلى سمّ قتّال وأوهام مضنيّة وحياة كدراء... فالبؤس في أعدائنا والإفلاس في المتربّصين بنا... ستنطلق سفينة النجاة عندما نسمع لحكمائنا وعظمائنا ونجعلهم في موقع اتّخاذ القرارات الصالحة العامرة... وننتقي انتقاءً ذوي السّير النّظيفة والأيادي البيضاء والأنفس الطاهرة النقيّة التي تتخذ من ثقافة الصّدق والصّراحة والشّجاعة سلوكاً حياتياً لقيادة الأمة نحو الإصلاح والرّقي في هندسة البناء والتعمير... واتخاذ النّهج الإنساني عنواناً واضحاً لأصالة أمتنا وعراقة وطننا... فأي وطن وأيّة أمةٍ لم تمهر بخاتم الإنسانية تتعثّر في وهاد الخزي والإذلال...
النهج الإنساني يجب أن يكون عنواننا البارز في محفل الحياة الصاعدة قبل أن نكوِّن قوميّة أو وطناً أو أمّةً يجب أن نكون إنساناً قبل كلّ شيء...
نحترم إنسانيّتنا ونحترم إنسانيّة الآخرين... إنّ الأمة الحاقدة والوطن الحاقد لا يدوم ولا يستمر كُتِبَ عليه الزّوال... وتاريخ البشريّة مثقلٌ بهمومها وأوضارها وتاريخنا أكبر شاهدٍ على انتكاساتنا وانتصاراتنا... والتّخطيط لمستقبل أجيالنا أن يعيشوا إخوة سعداء محبّين متسامحين، ولكي يرحمونا في مستقبل الغيب المكنون وأن يقولوا عنّا إنّ أجدادنا كانوا أذكياء أكفّاء في مسيرة حياتهم، وكانوا جديرين بجسد الحياة وروحها... الخطر أنْ لا نورّث أحفادنا ميراثاً قلقاً متداعياً متزحزحاً يزيد من حملهم أوزاراً وأثقالاً...
إنّ الأب المناظر لمستقبل أولاده لا يورّث مشاكله لهم وعلقم الحياة ومرارتها بعد رحيله... يترك لهم بصمات واضحة في عفّة النّفس ونزاهة اليد وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان، والتّسامح الصّادر من قرار النّفس والثّقة بها، وقول الحقّ والفصل بين الفضيلة والرّذيلة... وتوريث أبنائه سعادة الحياة في العدل والحبّ والخير والرّخاء...
والشّعوب تتحضّر بقياداتها وقادتها المخلصين الأوفياء... علينا أن نعلّم أبناءنا وأحفادنا سيرة أولئك العظماء في تاريخنا المعاصر والسابق...
هذا القائد الكري البارز صلاح الدّين (يوسف) يفتح القدس في حطّين المشهورة يفكّ أسر ثلاثة آلاف أسيلا... رغم أنهم شاركوا في إذلال الأمة وتمادوا في الذّبح والتنكيل وسفك الدّماء... هذا التسامح النبيل أذهل مفكّري أوربا وأدهش رجالاتها جعلهم يفكّرون بسلوكهم الأهوج، وأفعالهم الرعناء التي تلطّخ جبالهم بوصمة الخزي والعار.. هذا الرّجل العظيم لم يفكّر في يومٍ من الأيّام بوطنه الأم... إنّما كان باحثاً عن العدل في العائلة البشريّة... لا يرضى لنفسه ولأمته الذلّ وحتى يأبى الذلّ لأعدائه... ولذلك سمّاه أعداؤه بالخصم العادل...
إنّ سواقي الدّماء التي جرت وآلاف الأرواح التي أزهقت رسّخت الأحقاد في أنفس أمتنا... فلا سبيل أمامنا إلاّ اتّخاذ التّسامح علاجاً لإطفاء نيران الأحقاد السّوداء في سويداء قلوبنا وذلك عرفاناً منّا وخدمةً لأجيالنا القادمة من رحم غيب الغيب...
إنّ حضارة الجسد أو حضارة التّقنيّة تزداد يوماً بعد يوم... أما حضارة الإنسان تتخبّط وتتقهقر في أغوار الانحطاط... والغرباء والدّخلاء والزوّار الثّقلاء لا يحلّون مشاكلنا.. وأزماتنا المستعصية الشّائكة..
نحن أبناء هذه الأمة أدرى بها... ونحن أطباؤها وحكماؤها علينا أن نغيّر أنفسنا ونبذرها ببذار العدل والتسامح والمحبّة... أن نبهت خصومنا بمرام أفعالنا قدوةً واحتذاءً في حاضرنا ومستقبلنا لنفوز بشهادة المصداقيّة والميثاق الوثيق تطهيراً لكلّ الهواجس والوساوس ذات النفاثات في العقد... لنبني وطناً يرفرف عليه علم العدل والتّسامح والمحبّة والإخاء...
تلك مهمّة ليست بشاقّة لأنّ أمتنا ليست عقيمة... إنّ الأمة التي أنجبت من رحمها أولئك الأفذاذ وصناديد الرّجال ليست عاجزةً عن الإنجاب...!!
في بلادنا جنودٌ مجهولون يعملون بصمتٍ ونحن غافلون عنهم... وأن نعود إلى محكمة الضّمير هو أعلى المحاكم... والضمير هو الذي يؤنبنا في أخطائنا، ويحمّسنا نحو نُشدان الحقّ والنهج القويم ظاهراً وباطناً...!!
الأمانة التاريخيّة تقتضي أن نمدّ جسور الثّقة بين بعضنا بعضاً قولاً وعملاً شكلاً ومضموناً في سلوك عملي جاد... وأن نقيم أعمدةً وأوتاداً من المحبّة المتمثّلة بالتّضحية والعطاء لتوطيد أركان الأمن والسّلام والعدل والرّخاء في ربوع وطننا المثخن بالجراح... ورحم الله امرئ عاين زللاً فسمح أو رأى خلالاً فأصلح...!!.
الولادة الأولى يأتي الإنسان من رحم أمه مشحوناً بالدّماء والقاذورات... وهي ولادة آتية من أوجاع المخاض مُبكيةً ومُضحكةً في وقتٍ واحدٍ... ويكون قد تحرّر من أسر قفصٍ ضيّقٍ إلى قفصٍ أرحب في هذه الدّنيا المليئة بقتام الآثام ودخان الآلام... والولادة الأولى هي أصعب الولادات لأنّه أتى من وطن يألفه إلى وطنٍ لم يألفه وسيكدّ ويتعب بهم حتى يستكين ويألف...!!! " والله أنبتكم من الأرض نباتاً " وعندما ينمو ويكبر ويصبح شاباً قويّاً وطموحاً يختار شريكة حياته ويتزوّج... ذلك ولادة ثانية، لأنّه انتقل من شكل الحياة إلى شكلٍ آخر من الحياة... إلى حمل الأمانة... ولمّا يُرزق بمولود يتخيّل بأنّ حياته لا تتوقّف بموته، بل يستمر ولدهُ من بعده فيدرك أنه ليس عقيماً فتخصب الحياة وتخضرّ وتورق لحياة بعده...!
ويوم يتخرّج من معاهد العلم ومن الجامعات يشعر بالولادة الثّالثة بأنه أصبح رجلاً منتجاً وشجرةً مثمرةً يقتطف من ثمارها العابرون والمقيمون والرّاحلون والمسافرون... وحينئذٍ يشعر لولادته المرتقبة بأنّه سبيلٌ للظامئين والجائعين والمحبّين... ويدرك باعتزاز أنّ له كياناً ذاتيّاً يخدم نفسه ويخدم الآخرين, فيشعر بالغبطة والابتهاج في جداول قلبه... ويدفعه الإصرار والسّعي إلى مزيد من الإنتاج والإنجاز، ويتفاءل بحياة واعدة وبولادة أخرى...
وعندما يتقاعد المرء يولد ولادة أخرى... يتخلّص من أعباء الرّوتين والالتزام التقليدي إلى نمط مريح وقد أثقلته التجارب الحياتية وارتوى من شرابها الحلو العِذَاب، والمرّ المرير، والرّمد المرمود... فأمسى قويّاً متسلّحاً بحكمة الأيّام والسّنين ويدخل إلى مرحلة الشيخوخة بكلّ معدّاته وعتاده... وطفق يتأمّل بأسرار الحياة وبأطوارها وفصولها الدراماتيكية منذ أن كان وليداً وحتى أمسى شيخاً هرماً قد ضعف جسمه وهدر طاقاته البيولوجيّة وحلّتْ محلّها طاقاته الباطنية والرّوحية ويحلّق في فضاءات الخيال الحقيقي ما بعد الموت... بأنّ الموت قادمٌ بلا مواربة ولا شكّ...!! فماذا قدَّم ليولد ولادة أخرى حتى يعيش حيّاً في الضّمائر الخيّرة اليقظة لبني قومه ولبني الإنسان...
وما أصدق الشّاعر حين قال:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظّلماء يفتقـد البـدرُ
وكما تنبّأ سقراط ذات يوم بحياة أخرى وبولادة جديدة بعد الموت فقال: إمّا الموت لقاءٌ مع الله وهذا أعلى اللقاءات...
وإمّا الموت نومٌ عميقٌ لا تخالطه الأوهام والهواجس والقلاقل...
وإما حياةٌ أرقى من هذه الحياة التي نحياها فيها:( الحقّ والعدل والخير والجمال ) فلا تخافوا من الموت... إنه ولادة إنسانية جديدة مبدعة وبأسلوب مغاير أجمل...
يولد الشهيد من رحم القيم والمثل العليا من أقحوان نكران الذات... ومن عبق زيزفون الترائب... ومن أرائك العشق الروحي والمحبّة والعطاء...
إنّ الشّهيد يؤمن بطاقاته الباطنية بمعارج الخلود في الحياتين فيدخل في أتون المعارك ليبني على جسده الفاني قصور الحياة وأبراجها المستقبلية في الحياة الحرّة الطليقة الكريمة، فهو حيٌّ في أدمغة المفكّرين والكتاب والأدباء... فهو مقيمٌ في أفئدة الشعراء المنشدين:
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيهـا غبـار التعـبِ
وكما يقول الجواهري الكبير:
تزهـــــو الحيـــاة بألمعـــي ثائـرٍ يهــــب الحيـاة كأنّــه لا يفهــمُ
شعبٌ دعائمه الجماجم والدّم تتحطّـــــــم الدّنيـا ولا يتحطّـــــمُ
والشهيد ينال مقاعد الصّدق في جنات الفردوس، فهي ولادة ميمونة مباركة... فهو حيٌّ يرزق... ويتمتّع بحياة تفوق حياة الدّنيا بمضاعفات لا تعدّ ولا تحصى...! في جنات الفردوس هم فيها خالدون...
والكتّاب والمفكّرون والأدباء والشّعراء والعظماء الحقيقيون يولدون ولادة جديدة بعد ما يتخطّون حدود الموت بلا خوفٍ ولا وجلٍ إلى حياةٍ ساميةٍ ينالون جوائزهم العالية من شعوبهم أولاً والحياة التي استقبلتهم واحتضنتهم في ملكوت عالم الغيب والشهادة...
أما الأشرار من بني البشر فهم منذ الولادة الأولى فهم موتى الأرواح في جلود الأحياء ولو عاشوا عمراً فيزيائياً وجسداً بيولوجياً فهم ولدوا ولادة عقيمة... ومسخوا مسخاً بأشكال كائنات مخيفة وضارّة... تفترس الإنسانيّة بأنفاسها المسمومة ولهاثها المقيت الكريه النتن... فالشّرير هو الأب الرّوحي للإرهابي المحترف فهو الذي يولد مشوّهاً كالحاً ضالاً... هو ذاك الذي يُعكّر راحة حياة الآخرين ويفترس أخاه الإنسان في ظلمة الليل وفي البراري الموحشة... وفي رابعة النهار... وفي المحافل الآهلة وفي القصور والسرادقات وأمام أعين النّاس الأبرياء...
يولد المولود في رحم أمه بريئاً نقيّاً... ولكن يلوّثه أهل النفاثات في العقد، ونافخو الوساوس الخنّس في التطرّف المنحرف والبيئة المتخلفة المتفسّخة...
إنّ الذي يحوّل حياة الإنسان إلى جحيم هو الإنسان الشرير الأبتر الذي لا يولد إلاّ مرّة واحدة, ويموت موتاً أبديّاً, وتلعنه الأجيال الحاضرة واللاحقة وبئس الورد المورود..
الدولة تولد من صلب الشّعب إذا كان انتخابها نزيهاً... والدولة هي ملك للجميع... وهي أنا وأنت ونحن...
وكما قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر: أنا الدّولة.. والدّولة أنا... فاستقم تستقم الدّولة...
فالدّولة هي النّموذج الأرقى لثقافة الشّعب... والدّولة هي ابنة الشّعب، فإذا كان الشّعب جديراً بالأبوّة والصّلاح كانت الدّولة صالحةً... وإن كان ظالماً جاهلاً كانت الدّولة جائرةً...
فالدّولة هي خلاصة ثقافة المجتمع وهي المقياس الذي ينعكس على وعي ومعرفة وديمقراطيّة المجتمع الذي أنجبها... !!!
