الكتاب الأول
من وحي اليقين
إلى رحيق كينونتي الأولى...، وقيثارة روحي الشاعر المُبدع... والصّحفي الدّبلوماسيّ اللبق... والكاتب البارع... والأديب الطّموح... والمترجم الأمين... الأستاذ: نوزاد جعدان جعدان الذي نال عشرات الجوائز المحليّة والعالميّة... ويتقن خمس لغات... كادَ أن يكون رجل القَدَر في أسرتنا هذه... حَفِظَتْهُ الأقدار وَأَكْرَمَتْهُ العوالم العالية... بإبداعه البديع وسرّه النّجيب... وَرَفَعَتْهُ من قَدْرِهِ إلى المقام القدسي الحصين... !!!
طرطوس 1 – 3 -2020م
جعدان جعدان
منذ أن بلغتُ رُشدي وأنا أرى بالعين الباصرة وبعين اليقين وبعلم اليقين وأنا أُشاهد بعينيّ الباصرتين جنائز الموتى تُوارى في بطون الثّرى... وكان يراودني هاجسٌ خفيٌّ هل الإنسان مثل بقيّة الكائنات يولد ويموت ...
مرغماً متحوّلاً إلى البلى والفناء ...
رغم يقيني بالبصائر القلبيّة والعقليّة إذا كان كذلك فما الفرق بين البهائم والإنسان ...
فقد هيمنت هذه القضيّة في تفكيري الفلسفي القائم بين جدليّة الحياة والموت ...
هذه المعضلة الغيبيّة التي ما بعد الموت التي كنت أراقبها وألاحظها على مضض هاجساً مؤرّقاً يحيّرني ويدهشني كما كان لدى فلاسفة الإغريق أمثال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو وغيرهم من أفذاذ العباقرة المنصفين ...
فأدركتُ بعين اليقين وبعلم اليقين أنَّ هذا الوجود الحيّ الذي يستمدّ حياته من العدم أمرٌ اعتباريّ وأنَّ الإنسان بلطائف تكوينه مخلودٌ للخلود، وأنَّ الموت الذي يتلقّاه فهو لباس آنيٌّ مؤقّت لا يلبث أن يتجرّد عنه ويلبس بدلاً عنه لباس الخلود والبقاء ...
وأنّ عالم الغيب هو عالم الحقّ والطّهر والخلود ... وشرعت بقلمي هذا أتوغّل في المعادلات الغيبيّة الخفيّة بفكر ثاقب منفتحَ وبلغ عندي حدّ اليقين الذي لا يمكن أن يقبل خطأً ...
المفكر المستقلّ يمزج بين شفافية الوجدان، وصراحة العقل والمنطق ثمّ يدفع بفكره ليستقلّ بنفسه خارج ذاته ...
أفكاري التي أطلقها وأدوّنها يقينيات مجرّبة أثبتت قدرتها على التعامل مع النفس، وعلى اختراق حصونها وتنشيط خلاياها الإيمانية العتيدة واستئصال أية تورّمات الطبيعيين والوجوديين والدّهريين للغيب والرّوح والنّفس ...
وأتمنّى أن أكون قد وفّقني الله في هذه العجالة السّياحيّة الفكريّة في الجسد والرّوح والنّفس والكون ...
ما وراء الغيبيات التي تفوق الحواس البشريّة...
كتابي هذا سياحة عقليّة وروحيّة شاملة للتعرّف على أسرار الكون العلوي والسّفلي وتذوّق جمال الحياة، ونظامه الرائع، وغائيته المدهشة وقانونه الموحّد في جامعية رائعة ...
أبدأ بتأليفي هذا برسم خطوط منهج عقلي منطقي في القوة والرّصانة والوضوح ... وتفنيد أفكار الماديين وتسفيه عقولهم وفي حقيقة كليات الإشراق الروحي الإلهي ...
خلال قانون فطري واضح ... فلا قيمة للنفي في المسائل العامة أمام الحجة والبرهان والسّند القاطع ...
رحلتي هذه كونيّة من عجائب الآفاق العلويّة إلى مدهشات الكائنات السّفليّة ...
وأقدّم بهدوء لطيف ليأخذ بيد الحقيقة في جولةٍ رائعة ...
كي أقنع مغاليق العقول، وقلوبهم الغاشية أمام لوحة الوجود ...
سابراً غوره واصفاً اتّساقه وتوازنه ... إلى عالمٍ من حقائق العلم والمعرفة بالبيّنات الدامغة بعيداً عن قيود المصطلحات الكلاميّة وجمود المقدّمات الفلسفيّة التقليديّة ...
أخطُّ بياني هذا من كنوز تجاربي التي خضتُ غمراتها في مسيرة حياتي واستقيتها من ميدان الحياة ... ومن مطالعاتي المتنوّعة الشّاملة في خوابي الكتب القديمة والجديدة... وأسطّر هذا بوحيّ من هاتف القلب ومكتب العقل الحصيف الرّصين ... وعن التخلّف المادي والمعنوي بنوعيه وأوزارهما ... فأنا لا أشكّل سوى حانوت في مجوهرات الحقّ ... وأشكر كلّ من يرشدني إلى عيوبي وأخطائي في هذا السّفر النّفيس ... وأجلُّ وأثني على آراء النقّاد من الفلاسفة والمفكّرين. وهنيئاً لمن عرف حدّه ولم يتجاوز طوره ...
طرطوس – 1 – 3 – 2020م
اعتبر الوجوديون أنَّ هذا الكون قديم أزليٌّ ... وكلّ ما يحدث فيه يحدث بشكل آلي وبطريق الصّدفة ... فقد قال ماركوس أوريليوس: (( إنّ الحياة لا معنى في ذاتها ... وإنَّ النَّاس ذباب سريع التجمّع والابتعاد ... وإنَّ البشر سحابة دخان والإنسان وحده فلا إله ... !!! )).
وقال غابريل مارسيل: (( إنّ الوجود صدفة وليس للبشرية مستقبل مشرق... ))
وقال هايدغر: (( إنّ الحياة الإنسانية خالية من أي محتوى كريم لأنها محاطة بالقلق والعدم )).
وقال سارتر: (( إنَّ الحرية وهمٌ كامن في تصوّر الإنساني ... وحين ينسلخ الإنسان عن المجتمع، ويكفر بالجماعة يفوز بحريّته )).
وقال لينين: (( الأصل في الوجود هو المادة، والمادة هي كلّ شيء ... وليس غايتنا أن نفهم المجتمعات والإنسان، وإنّما نغيّر كلّ شيء المجتمعات والإنسان... المهمّ أن يسيطر الغوغاء والرّعاع فليتّحدوا ... )).
وهكذا نجحت الشّيوعيّة في افقار الأغنياء... ولم تنجح في إغناء الفقراء ... فآلت إلى المصير الذي وصلت إليه ... وصرف الأموال في البذخ والتّسلّح ... وتدمير المجتمعات، ولا يمكن اعتبار العلم أو تقدّمه مسؤولاً، فالعلم محايد يستخدم في الاتجاهين مع الإنسان وضدّه ... !!!
إنَّ معرفة الله لا تحتاج إلى دليل يستدلّ به على كلّ شيء ... وهو الثابت الذي تُدرك به المتغيّرات، فالنّور الذي يكشف لنا الأشياء ليس بمحجوبٍ عنك، وإنّما المحجوب أنت عن النّظر إليه ...
قول الوجوديين مرفوضٌ رفضاً علمياً وعقلياً لأنّه ثبُتَ علميّاً أنَّ الكون مخلوقٌ فعمرُهُ كما يقول علماء الفلك: خُلقَ هذا الكون منذ ستة عشر مليار سنة على أكثر تقدير ... وقدَّروا له زمناً ثمّ يزول فمَنْ خلق الكون ؟ وهل خلق الكون نفسه من العدم ؟
هذا ما لا يقبله العقل الجدليّ الحصيف أم خُلقَ صدفة... هل توجد طائرة تحلّق في الجو صُنعت صدفة ؟ كلّ هذا مستحيل ... فكيف أوجدت الصدفة القوانين الكونيّة في الكينونة الكونية ... وفي الإنسان والكائنات... في الإنسان كلّ ما فيه عجيب يدلّ على خالقه بشكل بديهيّ ... فلو اجتمع كلّ ما في الأرض على أن يصنعوا خلية واحدة لما استطاعوا.. !!!
جسم الإنسان يتكوّن من خمسةٍ وعشرين مليار مليار خلية... وهذه الخلايا تختلف من حيث الحجم والقدرة والعمل ... ولكلّ خليّة وظيفتها من هذا الكمّ الهائل من الخلايا ... أنشأها الخالق من خلية واحدة في جوفٍ مظلمٍ ضيّقٍ لا يسع أنملة الخنصر ( الرحم ) تلك الخليّة هي منشأ الإنسان أتت من الخصية والخصية تضع في اليوم الواحد مائة مليون منها ...
هذه الخليّة لا ترى بالعين فلو كبّرناها مائة ألف مرة لرأيناها بشكل علبة فيها ماء لزج في وسطه نواة وفي وسط النّواة سائل لزج أيضاً تسبح في هذين السّائلين معامل كثيرة ومطابع تصنع فيها خلايا الإنسان وفيها خريطة الإنسان وصفاته وشكله وطباع أبويه وأجداده...
أما تركيبها فيتكوّن من عناصر مختلفة تُعدّ بالألوف بعضها يسمّى الحوامض النووية، تلك الحوامض التي لم يستطع الإنسان أن يصنع مثلها لأنّهم قالوا: لو أردنا أن نصنع مثلها لاحتجنا إلى مواد أوّليّة ومعامل أكبر من حجم الأرض ولملايين السّنين من العمل ...
هذه الخلية تجتمع مع خلية مماثلة من الأم فيصنع منهما الإنسان من كبد وقلب ومعدة ورئتين ودماغ وعينين وسائر الأعضاء... ويوضع كلّ عضو في مكانه ... ولكلّ عضو خلاياه الخاصة التي تعمل بعمل خاص... وكل عضو عدد خلاياه معدود ومحدود تتجدّد في كلّ وقت لا يزيد عددها ولا ينقص ...
هذه الخلايا التي عددها أربعة عشرة مليار خلية، كلّ خليّة تأخذ من الدّم خلاصة الخبز واللحم والدّسم والأكسجين وتصنع منها الكهرباء وتقوم بعمل آخر فبعضها يأمر الجسد بالحركة وبعضها يأخذ الإحساس من بصر وسمع وحس والذوق واللمس والشمّ... وبعضها يفكّر ويتأمل وبعضها يتفاعل من ألم وبهجة وسرور وبعضها يختزن المعلومات حتى إنَّ مركز ذاكرة المبصرات يختزن كلّ يوم خمسمائة ألف صورة ملوّنة ومنها ما يشعر باللذّة أو الحزن أو الغضب أو الحبّ، ولكلّ خليّة أسلاك ترسل بها الأوامر والإحساس بالكهرباء، وكلّ سلك محاطٌ بغلافين غلاف عازل وغلاف حافظ...
هذا الجهاز تتصل خلاياه بعضها ببعض كما تتّصل بكلّ خلايا الجسد فتأمرها وتنهاها وتأخذ عنها المشاعر... وهذا قليل من المعلومات عن الإنسان وتكوينه، وهي قطرة من بحر هذا العلم المكنون... الذي أُلّفت فيه مئات الألوف من الكتب عن تشريحه وصفاته وأعماله ومشاعره وأمراضه... من هنا تتجلّى عظمة الخالق وقدرته وإبداعه...
غير أنَّ العلم الحديث رغم تقدّمه لا يزال طفلاً يحبو... فالوجوديون أو الدّهريون أو الطّبيعيّون يقولون: أنَّ الكون نشأ عبر حقب جيولوجيّة طويلة ... حتى استقرّ على قوانين وموازين بفعل تعاقب الأزمنة المديدة الغابرة... وإنَّ المجهولات التي لم تكشف بعد ولم يدركها العلماء كثيرة جداً...
فالكون لم يقتصر على المادة فحسب... والأرض بالنسبة للكون ذرّة في بحرٍ هائج... وإذا كان العلم يرتكز على المادّة فلسوف يأتي يوم نجد له ركائز أخرى كالرّوح وسواها، وقد ثبت علميّاً أنَّ الكون وما فيه ليس مادة فحسب بل يتكوّن من عناصر عديدة... فالمادّة تتكوّن من ذرّات والذرّة تتكوّن من جسيمات صغيرة... وكلّها زوابع وقُوى فإذا سكنتْ هذه الزّوابع انعدمت المادة، فالمادّة خاضعةٌ لها... يقول علماء ما وراء الطّبيعة: إنَّ المادّة مخلوقة منذ ستة عشر مليار سنة، وإنَّ المادّة انقلبت إلى أشعّة وإلى قوى كالحرارة وكالكهرباء وكالمغناطيس...