البحث العلمي هو المحاولة الدقيقة الناقدة للتوصل إلى حلول المشكلات التي تؤرّق البشرية وتحيّرها... والبحث العلمي يقوم على أساس من حب الإطلاع والشوق إلى المعرفة وكشف الحقيقة... وحينما يصادف الإنسان مشكلة معقدة لا يجد لها حلاً وحينئذٍ يبدأ بطرح الأسئلة: لماذا ؟ متى ؟ كيف ؟ أين ؟... والبحث العلمي يشاطر هذه الأسئلة لغايةٍ نظرية وعملية معاً وأن الطريقة العلمية واحدة وإن اختلفت أشكالها من علم إلى علم بسبب طبيعة المادة العلمية المدروسة... وكلّ علمٍ على حدة... وكما يقوم البحث العلمي على أساس من ذكاء وتدريب ودراية معرفية خاصّة... ولا بدَّ من تدريب هؤلاء الباحثين في مختبرات جامعية في أرفع مستويات (المختبرات العلمية الدقيقة)... فهؤلاء الباحثون العلمانيون هم ثروة ثمينة لأمتهم ووطنهم... وهذه المراكز والبحوث العلمية إذا لم تتحرر من الروتين والبيروقراطية... أصبحت أدوات للتعويق والتقهقر إلى الخلف بدلاً من أن تكون وسائل للتقدم والازدهار... وتكون وسائل للتنسيق والتنظيم والتوجيه.
يبدأ البحث العلمي الشعور بالمشكلة، ويكون هذا الشعور بناء على ملاحظة والملاحظة أمرٌ ضروريٌ للبحث العلمي ولا تنفصل عنه دقيقة واحدة، وتصاحبها في كل مراحله... والملاحظة قد تكون عشوائية وقد تكون منهجية منظمة هادفة... وقد تكون عملية إرادية ومسلحة ومنهجية مثمرة... ويتفق علماء النفس أن الإلهام لا يهبط إلا من استعدّ له، وتهيّأ له بالعلم والمعرفة... ودقة الملاحظة، وحسن الربط بين الوسائل والغايات، وبين الأسباب والنتائج... وتأتي بعد الملاحظة صياغة الفرضية... يفترض الباحث، ويفترض فرضاً أو أكثر من أسبابها وعللها ومراميها وحلولها... وإنه من واجب الباحث الذكي الدقيق الموضوعي أن ينظر في فرضياته دون تحيز أو تعصب... وبعده يأتي دور التجريب وهو لبُّ البحث العلمي وجوهره.. وهو الأساس المتين الذي يقوم عليه البحث العلمي... وعلى الباحث أن يتأكد من صحة التجربة...( فالكلس يفور إذا صببنا عليه حامض الكبريت ) وذلك بأن يجرب لنفسه صبّ الحامض على الكلس، ومشاهدة فورانه بنفسه... ويرى العلماء أن التجريب ليس إلا ملاحظة في المخبر... وهي ملاحظة منهجية في المخبر تقوم على أساس من حصر العوامل المختلفة للمشكلة المدروسة... ثم تثبيت كل العوامل باستثناء عامل واحد يحرك ونلاحظ النتائج... ثم تأتي بعده مرحلة التعميم... والحق أن التجريب حين يثبت صحة الفرضية يكون قد توصل إلى قاعدة أو قانون وذلك بحسب درجة اليقين التي تتمتع بها النتيجة التي تمَّ التوصل إليها... وكل باحث وكل إنسان حريص على التواصل إلى قواعد عامة، وقوانين ثابتة ونظريات تفسيرية... ومن نافلة القول: إنَّ هذه القواعد والقوانين تسهّل الحياة، وتمكّن الإنسان من التعامل مع الطبيعة والناس تعاملاً ميسوراً يقوم على أساس من علمٍ ويقين... والتوصل إلى القوانين والعلوم الإنسانية أصعب من العلوم الطبيعية والبيولوجية... في حين أن الحادثة الإنسانية شديدة التعقيد ومتداخلة الأسباب... وبعد التعميم يأتي دور التطبيق... وذلك حينما يدرك الإنسان أن المعادن تتمدّد بالحرارة... فقد أفاد من هذه الحقيقة إفادات نظرية وعملية شتّى، وفي مختلف ميادين العلم والتطبيق... والتطبيق العملي غاية كبرى من غايات الباحث العلمي المقتدر وهدف من أهداف العلم والحياة... وأن العلوم النظرية على خطرها وجلال قدرها إنما تكون في النهاية لخدمة العمل، والتطبيق العملي...
هذه النظرة الوجيزة التي أسردتُها على البحث العلمي حرصاً منّي على تبصير القارئ بالمقصود من البحث العلمي...
في عرف الأُسُوْدِ الضواري... لا يفترس الأسد قرينه الأسد... أما في عالمنا الإنساني... الإنسان يفترس أخاه الإنسان بدافع غرائزه الهائجة مُتَمتَرْساً خلف شعارات مبهرحة بدافع العرق أو المذاهب والطوائف
أو التحزبات الممسوخة في مصانع أعداء الإنسانية والتي تلوَّح بأنها على حق وغيرها على الباطل وبأن قتل خصمه سيكافأ جزاءً أوفى، ومنزلةً عاليةً في الفردوس الخالد...
إنَّ الإنسان هو أكرم المخلوقات في الكوكب الأرضي... فلماذا نتخاصم ونأكل لحوم بعضنا، ونسفك دماء أخوتنا وكلنا نبوح بحبنا (الله) فلماذا لا نحب بعضنا بعضاً...؟؟؟
وتكرّر ذكر الإنسان في الذكر الحكيم مرات ومرات... وحتى أنَّ فيه سورة خاصَّة للإنسان... وأنه من الأنبل ومن انطلاقنا من قمة الصفاء والنقاء الإنساني أدعو إلى نبذ الخلافات العرقية والمذهبية والجلوس على مائدةٍ مستديرة نلغي هذه التعصبات المقيتة... ( وكنوز الأرض تكفينا جميعاً إذا تجاوزنا وتخطينا التعصبات والانحيازات المذهبية والعرقية ) ونطبّق مقولة الرسول الأعظم والمعلم الأول للبشرية ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) إن من يتباهى بحضارته، ويغضّ الطرف عن الحضارات الأخرى فإنه ليس جديراً بحضارته فيصبح المعول الهدّام لحضارته، وإن دراسة التاريخ مليئةٌ بالفكر والتأمل والعمق... وإنَّ الحضارات التي سادت في حقبةٍ أو في أخرى... إنما قامت استجابة للتحديات الخارجية طبقاً لنظرية التحدي والاستجابة... حيث بقي هذان العاملان الأساسيان فيهما يتأرجحان في كفتي ميزان مضطرب... وفي شرقنا الأدنى والأوسط ترقد الحضارات الواحدة فوق الأخرى... القلاع... المعابد... الآثار كلها في بقعةٍ واحدة... حضارات فارسية وكردية ويونانية ورومانية وبيزنطية وفينيقية... ولماذا ذابت هذه النظم السياسية الواحد بعد الآخر... إننا نعيش في قلق على مصير البشرية... والنظم السياسية التي استولت على سدة الحكم اضطهدت شعوبها في آسيا وأفريقيا وأمريكا... غَرَسَتْ في نفوس هذه الشعوب الغضب المقيت، والحقد الدفين وسعير الانتقام...
علينا أن ندرس التاريخ بذكاء ليس تاريخ البشر فحسب بل تاريخ الأرض والبحار والنباتات، والمستحاثات العضوية... وأن نفلسف التاريخ ونتوغل في أعماقه بأسلوبٍ جديد... بدلاً من حكاياته التراجيدية والكوميدية...!!!
إن الأنظمة المستبدة مهما قُوِيَتْ وتقدّمت تكنولوجياً لن تلبث أن تزول من تلقاء نفسها وسط هذا الزحام المضطرب لأنها قامت على نظام خاطئ وفاسد... لا يمكن أن تعمّر كثيراً وتدفع ثمناً باهظاً لجبروتها وعربدتها...
وإني أتنبأ مستقبلاً أنَّ ميزان القوة سوف يميل لصالح دول الشرق الأوسط، والدول الآسيوية... لأنها سوف تعود إلى ينابيعها الأصيلة، وسبحات فكرها العميق...
ولو اجتمع حكماء العالم في منصّةٍ واحدةٍ من العدل والمحبة والسلام... واتفقوا على عائلةٍ بشرية واحدة... ونبذوا الأحزاب السياسية الزائغة التي تبتغي العروش وليس الإنسان... واخترقوا ملاعب المذاهب والطوائف... والتحزّبات العرقية... ودعوا إلى احترام الإنسان... والبحث عن سعادة أخيه الإنسان لازدهرت الأرض وأثمرت ثمار النبوغ والقطوف الدانية... والغلال الوفيرة، والجنة المرتجى التي كانت يحلم بها عمالقة التاريخ، وفلاسفة الكهوف.....
هناك سياسةٌ مدروسة خلف الكواليس المعتمة لإبقائنا ضعفاء أمام التحديات والأعداء...
هجرة العقول بين دول العالم المختلفة ليست وليدة هذا العصر ولكن منذ عهود طويلة... وهجرة الكفاءات ذاتها ليست لحناً من ألحان هذا الجيل بل هو لحنٌ عزفته المملكة المتحدة مثلاً عندما شعرت أن العلماء لديها بدأوا يهاجرون من وطنهم إلى الولايات المتحدة بعد أن شعروا أنَّ الأخيرة قد فتحت لهم ذراعيها... وفرشت لها ولغيرها من السوفييت الطريق بالورود والرياحين... واستقطبت علماء ألمانيا أمثال
( فون براون ) أبو الصواريخ في أمريكا كان في ألمانيا الهتلرية... وشرقنا المتوسط كان مصدراً خصباً لتزويد الولايات المتحدة وغيرها بالعلماء، وبشتى الاختصاصات العلمية... ولعل الأسباب التي تدفع بالعلماء إلى الهجرة أسباب مادية ومعنوية وفكرية... فالولايات المتحدة تعطي بسخاء من الرواتب ما هو كفيل ببقاء هذه العقول لديها... ومن أسباب هجرة العلماء ما ذكره الدكتور محمد عيد مصطفى أستاذ ورئيس قسم المحاسبة بجامعة كاليفورنيا إن سبب هجرته إلى الولايات المتحدة هو تحقيق الذات، وردّ الاعتبار، والبحث عن الكينونة والإحساس باحترامها وتقديرها... وكان من أسباب الهجرة ضياع وطن... ولعلَّ للهجرة حالاتٌ... فهناك فئةٌ تعلّمت في وطنها لكنها اصطدمت بعد تخرّجها بعقبات قد تكون مالية اقتصادية أو فكرية أو اجتماعية أدَّت بها إلى هجرتها خارج وطنها الأم... وفئةٌ أخرى تعلّمتْ في الخارج ثم عادت لخدمة وطنها لكنها شعرت أنها لم تعط الاهتمام المناسب لتخصّصاتها فعادت إلى حيث أتت لتقدم خبرتها إلى وطن غير وطنها وفئةٌ ثالثةٌ تلقَّتْ علومها في جامعات الخارج، وطاب لها العيش هناك، والإغراءاتُ كثيرةٌ فأحبَّت العيش هناك وفضَّلتْهُ على العودة إلى وطنها...
وكيفما تكن حالة هذه الهجرة ودوافعها... فإننا نصل إلى نقطةٍ واحدةٍ تتلخّصُ في أن الوطن وطن المهاجر هو الخاسر الوحيد في هذه الهجرة المرغمة هرباً من شبح الاستبداد وغوائل الجوع وديدان الفساد... وعندما نصنع من وطننا جنَّةً من العدل والمحبة والإخاء... تتلهف الأدمغة للعودة إلى وطنها المزدهر... علينا أن نسعى جاهدين لإعادة هؤلاء المتنوّرين إلى أوطانهم... وتوفير سبل العيش الكريم لهم...
قال سقراط ذات يوم: أفلاطون صديق، والحقّ صديق، ولكن الحقّ أصدق.
وقال الحلاج: أنا الحقّ... !!!
الحقيقة الطبيعية الفلسفية واحدة لجوهرٍ واحدٍ... هو جوهر عقلٍ محضٍ يعقِل ذاته بذاته... فهو عاقلٌ ومعقولٌ معاً... وكلّ من يعقلُ ذاته يفيض عنه عقلٌ أول بوصفه واجب الوجود... فالإنسان يسعى إلى حقيقة واحدة... والمنطق العقلي يبني أعمدته من الجدل والقياس والبرهان والتقويم... والنّبي والفيلسوف كلاهما يبحثان عن الحقيقة الواحدة...
الإنتاج العلمي والتكنولوجي يأتي من إبداعات العقل الإنساني... يتفاعل مع مكونات الطبيعة بالتأمل والتفكير والبحث والعمل... والإنسان يسعى بوحيٍ من عقله، وعقله يعمل بإيحاء المعلومات المخزّنة في خلايا الدماغ... والمعلومات المكتسبة بشتّى أنواعها من التعليم والأسرة... والخبرة الذاتية تكتسب ذاتها من خلال الاحتكاك المباشر مع الواقع، وممارسة الحياة بأصنافها المتعددة...