كإشعال الفحم ينقلب إلى ضوء وحرارة ورماد، فمن النّار يتولّد منها مخلوقات لها صفات الكهرباء وصفات الإنسان فهي كالكهرباء لا ترى بالعين المجرّدة وقد تدخل في أجسام عديدة بآنٍ واحد كدخول الكهرباء في مصابيح الشّارع فتضيئها... وكذلك كائنات أخرى بصفات أرقى من الكهرباء إذ أنها تعقل وتعمل بإرادتها وهي مكلفة كالإنسان... فكما أنَّ الإنسان خلق من تراب فهي خلقت من نار ونور...
وكان العلم يعتقد أنَّ المادّة جامدة لا حركة فيها فقد اكتشف المغناطيس وهو ليس مادة... وكذلك جاذبيّة الأرض والكواكب وحركاتها والقوى الكامنة فيها، وكذلك العلاقة الكيماويّة بين المعادن وأشباهها واكتشف أنّ النّبات والحيوان يتكوّن كلّ منهما من خلايا حيّة أي لها حياة كامنة فيها إن زالتْ تبطُلَ عملها، وأنَّ كلّ خليّة على صغرها تعمل أعمالاً يعجز الإنسان عن صنعها... كصنع البروتينات، والحوامض الأمينيّة وأنّ الخليّة تولد ثمّ تعمل عملاً معيّناً ثمّ تلد ثمّ تموت أي تفارقها القوّة التي كانت تعمل فيها... وهكذا تدرّج العلم من علم مادّي بحت إلى المادّة والقوى والإشعاع ولسوف يأتي زمنٌ يُضاف إلى هذه الأشياء علم الأرواح...
إنَّ الإنسان يتكوّن من خلايا تعدُّ بملايير الملايير وكلّ خليّة فيها حياة يأتيها الطّعام والهواء فتقوم بأعمال مستقلّة عن باقي الخلايا فبعضها مثلاً تفرز مادّة لازمة للجسم كالأدرينالين وحمض كلور الماء ومئات من المواد التي يصعب على البشر أن يعملوا بعضها ويستحيل عمل بعضها الآخر...
وهذه الخلايا كانت مرتبطة بالأم لما كان الجنين في بطن أمه عضواً من أعضاء أمه حتى الشّهر الرابع من الحمل، ثُمّ بعد ذلك يُنفخ الرّوح فيه فيصبح للجنين ذاتيّة مستقلّة يقرّر نفسه بنفسه وعندها تخضع خلايا الجنين للرّوح الجديدة الخاصّة به ولما يلد الإنسان ويكبر تصبح الرّوح التي تلبس الجسد كالثّوب...
هذه الشّخصيّة الماديّة والرّوحيّة التي تفكّر وتبدع وتدافع عن الجسد ضدّ الجراثيم والعوامل الخارجية وهي التي تُصلح الخلل في الجسم وتلئم الجروح وهي التي تتجاوز حدود الجسد كالإيحاء والخواطر والرّؤى التي لا تخطر بالبال... وهي التي تنيئ الإنسان ما سيحدث في المستقبل عن طريق المسرّات والأحزان... فإذا قيل أنّ المخّ هو الذي يقوم بهذه الأعمال فإنَّ المخّ هو مكتب للرّوح... فمكان الرّوح في كلّ الجسم...
وفي كلّ الخلايا فهي كالكهرباء متوزّعة فيه... ولسوف يثبت علميّاً أنَّ الرّوح هي الإنسان... وأنَّ المادة ليست كلّ شيء في الحياة وأنَّ الرّوح هي الأساس...فتتغير نظرة الإنسان إلى المادة... وينقلب الإنسان من آلة استعبدتها المادّة إلى إنسان روحي مادّي يتّصل بالأرواح الأخرى بعالم الأرواح... ويتبدّل عمله وخلقه... وينتقل إلى مجالٍ أفضل وحياةٍ أسعد...
والرّوح تسكن كامل الجسد ومركزها القلب... فمن الملاحظ أنّ الحوادث التي تحدث للإنسان فيشعر بها بقلبه كالخوف والفرح... والهمّ والغمّ أكثر ممّا يشعر بها بدماغه أو أحد أعضائه، فالقلب هو الأساس ( موطن الرّوح ) لأنَّ القلب إذا وقف عن الخفقان مات الجسد وماتت معه أعضاؤه...
كما أنَّ الصّدمات العصبيّة والماديّة من مفاجآت كفرح شديد أو حزن زائد أو صدمة كهربائيّة تؤثر على القلب أكثر من تأثيرها على أيّ عضوٍ آخر... لذا عُبِّرَ عن الرّوح بالقلب... إذ تعتريه الأحوال والمشاعر والذّكاء والبلاهة ولذلك قيل: شرّ العمى عمى القلب... والإنسان عندما يقرأ في قلبه... كلا يحتاج أن يحرّك شفتيه لأنَّ القراءة صادرة من القلب من مسكن الرّوح...
وفي زماننا هذا تموت فيه القلوب وتحيا الأبدان ومن علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الجود والإحسان وترك النّدم على ما فعلت من الزلاّت... عجيبٌ لمن يغتسل جسمه ولا يغسل قلبه من الضّغائن والأحقاد...
يقول المسيح عليه السّلام: ( طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل قلبه في نظر عينيه...)
والقلوب تحيا بالرّجاء والأمل... والآن تأخذني سياحتي الفكريّة والعلميّة إلى معارج السّماء... وعالم الأفلاك... فقد أكَّدَ علماء الفلك بأنَّ هذا الكون يجري من الشّموس كشمسنا ما لا يحصى من الشّموس كعدد رمال البحر...
يجتمع كلّ مليون شمس فتحدث مجرّة... وكلّ شمس تدور حولها نجوم صغيرة... وكما تدور هذه الشّموس حول مركزٍ لها بشكل منتظم وبسرعة تختلف حسب مكانها النّسبي في المجرّة... فشمسنا تسير بسرعة خمسة آلاف كيلومتر في الساعة حول مركزها المسمّى نجم الجبار فتستغرق دورتها ثلاثة ملايين سنة... وهذا ما قاله التّنزيل الحكيم وهو أصدق القائلين منذ خمسة عشر قرناً:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}/يس38/. وفي الفضاء الواسع مجرّات تعدُّ بالملايين...
هذه الشّموس حارّة متّقدة تختلف درجة حرارتها من خمسة ملايين درجة إلى أكثر من ألف مليون وكلّ شمس تعطي حرارتها بصورة مستمرة فينقض وزنها... فشمسنا يخسر وزنها مائتين وخمسين ألف طن كلّ ساعة ولسوف يأتي زمنٌ تُطفأ هذه الشّموس وتتلاشى{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }/التكوير1/.
فلو كان الكون قديماً لا أوّل له لكان يجب أن تكون هذه الشّموس مظلمة منذ زمنٍ بعيد أو لا وجود لها... ولا ينقص وزنها... فهذه الشّموس والمجرّات كان لها بدءٌ وسوف تكون لها نهاية... وبما أنّها متشابهةٌ من حيث التّكوين، ووحدة التّنظيم فإنَّ المكوِّن والخالق واحد...
هذه الشّموس تسير بشكل منتظم وبسرعات معينة في طرقٍ محدّدة لا تحيد عنها... وقد تصل هذه السّرعات إلى مئات الألوف من الكيلومترات في السّاعة... إذن فالذي خلقها وسيّرها ونظّمها... وجعل لكلّ منها موقعها فمن هنا يتبيّن لنا أنّ الله سبحانه لا حدَّ لقدرته... ولا نهاية لعلمه... فهو علام الغيوب... ومن المدهش والغريب العجيب أنّه لم يقع أيّ اصطدام بين النّجوم فلو وقع لخرب الكون كلّه لأنَّ الله سبحانه ربطَ كلّ نجمٍ مع كافة النّجوم بجاذبيّة فإذا اختلّ سيره عرَّض باقي الشّموس للخراب والزّوال... تبتعد الأرض عن الشّمس مائة وخمسين مليون كيلومتر... فلو قربت من الشّمس قليلاً لاحترق كلّ من فيها من الحرارة العالية جداً وإذا ابتعدت قليلاً مات من فيها من شدّة البرد {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }/البقرة117/.
والأرض والشّموس والنّجوم على ضخامتها بعضها أكبر من الأرض بألوف الملايين من المرات معلقة في الفضاء{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}/الرعد2، لقمان10/. وفي الأرض جاذبيّة تجذب ما عليها ولولا ذلك لخرجنا منها ولم نعد إليها وجعل ماء البحر مالحاً ولو كان عذباً لأنتن وفسد وعفن لأهلك من في الأرض... وهو يمتصّ من جو السّماء الغازات الضّارّة وجعل ماء السّماء والأنهار عذباً ولولا ذلك لما كان زرع ولا حياة... {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }الرحمن19-21/.
فالله سبحانه يبخر الماء المالح بصورة دائمة ويختزنه في الجو بمقدار ثلاثة آلاف مليون طن بشكل سحب ثمّ يوزّعها على أهل الأرض بدون ضرر لأنّه ينزله بشكل قطرات... كما أنّ الله سبحانه أوجد في باطن الأرض مخازن تتفجّر فيها الينابيع والأنهار... ولولا ذلك لضاع الماء في جوف الأرض... فقد جعل سبحانه هذه الأرض بهذا الحجم المعيّن... فلو زاد حجمها لتعذّر المشي عليها{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }/الرعد8/.
لأنّ جاذبيّتها تزداد فتجعل الإنسان يزن أضعاف وزته... كما جعل درجات الحرارة فيها تتناسب العيش معها أما في خلق المخلوقات الضارّة جعلها قصيرة الأعمار فتبقى الحياة ممكنة... فالجراثيم تتكاثر بشكل هائل والفرد منها قد يلد في اليوم عدة ملايين ولكن لا يعيش إلا بضع ساعات. وإذا عدنا إلى الهواء وإلى قوانين الحياة وطبقات الأرض لوجدنا الأرض تحيا بقوانين ودساتير ... ففي علم النّبات تجد أيّ عشب أو شجرة لها جذر يغوص في الأرض ليمتصّ الماء والمواد اللازمة لحياة الشّجرة من معادن وأملاح ومواد عضويّة... وهو ذكي يعرف ما يلزم منها... والمقادير الضّروريّة ثمّ يرسلها بأنابيب دقيقة تشكّل جذع الشّجرة الذي قد يبلغ طوله عدّة أمتار ثمّ تتوزّع هذه الموادّ في الأغصان والأوراق، وهذه الأوراق تجذب عن الهواء الفحم والأكسجين فتصنع ممّا وصل إليها ورقاً جديداً وزهراً له شكله الهندسيّ المنظّم، وألوانه الزّاهية، ورائحته العطرة ثمّ تصنع ثمراً له شكله وحجمه ولونه ورائحته وطعمه... وحلاوته... وحموضته... والمعلوم أنّ عطر الورد والياسمين تصنعه الشّجرة من التّراب... والماء والهواء...فالإنسان المتعلّم الذي يريد أن يبدع يصنع هذه العطور بواسطة معامل وعمّال فنيين... ومهندسين... وموادّ أوّليّة... ومع كلّ هذا فشتّان بين عطر الشّجرة... وعطر الإنسان..!!!
نعود برحلتنا السياحيّة الفكريّة والعلميّة إلى روائع الكون... فقد استطاع العلماء عبر نظريّة أينشتاين النّسبيّة تفسير الظّواهر الفلكيّة منها أن نصف قطر الكون يزيد عن عشرة آلاف مليون سنة ضوئيّة... وإنَّ كلّ نقطة في الكون هي مركزه كونه غير محدود... وهذا ما يؤكّد دقّة توسّع الكون وتمدّده {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}/الذاريات47/.
فالكون مظلم فارغ... في معظمه تجري عبره المجرّات... فالمجرّة تجمّعٌ نجميٌّ هائل ربما يصل تعداد نجومه إلى عشرات البلايين... مجرّة درب التبّانة تضم حوالي 100 بليون نجم وشمسنا هي واحدة منها تكوّنت بعد ولادة الكون من سحب هائلة تجمّع الغاز والغبار الكوني وتدور حول نفسها... واكتشف علماء الفلك عبر تلسكوبات عملاقة أكثر من بليون مجرّة، وألمع المجرّات مجرّة المروحة وتبعد عنَّا عشرين مليون سنة ضوئيّة... فالمجرّات تحوي الغازات والغبار الكوني المكوّن من الأكسجين والحديد والكالسيوم والكربون والنيون والنتروجين... ويظهر على هيئة غيوم سديمي... وتمكّن العلماء من رصد مجرّة بعيدة عن مجموعتنا الشمسيّة حوالي/4500/ مليون سنة ضوئيّة... والنّجوم تلد نجوماً... كان الكون عبارة عن نقطة متناهية في الصّغر والمادّة والطّاقة مكدّستان فيها... وحصل الانفجار العظيم والحرارة الهائلة والغازات والدّخان... إذ كان التمدّد بمساهمة الطّاقة قبل المادّة أي الطّاقة تسبق المادّة وهذا دحضٌ لمقولات الوجوديين... ومن ثمَّ تشكّلت المادّة... فالطّاقة سبقت المادّة والعلماء يقولون أنَّ الكون سيتمدّد إلى ما لا نهاية ثمّ ينكمش إلى نقطة واحدة كما بدأ ثمّ يبدأ الانفجار الثّاني {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }/الأنبياء104/. شمسنا تجري عبر ثلاث حركات:
الأولى: دورانها على نفسها{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}/يس38-39/. الثانية: دورانها حول النّجوم العملاقة. الثالثة: دورتها مع مركز المجرّة دورة كاملة كل 250 مليون سنة ضوئيّة... ويُشير علماء الفيزياء الفلكيّة إلى أنَّ قوة الجاذبيّة هي التي تعطي هذه الحركة وربّما ناتجة من الغبار الكوني والغاز المتوافر في مركز المجرّة بكتلة /50 / بليون ضعف كتلة الشّمس... فالمجرّات تتواجد في الفضاء عبر المجرّات إذ تنجذب بقوّة الجاذبيّة... وأطلق العلماء المجرات الكبيرة بمدن المجرّات والصغيرة بقرى المجرات... فمجرّة اللولب المثلّث والمرأة المسلسلة هي المجرّة العملاقة التي تبعد عن أرضنا بـ/1500000/ سنة ضوئية... ويعتقد العلماء أنّ درب التبانة مع المرأة المسلسلة يشكّلان عبر تجاذب القوى بالمجموعة المحليّة.
واكتشف تلسكوب جالكسي العملاق عشرات المجرات الناشئة في الكون... وهذا دليل جديد على توسّع الكون وتجدّده إذ تمَّ اكتشاف المجرات الناشئة من ولادة النّجوم الجديدة التي تنبعث الطّاقة منها على هيئة الأشعة فوق البنفسجيّة... وأكّد رئيس فريق البحث السويسري دانيال شيرير كلّما ابتعدت الأجسام في الفضاء الخارجي عن بعضها زادت قوة الأشعة الحمراء التي تبعثها... وكذلك كلّما ابتعدت المسافة بينها وبين كوكب الأرض ممّا يسهّل رصدها وقياسها... إنّ الكون يتوسّع بسرعة حرجة للغاية تعجز وتبهر كلّ العقول والحسابات البشريّة {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}/الذاريات47/. ولو توسّع الكون بسرعة أكثر بقليل ممّا هو عليه اليوم لتناثرت المادّة... وما تمكّن من ظهور المجرّات والعكس كذلك فلو انطلق الكون بسرعة أقلّ بجزء من المليار من جزء من الثّانية ممّا انطلق عليه في بداية توسّعه لانهار على نفسه تحت تأثير الجاذبيّة قبل أن يصل إلى ما هو عليه اليوم... وإنّ توزيع المادّة المعتمة غير المرئيّة في المجرّات يأتي بطريقة منتظمة.. وبدقّة بالغة متناهية... كلّ ذلك بتقدير العزيز العليم{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}/الانشقاق1-2/. {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}/التكوير1/. {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ}/الدخان10/. {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}/التكوير2/.
يا إلهي هذا الكون مرآة لتجلّياتك... أحبّك يا إلهي لا طمعاً بجنّتك ولا خوفاً من نارك... أحبّك لأنّك تستحقُّ العبوديّة أستمدُّ من كبريائك وعظمتك شرف العبوديّة وعزّتي وكرامتي وحرّيتي التي لا تنتهي...
أشمُّ من سجودي لجلالك وعظمتك رحيق البشرى... وأرى بعلم اليقين بل بعين اليقين وبحقّ اليقين...{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}/الكهف54/. ما أتعس الإنسان !!! ذلك هو المسكين الذي ينتظر مشنقة الأجل. قادَتْني سياحتي الفكريّة والعلميّة إلى الأرض التي خُلقنا منها:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }/طه55/.
ففي كلّ خريف... وربيع يموت عالمٌ كبير ويأتي عالم جديد... كالأجيال المتعاقبة من بين الإنسان وما فيهما من الوفيّات والمواليد لأنواع لا تحصى من الأحياء تجري في غاية الانتظام والاتقان والميزان...
ففي حلول الخريف يموت عالم عظيم... فتموت معه أفراد غير محدودة... لآلاف أنواع النباتات والحيوانات الصّغيرة... ولكن ذلك الموت يجري في غاية الانتظام بحيث تودّع تلك الأفراد بذورها وبويضاتها التي تصبح مداراً لحشرها ونشورها والتي هي بذاتها معجزات الرّحمة الإلهيّة والحكمة الربّانيّة وخوارق القدرة والإرادة الصّمديّة... والعلم المحفوظ عند ذي عرشٍ مكين تودّعها أمانة لدى حكمة الحفيظ مسلمة إلى أيديها صحف أعمالها وبرامج ما قدّمت من وظائف... وبعد ذلك تموت... وبحلول موسم الرّبيع تبعث بأعيانها تلك التي توفيت من الأشجار والأصول والحيوانات الصّغيرة وتحيا وتخلق فتمثل بذلك آلافاً من النّماذج والأنماط للحشر الأعظم... فهذه الدّلالات والمشاهدات حقائق ثابتة يقينيّة بعلم اليقين وعين اليقين على وجود واجب الوجود سبحانه فلا حدّ لقدرته... ولا نهاية لحكمته ولا يعجزه شيءٌ... فأكبر شيءٍ عنده يسير كأصغره ابتداءً من درب التبانة إلى المنظومة الشمسيّة... وإلى ثمار الذرة... والرمّان وأمثالهما... وإلى النّحل والنّمل من الحقائق العظيمة أنّه لا إله إلا الله الواجب الوجود وهو الأحد الصّمد... وقد أثبتنا ببراهين قاطعة أنّه لا يمكن إيجاد الأشياء بعضها للبعض الآخر بالدّور والتّسلسل... الذي هو باطل ومحال مثيله فيلزم إذاً وجود واجب الوجود يمتنع نظيره ومحلٌ مثيله...!!! كلّ ما عداه ممكن... وكلّ ما سواه مخلوق...{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ }/الدخان38/. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ }/ص88/. {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ }/الأنعام67/. {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }/الرعد38/. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ }/آل عمران190/. {... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }/آل عمران191/.
أتوجّه سراعاً إلى مخاطبة العقل الفطري والقلب السليم ممتزجين الجبلة الإنسانية وإلى شريان دفّاق ينبض بالحركة والحياة وإلى تيّار اجتماعي عارم في السّلوك الإنساني ودحضاً وردّاً على الفلسفات الماديّة المنحرفة تتساقط كتساقط أوراق الخريف اليابسة على قارعات الطّرق تدوسها أقدام العابرين...
أمزج بين الاثنين ليكتمل بنيان الصّمديّة المعنويّة العتيدة... الله هو الواجب الوجود باتفاق جميع الكائنات والجامدات والمشاهدات بالإرادة والحكمة وبالعلم اليقيني الصّادق بالإيجاد والإرادة... وحقيقة التّقدير وبالقصد القطعي... وتزلُّ العقول الماديّة المحسوسة بالحواس الخمس الضيقة بغرور علمي أمام العظمة والكبرياء... لا قيمة للنفي في المسائل العامة أمام الإثبات... ربوبيّة الله تتجلّى في ملايين من الأجرام السّماويّة{وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}/البروج1/. وفي تسييرها تلك الأجرام بسرعة فائقة بلا مزاحمة ولا مصادفة... وإخضاعها تلك السيارات الضّخمة التي تمتلك قوى هائلة منقادة... مطيعة للقانون الإلهي دون أن تنحرف عن مسارها... وتتجلى ربوبيّته وجه السّماء صافياً نقيّاً مما تلوّثه أنقاض تلك الأجرام المزدحمة دون أن يُرى عليه قذىً ولا أذىً... وفي سوقها وتسييرها تلك الأجرام كأنها مناورات عسكريّة منسّقة... تلك المشاريع الرّائعة وإبرازها في مواقيتها... بالتّسخير والتّدبير والإدارة المنظمة والتّنظيم والتّنظيف والتّوظيف تشهد على وجود خالق تلك السّموات والأرض وعلى وحدته بعظمتها المهيبة هذه وبإحاطتها الكليّة هذه وتشهد بأنَّ وجوده جلاّ وعلا أجلى من وجود هاتيك السّموات... فهو الله الواجب الوجود الذي دلَّ على وجوب وجوده في وحدته... والسّموات بجميع ما فيها بشهادة عظمة إحاطة حقيقيّة المكملة بالمشاهدة... والإنسان هو المرآة الشّاعرة المعاكسة لتجلّيات الخالق... وما دام كمال الخالق الذي أوجد الكون في الكمال هو ثابت ومحقّق وما دام كمال الإنسان هو أفضل ثمرة للكون وخليفته في أرضه حقيقة ثابتة محققة فلا قيمة للألعوبة بيد المصادفة ولهوٍ بيد الطّبيعة وإلى مأتم مظلم مخيف لذي أصحاب الشّعور وأهل الحواس... حيث يهوي فيه كلّ شيء إلى الفناء... وينحدر إلى الزّوال... والذي يردي الإنسان من كمالاته إلى أسفل دركٍ من دركات الحيوان... كأتعس مخلوقٍ وأذلّه والذي يسدل السّتار على مرايا تجلّيات كمال الخالق سبحانه وتعالى...
إنَّ جميع الموجودات المشاهدة على الكمال المقدّس المطلق للخالق الذي أوجد الوجود من العدم{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }/الأنبياء104/... لما كان في العالم... وفي كلِّ شيءٍ تغيّر وتبدّل فإنّه فانٍ وحدث ولا يكون قديماً ولأنه حادث فلا بدَّ له من صانع محدث ولما كان كلّ شيءٍ على السّواء إن لم يكن في ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجباً ولا أزليّاً... الكون كُتِبَ بقلم القدر الإلهي في اللّوح الأزليّ المحفوظ...
***
سياحة فكريّة وعلميّة إلى عوالم الجسد والنّفس والرّوح... خُلقَ الإنسان من جسدٍ وعقلٍ ونفسٍ وروح... أما جسده فيشترك مع تكوينه مع الحيوان باللحم والعظم والغرائز الشّهوانيّة غير أنَّ الحيوان ليس له استعداد
أو مقوّمات للتلقيح الفكري فهو لا يلقح فكريّاً ولا يملك استعداداً فطريّاً ولذلك يبقى متوحّشاً وداجناً معاً...
أما الإنسان يختبئ في داخله حيوانٌ شهوانيٌّ وطاقة عقليّة وروحيّة... فإذا تخلّى عن الرّوح والعقل والضّمير الإنساني استحال إلى وحشٍ مفترسٍ وإذا تجرَّد عن حيوانيّته أصبح عقيماً مفلساً... والإنسان الواعي المؤمن الباصر يسخّر حيوانيّته بوحي من القيم العقليّة والرّوحيّة... والضّمير ليس مكتسباً كما قيل في ميثولوجيا القيمة وفي الولادة الأولى منذ قابيل وهابيل من أين أتى النّدم وتأنيب الضّمير... فمن أوحى للقاتل عذاب الضّمير؟؟؟!! إنَّ الخيول الأصيلة تمتنع عن تناول الأكل والشّراب وتصهل بحزنٍ وألم وتقف على مؤخر قدميه باكياً دامعاً لفقيدها الفارس... فمن أين جاء هذا النّعي الحزين الباكي الأليم ؟؟؟!!