والسؤال الآن المثير جدلاً واستغراباً وتهكماً...!!! هل نحن أحفاد أولئك الأجداد الذين بنوا الحضارات منذ ستة آلاف عام ؟؟؟ أم أنّنا ولدنا من مورّثات منوية مختلسة لسنا من أصلابهم...؟؟؟ هؤلاء الأوائل الذين شيّدوا الحضارة في الشرق المتوسطي "سوريا الطبيعية" التي كانت مركزاً إشعاعياً حضارياً للحضارة الإنسانية التي وصلت إلينا بريقها... فيها عرف الإنسان لأول مرة الزراعة، وصناعة السيوف، وترويض الخيول، وصناعة المركبات، وبناء حكومات، وازدهار الشعوب،وسنّ قوانين، واختراع علوم الرياضيات والطبّ والكيمياء والفلك، وتشييد المكتبات، واختراع الحبر والورق، وإنشاء المدارس، واستخدام العملة الذهبية والفضية في تقويم البضائع، ووضع التقاويم، ونشر الأدب والشعر والنحت... فهذه الحضارة لم تأتِ عبثاً أو من فراغ فجاءت من البابلية والآشورية والآرامية...
وعلماء الغرب هم الذين نقّبوا فاستخرجوا منها وثائق التنقيب واكتشفوا من خلال الوثائق المكتوبة بأن سوريا هي مهد الحضارات الإنسانية... وهذه الوثائق الصادرة من التنقيب والبحث محفوظة في خزائنهم... فتاريخنا ليس بأيدينا... وإنما بأيدي من ينوي الشرّ لنا...
نحن لم نكتب تاريخنا بأنفسنا ونصرّح بذلك حزناً وألماً بالغاً... أي جامعة في الأقطار العربية خصَّصت أو قررت تدريس لسان أوغاريت ؟؟ هناك جامعة عبرية في القدس المحتلة تدرّس هذه المادة... وأكاد أجزم وأقول لا تخلو جامعة في أوروبا وأمريكا إلا وهذه المادة فيها مقرّرة... وطلبة الدراسات العليا يحصلون عليها بدرجة الدكتوراه؟؟؟
الدول شبيهة بالكائن الحي طفولةً وشباباً وهرماً وموتاً وليس الشعوب وأخالف ابن خلدون في هذا الرأي الشعوب لا تهرم تتجدد بالولادة وخصب الإنجاب لولا الغرب الذي استخرج النفط والغاز وكرّر لكان حتى اليوم نائماً في باطن الأرض ونحن نسير فوقه بالبغال والجمال والحمير... إننا نشعر بالخجل والدونية... حزناً وأسىً...
ألا نشعر بالخجل... إسرائيل ليس فيها نفط ولا معادن ولا مياه... وجاءوا من أقاصي المعمورة من كلّ طائفة احتلوا مقدساتنا وشرّدوا شعبنا... وهم لا يتجاوزون بضعة ملايين...
من هنا أبتغي استعراض بعض المحطات الهامة... ونقلّب أوراقنا المجهولة...!!!
عندما جاء الإسلام إلى الشرق الأدنى( سوريا ومصر ) وجدوا البلاد التي أبدعت الحضارة الإنسانية قد تخلّفت وتقهقرت... ووجدوا لدى السريان كتب الطبّ والعلوم منقولة عن اليونانية... وكان قد مضى على الشرق الأدنى أكثر من ألف سنة تحت الاحتلال الأجنبي اليوناني والروماني... وكان قد مضى على انتشار المسيحية حوالي ستمائة سنة... وكان رجال الدين ذوي العقول الجامدة والمتزمتة كانت لهم نفوذ استبداد ورهبة ضد العلم والعلماء... ثمّ اضطرّ أولو الألباب إلى الهجرة قسراً خوفاً على حياتهم... وهاجر علماء( الرّها ) فلجأ بعضهم إلى بلاد فارس، واجتمعوا ببلاط كسرى أنوشروان 531م، وأنوشروان رحّب بهم وآواهم وأكرم وفادتهم وكان منهم فلاسفة الأفلاطونية الحديثة الذين نفاهم إمبراطور(جستنيان) من أثينا، وأسس كسرى في جنديسابور داراً للعلم...
قام فيها العلماء بتدريس الطب والفلسفة... وفي أيام الخليفة المأمون حيث جعل شروط الصلح مع (تيوفيل) قبرص أن يرسل إليه كتب الحكمة لأرسطوطاليس، بحث عنها تيوفيل فوجدها في بيتٍ قديم وعليها أقفال كثيرة لأنها كانت تعتبر كتب كفر وهرطقة...
ففي فترة أربعة آلاف قبل الميلاد إلى ثلاثمائة قبل الميلاد ازدهار الحضارة في الشرق الأدنى سوريا الطبيعية وبلاد الرافدين ومصر، ونقل حضارتها إلى اليونان وإيطاليا وأسبانيا عن طريق التنوير والتجارة وليس الغزو... أما في الفترة 300 ق. م احتلَّ الاسكندر المكدوني الشرق الأدنى ثمّ الاحتلال الروماني... ثم الفارسي... أما في فترة 635م حتى عام 1492م فترة الفتوحات الإسلامية... وكان السريان في سوريا الطبيعية هم الورثة الحافظون للتراث الحضاري السوري... وكلّفهم بعض الخلفاء المسلمين المحبين للعلم بترجمة ما لديهم من كتب إلى العربية فوجد العلماء في هذه الكتب ذروة العلم من الطبّ والفلسفة والفلك والرياضيات، وقام علماء الفرس بترجمة بعض الكتب عن الفارسية والهندية... ودامت فترة الترجمة حوالي مئتي سنة واستمرت هذه الفترة حتى القرن العاشر، واستمرّت شعلة الحضارة والعلم في الأندلس حتى عام 1492م حيث سقطت العروش وطرد العرب منها شرّ طردة... وفي الفترة التاريخية من 1492م إلى 1850م فترة الانقطاع العلمي وإغلاق المدارس ودور العلم وغياب العقل العلمي... وسيطرة الخرافات والشعوذة على عقول النّاس... فترة حكم المماليك... ثمّ الأتراك... بعيدين كلّ البعد عن التقدّم العلمي والتكنولوجي... فمنذ عام 1850م حتى بداية القرن الواحد والعشرين...
احتكينا مع العقل الغربي في نقل العلوم والتقنية... ما نقلناه كان عصياً بسبب غياب الإرادة المصممة الطموحة... والهوية الوطنية...
وفي هذا الصّدد يلعب الحكّام المستبدّون، ورجال الدين المتزمتون في تدمير البؤر العلمية وإنهاء الأدمغة المتنورة بالإضافة إلى سياسة الغرب اللئيمة...
إنَّ الغرب الأوربي تجاوز مرحلة التزمت الديني والجمود العقلي ففي القرون الوسطى كان يرفض كل إبداع واختراع ويعتبره هرطقة، وإنزال العقاب الصارم ومحاكمة غاليلي في اختراعاته العلمية الباهرة...
يقول غوركي في هذا المجال:( تحالف الدولة المستبدة مع رجال الدين الجامدين... ومع الأمن هذا المثلث الثلاثي يدمّر بنية الدولة ويحوّل الأمة إلى عبيد...).
وحقيقٌ عليَّ أن لا أقول إلا الحقّ... التعصب والانحراف والتزمت ينجب تعصباً أشدّ والتزمت يولد تزمتاً أكثر مسوخاً وتشوّهاً... فالثورة العباسية لم تكن ثورة حقيقية بمعناها الجوهري... كانت ثورة انتقام فقط لإنزال القصاص على الأمويين المستبدين... ولهذا ظهرت تحديات نتيجة غليان التطرف المنحرف... ومن هذه التحديات المانوية والمزدكية والخرمية والزرادشتية والمسيحية والمعتزلة والأشاعرة والقرامطة وإخوان الصفا والحركات الإلحادية...وغيرها.
لم تأتِ هذه الثورات الفكرية عبثاً إنّما هي ردة فعل للتطرف المنحرف والاستبداد الأهوج... ولم تظهر الشعوبية من تلقاء ذاتها بل وجدت لواقع عقيم واستبداد مهين... فالأنظمة المتعصبة هي التي تجلب على نفسها وعلى شعوبها الهلاك والدمار... وبانعدام الحرية الفكرية والتعددية المذهبية والطائفية لا يمكن التقدم العلمي والتقني والوطني والإنساني...
إن انتصار الثورات الفكرية والاجتماعية كالبلشفية في روسيا وأوربا والثورة الفرنسية والثورة الصينية (ماو) وهذه الحالات تتصاعد وتهبط بحسب القيادة التي تدير شؤون المجتمع... وهذه الأشكال لا تدوم
ولا تستمر في ظلّ الأنظمة الاستبدادية ولكن في ظلّ الأنظمة الديمقراطية... تستبدل الطبقات الحاكمة الهرمة الضعيفة بقيادات ناشطة زكية حاذقة... سياسية ماهرة... وتستمر ألق الحضارة في النماء والثراء...
فبعد موت لينين في روسيا استلم القيادة ستالين الرجل الفولاذي الحديدي... فكان مستبداً عادلاً متنوراً ففي عهده قفزت روسيا من دولة زراعية إلى دولة صناعية حتى تفوقت على دول الغرب في مجال غزو الفضاء الخارجي بإطلاق قمر صناعي عام 1958م...
إنَّ الحكام المستبدّين الجهلة لا همّ لهم سوى عروشهم وشهواتهم والمتحالفين مع رجال الدين المتزمتين ومع جهاز الأمن ليصون عروشهم... هؤلاء يعارضون كلّ تقدّم أو إبداع أو اختراع بحجّة أنه يخالف الدين ويجلب غضب الله كما فعلت الكنيسة المسيحية في العصور الوسطى... وكما حصل في العصر الانحطاط المملوكي... الدولة العثمانية كانت أكبر إمبراطورية على وجه الأرض اندحرت وهُزمت تكنولوجياً أمام روسيا ونمسا فأطلق عليها (الرجل المريض)... كانت أمتنا حتى عام 1500م أكثر تقدماً من كلّ نواحي الحياة... كتاب الزهراوي في الطب يُدرّس في جامعة أكسفورد وكتاب الحاوي للرازي في جامعات فرنسا.
علماؤنا حتى عام 1300م كانوا أساتذة الدّنيا، ذلك تاريخٌ مضيءٌ... كان عدد العلماء يقدّر بألفين عالم من العصر العباسي الأول بدءاً من عصر هارون الرشيد 800 م وحتى عام 1300 م. وما عدا هذه الفترة التاريخية ظلامٌ حالكٌ تكاد تخلو الموسوعة للمكتشفين المخترعين من أسمائهم... ما عدا عالماً واحداً هو حسن كامل الصباح العالم اللبناني المبدع الشهير الذي أبدع في أمريكا خمسة وسبعين اختراعاً في الكهرباء والإلكترونيات وتوفي في ظروف غامضة عام 1935 م بينما كان يستعدّ للعودة إلى وطنه بإبداعاته الجديدة المبتكرة...
إن توفر قيادات سياسية وطنية مخلصة علمانية رشيدة تعتمد على حرية الاختيار وحرية الفكر والعمل وتقدير العباقرة الذين يشكلون من الألف واحد... علينا أن نستفيد من ثمارهم اليانعة الناضجة.
الهند حصلت على استقلالها عام 1947 م كانت فقيرة معدمة... وديانات كثيرة غارقة في الزهد والتقشف والهروب من الحياة... وجدت لها قيادات سياسة حكيمة... تحمل عقلاً متنوراً وحكمةً راسخةً كرسوخ الجبال... فأنشأ جواهر لآل نهرو 1000 مركزاً علمياً... وجلب العلماء وقدّرهم ومنحهم قدراً معنوياً ومادياً... فصنع الهند قنبلة ذريّة وفجّرها عام 1975م وأنشأ قمراً صناعياً عام 1980م وأنتجَ معامل الطائرات والغواصات والصواريخ هذا بالنسبة للتقنية والأبحاث العلمية...
أما في مجال الوضع الاجتماعي والدستوري... رفع شعار (الهند للجميع) وحرية الاختيار... فهناك خمسة وعشرون إقليماً... ومئتان وخمسون لغة... وكلّ فئة تدرس بلغتها وتعيش مع تقاليدها وتراثها الشعبي... أنفذ الهند من الدسائس والفتن من المتطرفين والمغرضين، ونشر ثقافة المحبة والتسامح والصفح الجميل... وتابع مسيرة الازدهار غاندي وابنته أنديرا وراجيف غاندي، ولكن هذه العائلة المخلصة الحكيمة دفعت ثمناً باهظاً لقاء رسالة المحبة بين الهنود... فاغتالهم رصاص التطرف والتعسف والانحراف البغيض...
إن تطبيق ثقافة المحبة قولاً وعملاً يوطد بنيان الأمة ويدعم أركان الوطن،ويوحّد ولا يفرّق... ويغرس بذور الرياحين لبناء مجتمع مزدهر... !!!
إنَّ المحبّة تولد محبّة، والاضطهاد ينجب اضطهاداً أشرس... والحقد يولد احتقاناً أرعناً... والعنف يولد عنفاً طاغياً... فلا سبيل غير العقل المنفتح المتنوّر...
ومن خلال هذا التبيان سؤال يطرح نفسه... لماذا الغرب يفتح ذراعيه للعباقرة والعلماء والمضطهدين والمشردين ويمنح لهم جنسية وهوية ورواتب مغرية وسكناً وأمناً وسلاماً...
إنّ الغرب كان متخلفاً في القرون الوسطى أكثر منّا... وعندما تحرّر من سيطرة الكنيسة وركن إلى العقل والوعي والمعرفة وسلّم مصير البلاد للمثقفين وأولي الألباب... نهض من رقدته ومن كابوسه المخيف، وأخذ بأسباب الحضارة والمدنية محتكماً إلى العقل الرصين... وشرع يبني أركان القوة بدءاً من التقنية... وجلب العقول الذكية إليه فنال جائزة التمكين وبرز العضلات في مشرق الأرض ومغربها... وغزو السماء...!!! وأمام واقعنا الجريح النازف دماً بريئاً طاهراً نقياً... لا بدّ لنا أن ننشر ثقافة المحبة والتسامح... والاعتراف بفكرة الاقتراب من الحقيقة... وغرس النوايا الصادقة والمصداقية، واستنبات بذور الثقة بيننا جميعاً، ونبذ سياسة المراوغات والمكائد... ومخاطبة الأمة بالصدق والوفاء... واحترام التنوع الثقافي والاعتراف بعدم العصمة... والتهيؤ لقبول النقد... ولو كان النقد خاطئاً... والإقرار بالاختلاف في طبائع الأمة... واتخاذ الموقف الإيجابي من الآخر... وضمان الدولة للعدل وعدم التمييز في التشريع والقانون ومنح القانون سلطة كبرى ونقل ثقافة المدارس والمعاهد والجامعات إلى شارع الأمة... في كل حانوت وبيت وذلك من خلال سلوك عملي جاد وإنزال العقوبة القصوى لمن يتجاوز حقوق وحدة الأمة أو من يثير الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية... وبناء مجتمع مدني يراقب مسيرة الدولة وسعيها نحو الإصلاح والبناء... وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية وتأمين ظروف عمل مناسبة والضمانات الصحية والاجتماعية وتكريم العلماء والموهوبين والكتاب والأدباء والشعراء والاحتكام إليهم في القرارات الصعبة... وتلقين الثقافة والتعليم من قبل الوزارات الثلاث التربية والثقافة والإعلام... وانتهاج سلوكاً عملياً وليس لفظاً يردّده اللسان... وتحريم العنف وتجريمه لأنه هو العدو الأوحد في بناء عمارة الوطن... وتحويل السجن إلى مدرسة تربوية وإلقاء المحاضرات فيه نحو الإصلاح والتثقيف بحيث يخرج السجين وقد نال شهادة التوبة وعدم الرجوع إلى ماضيه الأسود وتحقيق مدنيّة الدولة من خلال الديمقراطية المناسبة لظروفنا الذاتية والموضوعية التي تخدم أمتنا ووطننا قبل كل شيء وتخدم الإنسانية جمعاء... وبناء دولة حيادية والسيادة للقانون والدستور...
نحن اليوم نتبوأ الصفوف الخلفية في الميزان الحضاري المتقدم
ولا ينافسنا في المقاعد الأخيرة سوى بعض الدول الأفريقية.
إنّ صراعنا الأجوف المقيت مع بعضنا البعض هو سبب جمودنا وتخلفنا عن مركب الحضارة والعلم... رغم ماضينا العريق في غابر الأزمان...
..................................................................................................................................
المصادر:
1- إسلام بلا مذاهب: د. مصطفى الشكعة.
2- مذاهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي.
3- قضية الحضارة: ديورانت
4- المعتزلة: محمد عمارة
5- تاريخ العلوم عند العرب: حسين حمادة
6- تاريخ العلوم: أنور الرفاعي.
7- تاريخ الفكر العلمي: د. محمد عفيفي
8- مدخل الحروب الصليبية: د. سهيل زكار.
9- نشوء وسقوط القرى العظمى: دول كيندي. ترجمة: مالك بديري.
9 / 2 / 2015م
كلَّ ما في الكون لقانونٍ لا يُرَدّ هو قانون الكون والفساد... فالأشياء تكون أو توجد ثم تفسد وتبلى لتولد أشياء أخرى تفسد بدورها وتبلى، ومن الموت تولد الحياة...، ومن الحياة يولد الموت...
لا شكَّ أن الحضارة الإسلامية قد عرفت بداياتها الطاهرة، وينابيعها المثالية الصافية في عهد الرسول الأكرم بعد أن اكتملت الأسس والقيم والمبادئ... فهذا ابن الخطاب يفتح القدس، ويرفض الصلاة في الكنيسة حتى لا تختلف الأمة من بعده عليها، وصلّى بجوار الكنيسة حيث يقوم مسجده الصغير ملاصقاً للكنيسة... وحتى اليهود الذين طردوا من القدس، وحرّم عليهم دخولها على يد روما المسيحية لم يسمح لهم بالعودة إلى زيارتها وسكناها إلا في ظلَّ خلافة عمر بعد أن حُرِموا من ذلك بقرون... إن التاريخ في المنطقة لم يخل بعد ذلك من الاضطهاد بكل أنواعه... الاضطهاد الديني، والاضطهاد العرقي... والحروب الدينية أو بالأحرى الحروب باسم الدين...
ولا شكَّ أن الحضارة الإسلامية الأولى عرفت كل ما عرفته الحضارات الأخرى... بعد ذلك من عهود الاستبداد ومن الصراعات السياسية التي ارتدتْ ثياباً بأنها الأحق في القيادة حتى دخلت مراحل الجمود ثم الاضمحلال والتحلل والضعف حتى تبارى في نهبها الطغاة... فكما أن هناك أمثلة كثيرة على الإقدام على قتل العلماء والعظماء من الأمة الذين كانوا هداةً لأمتهم... ك – سعيد بن المسيّب، وابن تيمية الذي مات مسجوناً، ومحنة أحمد بن حنبل أيام فتنة // القرآن هل هو قديم أم مخلوق ؟؟ //... وراح ضحية الفتنة غيره من الجهابذة الهمام، وأعلام الفكر والبيان... ففي أذهان أجيالنا المتعاقبة ما حدث خلال أربعة عشر قرناً هو كتلةٌ واحدة مضيئة من التاريخ الزاهر... نعم جاء الإسلام، ونهض أهله في حماس، يبنون دولته،وفي غمرة التفاؤل حسبوا أنهم يقيمون على الإيمان، والعدل، والخير دولة تدوم أبد الدهر وّمّضّتْ دولةُ الراشدين في طريقها فإذا هي في عنفوانها اقتحم الفساد دارها، وقطعت الفتنة مسيرتها وسقط ثلاثةٌ من الخلفاء شهداء الغدر والخيانة، وفساد الحياة الذي لا مهرب منه، وعندما استشهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رمز الإيمان والعدل والبيان والفروسية، وانتقل الحكم إلى معاوية... أيقن الناس بأن فساد الزمن جزء من الزمن نفسه، ولا مفرّ من دورة الحياة والموت... فجاء ابن خلدون في مقدمته
1332 – 1406 هـ يقيّم المجتمعات بأدوارها الدائرية، وَفَلْسَفَ التاريخ... وأتى بقوانين الطبيعيات والكيميائيات على كل ما يقع في الكون من تحولات... وقال: بأن التاريخ يتألف من دول... ولها أعمار كأعمار الأحياء... فكما يولد كل حيّ ثم ينمو ويشبّ ثم يهرم ويموت، أما دورة العمران عند ابن خلدون: أنَّ البداوة هي المرحلة الأولى من مراحل تطور كل جماعة إنسانية... وأن البداوة أصل العمران والأمصار... وعند ابن خلدون أن الجماعة البشرية تبدأ بدوّيةً ثم يشتدُّ عودها، وتتزايد قواها فتتّجه إلى غزو ما يجاورها من بلاد الحضر للاستيلاء عليها... فإذا تمكنت من ذلك، واستقرت في بلد متحضر وحكمته فقد بلغت قمة ما يسميه بالمجد أو قمة القمم ثم تؤول إلى النهاية... فللدول أعمارٌ كأعمار الأشخاص... وكما أن الشجرة تزهر وتثمر ثم تذبل... وهكذا دورة الحياة... وعند ابن خلدون المرحلة الأخيرة هي الترف بداية الفساد أو هو الفساد كله... ونظرية ابن خلدون رغم جاذبيتها فليس لها حظٌ من الصواب الكامل بأن الترف يفسد الأمة... غير أنَّ هناك ترف جسدي، وترفٌ روحيٌْ، وترف عقلي، فإذا اكتملت الثلاث اكتملت الحضارة والمدنية في أعلى مستوياتها، وأما إذا تشبثت الأمة بالترفين الأخيرين كُتِبَتْ لها الصيرورة والبقاء... وكلَّ جيل يسلّمُ الرّاية لجيلٍ بعده... فليست الحضارة عيباً اجتماعياً، ولا سبباً لفساد المجتمع بل هي قوّةٌ ودعامةٌ تشدُّ بنيانه... أمّا فساد الترف يأتي من سوء استخدامه... كما هو في دول الخليج...
تحوَّل الترف إلى البذخ والتبذير والإسراف في غير موضعه... فانقلب الترف إلى داءٍ سقيم بدءاً من الملك ثم الأمراء ثم المسئولين ثم الرعية... فالعيب ليس في الحضارة نفسها وإنما في موقف الإنسان منها... فالترف ليس مستوىً مالياً أو حضارياً وإنما هو خُلُقٌ وسلوك... هناك أغنياء غير مترفين... وهناك فقراءٌ مترفون... يتقنون جلب السّعادة لهم والعيش الكريم... ويمكن تحسين أحوال البشر وتحريرهم من الكثير من عوامل الفساد عن طريق العلم والثقافة والكشف عن أسباب العلل والأمراض التي تصيب البدن، وتسرع بفساده...
من هنا يقول الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جيوفاني 1668 – 1774 م إن تقدم الإنسانية حقيقة ولكنه يتم في حركة لولبية أي أنَّ دورات التاريخ المتعاقبة يتحقق معها شيءٌ من التحسن المطرد... وهذا ما جعل المفكر الفرنسي تورجو 1727 – 1781 م يقول: إن التاريخ يسير في خطٍ متقدم وأن دولابه يتقدم إلى الأمام بخط مستقيم... ويؤكد المفكر الفرنسي كوندروسيه ( أنطوان كاريتا ) 1743 – 1794م أن سبل التقدم مفتوحة أمام البشر إلى ما لا نهاية... ويهاجم السفليين الذين يقولون بأن العصور الماضية خيرٌ من الحاضرة... وأكد أن الثورة الفرنسية حطّمت الأغلال، وأطلقت النشاط الإنساني من عقاله... والفيلسوف الإنكليزي سبنسر1820 – 1913م في كتابه المسمى (التقدم قانونه وسببه ) يدعو إلى التفاؤل وإلى مستقبل باهر ويسوده روح الانفتاح والتنوير في تاريخ الفكر العالمي... ولكن أكبر المتفائلين دون شك هو سان سيمون 1760- 825 م فقد كان شعلة من الذكاء، وطاقة من العمل، وآية في سعة الاطلاع والطموح... وكان إيمانه بالبشر، وبضرورة التقدم... وكان عالماً طبيعياً يسير في آثار اسحق نيوتن... وقد ألّف عشرات الكتب وقال: إن العلم وحده هو طريق الإنسانية إلى التقدم وإن حكومة الغد ينبغي أن يتولاها العلماء حتى يضمن أطراد التقدم... ومن فكرة التقدم تنبعث نظرية التطور والنشوء والارتقاء وصراع الحياة والبقاء للأصلح... وروح التقدم هو الذي دفع الناس إلى الابتكار والاختراع فانتقلت البشرية الواعية من تطور البخار إلى الكهرباء إلى عصر الذرة... وإلى غزو الفضاء الخارجي وإلى وإلى... فالجماعة الإنسانية على أرقى المستويات حينما يتصل بإطار حياتها المادي ولكنها تتعثر في النواحي الاجتماعية والإنسانية... وهذا ما يعرف عند علماء التاريخ والاجتماع باسم الركود الحضاري...
إنَّ في تاريخنا محطّات ظهر فيها: محمد عبده... والأفغاني... والعقاد... والكواكبي قاموا خلالها بجهود فردية في هذا المجال... وكانت ميزتهم أنها قد تهيّأ لهم رسوخ القدم في دراسة التاريخ من جهة ورسوخ القدم في فنون النقد والكتابة والفكر الحديث من جهةٍ أخرى... بعدهم جاءت أجيالٌ قلَّ فيها من يجمع بين الأمرين... فهو إما خريج الدراسة الدينية المحضة وإما نتاج التكوين الأوربي الصرف الخالص... فوقع الانقسام الفكري، ونقص عدد القادرين على التكامل... ولكن الأمر صار أكبر وأهم بحيث يحتاج إلى جهد جماعي مؤسساتي ترعاه هيئة أو دولة تدرك قيمة هذا النبوغ والاجتهاد الفكري الخلاّق... وقيمة هذا المجهود المبذول الثمين.....
الشّاعر: محمود أسد من مواليد حلب1951 وهو مدرّس لغة عربية متقاعد... أمضى في التدريس أكثر من ثلاثة عقود... فهو يكتب الدراسات الأدبية ، والقصص القصيرة... والمقالات الصحفية... وصُدرتْ له مجموعاتٌ شعريّة... منها قطاف المواسم... واعترافات برسم القلق... ونزيف الأرصفة المتعبة... أحزاني تعلن العصيان.... من مقامات العشق الحلبي... قراءة في الإبداع الأدبي الحلبي -جامعة حلب...وشارك في العديد من المهرجانات في الشعر والقصة... والندوات الأدبيّة في الوطن وخارجه... وحاز على جوائز في الشّعر والقصة ، والنّصوص الأدبيّة... وهو عضو مؤسّس ومساهم في كتاب من أدباء حلب في النصف الثاني من القرن العشرين... وله مخطوطاتٌ شعرية ونثرية تنتظر الطبع بصبر جميل... قال سقراط يوماً: أفلاطون صديقٌ والحقُّ صديق، ولكنَّ الحقَّ أصدق... الشاعر محمود فهو عاقر الشعر ، وعرفته الصُّحفُ المحلية والعربيّة، وتعرفه المنابرُ الثقافية وشاشات التلفزة... وروَّاد الثقافة من الملل والنّحل المختلفة...فهو بنى ذاته بذاته وقد تجاوز حكمة الستّين.