الأسد في السِّركْ في القاهرة... حادثة واقعيّة أهانه صاحبه أمام الجمهور المشاهدين... وردّ عليه بلكمة قاضية فقتل صاحبه... ثمَّ لم يعد الأسد يأكل ويشرب وأصيب بنوبةٍ عصبيّة بعصاب الاكتئاب.. وتدمع عيناه مما اقترفت يداه... امتنع عن النّوم والأكل والشّراب حتى مات...!!! من أين له هذا عذاب الضّمير كنار تأكل أحشاءه وتعذّبه وتحرقه حتى أنهاه...!!! أما روح الإنسان فهي القوّة التي أودعها الله في الجسد... فهي المدركة والمسؤولة وهي التي تشرف وتدير شؤونه الحياتيّة... كما قال ابن الفارض:
لو بسطتُ جسمي رأتْ كلّ جوهرٍ
به كلُّ قلبٍ فيه كلّ محبَّهْ
هذا البحث الذي نحن في حضرته حارتْ به عقول أئمة الفلسفة... وقادة رجال الفكر... وضلَّ به كثير... منهم من اعتبر الإنسان حرّاً لا دخل للقدر في عمله... والحقيقة السّاطعة تقول: الإنسان مخيّر فيما يعلم... ومجبر فيما لا يعلم... أما قول القائل أليس الله هو الذي خلق الشرّير... وخلق الصّالح فلمَ لم يخلقهما متماثلين... ولمَ يعذّب هذا ويكرم ذاك ؟... لأنَّ الذي يريد أن يحاسب الله على ما فعل فهو قصير النّظر أبله لا بصيرة له... فلا يجبر الله أحداً على ارتكاب الشرّ فأعطاه الله الاختيار الكامل يختار ما يشاء فإن اختار طريق الخير سار فيه... وإن اختار طريق الشرّ استمرَّ فيه... ولم يجبره الله عليه... وقضاء الله وقدره... حكمته الواسعة التي شملت كلّ شيء... فمن لم يرضَ بحكمته التي لا حدود لها وبقضائه وقدره... فليس لحمقه دواء... فمن آمن بقضاء الله وقدره... صفا له العيش وطابت له الحياة... وعاش في أمنٍ وسلام... فخلق الإنسان من جسدٍ ونفسٍ وروح... رغم أنَّ بعضهم من الماديين اعترف بالجسد وأنكر وجود النّفس والرّوح على اعتبار أنَّ الجسد يدرك بالحواس الخمس فهو مادّة تدرك مباشرة وأنكر وجود النّفس والرّوح على اعتبار أنهما لا تدركان بالحواس وليس لديهم كاشف يكشفها. والسبب في نكران النّفس والرّوح هو أنَّ العوالم الحاضرة بُنيت على المادّة أو ما تدركه الحواس مباشرة أو بواسطة أخرى كميزان الحرارة وكاشفات أشعة غاما أو ما شابه ذلك... فلا يعترف العلم الحديث بوجود شيء لم تكشفه الأجهزة أو الحواس والسّبب في ذلك هو أنَّ أوربا كانت قديماً تحت ضغط رجال الدّين المسيحي وكان المجتمع الأوروبي يلاقي صنوف التّعذيب والقتل إن جاء بعلمٍ يخالف تعاليم الكنيسة والدّين... وأنكر العلماء أي صلة ما بين تعاليم الكنيسة والعلم... وأنكروا وجود الرّوح وبنوا علمهم على المادة وعلى قوة وهميّة سمّوها الصّدفة... على أنَّ الصّدفة ليست عاملاً أو عنصراً... بل هي لا شيء... أليس جنوناً وبلاهةً بأن تنكر ماهيّة الرّوح... !!!؟؟؟
لا غرو أنَّ هذا الكون محطّ أنظار الوجود... وموئل أنس الكائنات... ومدار جدل المخلوقات... إنّه فوق جدب النّفوس... وقحط الأرواح... ولمسته الحانية على ظهر العالم المثقل بالهموم الجسام ذلكم هو العقل الحصيف للشّعوب طراً... والميزان الدّقيق لموازين النّفوس... واختلاجات الضّمائر في القلوب وأحاديث من حرير المكتوب بلسان الحال أو المقال... فإنَّ معجزات الرّوح هو الإعجاز المدوّي الذي هزَّ أركان الجمود... والنّفي المقيت... وكذلك تشهد الرّوح بانعطاف مفعم بالوداد والأنس بالكون الشّامل في جزئياته وكلّياته... ابتداءً من الحجر والماء والشّجر والإنسان وانتهاءً بالأقمار ومجرّات الشّموس والنّجوم... والسّؤال الذي يراود الذّهن هل المعجزات الخارقة للعادة لها صلتها بالرّوح الإنسانيّة؟؟؟ فلو ظهرت المعجزة مرغمة للتّصديق لما فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الإرادة منه... ولو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهيّاً ملزماً للعقل لما بقي للعقل ثمة اختيار... واستوى الجاهل والراشد ولتساوى في القيمة الفحم الخسيس والألماس النّفيس...!!! وأي اجتهاد بفعل هذه الحقيقة يأتي مبتوراً وناقصاً عن إبراز ملامح الرّوح الحقيقية والإحاطة بماهيّة الرّوح الكليّة... فمن ينكر الرّوح فقد وقع في غائلة الخطأ، وأساء الأدب ووقع في الشبهة والوهم...
إنَّ يد القدر تمسك بالأمم وتهزّها هزّاً عنيفاً، وتخضُّها خضّاً لتساقط ثمار عبقريّتها محمولةً على رياح الفتن، وأعاصيرها الهوج وبذلك تظلُّ أعصاب الرّوح في الأمة مشدودة، ومستوفزة لما يحيق بها من كوارث وأخطار...إنّه مسلكٌ صعب الإحاطة بكليّات الإشراق الرّوحي الإلهي...
إنَّ الجسد يحبّ اللذّة والمتعة ويكره الموت، أما الرّوح المسكون في الدّماغ والقلب يدفع بالجسد إلى خوض المعارك... فالأبطال الذين يقتحمون الجبهات يسترخصون أجسادهم في ميادين الشّرف والكرامة... فالرّوح هي التي تأمر الجسد باقتحام الصّفوف والتّضحية... فالجسد جنديٌّ مطيع لقدسيّة الرّوح... والرّوح ليست من الحواس الملموسة فهي طاقة معنويّة هائلة تأمر وتوجّه الجسد إلى ساحات الموت الزُّؤام مضحّية بالجسد خدمة للمعالي وللمبادئ... بهذه الأستاذيّة العالية للرّوح تدفع بالجسد إلى تخوم المعارك إجلالاً للحقّ والعدل والشّرف الرّفيع المُبارك...
النّفس والجسد توأمان متلازمان لا ينفصلان وتموت النّفس بموت الجسد{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }/الأنبياء35، العنكبوت57/. فالجسد بحدّ ذاته يخضع لقوانين طبيّة عضويّة شاملة... وإذا تعطّل أحد أعضائه تألّم الجسد كلّه فهو يحيا بقوانين إلهيّة أوجدها الله في مكنوناته... فهو يشتهي المأكولات والوقاع والنوم مثل بقيّة الكائنات العجماء... فالجسد هو توأم النّفس تقيم فيه وتتوزّع في شرايينه ومفاصله وخلاياه... طوال حياته... تحرّكه كالدّمى بين أيديها حسب معدنها الخسيس أو الألماس الذّهبي.. إمّا تزجّه في معارك تافهة خاسرة أو إلى ذروة التّقى والورع هكذا الجسد يمثّل المادّة والنّفس قوى معنويّة غير محسوس وغير ملموس...
عندما تكون النّفس مبتهجة مسرورة تظهر آثار تغلغلها في كلّ ركنٍ من أركان الجسد وإن كانت مقهورة قلقة... شريدة... تبدو علاماتها ظاهرة جليّة على بساط الجسد... عن حقيقة أسرار الجسد والنّفس... خاض أغوار هذا المنحى الاجتهادي فقهاء العقل والمنطق وفلاسفة الفكر والبيان... فمنهم من قال: الجسد هو النّفس... والنّفس هي الجسد كلاهما واحد... فإنّي أحترم هؤلاء وهؤلاء متهيباً... وحاشا أن أكون فظّاً غليظ القلب بقولي هذا...الجسد كما أجزم كالمعمل له عمّاله ومهندسوه وأرباب المهن... وله مديره يديره بالطّاقات... بالطاقة والقوى الهائلة... من الخلايا التي عددها أربعة عشر مليار خليّة... والجسد ساحة صراع بين الحياة والموت... وينتصر الموت على الجسد في نهاية المطاف... يفترسه الموت ويدفعه إلى البلى والاندثار بين أحضان التّراب...الجسد ... يمثّل الكون في شكله ومضمونه فهو صورة مصغّرة جداً تمثّل خلاصة الكون... ورحيق خلاصته... وعصارة كينونته... وأستطرد قائلاً: النّفس أنواع: النّفس الأمارة بالسّوء... والنّفس اللوامة، والنّفس المطمئنة الرّاضية{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي}/الفجر27-30/. والنّفس القلقة المضطربة وغيرها من الأنفس الخيّرة والشّريرة... فالنّفس كما أسلفنا ليست مادّة عضويّة بل هي طاقة معنويّة ... ليست محسوسة... يتهيّج الجسد بهيجان النّفس... وهي التي توقد نارها وتخمد جذوتها... فالجسد أداة طيعة بقبضة النّفس... تهيمن على الجسد وتدفعه على تناول اللحوم الطازجة... والخضر والفواكه الفكهة والمشروبات بأنواعها... الرّوحيّة والطّبيعيّة... والنّفس تشارك الجسد في أفراحه وأتراحه... فهي شريكة الموائد والملذّات الشهيّة... وكذلك في الأسقام والآثام... تفعل بالجسد كما تشاء... تتوغّل في أغوار الجسد... تسخرها لأدنى الغايات غالباً... وترفعها إلى أعلى الدّرجات أحياناً من العفّة والكرم... والنّعيم الماديّ والمعنوي وهكذا النّفس تولد بميلاد الجسد وترافقه مدى حياته...
لو أنَّ باحثاً يطلُّ بحياده الكامل على عالمنا هذا... بدءاً من القرون الماضية إلاّ وجد نفسه صريعاً في أحضان التّمزّق والتّقهقر لوجد لا محالة جهلاً عقليّاً.. ونفسيّاً.. واجتماعيّاً.. واقتصادياً.. وأسقاماً وآلاماً.. ينعتك بكيانه كلّه... هذه المآسي كلّها لم تكفِ لسحق عظامه -وهي رميم – وظهرت إلى حيّز الوجود مأساةٌ أدهى وأمرّ وأشدّ بؤساً ويتماً وذلاً في معركةٍ غير متكافئة للحضارة الحديثة – إن صحّت التّسمية-فهي ليست حضارة إنّها التّقنيّة المتقدّمة صُنعت لإبادة الشّعوب التي تقود حركتها التغيرية الهائلة... الفلسفات التي أُسست على المادّة فحسب والتي أنتجها صراع المؤسسات الكهنوتيّة مع الحركة العلميّة العصريّة ...
من هنا فقد ولدت تلك المواجهة المشؤومة بالاحتلال العسكري والاقتصادي والغزو الفكري والانحراف الثّقافي... والخديعة الحضاريّة في حاضرنا هذا ومن الإنصاف أن نقول... إنَّ محاولات فرديّة متناثرة هنا وهناك قد ظهرت لإيقاف تلك المأساة إلا أنّها لم تستطع أن تمنع... خمدت جذوتها... وكبت خيولها... فأصبحنا غرباء روحياً ونفسيّاً واجتماعيّاً... ومن هؤلاء الذين انطلقوا من المعرفة العميقة... والاستقرار الشّامل لتطور الأوضاع عبر العصور... والإدراك السّليم لطبيعة المرحلة... ومن أعمق هؤلاء الأفذاذ إيماناً عبد الرّحمن الكواكبي وأغزرهم علماً وأصلبهم جهاداً... وأدقّهم فهماً لطبيعة المرحلة... وأمضاهم قلماً، وأشرفهم أسلوباً انبثق انبثاق النّور في حالكات الظّلام... فقام بدور تجديدي في بعث الهمم.. ومقاومة الأعداء... والوقوف كالطّود الشّامخ أمام التّحدّيات والفرقة وشناعاتها داعياً إلى التّكاتف والأخوّة والمحبّة وبناء الذّات والخلاص من الأنانيّة... ونبذ العبوديّة للأصنام البشريّة والأوثان المتنوّعة التي جاء بها الأوكار الجائرة... فاستنارت بفكره العقول... وَصَفَّتْ بدعوته القلوب، واطمأنّت بروحانيّته النّفوس وقد سخَّر حياته في سبيل المهمة النّبيلة ألا وهي مقاومة استبداد الدّولة العثمانيّة المريضة... ودعا إلى بناء الشّخصيّة الوطنيّة الحقيقيّة التي لا تتزعزع أمام الأعاصير الهوج مهمة انقاذ المجتمع المهدّد من انهيار حضاري وأخلاقي... معالجاً الواقع بمنطق صارم... ونثريّة تفوق على الشّعر أكثر لمعاناً... وقلم سيّال في تحدٍّ وجرأة المشكلات الخطيرة... والشّبهات التي كُتبتْ بحقدٍ دفين... ونسجتْ خيوطها العنكبوتيّة الواهية دوائر الاستشراق، ومركز التّبشير والمؤسسات الثّقافيّة الملحقة... إنّ القلوب والعقول هما برازخ إنسانيّة بين عالمي الغيب والشّهادة... فالعلاقات والعلامات بين ذينك العالمين بالنّسبة للإنسان أقصر الطّرق الموصلة إلى الحقيقة الرّاسخة... فإنَّ جميع العقول المستقيمة الموزونة تتفق في العقيدة الصّائبة... ويتطابق في اليقين الجازم رغم التّباين الواسع والمخالفة في المذاهب والملل والنّحل غاصت وأوغلت في حقيقة عريقة لا تنفصم عراها... اجماع العقول في الإيمان والوجوب والتّوحيد... هي سلسلة نورانيّة ومرآة جامعية لأنوار التّجلّيات الصّمدانيّة... هناك عقول مشوّشة بالحواس وقعت في شباك التّمويه والغفلة... تحمل بين مخالبه، وأضراسه المسوّسة عقلاً منحرفاً وفاسداً عفناً... بل حتى السّفسطائيون الحمقى الذين ينكرون الكون بأنه أوجد نفسه بنفسه...