تراه ناشطاً زاخراً بالحيوية والحماس والإقدام...إنه من سلالة السّنديانة العاتية... لا يتزحزح ولا يترنح أمام المواقف الحاسمة... ولا يرتعش إزاء هبوب العواصف العاصفة... وأحياناً يُوحى إليك.. أنّه من نسل الزيزفون العابق عطره للجالسين معه... والعابرين بلا ثمنٍ ولا لقاء... فمن خلال معاشرتي لهذا الرجل منذ سنين طويلة... تبيّن لي... أنّه يقود ولا يُقاد...!!! وأنه جدارٌ متين يستطيع المرء إسناد ظهره إليه... فهو بركانٌ ثائر لمن عاداه...! ووليُّ حميم لمن آخاه...! ونهرٌ جارٍ للظامئين...! يقيم في داخله رقيبٌ عتيد... يحاسبه... ويدفعه إلى الخير... فشكلُهُ ومضمونه متّحدان لأولي الألباب وليس لأولي الأزناب...!!! في عمقه العميق...،وسرِّه المكنون أسرارٌ مخفية... قلّما يعرفه الآخرون... إنه يسترسل في حديثه بلا انقطاع...! لأنه يمتلك الثقافة المتنوعة قابضاَ بناصية الجرأة والاقتحام في الأغوار... ويبسط نمارق الصراحة ، والصّدق وسماحة المحبة للجميع... فيتراءى لك بأنّه مطمئنُّ النفس براحة البال... وليس على كاهله حَملٌ ثقيل...! لكنه في باطنه لهيبٌ يتلظّى ناراً وسعيرا...
يصطلي بناره المكتوون عزاءً وسلوى... هذا البلبل المغرّد سخَّر قلمه للشعراء والأدباء والكتّاب والمفكرين... لم يترك أحداً إلاّ وأهرق مداد قلمه على محراب نتاجاته... فهناك قليلٌ من الشعراء والأدباء كتبوا عنه... فهو لم يكتب لأحد ٍتزلّفاً وتكسُّباً ولا تملقا... ولا تقربا... إنه أباح بالحقيقة الصادقة... فلم يمدح أحدا ولم يكره أحدا...وأما الذين ساهموا في الكتابة عنه هم قليلون... والشاعر الحق له جمهوره القليل من المخلصين في هذا الزمن الرمادي المرمود...وحسبنا حديثا وتشططاً من نفس عصامية المنشأ والفكر... تعالوا نتفيأ تحت ظلال روضة من روضات شعره... ( ترانيم الموت ) أولئك القاصرون النظر يخشون من هذا العنوان... والثاقبون الذين يثقبون ظلمات الجهل والعلل... يرون فيه خلودا باقيا... فكلما اقترب الإنسان من الموت هرول نحو... الخلود وليس الموت عنوانا مرعبا... وليس نهاية للحياة... ! إنه خروج من عالم الابتلاء إلى عوالم الجزاء والعقاب والفوز... إنه فصل أخر من رواية الحياة وأول فصل من فصول الخلد...والموت عند المعري مبتغاه المرتجى عندما علم أن حياة الدنيا لهو ولعب ولغوب...وتفاخر بالقصور وبالأحساب والأنساب... وأنه قد هرم وشاخ فتمنى مجيء الموت إليه فقال:
يا موت زر إن الحيـــاة دميمـة يا نفـس جـــدي إن دهـــرك هـازل
ولما بلغ حكيم الشعراء زهير بن أبي سلمى من العمر عتيا زهد وملَّ الحياة فقال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانيــــن حولا لا أبـالك يسـأم
وأعظم موت عند شاعرنا وأديبنا محمود أسد هو الموت المكلل والمختوم بخاتم الشهادة على هضاب القدس... لأن فيه نكران الذات ومنح الأوسمة العلوية...والالتحاق بالملأ الأعلى في جنات الفردوس نزلا... ذلك هو أعظم الموتات لأنه يجحد الأنا السفلى ويعتلي الأنا الأعلى تسانيم سدرة المنتهى... كما قال فرويد في وظيفة ( الأنا ) ذات يوم...! ويزأر الأسد في قصيدة له بعنوان( فلسطين في القلب ) فيقول:
يا قدس يا مسرى النبي محمـد أهلوك جسـر للمعالي الغالية
أهلوك سـفر للبطولـة والمدى تلك الحجارة أيقظـــت أماليـه
ما أروع الإيمان! إن قاد الحِجَا أبصرته نورا يضيء الداجية
الشاعر يعتمد على بحور الخليل تارة وعلى شعر التفعيلة تارة أخرى... تهتز مشاعره المغموسة بتجارب الحياة القاسية فيرفض الإزلال والخذلان ويوشِّح شعره بخمائل الظلال وبالدرر القابعة... في شطآن البحار... بين أصداف الجواهر واليواقيت... والكلمات الصارخة في ثنايا شعره...هي نفثات تلقائية عفوية من قلب شاعر جريح طموح... يغار على أمته... من نوازل ونكبات... فترانيم الموت لديه هي سيمفونية الشهادة على سهول وسفوح حيفا ويافا المروية بالدم الأحمر القاني....
يا قدس! كيف الدم يشـفي حاليه فالنـار تسـري والفواجع قاسية
بالنـــــار نرجـع حقنـــــا ووجودنــا والحـق يقـــوى بالنفـوس البانية
ركب شاعرنا شراع التجديد في همساته الشعرية الدافئة بوعي منه وإدراك كبير وكتب سطورا متداخلة ومضغوطة تنبئ بلهيب متوقد، وبحركة فنية... تتجدد، وتنبعث وتشع من جديد عبر أبجديته ذات الإيقاع الجميل الموزون...، والنبرات الحزينة... متشبثا بخلفية صلده من التاريخ الرصين... ويلفع حروفه العصيّ الحرون بسواد الحزن المقيت، والغضب الثائر... ممتزجا الدمع الأبيض حين ترقد الأحلام على أرصفة الحزن، والتوابيت الناعية...!وتتحطم كل المرايا المقعرة... ثم تنهض الأحلام وتستيقظ المدارك في آن معا...تتيح للقارئ لذة المتعة والبهجة... في تبديد الظلام ، واقتلاع الأشواك... ففي محطاته الشعرية يخترق حيوات الكائنات الإنسانية بأجوائه البنفسجية الفسيحة، وبروح جمالية مطلقة رغم القلق المستبد وذلك بنبرات مرهفة عمّا يجيش في ذاته من خواطر وذكريات ووقائع... التي واكبت ألقه الفكري الناصع... وعالمه السحري الشفاف...فيظهر هادئا وصاخبا بإيقاع موسيقي جذاب متدثرا ومجللا برمز وردي يتكئ عليه عنوانا بارعا لقصائده... فتلك المزايا والخصال تمثل آلة جذب تستقطب القارئ إليها في فلك المعاني التي يقتنصها... حيث تتجلى ملائكة الشعر وتقبع طواغيت الشعر في قماقمها وزنزاناتها المعتمة... إذ تمور في عالمه الداخلي أشجان النفس الطموح فشاعرنا... سيفي عربيٌّ سوريٌّ حلبيٌّ مشرق...يشعُّ بنبراسه ووهجه خيمة التاريخ ، ويذيب بقيظ الصحارى ركام الصقيع والجليد المتراكم... كجلمود صخر حطه السيل من عل...! قارعا نواقيس الخطر الداهم... ومبشرا بأن القدس لا يتحرر بالخطب والأشعار والبكاء على الأطلال وإنما بالحديد والنار... ويطلق الشاعر هتافه الصارخ بالأنين تارة، وبالثورة تارة أخرى فيقول:
ولما أدرنا الظهور ونحن نغني
عضضنا أصابعنا بعد أن ضاع منّا الحسام
ومن قال إن الدموع
ستمنح فجرا، وتبني الممالك
متى نكسر الخوف فينا
متى نعتلي قامة السالكين دروب الشهادة
هرب الزهر
وبعنا الياسمينا
واستكنّا اليهوذ
خانعينا
قد قصمنا ظهر حطّين
كأنّا من زمان
قد كفرنا بالرجولة
يا صلاح الدين قم
قد قالها غورو غرورا
يتحدّى كبرياء الرافضين
قم إلينا قد سبينا
فالأكاذيب سيولٌ
والتواقيع فراشاتٌ
قد أضعنا القدس
وسجدنا لسيول النِّفط
والجنس ونمنا في المحاكم
فأنهض إلينا يا قمر
وأنهض إلينا يا مطر
عاشت بطولة شعبنا
فهي السبيل لمن صبر
وهي الربيع لمن بزر
ويصور الشاعر المشهد العربي بالخزي والعار أمام القضية الكبرى عبر مجازاته ، واستعاراته البلاغية... وكناياته الذكية... راكبا كُمّيتَ الخليل الجامح معلنا صهيله عبر أبجديته المعهودة قائلا:
لا أرى في الدّروب إلا صورا تخجـــل الحمقــــى تفوق الشُّـهبا
فجمعت المجد من غير ونـىً وقبضــــت النّـِفـــــط ثـــــم الذَّهبـــــا
قد أتــــاك الشــــعر يرمي دررا فاحتـــواك الحـرف حتـــــــى غربـا
فبكى الحــــرف نجومــــا أفـلت وأتـــى الفــــكــر بيــــــان نضــــــــب
في حروب الأهل يبدو بطـلا يسـكب الموت على من غضب
ويذكّرني البيت الأخير بالشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت وإن أرشدت غزية أرشدي
ويرسل الشاعر نداءه إلى العرب جميعا... منذرا ونذيرا من الكارثة الكبرى... وضياع الحق... ولكن هيهات هيهات لما توعدون...!!! فهؤلاء فليسوا برجال بل هم أشباه الرجال.. قائلا:
مـــرة أخــرى أنــادي يـا عرب طفـــح الكيـــل فهيـــــــا للخطـــب
ويجيب الغيـم قلبي شــــاحب أسفي صاروا رجالا من خشب
فشاعرنا وجه بارز في شعرنا السوري المعاصر... تفيض قريحته بشعر غزير كالينابيع المتدفقة ماء زلالا... ولسوف ترتل الأجيال أشعاره في سيمفونية رائعة خالدة...
أرصفة المدن السورية... ملتهبة بنار الحريق، وهجير السعير... تتلظّى بشظايا الموت الرهيب... تنعي الأرصفة السوداء بألسنة حدادِ هول الفاجعة، وجهنّم الكارثة... الموت يحمل في ذراعيه مناجل الحصاد يحصد بها رؤوس الأهلين والأحبّة والأبرياء، شوارع المدن يعقد فيها الموت أعراس الفناء بدويِّ القنابل وقصف الراجمات، وتُحيلها رماداً ملطّخاً بأشلاء الموتى، تنطق بمقابر جماعية... وجثث متفسّخة ترتّل صحائف المآسي الدامية إنها أسطورة الملحمة الباكية... يرقص الموت في شوارعها وزواياها رقصة الوحش الكاسر حينما يصطاد قطعان الخراف... إنها مأساة شعبٍ طيّب نشيط متسامح ووطن شامخ عزيز مقتدر... إنها سوريا الحبيبة...
ويا درّةً بين المزابل أُلقيت ويا جوهــــرةً بيعت بأبخس قيمة
خُضنا من القرن الماضي ثلاثة فصول من الملاحم الدراماتيكية وباءت أغلبها بمسرحيات هزلية هابطة مضحكة حيناً ومُبكية حيناً آخر...
وفي الهيجاء ما جرّبتُ نفسي ولكن فـــي الهزيمة كالغــــــزال
إنه قدر أحمق الخطا، إنه سوريا تكابد مرارة الخذلان ووصمة عار...
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد
إنها قتال داحس والغبراء التي دامت أربعين عاماً...
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجّم
لقد حوّلت الحروب العربية والنزاعات الأهلية المواطنَ إلى فأرٍ مذعور هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر، والرعب من القصف الديماغوجي والقتل على الهوية واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفد كل شيء، وهو يتحوّل بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحرّكه غريزة البقاء فقط.
إن المواطن السوري يكفي لمائة مليون إذا طبّقنا ميزان العدل والإنصاف... ألم يقل الشاعر القروي –رحمه الله- ذات يوم في حبّة قمح بأنها مشطورة إلى نصفين: نصف لك ونصف لأخيك:
من حبّة الندى اتّخذ مثــل الندى يا من صرفتَ عن الندى يمناكا
كأنما الشق الذي في وســـطـها لك قائــــل نصفــــي يخصّ أخاكــا
وحالتنا المأساوية تعبّر عن الانفصام بين السلطة والجماهير، ولو أن الإنسان الوطني خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حدّ معقول أن يشارك في صنع القرارات السياسية التي أثّرت في مصير حياته لتغيّر كثيرٌ من معالم الصورة التي نعيشها...دماءً ودماراً، إن لدينا ذاكرة مثقلة بكل مرارات الماضي، وثارات التاريخ محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والإثنية والطائفية الدينية... وكلّما وقفنا على أبواب المستقبل ردّتنا هذه الذاكرة إلى الخلف... وإذا كنّا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة بشكل عاطفي فإن هذا الحلم كان مثالياً راديكالياً متطرّفاً. وكباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.
علينا أن نسأل أنفسنا... لماذا قتلنا عمرَ الفاروق الذي ملأ الأرض عدلاً وعثمانَ الذي ضحّى بماله ونفسه في سبيل بناء دولة العدل، والإمامَ علي الذي حمى الحمى وطبّق المبدأ على نفسه وأولاده، وعمر بن عبد العزيز الذي عاش في عصره المواطنون وقد تخلّصوا من الفقر نهائيا؟ ولماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت: الثنائية والثلاثية والرباعية؟... لماذا ترتفع شعارات الوطنية والحب والعدل في لحظة ونلتجئ إلى التباغض والأحقاد وحمل السلاح ؟...علينا أن نتخلّى عن هذا الحلم المثالي، هذا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً... ونتجاوزه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون كرامتنا وثروتنا ووطنيّتنا... إنها مهمة المفكّرين والحكماء من شتّى المكوّنات السورية في نسيجها البديع... دعوها لهم دعوة إلى أهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس بشرط أن لا يصل إلى مرحلة العداء، وتحت الأشكال الظاهرة تقبع تناحرات القبيلة في أقطار شتّى...
إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين أتوا من بقاع الأرض ومن ملل مختلفة متنوّعة، لا تجمعهم اللغة والجنس والعرق والتاريخ المشترك، وهم رغم ذلك متّفقون موحًَّدون لا يختلفون، وإن اختلفوا فلا يتقاتلون...
في الهند شعوب كثيرة متباينة ولعات عديدة، أكثر من مائتَي لغة... وأديان لا تُعدّ ولا تُحصى، وفوق ذلك هم مخلصون للهند ومدافعون عنها دفاعاً مستميتاً...
وفي السويد وسويسرا والدانمارك والنمسا... هؤلاء جميعاً يجمعهم وطن واحد، وهدفهم بناء وطنهم وتعميره والعيش فيه بالمحبّة والعدل والإخاء...
لأننا بأمسّ الحاجة إلى ثقافة المحبّة والتسامح والإيثار وإزالة الضغائن والأحقاد... وكلّ هذا مدوّنٌ في صحفنا السماوية المقدّسة، ولكننا نردّدها بألسنتنا لنصب الفخاخ لأخوتنا ومَلء الجيوب وتجويع الآخرين... يساورني الخجل الجمّ الغفير حين أرى القصف العشوائي في مدننا وأريافنا بعنجهيّة ماكرة... وإنه ليؤرّقني هدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وقتل الأبرياء من الولدان والشيوخ والنساء من الشعب البائس المسكين...
حينما هوجمت سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي، وكان البطل الشهيد يوسف العظمة وزيراً للدفاع وهو من أصول كردية ومن البديع السوري الخلاّق، عقد العزم أن يتوجّه مع رفاقه إلى ساحة ميسلون لمواجهة العدو وجهاً لوجه، نصحه الحكماء من ذويه بالتخلّي عن المواجهة لأنه لا تكافؤ في القوة العسكرية من حيث العدّة والعتاد، وخاطب البطل جنوده قائلاً: لا يجوز أن نقاتل بين الأبنية والمساكن لأنها تتعرّض للقصف... وقتل الآمنين وهدم مساكنهم... علينا أن نقاتل في ساحات البطولة وإني ذاهب إلى حتفي، إلى الاستشهاد، لكي لا يكتب التاريخ أن فرنسا دخلت دمشق بدون مقاومة... وسنقاتل في ساحة ميسلون ونرويها بدمائنا، ولن أسمح لفرنسا أن تجعل دمشق منتزهاً لها... وتَقَدّم إلى ساحة ميسلون وبأسلحة بدائية... قاتل حتى استشهد...وأنشد الشعراء الوطنيّون عنه بأعذب الألحان وأدقّ الكلمات وبقوافٍ تقطر دماً ودمعاً تخليداً لبطولاته:
كم لنا من ميسلونٍ نفضت عن جناحيهـــــا غبـــــار التعـــــب
إن التراجيديا السورية لا تُحلّ في أروقة الأمم ولا في المحافل الكولونيالية...إن السوريين هم الجديرون بحلّها...فالأولى أن تجتمع النخبة الممتازة الوطنية النزيهة التي تحبّ سوريا وشعبها قولاً وعملاً وتضحيةً، أن ترفع شعار السلام لأن السلام أقوى من قعقعة السلاح ودويّ المدافع... ونسعى جاهدين بدون تلكّؤ لحقن شلاّل الدماء... أما كفانا قتلاً وتدميراً... زوراً وبهتاناً؟... على كل فرد في هذا الوطن الغالي أن يكون وطنياً قبل أن يكون سياسياً حزبياً أو مصلحاً أو كاتباً أو شاعراً، أن يتحلّى بالوطنية... وأن يُؤْثر وطنَه سوريا على نفسه وعلى أهله وبنيه... لأن سوريا هي الأشمل والأرحب... لأن سوريا هي الرحم، وسكّانها ولدوا من رحمها. سوريا هي السور الذي يحمي كرامة الأمة، وهي الحصن الحصين لأهلها... وأن نتمثّل بقول الإمام علي: "لو هاجمنا الروم لصافحتُ معاوية."
إننا في سوريا أسرة ضمائر الرفع المنفصلة (أنا، أنت، نحن) لنرفع وطننا إلى أعلى الأعالي حباً وسلاماً وتسامحاً ونبلاً.
الحكايات والوقائع المتفرقة التي كانت تثير الدهشة والاستغراب ظَّلت مستمرةً منذ قرون... وكانت جزءاً من حكايات الميثولوجيا والأساطير ومعجزات الأنبياء والأولياء والقدّيسين... فإنسان القرن الواحد والعشرين حينما يقرأ حادثة ( زرقاء اليمامة ) التي كانت تستطيع الرؤية بوضوح على مسافة مسيرة ثلاثة أيام... وقيل إنها رأت علائم غزو صوب قبيلتها... فلما حذَّرتهم سخروا منها ثم وقعت الواقعة وأتاهم الغزو ولات ساعة مندم يشعر ابن هذا القرن بمبالغتها أو أنها خرافية... أما في نظر علم النفس تعتبر واقعة محتملة... هذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى لم تمر على الباحثين مروراً عابراً بل دفعتهم إلى تجميعها وتدقيقها بالطرق العلمية وبمناهج البحث هذه الدراسات تتعلق بالعقل والنفس والروح... فعلماء النفس الذين تخصّصوا بالخوارق نظروا إلى هذه الحوادث باهتمام وحرصٍ شديدين... مستندين على حقائق دامغة فانتهجوا سلوك الدرب الوعر... فشرع البروفسور ( وليم باريت ) أستاذ الفيزياء في كلية العلوم الملكية في دبلن عام 1876م يعلن عن تجاربه حول قضايا تواصل، وقراءة الأفكار ثم تأسَّستْ في لندن عام 1882م جمعية أبحاث خوارق الإحساس، وامتدت الأبحاث والشُّعَبُ والأقسام إلى جامعات كبرى كجامعة كمبردج واكسفورد، ونيويورك... ولندن... وانتقال موضوع الخوارق إلى الجامعات العلمية قفزة كبيرة في إزالة الالتباس والغموض والريب... فعلم النفس المتصل بالخوارق توصّل إلى الكشف عن الخوارق المتصلة بالأحاسيس بالتخاطر وتواصل الأفكار وذلك بإمكان الشخص أن يتعرّف على أفكار الآخرين من مسافات بعيدة بدون أن يمتلك واسطة الاتصال به... تنكشف لصاحب الخوارق ظاهرة التجلي أو الاستبصار وهي القدرة على رؤية الأشياء والناس والحوادث خارج نطاق البصر وهنا تغدو قصة زرقاء اليمامة شيئاً محتملاً جداً لأنها كانت ترى الأشياء بقوة الاستبصار وليس من خلال العين، وأعصاب الشبكية بالأضواء والظلال التي ينقلها الجهاز العصبي... والظاهرة الثالثة هي التنبؤ أو الإدراك المسبق وهي قابلية الفرد على استباق الحوادث وتوقع ما سيحدث قبل وقوعه بساعات
أو أيام أو أشهر... وعلم النفس الحديث المختص بعلم الخوارق يؤيد ذلك فالناس ليسوا سواء في إدراك الشيء الواحد... إنَّ حدود الإحساس لدى البشر لها معدل طبيعي... ومن المحتمل جداً أن يمتلك بعض الأفراد قابليات حسية تتجاوز الحدود الطبيعية وهي التي تبدو لنا من جملة خوارق الإحساس والملاحظ أن الأحاسيس الخارقة تولد أو توهب لأناس منذ الولادة يمتلكها عقلٌ موهوب، وجهازه العصبي دون تمرين
أو تعلم... فخوارق الإحساس إذاً غير شاذة، وغير فرضية بل هي تجانب الطبيعة المألوفة كما أنها لا تأتي باليوجا والتدريب والتمرين وليست لها علاقة بالجهد والإرادة وهي تتصف باللاشعورية أو غير المتعمدة... لا يزال من العسير وضع صيغة علمية أو تفسير لهذه الظواهر يتلاءم مع منطق العلم المادي الحديث وهنالك مجموعة من النظريات والفرضيات التي تقول إحداها بوجود موجات مخية تختلف عن الموجات المعروفة وأنها أشبه بموجات الراديو وتقوم بعملية نقل الأفكار... تلك نظرية أستاذ ( كروكس ) ونظرية أخرى تقول: باحتمال انتقال جزيئي الذرة الإلكتروني من دماغ لآخر... تلك نظرية الأستاذ السويسري( فوريل) ونظرية أخرى تقول: بوجود قوة روحية متنقلة... نظرية الألماني( اوستوالد )... والمتفق عليه أنه ليس بمقدور علم الفيزياء وحده في مجال التفسير المادي أن يقدم تفسيراً كاملاً لظواهر خوارق الإحساس كما لا يمكن القول إنَّ التجارب العَلمية لعلم النفس الروحيات ستسد الطريق أمام علم الفيزياء... بل إن الأفضل للاثنين إيجاد تفسير يجمع بينهما يوماً ولا يناقضهما... ويحق لنا أن نتساءل ماذا يفيدنا هذا النوع من البحث... وإلى أين سيقودنا؟؟؟ إنَّ ما أثبته علم النفس الخوارق من الحقائق التالية يمكن أن يفتح أمام الإنسان أبواباً أخرى من المعرفة... فقد أثبت أنَّ بإمكان العقل أن يتصل بعقل آخر دون واسطة مادية معروفة... وأن بإمكان العقل بموجودات أو مخلوقات أخرى يشعر بها دون واسطة وأن بإمكان العقل تخطي المسافات الشاسعة وإن بإمكانه سباق الزمن، وتوقع الحوادث وإن بإمكانه التأثير في حركة الجماد والحيوان دون أثر لواسطة مادية، وإن هناك شيئاً لا يدخل في صفات المادة قد يكون طاقة أو روحاً، ويدخل في تلك العمليات العقلية...
وإن العقل أو الروح و المادّة يتفاعلان بعملية واحدة ذات اتجاهين
أو يسيران في طريق واحد ذي ممرين... والحادثة التالية تثبت
ما سبق... مات رجل ثري في إحدى مدن أمريكا وترك وصية تجعل من أحد أبنائه الأربعة الوريث الوحيد لثروته، وبعد تنفيذ الوصية بأربع سنوات رأى أحد الأبناء الأربعة حلماً يقول له والده فيه أن وصيةً أخرى موجودة في دارهم القديمة فإذا ذهب هناك وجد في جيب جاكتة القديم لوالده ورقة مكتوبة فيها وصيته... وقد عثر الابن على وصية والده فعلاً وقد جاء فيها : إنَّ الثروة توزّع على الأبناء الأربعة بالتساوي وحكمت محكمة كارولينا الشمالية في مقاطعة(دافي) بتنفيذ الوصية بعد أن تأكد لديها بأنها صحيحة ومكتوبة بخط الميت مما تقدم نرى أن علم النفس الخوارق يرسم خطوطاً جديدة على اللوحة الهائلة للكون وموقع الإنسان منه... كما يضع في ذهن الإنسان مسألةً تقول : إن الحقيقة
لا تحددها القوانين الفيزيائية السائدة فحسب بل لابدّ من وجود قوى أخرى لا تخضع لقوانين المادّة بل لقوانينها هي... إذن فمن الجهالة الجزم بأنَّ كل ظاهرة خارقة أو غير مألوفة تعتبر خرافة أو تدجيل
أو بالأحرى إن بعض المعجزات الدينية شيء يقبله العقل والمنطق والعلم الحديث النفسي الخارق... إن الإنسان لا يزال عالماً غريباً معقداً فهو والكون المحيط به مجموعة أسرار عالمية تستوجب التواضع البشري والحماس العلمي لكشف المجهول والإيمان بعظمة الخالق فعلم النفس الخوارق يحاول تفسير كيفية التوافق بين العقل والبناء العضوي للدماغ بأسلوب يختلف عن الإطار العلمي السائد وبذلك يمكنه أن يسلط أضواء جديدة على علاقة الفكر بالمادّة.... الكون في ذاتنا وفي الفضاء حوالينا... وما علينا إلا أن نتدبر وأن نستعد لمزيد من البحث والتواضع والإيمان... ولا شك أن علم النفس الخوارق هو الذي يحمل راية الروحيات وهو الذي سيكون أقرب العلوم إلى الفكر الروحي بل إنه فعلاً يتلاءم مع الروحانيات ويسير معها جنباً إلى جنب والمستقبل وحدة كفيلٌ بجلاء الحقائق... وما علينا إلا أن نردّد مع ( سوفوكليس ) قوله : كثيرةٌ هي عجائب الدنيا... ولكن أعجبها هو الإنسان... وأن عظمة الخالق تتجلّى في كائناته ومخلوقاته...