أنّ ما في الممكن من وجه الوجود بالأنانيّة والغطرسة يوصل إلى العدم... وينقلب إليه وما فيه من وجه العدم بترك الأنانيّة وبطلانها ينظر إلى الوجود الواجب... فإذا أحببتَ الوجود فانعدم لتجد الوجود... والتفكّر في ملكوت الكون يذيب الغفلة الباردة والجامدة... أنتِ أيّتها الأنانيّة المنفوخة ترومين دوام الأذواق وهي فانية آنية لذا تبكين عشر ساعات عن ضحك دام دقيقة واحدة... وحواس الأنانيّة الهوس والمشاعر والطّبائع وهي موغلةٌ في الأعصاب والعروق عديمة الشّعور... عمياء لا تبصر... لا تفهم أقوال العقل ولا نصائح القلب والضّمير... بحيث يضحّي المرء بمشاعره وحواسه كلّها للهدف الذي يصير إليه.
إنّ النّفس الأمارة بالسّوء تستهدف الآثام طوعاً تلك السّيئات التي ترتعد من شناعاتها الكائنات قالت لي نفسي الأمارة بالسّوء... لمَ لا تسعى لراحة حياتك... لمَ لا تتحرّى من حياة ممتعة تقضيها طوال عمرك ؟؟؟!!! إنَّ اللوحة المعلّقة – فوق رأسي – تخرس نفسي الأمارة بالسّوء ... وتلزمها الحجة تماماً... نحن في عصرٍ مثقلٍ بالآلام... التّصنّع المؤلم والتّكلّف المقيت... وأذواق الأنانيّة والغرور المتستّر تحت ستار الوقار... إنَّ حياة البرزخ أفضل من دنيا العبث والهوان... نعم هكذا ينبغي أن ندع هذه الأذواق الفانية العابرة محتفظين بجوامع الكلمة... وبعزّتنا وكرامتنا...
إنَّ طلب الشّهرة والتّطلّع إلى المراتب والمناصب والجاه والشّهرة المصطنعة لا يساوي شروى نقير... وهؤلاء البلهاء التي يسمونها العرف الاجتماعي... إنّ الشّهرة الكاذبة هي عين الرّياء هي النّزوح عن المقامات المتستّرة بالكلام الهزيل... لأنَّ الرّياء يعني موت القلب وتصير عبداً للآخرين... كن في تواضع جم كالتّراب... وكن حانوتاً بسيطاً بين مجوهرات الحقّ والاستقامة...
المفكّر الحقّ يتحدّى أكاديميّة الشّاذّين المنحرفين يقتحم قلاعهم الحصينة التي يسمّونها العلوم الطبيعيّة والحديثة في فلسفتهم العمياء... أولئك يعيشون ويحيون أدنى من رتبة الأنعام الذين يقولون بأنّ الإنسان كالحيوان يحيا ثمّ يفنى...!!!
أولئك المصابون بطاعون الماديّة... والجدل العقيم... الوطن هو خبز الحياة وفاكهته بناء المجتمعات... أركانها العقل والعدل وحبُّ الآخرين... فالرّقيّ الحقيقيّ في حمى الوطن وبناء الإنسان الوطني علماً وعملاً وسلوكاً... وتمكينه بالنّزاهة والإخلاص... وتحت ظلال العدل والقانون والتّسامح بحمى الوطن ويثمر رخاءً وأمناً وسلاماً... الوطني المخلص يؤمن إيماناً صادقاً بنكران الذّات ومحاربة الأنانيّة والغرور... والمكاسب الشّخصيّة المهينة... وبتلك الحقيقة الفائقة هي الحصن الحصين للوطن... والإخلاص للوطن هو معرفة الحقّ بالحقّ في خضم هيمنة التيّارات الجوفاء والآراء الخاطئة في عصرنا هذا الذي اجتاحه الغرور والإعجاب والاستكبار فتحاول المقامات الكبيرة أن تجعل كلّ شيء أداة طيّعة لها وتستغلّ كلّ وسيلة في سبيل مآربها ومنافعها... حتى تجعل مقدّساتنا وسيلة لبلوغ مناصب عالية ولئن كانت هناك مقامات معنويّة فهي تستغلّ استغلالاً أسوأ وتُتخذ وسيلة أكثر طواعية من غيرها... ولذا يظلُّ دوماً تحت شبح الاتّهام... ويجعل خدمات مقدّسة، وحقائق سامية وسائل وسلالم لبلوغ مراميه وأهدافه التي يحثُّ الخُطا إليها...!!! فحقيقة الإخلاص لحمى الوطن تمنعنا عن كلّ ما يمكن أن يكون وسيلة أو كسب شهرة زائفة لبلوغ مراتب ماديّة ومعنويّة...منذ عقدٍ من الزّمن ندفع ضريبة الأخطاء الخوف... والجوع... والهجران ... وفقدان الثّقة بالنفس وبالآخرين... والدّمار والخراب الذي حاق بالبلاد... وعلاج هذه الكارثة الماحقة مكافحة الغرور والإعجاب بالنّفس والغطرسة والاستعلاء والاستكبار... والتعصّب الأعمى المقيت... علينا بتطهير نفوسنا... ونسيان ما مضى من الخلافات العفنة النّتنة... إنَّ الحرب الدّائرة في مجتمعنا هذا ووطننا هذا مرض خبيث خطير يدمي القلوب المطهّرة من الضّغائن والمغسولة بنهر التّسامح... وغدير المحبّة...
إنَّ وضعنا متدهور مخيف، وانحطاط مفجع، وانهيار لبنيان المجتمع فلندخل إلى قلعة الحصن الحصين بكلّ مذاهبنا وطوائفنا وأعراقنا أن يتّحدوا لمصلحة وطنهم العزيز وذلك بنخبة من الحكماء المرشدين والسّاسة المرموقين ذوي السّيرة الحسنة في سبيل ترسيخ المحبّة والإخاء كالبنيان المرصوص...
إنَّ الحلّ والعلاج الأنسب لواقعنا السّوداويّ أن ننسى الماضي بكلِّ فظاظاته وشناعاته... والاحتكام إلى العقل الوطني والقلب العطوف الرّؤوف الرّحيم... أمامنا ذلك الخندق الأمين... إنَّ أعداءنا يستغلّون الشّقاق في صفوفنا ويثيرون الأحقاد المصطنعة فيما بيننا... وينشرون الهرج والمرج... ليستلبوا خيراتنا ويهرقوا دماءنا... ما الذي ألقانا في غياهب الضّياع، وأقعدنا عن معالي الأمور ؟؟؟!!! إنّ الحقيقة الواقعيّة العمليّة الصّادقة أفضل من أكوام من بيادر الخيالات الكاذبة المزيّفة الاتّفاق مع الحقيقة هو أحد وسائل التّوفيق والعزّة والقوّة بنوعيها المادية والمعنويّة.
من الواجب أن نقول الحقّ المقرون بالفن والجمال هو المسلك الذي يقضي على المسالك المعوجّة من غرور النّفس... والأنانيّة الطّاغية... والتعنّت المتصلّب والأحاسيس النّفسيّة التّافهة... فالإخلاص هو أعلى درجات الحقيقة... هو غاية الغايات في ثرى وطننا الغالي النفيس بعيداً كلّ البعد عن الرّياء والآراء الضيّقة... والحزبيّة المتحزّبة... إنَّ واقعنا المتحضّر هذا قد استولت فيه الأنانيّة المفلسة، والمنافع الشّخصيّة السّفليّة حتى انحصر شعور كلّ مواطن في انقاذ نفسه فحسب... إنّ نسيان الذّات يلزم ضبط النّفس وعدم إفساح المجال للتّفرقة والتحزّب الضيّق والثّنائيّة المتشرذمة... وأن نضع التّسامح دستوراً لنا في حياتنا الوطنيّة... نتجاوز الأخطاء بكلِّ سلبياتها فنبني أقوى أخوة جبّارة تسودها المحبّة والألفة ... والعروة الوثقى، وأن نترك السّيئات مستورة تحت ظلال النيّة الحسنة... وتحت حجاب الحياء فتنحصر في نطاقٍ ضيّقٍ ويسعى صاحبها لإصلاحها... فلنجعل من التّراحم والمحبّة أستاذاً عمليّاً مطلقاً في سيرة حياة وطننا الغالي...الحياة حركة وفعالية... أما الشّوق فجوادها مطية الهمة فحالما تمتطي همّتكم صهوة جواد الشّوق تنشد معالي الأمور في ميادين معركة الحياة... وإذا باليأس ذلك العدو الأرعن أوّل ما يصادفها هو الذي يثبط من قوة الهمة... ثمّ يخرج عدو آخر وهو التّقليد فيجد الفرصة السّانحة لتقليد الكسالى والمتخلّفين عقليّاً ونفسياً وروحيّاً وبه يقصم ظهر الهمة... ثمَّ يلوّح العدو الغدّار وهو التّسويف النّاجم من العجز وفقدان الثّقة بالنّفس فينشأ منه تأجيل الأعمال ... وأخيراً الراحة والدّعة الذي هو أمّ المصائب ووكر الرّذائل... يقيّد الهمة ويصفّدها بأغلاله وَيقْعِدُها عن طلب معالي الأعالي ويرميها في وادي السّفالة والنّذالة... كيف نعالج دواعي الاختلاف بين الرّأي والرّأي الآخر... دواء هذا المرض هو مرهم الإخلاص وإيثار المصلحة العليا للأمة والوطن ومحاربة الأنانيّة الفردية والتّعنّت... والمصالح الخاصة... والتّسامح النّبيل... هناك اختلافان السّلبي والإيجابي... فالإيجابي يسعى كلّ واحد لترويج مسلكه وإظهار صحّة وجهته وصواب نظرته دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطّعن في وجهة نظرهم فالاختلاف هذا هو سعيدٌ لإكمال النّقص ورأب الصّدع والإصلاح ما استطاع إليه سبيلا... أمّا التمزّق والتحزّب وفرض الآراء بقوّة واستعلاء هو خطرٌ على الأمة والوطن.. فالأفضل هو الاتفاق في الأسس التي فيها حماية الوطن وازدهار المجتمع... وفي سبيل الوصول إلى ذلك إنّما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والأركان... فهذا النّوع من الاختلاف يستطيع أن يقدّم خدمة شاملة مرتقبة في الكشف عن جوهر الحقيقة المثلى... وإظهار كلّ زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح والبيان...!!!
***
حُكيَ في الميثولوجيا القديمة سُئل نمرود كيف أصبحت جبّاراً وادّعيتَ الألوهيّة ؟؟؟! فأجاب: قتلتُ العقلاء وأبقيتُ الحمقى ...!!! إذا أمرتُهم بالإسراع إلى أرضٍ جرداء لا ماءٌ ولا شجر ولا زرع... واحصدوا سنابل القمح والمزروعات... فيذهبون وبأيديهم مناجلهم فيحصدون الهواء بدلاً من المزروعات... وأقول لهم تناولوا طعامكم يبتلعون شهيقهم وزفيرهم... ويحمدونني ويشكرونني على الدّوام... ويهتفون: يحيا إلهنا...!!! أقلّب كفيَّ الخاويتين... باحثاً عن حلّ لواقعنا الهزيل الذّليل... وأبكي بكاء الصّامتين...!!!التّخلّف داء خبيث، ووباء قاتل، وآفةٌ مزمنة إنه القاتل الصّامت يفترس المجتمع والوطن ويمحق الحرث والنّسل...