إنَّ هذه الجلبة والضوضاء في كلَّ مكان جعلت أعصابنا متوترة... وتلك ظواهر لم يعهدها الأجيال من قبلنا التي كانت تنعم باستقرار الحال، وهدوء البال... إنَّ التقنية الحديثة من السيارات والطائرات والبواخر... انقلبت من نعمة إلى نقمة وأن الأيام المقبلة تحمل في طياتها بشرى المستقبل الآتي من مفاجآت سارّة... يخاف العالم اليوم من نفاذ البترول في الصحارى... ولولا الطاقة الهائلة المخزونة في جوف الصحارى لتوقفت كل وسائل النقل، وتوقفت الحياة... والطاقة نحصل عليها من مصادر شتّى منها أخشاب الوقود، والفحم الحجري والبترول، والغاز الطبيعي، والمعادن المشعة كالراديوم واليورانيوم... وهذه كلها مصادر مهدّدة بالنفاذ... وقد اهتدى الإنسان الباحث الألمعي إلى أن الشمس مصدر الطاقة لا تنفد مادامت الدنيا تسير على حالها... والشمس كما نعلم تشرق على كل جنبات الأرض مع اختلاف في فترات الشروق والغروب... ففي المناطق الباردة والقطبية يضعف الإشعاع الشمسي، ولكن في المناطق الحارّة... المدارية يطول الإشعاع الشمسي، ويشتدُّ حرارةً... وفي الصحارى حيث تكون السماء صافيةً... والأرض قفراء وجرداء... تبلغ الحرارة أقصاها وذروتها... والعلماء المتنورون بعلم الفضاء يعملون في الاستفادة من الطاقة الشمسية على نطاقٍ واسع... والاستفادة من الطاقة الشمسية قديمة قدم الإنسان في توليد النار بعد أن استطاع تجميع الأشعة الشمسية بواسطة عدسات محدبة... وأن هناك بلداناً في العالم تستفيد من هذه الطاقة عن طريق عمل سخانات ضخمة ذات مرايا كبيرة وضخمة تعكس ضوء الشمس وتجمعه فتحصل على حرارة تسخن المياه وهذا معمولٌ به في استراليا واليابان و فلوريدا وغيرها... ويؤدي هذا إلى رفع التكلفة الاقتصادية... وتمَّ تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية وذلك بواسطة امتصاصها بطرق فنية ( سلكون ) بلوري مقطّع ولامع... وعبارة عن نوع خاص من بطاريات الوقود... ولكن هذه الطريقة غير شاملة تعتمد في استعمالها على تكنولوجيا الفضاء... إنَّ علماء اليوم يفكرون بإقامة محطات ضخمة للطاقة ذات مرايا كبيرة تستقبل الأشعة وتجمعها وتحولها إلى طاقة يمكن تصديرها إلى المناطق الباردة والمستهلكة للطاقة... ويكون هذا التصدير عن طريق أنابيب وأسلاك ضخمة أشبه بأسلاك الحمل الكهربائي... أو عن طريق الموجات على غرار موجات البث الإذاعي والتلفزيوني واللاسلكي وأن الأقمار الصناعية تستقبل الطاقة من المحطات الصحراوية وتقوم بإرسالها إلى المناطق المحتاجة إليها ستصبح الصحارى مخزوناً كبيراً للطاقة الشمسية يوم أن كانت من ذي قبل مخزوناً كبيراً للنفط وأنواعه... غير أن الطاقة الشمسية تفوق عليها بأنها لا تزول ولا تحول ولا تنتهي إلا بانتهاء الشمس... ستقوم مستوطنات في الصحارى، ويشرف عليها مهنيون ومحترفون، وأصحاب المهن وستنشأ فيها مشافي ومدارس وبنوك وغير ذلك من مرافق الحياة... ويمكن للإنسان أن يستغل بعض الأراضي للزراعة... ويمكن في هذه الحالة تحليه مياه البحر لأغراض زراعية... وإنه إمكان تطبيق وتنفيذ المطر الصناعي في المناطق الجافة لم تعد مستحيلة
أو مستعصية لدى العلماء الباحثين... وبهذا ستشهد الصحراء نشاطاً بشرياً لم تشهده من ذي قبل... وسوف يكون شكل مستوطنات الصحراء بسيطاً جداً... فالمساكن ستبنى من المواد العازلة للحرارة... وسيشيع نمط ونموذج المباني الجاهزة وبأقل قدر من التكاليف... وبسرعة فائقة... ويمكن أن تحاط مدن الصحراء بغطاء كامل وبسور منيع يقيها من العواصف الترابية، ويسهّل تكييفها مركزياً... وتصبح المدينة بأجمعها مكيّفة للهواء الطلق... وسياراتها لا تستعمل النفط بل تعمل على الكهرباء بعيداً عن التلوث... وستتحول الصحارى إلى مدن نموذجية رائعة... يشدُّ إليها الرحال للإقامة فيها....
الحياة جميلة... ولكن أجملها على الإطلاق سكينة النفس المتكئة على رفرفٍ خضرٍ، وعبقري حسان والموشّحة بنمارق مصفوفة، وزرابيّ مبثوثة من الرّخاء والاطمئنان والأمن والسلام والسعادة... وفي رياضٍ من سندسٍ خضرٍ في رياحين من المحبة الفوّاحة بنكهةِ الصفاء والنّقاء... على بيدرٍ من مواسم سنابل الحصاد...
الرواية... هي ملحمة الشّقاء والعذاب... هي رحلة الموت إلى مقابر الأحزان... وسراديب الآلام في توابيتٍ ناعية... !!! هي رواية كلّ سوري اكتوى بجحيم النوازل الماحقة، والأزمات المستعصية... في الوطن الجريح النّازف دماً قانياً... هي رواية فصول دراماتيكية تراجيدية للروائي إبراهيم الخولي... أجاد في صياغتها بحبكةٍ فنيّةٍ رائعة...
وإليك عزيزي القارئ ملخّص الرواية لتصطلي بلهيب نارها عزاءً وسلوى... امرأة متزوجة ولها طفلتان... يأتيها النّبأ بأنّ زوجها مصابٌ... وهو راقدٌ في المشفى... وفي الطريق واجتياز الحواجز ذات الخرائط الموبوءة بالتمزق والانهيار... تقع طعماً سائغاً وفريسةً طازجاً في الأفخاخ اللعينة المنصوبة هنا وهناك... فوقعتِ الواقعة، وقَرَعَت القارعة... !!! فوقعت في فخّ البلايا وجحور الشّقاء ودهاليز القهر والإذلال... وشاء القدر أن تلتقي بخليلٍ صادقٍ أمين... في رحلة الموت والفناء... واستطاعت بصبرها وتحدّيها مع صديق دربها الإفلات من قبضة العصاة المارقين... ولما بلغت إلى شاطئ الحرية والانعتاق مع صديقها المخلص... اكتوت بنار الوسواس الخنّاس... طلّقها زوجها تحت وطأة أوهام عادات ذميمة ودميمة... فالتجأت إلى رفيق رحلتها لتكون زوجاً له... وزُفّت له مقتحمةً عقبات الأعراف الاجتماعية البليدة... وأقاما مركزاً علمياً لمعالجة ضحايا الأزمة التي ضربت أطنابها عرض البلاد وطولها...
اختار الكاتب الشخصية المحورية الأساسية في الرواية هي ( السبية ) التي كتبت ملحمة الشقاء بمداد من دمٍ قانٍ وروحٍ ثائرة هائجة متمرّدة... وبقية الشخصيات هي ثانوية مرادفة لتشقَّ الرواية سبيلها عبر العويص والوعر... نحو البناء والاكتمال والكمال...
والرواية هي بنت الواقع والأحداث الأليمة التي أنجبت الخلّ والعلقم... في طحالب اليأس القاتل والتشرّد المقيت... إنها تقود القارئ من ويلٍ إلى ويل... أشدّ عذاباً وعقاباً... إنها ملحمة الآلام... تريك أساليباً وحشيةً يندى لها جبين الوحوش المفترسة... فتشدّ القارئ إليها من هوّة قبرٍ مرعبٍ مفزعٍ سحيق... إلى ظلمات فوق ظلمات في التوابيت الناعية الباكية النائحة...
الروائي الأستاذ إبراهيم الخولي موهوبٌ أسلوباً وبياناً وفصاحةً منذ النشأة الأولى... فهو فارسٌ باقتدار... لا يشقُّ له غبار... يقحمك في غيهب أزمات لا مفرّ منها...
في الرواية الأزمات تتشابك وتتعقّد... والأحداث تبلغ الذّروة... يأتيك بعنصر التشويق نحو انقشاع الغيوم... وتزاحم الأضداد... وتتلهّف القلوب نحو ما وراء الأحداث في تصعيدٍ دراميٍّ غير مسبوق سلفاً... فتنفرج الأزمة... وتذهب الغُمّة... وعبر صراع مرهصٍ لا تنتهي أحداثهفي سجالٍ ديناميكيّ صاعد...
الكاتب غير مقلّد في أسلوبه... إنهُ مبدعٌ في سرد الأحداث... وله أسلوبُه المميز في الروعة والإبداع... وذلك في قوله: / فسمعت تسابيح الماء والأعشاب وطيور الليل وذرات التراب.../.
ويدخل في أغوار النفس الإنسانية عبر فنيّة محاكاة الذات أو المونولوج الداخلي بفلسفته الروائية الرائعة:/ رأت نفسها وهي عروس بكامل أناقتها وزينتها وفتنتها ترتدي فستانها الأبيض الجميل وبيدها وردة حمراء جميلة ليزفَّ وحيداً إلى عريسها ذاك القادم إليها متّشحاً بغلالة رقيقة من أحلام..../.
ويستعمل الكاتب الأسلوب المحكي الذي يناسب الحدث أو الموقف:
/ يمكن راحت عليه نومة... لأنو طوال الليل سهران... أكيد
يا خوي/.
السبية هي مرآة لواقعِ وطنٍ جريحٍ لم يندمل بعد... السبية سوف ترتّلها الأيام وتلحنها السّنون في طقسٍ رومانسيٍّ كئيب...
18 – 12 – 2014
قال أحد الحكماء: ربّ صدفةٍ خيرٌ من ألفِ ميعاد.
لأوّل جلسةٍ أصغيتُ لحديثه وتعقيباته المثيرة للجدل... أدركتُ أنَّ لهُ خلفيةً تراثيّةً صلدةً وقد تخرّج من أسرةٍ سليلِ المعالي بشهادة الأدب الرّصين والخلق الرّفيع... طوراً تحسبهُ انحدر من سلالة السنديانة العاتية... التي لا تتزحزح أمام العواصف الهوجاء... وحيناً يتخيّل إليّ أنه من نسل الزّيزفون العابق فوحه لمن يستظلُّ بظلّه... إنّه البلبل الصّادحُ يملأ الأجواء برداً وسلاماً وبهجةً وحبوراً... في حديثه المنثور العذب يتدفّقُ كالنّبع الصّافي في رياض القلوب وياسمين النّفوس، ويغرس بسيرته العطرة غراس المحبّة والإخاء... وبغير ميقاتٍ أدهشني بترحيبه وتواضعه، وحديثه الزّاخر بالحبّ والعشق والهيام لكلِّ جميل في الكون والحياة، ولا يعرف حبّهُ جغرافية الأرض وطبوغرافيتها... يتجاوز خرائط الأرض إلى العائلة البشرية الواحدة... يتخطّى حبّهُ إلى الإنسان في كلّ أرضٍ ودارٍ وسكن... إنه شاعر الغزل من الطّراز المتجدد... يغازل جمال الرّوح والجسد ببوحه البنفسجيّ الهادئ... ويعشق لجمال الكون والحياة وكلّ بديعٍ في ملكوت هذه الآفاق...
إنّه الرّجل الهادئ في الزّمن الصّاخب... ومَن يؤاخيه فإنّه لذو حظٍّ عظيم...
يقول المفكّر الإيطالي" متزيني ": بالمحبّة وحدها تعلو صروح الأمم والشّعوب... وتُدفَنُ الضّغائن والأحقاد... فبغير المحبّة تبقى الحياة جثّةً هامدةً...
فإذا خلت الحياة بنفحات المحبة تحوّلت إلى جمادٍ عقيم... فالكون جميلٌ بالمحبّة الصّادقة النّقيّة وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان هو العروة الوثقى، والبنيان المرصوص في ديار المحبّة والإخاء...
ومن خلال دراستي لديوان الشاعر محمّد حمدان أتوسّم فيه لقب طاغور هذا البلد الأمين... فإنّ حديثه الممتع الأنيق والعميق يسمو على شعره ألقاً وبهاءً، فشعره هو ترجمان عمليّ لسلوكه ونهجه في الحياة... تجد في ثنايا حديثه المسترسل الأدب السّامي والفكر النيّر والخلق النبيل... وهو لا يتألم لآلامه بل يتأفّفُ لجراح الأمة والوطن والإنسان... فأوجاعه الشّخصيّة وهموم الأسرة لا تكبح جماحه ولا تعرقل مسيرة حياته...
إنّه ماضٍ في نهجه الجوهريّ غير آبهٍ بحياته الفردية وحياة ذويه... فهو جريح الورد، ويعطِّر حوله برونق شعره وشذى فوحه بالقرنفل والحبق...!!
فلنقرأ ما يقوله الشاعر في مقدمة ديوانه من نثره المرصّع بالأرجوان في قالب فكريّ محكم مكين... قائلاً:
( أشرعتُ العواطف مبحراً بين جذوةِ الأشواق وتسابيح الغزل فآلفتُ بين الغزل والوجدان والإنسان، وتلك لعمري أقانيم الشعر الكبرى في الوجود.. ).
الشاعر فارس الكلمة راكباً كميت الخليل فاختار بحره الخفيف ليكون انبعاثاً ونفخة الروح في جسد الكلمة لتحيا نضارةً وشباباً...
إنه عاشقٌ للشعر، والشّعر هو البلسم والتّرياق واستعاراته البليغة طوعاً لصياغة جمال القصيدة ونصاعتها، وهاك القصيدة:
قدرُ الشّعر أن يكون سماءً
علّميني صلاة عشقٍ شهيدٍ
فأفيئي على الجراح سلاماً
لي على الوصل بيّناتُ فؤادٍ
فإذا مات في هواكِ شهيداً
وعن الأرض والسماء غنيّا
وابعثيني إلى الوجود نبيّا
وعلى الرّوح نشوةً وحُميّا
أدمنَ العِشقَ يافعاً وفتيّا
فمن الحرف سوف يبعث حيّا
وفي القصيدة التالية يختار الشاعر البحر الوافر المناسب لتغدو القصيدة أبلغ أنغاماً وألحاناً وإيقاعاً تطرب القلب حركةً واهتزازا... فمن سجايا كلمات سهلة مستساغة ممتطياً صهوة البحر الوافر ليوفّر للقارئ قسطاً من المتعة في ألقٍ فكريٍّ رخيم... فهو يرى في الحبّ سبيلاً للوصول إلى جنان الفردوس نزلاً... فيُطلق جواهره الياقوتية قائلاً:
يمزّقني الحصار فإنْ تراءى
فكن شمسي.. وأقماري وكن لي
على بوحٍ إليكَ سكبتُ عمري
فهل يرضيك من ريحان روحي
سرابٌ للهوى اشتقتُ الحصارا
إذا ما أظلمَ الدّهرُ النّهارا
حنيناً حيّر الدّنيا وحارا
عبيرُ الوردُ فردوساً ودارا
ج
وفي القصيدة الآتية يتغزّل الشاعر بالمحبوبة غزلاً عصرياً توأماً للروح والجمال، والنّفس مخالفاً غزل جميل بثينة وقيس وليلى وجرير وابن زيدون...، والشعراء الأقدمين إذ يُخاطب محبوبته بأنّ محراب الحبّ آلام وأوجاع... ولكنّه مضمّخٌ بالمَسرّة... ويستريح الشاعر تحت ظلال ضفائرها الجمانية الزمرديّة وجسدها الغضّ المخملي ذات الزرابي المبثوثة... وتحت أضواء النّجوم المتلألئة... ويسْعدُ الشاعر في أجوائها الرّومانسية البديعة سعادة طافحة بنور الحبّ والوئام قائلاً:
يا حلوتي بوحُ العبير مواجعٌ
خلّي الضفائر تستريح على يدي
ودعي النجوم تزود عرش مشاعري
تسري بأحلامي ونبض عذابي
وتوسّدي ما شئتِ في أعصابي
ألقاً... وهاتي من رحيقٍ رضابِ
وفي هذه القصيدة التي نحن في حضرتها من وحي القلب والوجد... الشاعر عاشقٌ من الطراز الأول بامتياز... عاشق للحبّ والخير والجمال... إنه عاشقٌ للدنيا متخطياً حدود الزّمان والمكان عبر بوح من عبير... وجعل للهوى ثغراً على سبيل الاستعارة المجازية... وشعره خمرُ الجنان... وفي شعره عيون ترصدُ آيات الجمال... ويشعُّ الكون إجلالاً وتعظيماً لشطحاته الشعرية الطافحة بنور الحب والإيمان متّخذاً البحر الوافر الملائم لتحليق خياله في فضاءات لا أبعاد لها... وفي غلافٍ شعريّ موزون مقفّى... يُنعش القلب، ويريح النفس بهالةٍ من الطّهر والنقاء... ونزول السّكينة على النّفس الهادئة المطمئنة متّخذاً التراث الروحي لنصاعة شعره وتبياناً لبلاغته العالية...
أنا عشقٌ على الدنيا تسامى
أنا في الوردِ بوحٌ من عبير
تُسبّح للجمال عيون شعري
خلوداً فوق أبعادِ الزمانِ
وفي ثغرِ الهوى خمرُ الجنانِ
ويَسْجُدُ خاشعَ النّجوم بياني
وفي قصيدته المفتتح " بلو " من معانيه كما يقول ابن جني في حروف المعاني للتمني والسعي نحو تحقيق مبتغاه مخاطباً الأنثى المعشوقة التي بدونها الحياة خراب بلقع... والمحبوبة هي مملكة الشاعر وقريحته الشعرية وغدائره الحاضنة، وذاكرته العتيدة التي تفيض بعالم سحري شفاف... وتلاحم الرّوحين في هدأة الخشوع... فلولاهما لما تفجّر شعره أوزاناً وقافيةً... وحتى أنه يئسَ من تحقيق آماله وأحلامه في اللقاء والوصال... إنه من ذوي نجدة اللهفان... والمولوع بها حتى بلوغ العشق المُباح... لكنّ الشاعر يعود إلى القسم مؤكداً أنَّ قلبه موصودٌ بمغاليق الهجران... وإنّ مفتاح قلبه هو المحبوبة هي التي تفتح قلبه وتبعثه حياً... إذ ركبَ الشاعر البحر البسيط لأنَّ بالبسيط تُحقّق الآمال والمرامي العذاب في محاورة نزيهة بين قلبيّ العاشقين بدون تكلّف وإعياء وعبر ألفاظ بسيطة سهلة ميسورة ... وفي البيت الأخير يجد مفتاحاً لقلوب العاشقين واتخذ البحر الكامل ليكمّل نشوة العشق كمالاً وتعظيماً...
لو أنتِ لي... لو عرفتِ الحبّ سيدتي
لو أنتِ لي في سماء الشعر مملكة
لو أنت لي... لاستراحَ الكون في نزقي
لو أنت لي... ترقص الدنيا على نغمي
تعبتُ يا " لو" حتى ضاق بي تعبي
ينسى العبير أزاهير الرُّبا وأنا
ودعي لِعرْس القلب باباً عاشقاً
لو أنّ عينيك مينائي وأشرعتي
فاضت رؤى الشعر عن ذاتي ومملكتي
وأشرقت في مدار الضوء فلسفتي
ويعشق النّجم شطآني وأرصفتي
من رجعكِ المُرّ في أصداء قافيتي
أقسمتُ بالحبّ لا أنساكِ سيّدتي
ولكلّ بابٍ عاشقٍ مفتاحا
وعمد الشاعر العزف على التجديد لأنه متمرّسٌ حاذقٌ ماهرٌ في صياغة شعر التفعيلة فهو عازفٌ على القديم والجديد ليمنح للقارئ إمتاعاً ومؤانسة فأشعاره كمائدة شهيّة تتنوع فيها المآكل والمشارب ما لذّ وطاب... إنه في هذه المقطوعة ذات التفعلية من خلال رسالة الحبّ التي ينشرها لكلّ مؤمن بالحبّ طريقاً وسلوكاً... الشاعر سكرانٌ يخدر الجمال وليس على طريقة السكارى... فهو العاشق المتيَّم الذي يسكر بجمال المعشوقة الذي لا يزول... وغاصَ الشاعر في أعماق الحبّ باحثاً عن معشوقته بفلسفته الشعرية راكباً مجزوء الرمل تائهاً في البراري والقفار... والسُّكر مبعثه قعر القلوب وقيعان النفوس... وعندما يخرج المرء عن المألوف ذلك هو العشق الذي يخترق قوانين الأعراف وحُجُب الأزمنة والأعصار... والنفس العاشقة هي التي تهتك أستار الممنوعات والخطوط الحمراء فيفصح الشاعر عنها قائلاً:
عبثاً أبحث عنها...
في متاهات عصيّة...
في رمادٍ من بقايا...
جمر كأس مخمليّة...
وإذا ما الكأس أغوى...
وسَرَتْ حُمّى الحميّة...
أسْكَرتنا غاشياتٌ
من ضلالات غبيّة
قرمينا بجحيم من خطايانا البغية
واتهمنا الحُسْنَ
والحُسنُ تسابيحُ نبيّه
ما شقاء النفس فيها... إنما النّفس شقيّةْ
ويتوجّه البلبلُ الشادي بحبّه المتوّج بأكاليل الورود والياسمين إلى ربوع حلب الشهباء... أميرة السيف والقلم... معلناً لها حبّها... مستذكراً تاريخها التليد المدوّن ببريقٍ ذهبيٍّ ناصعٍ لفحول الشعراء والكتّاب والأدباء... ويستقي الشاعر إيحاءاته من تراثٍ عريقٍ ومن عبرٍ ودروسٍ وروائع البيان الإلهي إنه يعشق حلب عشق الصالحين... له شطحات في العشق المتميز عشقاً للجمال المتجلّي بعظمة الخالق... فتهتز لعشقه الأفئدة ويُثير الوجد ويلهب الأكباد... وتترنح القلوب طرباً... وعشقه لحلب الشامخة شموخ قلعتها التي تناجي السماء وتسامر النجم وتهزأ بمرور الساعات والأيام... بل السنوات والدهور... تنطق أوابدها بأصالتها الراسخة رسوخ القلاع الحصينة... وتتحدث معالمها بكبريائها كالطود العالي... ويلج في رحابها من خلال البحر البسيط باسطاً قلبه عبر غسقٍ أرجواني" لازوردي " من وحيها الأزلي... إذ تتعالى ابتهالات العشاق وهمساتهم الدافئة بطمأنينة جذلى، وابتسامة خجلى بين أباريق الأزاهير والرياحين... واتّحد الشكل والمحتوى واندمجا في روح واحدة فكلاهما نفس واحدة... فما أروع هذا الامتزاج...!!!
وما أبدع هذا الاتحاد...!!! وما أعظم هذا المهندس الديكوري الذي صاغ بناء هيكل القصيدة قائلاً:
لي في هواكِ حكاياتٌ معتّقةٌ
أشعلتُ عشقي نجوماً فاحترقت بها
لا فرق عندي إذا ما قُدّ من قُبل
فرسانك الصيد من سيفٍ ومن قلمٍ
منازل الشمس أمجادٌ معطرةٌ
لولاكِ ما شفّ في سمع الدّنى نغمٌ
غرسُ الأصالة فرعٌ من أصالتها
جج
وما ادّعيتُ بها اسماً ولا لقبا
حتى الرّماد فعاد العشق مُلتهبا
أو قدّ من دُبرٍ.. أو راح منتهبا
ما جفّ كوثرها الدريّ أو نضبا
غنّى بها الدهر والتاريخ قد وثبا
عذبٌ الرنيم ولا غنى الهوى حلبا
والفرع يزكو بما أعطى وما وهبا
ج
وختاماً... الشاعر محمد إبراهيم حمدان رائدٌ من روّاد الأوزان الخليلية، وركنٌ من أركان التجديد المعاصر، ووجهٌ مشرقٌ في طليعة الشعراء السوريين المعاصرين... إنه يصوغ شعراً من كلمات بسيطة سهلة... فمعجمه اللغوي غنيٌّ بالإبداع والابتكار... فالألفاظ أحجار الشطرنج بين يديه يتصرف بها كما يشاء كالعجين بين كفّي الخبّاز...
فمن كلماتٍ بسيطةٍ يصنع قصيدةً ذات أوزانٍ وقوافٍ تطرب القلب والرّوح... إنه هزارٌ في جنان الفردوس ينشد للإنسان والخير والجمال... وأقترح للذين يقرّرون المناهج التدريسية في المدارس والمعاهد والجامعات إدخال قصائده الشعرية في كتب التلاميذ والطلاب لما فيها من نقاء الضمير وتهذيب النفس وروعة الجمال الفنّي وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان...
وأتوّج دراستي هذه بأحد عمالقة شعراء المهجر جبران خليل جبران:
أعطني الناي وغنِّ فالغنا ســـــرُّ الوجــود
وأنينُ النــــــاي يبقى بعد ما يفنــى الوجــود
هو: جعدان جعدان ولد في(ماسكا ناحية راجو في عفرين)عام1950م
مدرَّس لغة عربية متقاعد أمضى في التدريس خمسةً وثلاثين عاماً... له أحد عشر كتاباً ونشر مئات المقالات في الصحف المحلية والعربيّة وناشطٌ ثقافي ألقى أكثر من خمسين محاضرةً في المراكز الثقافية في حلب والثورة والرقة وسلقين وقامشلي والراعي ومارع وإدلب والحسكة وعفرين وجنديرس وغيرها...