في المجتمع المتخلّف يسود فيه الغباء والتهوّر وترفع رايات الزّعامات الوهميّة... وعبادة الأنا الطّاغية وممارسة السّلوك المنحطّ في سبيل إرواء شهواتهم وغرائزهم... وإيثار ملذّاتهم الشّخصيّة فوق كلّ اعتبار... ويعلنون المبادئ... والمثل العليا التي تخالف سلوكهم العملي وذلك ابتغاءً وتكسباً لثرواتهم الفرديّة... وزعاماتهم الفارغة الهيسترية... وخلق جمهرة من الرّعاع ورهطاً من المنافقين المتملّقين للعزف على أوتارهم... ويعلنون حرباً شعواء على أهل الألباب وتهميشهم... ومحاولة إنهائهم بشتّى السّبل ليعيشوا في مأمن من ملذّاتهم في أبراجهم العاجية... ويبشّرون المجتمع بإنشاء عالم يسود فيه النّعيم والرّخاء والعدل في الغد القريب...!!!
خلف هذه اليافطات البرّاقة المزخرفة المزيّفة والشّعارات الكاذبة تختبئ النّوايا الشرّيرة والبؤس السياسي والاجتماعي والأخلاقي والرّوحي يلقّنون المجتمع على الاعتماد على عناصر الخيال الخالي... ويبنون قصوراً من الأوهام... وأضغاث أحلام يهجر العقلاء ويصمتون غيظاً خوفاً على أنفسهم وعن كثب يراقب الأعداء حركات هؤلاء متربّصين بهم في كلّ لحظة...
يستغلّ العدوُّ ضعفهم وتفرّقهم وشتاتهم ثمّ يغزوهم في ديارهم ويبتلع العدو ثرواتهم التي جمعوها على حساب المجتمع المسكين الذي ينتظر مشنقة الأجل المحتوم... إنَّ الحضارة التي أسّستها أوروبا والغرب الأوربي لن تدوم لأنها تفتقر إلى الرّوح الإنسانيّة... والتاريخ يحدّثنا بأن الإمبراطوريات التي حكمت العالم واستعمرتها كانت نهايتها الفاجعة الأليمة وانهيارها... فالحضارة التي صنعتها أوربا هي حضارة التّقنية والقوة المسلحة التي تستعمر الشّعوب... وتبيع مبادئها ببرميل من النّقط... كما قال أحد القادة الكبار في النّصف الثاني من القرن العشرين... والمستعمر أنواع: المستعمر المتقدّم علمياً وتقنياً أحسن من مستعمر غبيّ أبله... والمستعمر الذي يغزوك ثقافياً وفكرياً أخطر من عدوٍ يغزوك عسكرياً لأنه يبيد قيمك ومبادئك التي تختلج في دماغك وفي صدرك...
الشّعوب لا تنتهي بالقتل والإبادة الجماعيّة ولكنّها تباد عندما تحاول إمحاء قيمه التي آمن بها وكرامته ومثله العليا عندئذٍ تنتهي الشّعوب وتموت... وهذا واضح وناصعٌ في سلسلة أدوار تاريخ للشّعوب قاطبةً...
في المجتمعات المتخلّفة تحصيل العلوم بأنواعها في المدارس والمعاهد والجامعات...لا تتحول إلى سلوك عملي تطبيقي واقعي في الشارع العام والمؤسسات بأشكالها المختلفة يتاجر بها المتملّقون لجمع المال والوصول إلى المناصب المهمة فيصبح العلم وسيلة للتكسب... واعتلاء المناصب...
ينعدم العلم في الشارع والمحافل ويغدو هُزُواً على الألسنة وعيون الشارع الموبوء بلوثة الغش والخداع والاحتيال... والعلم في نظر السّفلة غباءً ودروشة... ومسكيناً ذا متربة...!!!
في هذا المناخ الجافّ يصبح الجهل سيّداً... ويقاس الفرد بما يملك من مال... فجامع المال هو السيّد الذّكيّ الفطن والاستبداد قائماً... والخوف والجوع حاكماً على بعضهم وحوش مفترسة... ولأعدائهم عبيدٌ وخدم...!!!
في حظيرة التخلّف يموت الظّالم بأظلم والمتملّق بالتملّق... والغبي بالغباء... والبخيل بالبخل... والمحتال بالاحتيال... ولكن بعد حين...!!! فلا حياة لمجتمعٍ راقدٍ كرقود القبور... فالتخلّف آفة الشّعوب من أخطر الأمراض التي تنخر جسد المجتمع المبتلى به... في مستنقع التخلّف الموبوء بالاحتيال تصبح الثّقافة لغواً... ولهواً... وعبثاً... وتسلية للمتنعمين بالثّراء وبداء المناصب الرّفيعة... فالثّقافة ملك للمتملّقين إسعاد أصحاب الثّروة، واليد الطّويلة... والأعداء يمدّون كلّ الفرقاء المتخاصمين بالمال والسلاح ويجرّبون أسلحتهم... فيصبح وطن التخلّف ساحة صراع بين الأعداء المتنافسين على حصصهم على مرأى من العالم... ويبيعون مبادئهم بمصالحهم... وعلى هذا النّهج الخبيث الرّجيم يبنون معاقلهم للعتوّ والاستكبار... والأبرياء هم قرابين وضحايا لمناوراتهم الخادعة المحتالة ذلك فصلٌ من أعظم فصول المسرحيّة الدّراماتيكيّة أكثر مأساةً وتراجيدياً... في عاصمة المجتمع المتخلّف غاشية الغواشي عنوانه مرعب ومفزع ومخيف أركانه... العنف... والقتل... والإرهاب... والنفاق المستشري... والعبوديّة للمال قياماً وقعوداً والزّعامات الوهميّة... وثمارُهُ الدماء البريئة الزكيّة المهراقة والمسفوحة... وخراب العمران... والدّمار الرّهيب... هذا التخلّف... هو العدوّ المفترس الدّمويّ القابع في أدمغتنا وأفئدتنا منذ أمدٍ بعيد...
من آفات التخلّف يضطهد منقذيه وحكمائه... ويكرم ويبارك بمفسديه ومخرِّبيه... إنّه عدو الإصلاح وخليل الخراب والدّمار...!!! ينبذ المتخلّف السّلالات الأصيلة العريقة ويبجّل ويعظّم الذريّات الفاسدة... يهدم ما بناه العظماء... ويأوي إلى السّراديب المظلمة (كالخلد) متستّراً بالظّلام مقاتلاً لشعاع النّور... يرفع المتخلّف الأذلاء إلى مقام قدسيّ... ويهوي بالشّرفاء... وذوي العقول الصّالحة والأخلاق العالية إلى أدنى درجات الانحطاط... وأختم مقالي هذا بنكتة من سيرة (جحا):
استيقظ جحا من نومه فقال: رأيتُ حلماً سيئاً... هذه الشّجرة في دارنا ليست خيّرة عليَّ قطعها وأخذ المنشار وبدأ يصعد حتى وصل إلى الأغصان وشرع بقطع ساق الشّجرة حتى تسقط... فرأى جاره ما يفعله جحا فأشار إليه وناداه... يا هذا كيف تقطع ساق الشّجرة وأنت على غصنٍ من أغصانها سوف تهوي وتسقط أنت والشّجرة كفّ عن هذا يا جاري... الشّجرة زينة البيت وأنت عمودها...
***
هذه العبارات التي أسردها هي خلاصة عمري التي خضتها طوال حياتي... ودفعتُ ثمناً غالياً من البؤس والقلق والحرمان ثمّ استخلصتُ الآيات والعبر من انتكاساتي المتلاحقة التي وقعتُ في أفخاخها... وتعلّمتُ من تجاربي الحية الفاشلة والقليل منها ناجحة وخرجتُ من معمعاتها بسندس الكلام... وبريق المعاني والأفكار... وحرير الكلمات فتلقّيتُ الدَّرس المفيد وخلاصة الفهم العميق والرّؤى الشّاملة... أخطُّ بياني هذا... أنقل تجربة عمري إلى كلّ كائنٍ مَنْ كان... أقدِّمه عسلاً مصفّى وشهداً لذيذاً ليتلقّاه بصدرٍ منشرح ودماغٍ أرحب لكي لا يسقط في أودية الفاقة والخسران... وإليكَ يا عزيزي عصارة تجربتي الحياتيّة... من كنوز التأمّل والمطالعات الرّحبة الواسعة ومن فهارس الأيّام ومعاجم السّنين...
الدّماغ هو أعجب مخلوق عرفناه... هو أقوى قوّة على سطح الأرض... وأنفع قوّة وأخطر قوّة... وتقدّر قيمة الإنسان برجاحة عقله... والعقل ينمو ويكبر بالتّربية والتعليم والمطالعات المتنوعة الشاملة والتجارب اليومية... ويذبل ويضعف بالشّهوات الغريزية... ويكسل بالمحيط الفاسد الملوّث... والأمراض العضويّة والمعنويّة والانتكاسات المريرة... والضّمير هو محكمة النّفس وهو الرّقيب والقاضي العادل يثني على محاسنك... وصنيع أعمالك ويطلق أحكاماً على أفعالك الصّالحة والطّالحة... وعذاب الضّمير هو أمرّ من الأمراض العضويّة... * وكلّ شيءٍ إذا كَثُرَ رخص إلا العقل والعلم... فالعقل وزير ناصح... والعقل الكبير هو الذي يتفتّح لاستيعاب ما يصدر عن العقول الأخرى من آراء وأفكار... * العقول الذكيّة تستطيع أن تواصل عملها في كلّ الظّروف كالسّاعة التي تعمل وسط العواصف العاتية...!!! * والعاقل لا يثق حتى يجرّب... ولايتّهم حتى يأتي بالبيّنات... كالسّعادة في النّفس هي الحكمة والعفّة... والشّجاعة والعلم والسّعادة في البدن هي الصحّة والجمال والقوّة... وفي النّفس هي المال والجاه والنّسب... * فالسّعادة تأتي من داخل الإنسان لا من خارجه... والضّمير النّقي ورقة رابحة... وحظٌّ عظيم... وأفدح الأخطاء أن تجد نفسك متنزّهاً عن الخطأ... والمتشائم هو الذي يبني سجوناً في الهواء الملوّث... والغضب ريحٌ تهب لتطفئ سراج العقول... وليس لمعجب بنفسه رأيٌ... ولا تدور رحى الجد إلاّ بقطب الهمّة... وبعض النّاس كالسّلم يصعد النّاس عليهم وينزلون أمّا هم فلا يصعدون ولا ينزلون... * نفرُّ من النّاس يسمعون بآذانهم والبعض ببطونهم والآخر بجيوبهم وبقية لا يسمعون أبداً...* النّفس كالنّار إن أُطفئت من موضع تأججت من جانب... وكذلك إذا هدأتْ من مكان ثارت في موقعٍ آخر... * إيَّاك والانبساط إلى السّفهاء... تغافل عمّا لا يعنيك... تودّد إلى النّاس ما استطعت ولكن ليس على حساب قَدْرِكَ وقيمتك... إذا لم تقدر على الفضائل فاجتنب الرّذائل... * لا سرور أسرّ من سعة الصّدر... * النّفس غير آمنة فإن شغلتها بما يصلحها ويفيدها وإلا شغلتك بما يفسدك...!!! * الشّهوة حجاب يحجب شعاع عقلك والغضب نار تلفح حسنات فضائلك...!!! * أغرب ما بالإنسان اعتقاده أنّ كل من ليس على رأيه مخطئ... * أخسر النّاس أعماراً الذين شغلتهم شهواتهم عن مصالح أمورهم... * من الحقّ أن يُمد البدن بالغذاء المفيد النّظيف ولا يكلّف بما لا يطيق... * لا تأكل شيئاً من الشّبع ولست نادماً لإقلالك من الطعام... وما أكلته مقتصداً فلجسمك... وما خلفْتَهُ فلغيرك... * المحسن حيٌّ وإن نُقل إلى دار البلى... والمسيء ميّتٌ وإن عاش في الحياة الدّنيا... * قيل لأحد العلماء بلِّغ ملكك بأن يرأف على الرّعية بالعطف والإحسان... فذهب إليه وأخذ يقبّل رجليه... فجاء القوم يعاتبونه على فعله... فقال: طلبتم منّي أن أخاطب عقله فأدركت أن عقله مقيمٌ في قدميه...!!! * من تجاوز حدّه... وجهل قدره استسلم للفضيحة وخسر وقاره ومروءته...!!! * العلم في الصّدور... فإنّك تستطيع بشيءٍ من المخاطرة أن تنتزع بندقية خصمك ولكنّك لا تستطيع أن تنزع من صدره العلم... * المهمّ في العلم تطبيقه عمليّاً وتحويله إلى سلوك تطبيقي... فهو ليس لباس يتزيّن به بل هو طريق السّعادة والرّخاء والطّمأنينة وخريطة إبداع وتصنيع... وابتكار ونشره وتعليمه بين النّاس حتى لا يموت العلم بموت العالم... * العلم النّاقص أشدّ خطراً على الجهل...!!! والعلوم أنوار ساطعة ولكن إذا داهمتها عواصف التّيه فهي نيران حارقة... والعلماء العاملون زينة الحياة... ومصابيح ظلامها وقادة شعوبها... * تقاس قوّة الأمّة بعلمائها العاملين المبدعين لا بأسلحتها وتقنياتها الحربيّة... * الحرية كالعافية لا يشعر الإنسان بقيمتها وسعادتها إلا العبيد كالمريض الذي فقد عافيته... فهي تاجٌ على رؤوس الأحرار لا يراها إلا العبيد... والحريّة تشمل حريّة الوطن واستقلاله وحريّة الأمة وسيادتها وحريّة الرّأي والتّفكير... والاعتقاد والعمل والاقتصاد والرّخاء... فلا حريّة للقويّ الذي يضطهد الضّعيف ولا الغالب على المغلوب ولا يجوز أن تكون عبداً لغيرك... ولا تذلّ لأحدٍ لأنَّ الحريّة أثمن شيءٍ بُذلت في سبيلها الدّماء بلا حساب، وتغنّى بها الشّعراء... وتحدّث بها العلماء... وقلّما نجد أمَّةً لم تغرق في نهرٍ من الدّماء في سبيلها... * اختصم مواطن ألماني مع بسمارك رئيس وزراء ألمانيا... فتطاول عليه... فهدّده بسمارك فقال له: لن تستطيع أن تفعل بي شيئاً أنا سيّد ألمانيا... فقال المواطن: يوجد في برلين قانون وقضاة عُدُل... ورئيس محكمة في لندن أتى إلى المحكمة... وطلب من الكاتب أن يكتب محضراً له بالذّات وبغرامة خمسة جنيهات لمخالفته قانون السير... فقال الكاتب: ألستَ أنت المغرم ؟!
فقال: نعم، هذا هو العدل بعينه... بالعدل نهضت الأمّة لكن مع الأسف... في واقعنا العملي... مَنْ يذهب إلى المحكمة... ويربح الدّعوى فيكسب قطّة ويخسر بقرةً... وأصبح المثل السائر فيه: صلحٌ خاسر خير من دعوى رابحة... فويلٌ لأمّةٍ لا تفقه القانون. * إيّاك -يا عزيزي – ودمعة اليتيم... والشّيخ الهرم ودمعة المظلوم فإنّهما يسريان بالليل والنّاس نيام... فمن استعان بظالمٍ خذله...
إذا المرء يد الظّلم إن سطت
عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
* إذا سلمتَ من ملك السّباع فلا تطمع في صيده وارحم نفسك من الحقد فهو نار وأنت الحطب وكلّ نار طاهر مطهر إلا نار الحقد... * تبلغ الحضارة أوجها عندما ينصرف كلّ امرئٍ إلى مزاولة العمل الذي يحسنه... وليست الظّروف هي التي تخلق الرّجال بل الرّجال هي التي تخلق الظّروف... والعبقريّة كزيت السّراج المتطوّر...* ما دام مجتمع من الأغنام والنّعاج فلا بدَّ أن تكون له حكومة من الذّئاب...
ومن رعى غَنَماً في أرض مسبعةٍ
ونام عنها تولّى رعيها الأسدُ
* الأمم بنيان الهمم... والصّالحون يبنون أنفسهم والمصلحون يبنون المجتمعات... فلا صلاح للخاصّة في فساد العامّة... حيث تكون الحكومة ضعيفة يقبض الجيش على زمام السّلطة... ولا نظام للدّهماء مع دولة الغوغاء... * أوحش الأشياء عند القادة رأسٌ صار زنباً... وزنبٌ صار رأساً... * الأمّة النّاشئة تنهض من حيث بدأت الأمم المتقدمة... ولا تبدأ من حيث انتهت الأمم. * وإنَّ مَنْ آثر الحياة على الشّرف والكرامة... فالموت خير سبيل له... وساء سبيلا. * الحقّ المسلّح بالقوّة أسدٌ عرينُهُ... والحقّ الأعزل يتحوّل إلى باطلٍ مهزوم... * ضياع الأخلاق اندثار الأمم... عظام وهي رميم...
* ويلٌ لأمّةٍ كلّ قبيلة فيها أمّة... * ويلٌ لأمّةٍ تلبس ممّا لا تنسج... وتأكل ممّا لا تزرع وتستورد ولا تصدّر وتتكل على غيرها... * ويلٌ لأمّةٍ تحوّل عقيدتها إلى التعصّب والشّقاق والنّفاق... ومذاهب وطوائف متخاصمة تفني بعضها بعضاً... * لا شيء أضرّ على الوطن من إشراك العامة الجهلة... من ذوي النّفوس المريضة وإحلال الجاهل محلّ العالم...
ما اســتحال الهرُّ ليثــــاً
إنّما أسد الآجام صارت هررة
وإذا الليث وَهَتْ أظفاره
أنشب السنّور فيه ظفرَهْ
* الأزمات الكبيرة امتحانٌ للأمم ومحك المعادن الثّمينة والخسيسة... فإن أخذتْ درساً يمكن لها أن تبني نفسها وإن لم تعتبر سقطت في هاوية سحيقة لا قرار لها... * الشّعب الجاهل يشتم من خدمه ويخدم من أهانه... والأخلاق الأصيلة تظهر في الأزمات عند الشّعوب الواعية... وإنَّ أمضى سلاح وأيسره كلفةً هو إفساد الأخلاق... وقتل الشّعور الوطني وطريق ذلك سهلة وهي أن يُتّخذ من أبناء الأمّة أراذلها حكاماً وأمراء... وبطانة يسلّطهم عليها...* أصدقاء السّياسة أعداءٌ عند الرّئاسة... * لم يجتمع ضعفاء إلاّ قووا وفازوا... ولم يتفرّق أقوياء إلاّ ضعفوا وخضعوا... * الغدر من شيم الجبناء... * فلا ترحم ضعف العدو لأنّه إذا قوي لا يرحمك... * الانجازات الصّغيرة أفضل من المشاريع الكبيرة دون إنجاز...!!! * وأفضل وسيلة لكسب الحرب هي عدم إثارتها... * سُئلَ صيني عن رأيه في المؤتمرات فقال:هم جماعة يلتقون في مكانٍ فسيح وينهض أحدهم ليتكلّم... فلا يقول شيئاً... ولا يصغي إليه أحد... ثمّ يدبُّ الخلاف بين الجميع... * قطرة عسل تصيدها من النّحلة أفضل من برميل من العلقم...
* الطّيور لا تقرب أفقاً فَسُدَ فضاؤه... والحريّة تهرب من بلدٍ فَسُدَ قضاؤه...
* ضربة من صديقك خير من قبلة من عدوّك...
* الصّديق الكامل مفقود لذا قد يجد المرء
في مجموع الأصدقاء الكمال المنشود...
* صحبة الأشرار قد توجب سوء الظنَّ بالأخيار...
* أبطئ في الذّهاب إلى ولائم الأصحاب وأسرع إلى مصائبهم...!!!
* إذا اختصم المحبّان فقد تجدّد حبُّهما...
* مصاحبة الأحمق كمصاحبة الأفعى...
لا تدري متى يؤذيك...
* تقضي الحكمة على الأعرج أن لا يكسر عكازه على رأس خصمه...
* من النّاس من لا ينتفع منه إلاّ الدّخلاء... أمّا أهله فلا ينالهم من برّه شيءٌ...
* الأسرة الشقيّة تهدم كلّ ما بناه الأب العطوف...
* المال خير خادم، وشرٌّ قاهر...
* الكلمة الطيبة الحلوة بها تنال الكثير ممّا تأمل وترجوه...
* أحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع سامعه...!!!
* المتحدّث اللبق الفطن لا يطيل كي لا يملّ السّامعين...
* لا تذع نبأً غير سار حتى يجيء به غيرك...
* ربَّ كلمةٍ سلبت نعمة...
* لا تتحدّث لمن لا يقبل حديثك وتعرف ذلك بالعين... فإذا رأيت عين محدثك مقبلة على غيرك فاصرف حديثك عنه...
* لا تقاطع حديث الآخرين إلا عند الحاجة ولا تتكلّم بكلام يعلو مستوى الحاضرين... تكلّم بمستوى إدراكهم وقلوبهم...
* مَنْ رأيْتَهُ مجيباً عن كلّ ما سُئل...، ومُعبّراً عن كلّ ما شهد...، وذاكراً كلّ
ما علم فاستدلّ بذلك على جهله...!!!
* لا تتحدّث لصديقك عن متاعبك... وأزماتك لكي لا يتضايق... ويحزن ويملّ...
* عبّر أحد الأمراء سقراط بخمول نفسه واستبدَّ عليه بشرفه وفلسفته...!!!
فقال ســــقراط: يـــا هــــذا إليـــك انتهى شــرف
قومك وبدأ شرف قومي فأنا فخر قومي
وأنت عار قومك...
* اللباقة براعةٌ تكسبك الظّفر في الجدل دون أن تكسبك عدوّاً...
* لا تجادل حليماً ولا سفيهاً، فإنَّ الحليم يغلبك والسّفيه يؤذيك...
* إذا أراد الله بقوم سوءاً أبلاهم بالجدل والّلغو والسّفسطة...
* إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه فإنّه لا يدري متى يغلق عنه...
* التّدبير قبل العمل يؤمّنك النّدم...!!!
* دعِ اليأس ففي اليأس نهايتك...!!!
* أسباب نجاح المرء ترك الهوى، واتّباع العقل.
* عدم الاستسلام للخيبة... وحمل الأمانة بإخلاص واللطف مع كلّ شخص، واغتنام الفرص وترك الغش والرّياء...!!!
* الحكيم مَنْ جعل لنفسه مشاغل شتّى خارج البيت وداخله... وألواناً مختلفة اجتماعيّة وفكريّة وإنسانيّة... وأموره الخاصَّة لئلا يشعر بالوحشة والفراغ...!!!
* لا يتعب من يعمل بقلبٍ راضٍ...!!!
* الصّخور تسدّ الطّريق أمام الضّعفاء بينما يرتكز عليها الأقوياء ليصلوا إلى القِمّةِ...!!!
* العمل يقتل أكبر أعداء الإنسان... الملل... والقلق... والفقر...!!!
* طريق النّجاح للوقت قيمة وفي المثابرة نجاحٌ وفي العمل مسرّة وفي اللطف قوّةٌ وفي الاقتصاد حكمة... وفي الصّبر ثباتٌ وفي الابتكار سرورٌ... وفي الاختيار قوّةٌ...
* لا تتسلّق علوّاً مفرطاً لئلا يكون سقوطك عظيماً...
* الحظّ عجلةٌ لا تدور إلا بالعمل المتواصل...
* لا تستهين بالآخرين... إذا وقفتَ في مكانٍ عالٍ ورأيت الجموع وهم صغار، وكذلك هم ينظرون إليك وتبدو صغيراً...
* الأعمال صورٌ قائمة... وأرواحها وجود سرّ الإخلاص فيها... والإخلاص هو استواء أفعال المرء في الظّاهر والباطن...!!!
* خسارة العمر مَنْ لم يقرأ ولم يكتب...!!!
* التّاجر الذي يرأس مال غيره مفلس...!!!
* الرّجل الذي لا يعرف كيف يبتسم الأحسن لا يعاشر النّاس...
* أهون التّجارة الشّراء وأصعبها البيع...
* السّمعة الحسنة رأسمال كبير...
* لا يُقال للاحتيال شطارةٌ وهو قول السّفهاء... ولا الكسب الحرام تجارةٌ...
* إذا فسد الزّمان كسدت الفضائل وانتعشت شهوة الرّذائل...
* برناردشو العظيم سمّى الرّسول الكريم بمعجزة الصّحراء... وأنه رجل خارق وليس القرآن من تأليفه... وطلب من الحكومة البريطانيّة الانسحاب من مصر... وتقديم الاعتذار للشعب المصري فليس من العدل استعمار الشّعوب والأوطان... وَأَقْدَمَتْ السّلطات البريطانيّة على سجنه... وهبَّ الشعب كلّه وهتفوا هتافاً صارخاً اسجنونا في سجونكم... وعندئذٍ تراجعت السّلطات عن قرارها... وانسحبت من مصر... * الوقت الضّائع من المستحيل أن يعود...!!! ورحيل الإنسان من الدّنيا كرحيل الطّفل من بطن أمّه... من قفص الرّحم إلى رحاب الحياة... * لا خير في لذّة تركت ندماً...!!!
* الجاهل ميّتٌ ولو كان حيّاً... والغافل نائمٌ... والغاضب سكران وكوعاءٍ مُلئ باروداً...!!! * السّياسة: جرِّبْ المستحيل حتى تصل إلى فن الممكن... * رفاق السّياسة في الرّئاسة خصمان متصارعان...
* السّياسة الخاطئة داءٌ مزمنٌ فمن اكتوى بها ذاق مرارتها... واكتوى بنارها حتى يحترق هو وأهله وأتباعه... أوّلها متعة عابرةٌ وآخرها هلاكٌ محتم.....
***
العقل العاقل لا يستطيع أن يصدر أحكامه بمعزلٍ عن مشاركة القلب، والنّفس المطمئنة الخيّرة، والضّمير الحاكم العادل... يكون قراره جائراً ضالاًّ... غاوياً ... لا يخدم بني الإنسان...، والكائنات طراً ... لأنَّ العقل بمفرده وبدون وزرائه يُطلق أحكاماً بعيداً عن مناخ العاطفة الإنسانية النّبيلة ... والنَّفس اللّوامة التي تنوي الخير للإخاء البشري .... منذ مطلع القرن العشرين تقدَّمت الثّورة الصّناعيّة في مضمار البيولوجيا والتّكنولوجيا العلميّة بنوعٍ ملحوظ فتسابَقَتْ في ركابها الدّول الأوربيّة والأمريكيّة على امتلاك التّقنية الحديثة، والأخذ بناصيتها رغبةً منها في بناء التّرسانات الحديثة ... والأسلحة النووية الخطيرة سباقاً للتسلّح ... وتصدير ما تصنعها إلى الشعوب والدول المغلوبة على أمرها ...!!! والتي تخلّفت عن ركب حضارة التّقنية الحديثة ونامت نوماً ثقيلاً ...!!! واستهدفتْ التقنية العلميّة لجمع الأموال... وامتلاك رأس مال كبير رغبةً منها لاستعمار الفضاء الخارجي لغرض تطوير بنيانها العسكري... وشرعت بإثارة بؤر التّوتّر بين الشّعوب الهزيلة... ونفخ نار العداوات وإيقاظ الطّوائف والعرقيّات الاثنيّة... وتصدير أسلحتها إلى الفرقاء المعنيين المتخاصمين... وتوسيع الصراعات المستفحلة بين هؤلاء المستضعفين تحت مسمّيات لمَّاعة جذّابة كالأحلاف تارة والحياد الإيجابي تارةً أخرى... والصّداقات حيناً آخر...
كلّ ذلك خدمةً لاقتصادها ورأسمالها الجمّ الكثير... وتطوير تقنياتها العسكرية على حساب الشّعوب المنكوبة المتخلّفة والمغلولة بأغلال العبوديّة تحت سلطة الدكتاتوريات القاهرة المارقة... كنّا نتصوّر منذ عقود منصرمة أنَّ العالم الأوربي... وأمريكا جنّة مزدانة بالرّياحين والزّيزفون يحكمها العدل والمساواة والرّخاء والنّعيم... وتعلّمنا ذلك من رجال الأعمال... والأحزاب المصطنعة... والسّماسرة من التجّار المتخمين بالأموال... هؤلاء الذين بهرتهم الشكليّات... والأحزاب العميلة التي أسّسوها لخداع الشّعوب لتعزف على اسطواناتها ونشر دعاياتها... والأفخاخ المزينة بالطّعمات المنصوبة على آلة زنادها لاصطياد الأنفس التوّاقة إلى المال... والزعامات الوهميّة... ونشر عدالة الغرب الأوروبي والأمريكي بأنّها فردوس العدل والإخاء للإنسانيّة جمعاء... وأنَّ مجتمعهم من أرقى المجتمعات الإنسانية من أقصاها إلى أقصاها... هؤلاء أشباه الصّعاليك أعلنوا القشور دون اللباب... أعزاهم المظهر دون المضمون حفاظاً لمآربهم الشّخصيّة... المتخلّف المقهور المغلول لا يجيد التّقييم النّقي الصّائب السّليم ينبهر بالشّكليّات غير المحتويات... أمّا نوابغ المتخلّفين والنّابغات يحتالون على مجتمعهم... وشعبهم بلا خجلٍ ولا رحمة... أحد التجار في عالمنا هذا ذهب إلى الصّين لشراء البضائع ليبيعها في بلده... فاختار أردأ بضاعة... وباعها في بلاده بأثمانٍ باهظة... ووجّه إليه التّاجر الصّيني عتاباً جارحاً... أنت لا تملك ذرّة من ضمير... أنت عدوُّ قومك تحتال على قومك تشتريها بأبخس الأثمان وتبيعها لأهلك بأغلى الأسعار... أغلب قادة الدول النامية يبيعون بلدهم للأجنبي لقاء ملء جيوبه واستكباره... وغروره الشّخصي... الأوروبيون عامّة والعالم الغربي خاصّةً... تقدَّموا في التّقنية بإحضار علماء خارج بلدانهم... منحوهم امتيازات مادية عالية... ومعنويات تسبق الرّيح والحريّة الشّخصيّة من مالٍ وقصورٍ... وجنس... واختيار التصرف كما يشاء لقاء شراء أدمغتهم... فأبدعوا في مخترعاتهم بسرعة فائقة... وبدأ السِّباق فيما بينهم مَنْ هو الأسبق في التّصنيع والاختراع... وتطوير التّقنية بسرعةٍ مذهلةٍ من وحي عقولهم المبدعة... فَتَجَبَّرَتْ هذه الدّول واستَكْبَرَتْ... فلم تشاركهم الرّوح الإنسانيّة التي تبغي الخير للمجتمعات الإنسانية... فعزلوا الضّمير والقلب الرّؤوم والعاطفة الإنسانية... وطفق العقل المستبدُّ يصول ويجول في مرابعه وأبعد عن ساحته الرّحمة الإنسانيّة... والضّمير الحكيم... فاستبدَّ المجتمع الأوروبي والأمريكي بعقله دون روحانيّته... وبدأ باستعمار البلدان في الشّرق الأوسط والأدنى وتغيير الأنظمة... وتنصيب تماثيل وأوثان لخدمة مصالحهم الجشعة... وتصدير أسلحتهم للبؤر المصطنعة... وللفئات المتخاصمة المتحاربة باسم الدّيمقراطية المهلهلة... الغاوية... ومبادئ حقوق الإنسان والأمم المتحدة... ومجلس الأمن المصنوع في مخابر أكاذيبهم المسعورة وإعلان حقوق الشّعوب المضطهدة الموبوءة بالغدر والمكر والخداع... كلّ ذلك لتخدير الشّعوب وسلب ونهب ثرواتها ومواردها الدّفينة...
إنَّ أمريكا ليس لها تاريخ حضاري إنساني، تاريخها في المجازر البشرية التي ارتكبتها في ناغازاكي وهيروشيما وفيتنام... والعالم الثالث... إنّها تستخدم تقنياتها لإبادة البشرية... فإنّها مهدّدة بالزّوال والاندثار ... يتعاملون مع الحيوانات كالقطط والكلاب وغيرهما ليس من باب العطف الإنساني بل من قبيل المداعبة والمباهاة والمتعة والتّسلية... والجنس لديهم مباح بلا حدود ولا ضوابط... لا يدري الطّفل من هو والده الشّرعي... يتعاملون بالجنس علناً في شوارعهم وأنديتهم...
إنّهم في التّواليت لا يتطهّرون بالماء بل بالخرق والنفايات... وصلة القربى معدومة في عرفهم الاجتماعي... فلا مشاعر عاطفيّة بين الأبناء والبنات والآباء والأمهات مدّعين بكلّ افتخار بأنّهم حصلوا على حريّاتهم الفرديّة... ويتناولون أنجس اللحوم من الخنازير وغيرها التي تشمئزُّ وترفضها النّفس الإنسانية متباهين بأعمالهم القذرة بأنهم أرقى المجتمعات تطوّراً وتقدّماً... إنّهم يوقدون لهيب الحروب في دول جنوب وشرق البحر المتوسّط ويجعلونها ساحةً لصراعاتهم ويجرّبون تقنيتهم الجرثومية القاتلة... بغية تقسيم مصالحهم ونفوذهم متسابقين من يفوز بحصّة ثمينة... ومن هو الأسبق في عرض عضلاتهم...؟!!
إنَّ تعاملهم مع القطط والكلاب وغيرهما واتخاذهما أهلاً لهما... وتناولهم اللحوم الفاسدة العفنة تولّد فيروس(كورونا) من هذه العناصر والتّعامل القذر انتقل من لعاب الحيوانات النّجسة ويهدد الشريّة كافّةً بالموت والفناء...
(كورونا ) خُلِقَ وعُجِنَ من تعاملهم الخسيس الدّنيء وأصبح العالم معتكفاً منازلهم في حجرٍ صحّيٍّ... فلا زيارات ولا مصافحات ولا قبلات... لأنّها كانت تلكم العلاقات مصانعةً ومداهنةً... وكان النّفاق سيّداً في محافلهم وزياراتهم ومقابلاتهم واستقبالاتهم... الانحلال الخلقي والاجتماعي ... والسّياسي والاقتصادي أدّى إلى هذه الشّاكلة البائسة اليتيمة... فأصبح المرء رهين المحابس ليلاً... ونهاراً... وجهاراً...
كأنّهم حُمُرٌ مستنفرة فرَّتْ من قسورة... فاعتزل المرء صاحبته وبنيه وأخوته وخلاّنه... يعيش في حجرٍ صحيٍّ في وكر بيته... خائفاً... فزعاً من الصيّاد الماكر (كورونا)... ذلك الفيروس العدو الذي لا يُرى بالعين المجرّدة... يأتيك من حيث لا تدري... إنَّه العدو القاتل الصّامت أوجد منزلاً له في رئتيك... خرج إلى دورة الحياة هذا العدو المميت من رحم سلوك البشر من ديمقراطيتهم الموبوءة بداء الكذب والنّفاق والرّياء... والاستكبار والاستعلاء... هذا الوليد الجديد الذي صُنِعَ وخُلِقَ من لهاثهم المسموم... وأنفاسهم الكريهة المدسوسة بداء الموت...
هذه التّقنية الهائلة ليست حضارة هي ترسانة مليئة بالدّيدان والجراثيم... سوف تمحو وتزول إنْ عاجلاً أم آجلاً... سيدفعون الثّمن غالياً... وتنهار كلّ ترساناتهم العسكريّة، ورأسمالهم الذي هو دماء الأبرياء من سكان الأرض...
إنّنا نحن شعوب الشّرق لدينا كلّ مقوّمات الحضارة الماديّة والإنسانيّة... ولكنّنا نفتقر إلى ثقافة المحبّة والتّعاضد والتآزر... والأنفس الذّليلة الضّعيفة هي سبب مِحَنِنَا ونكباتنا يخدعوننا بشعاراتهم النّظريّة البعيدة عن الممارسة الفعليّة... والتّطبيق العملي فتخلّفنا وتقهقرنا إلى أدنى درجات الإذلال... فأصبحنا خدماً وعبيداً لهؤلاء الأوغاد... فساء سبيلا... ورحم الله الشّاعر حين قال:
أيا حجر السَّنِّ أما تستحي
تسنُّ الحديد ولا تقطع
إنَّ الحضارة القائمة على أعمدة العدل... والإخاء الإنساني لن تصيبها الشيخوخة والهرم تبقى شابةً قويّةً مدى حياتها...!!! والحضارة التي تقوم على الاستبداد والاستغلال والبطش والإرهاب تندثر قبل أجلها... يقول فرويد: أبناء الزّانية الذين ليس لهم أبٌ شرعيّ يكونون أذكياء... ويتعاونون مع بعضهم بعضاً ولكن ذكاءهم مسخَّرٌ لخبثهم ولؤمهم وهم أشرارٌ للبشرية قاطبةً... لأنَّ الزّانية تختار لشهواتها الرّجل الذي تشتهيه... وتتلذّذ بالمتعة الجنسيّة معه... ولهذا تحبل وتلد الأذكياء المشاكسين... المارقين... ومعظم قادة هذه التّقنية الحديثة كانوا من اللقطاء الشّاذّين عن السلوك الإنساني... فاستعمل هؤلاء عفاريت عقولهم ... وتجرّدوا عن العاطفة الإنسانيّة والضّمير- ذلك القاضي العادل – وسيدفعون خسراناً عسيراً في المستقبل القريب... باتَت ديمقراطيتهم مفضوحةً أمام أهل البصائر و(ترامب) هو النموذج الأدنى لديمقراطيتهم المزيفة الفاشلة... الحضارة ليست قُبّعة تلبس أو تاجاً يُكلّل الرّأس به... الحضارة هي سلوكٌ إنساني يخدم الإنسانيّة بقيمها وصنائعها واختراعاتها وإبداعاتها التكنولوجية العلمية ومبادئها الإنسانيّة... في الخُلُق النّبيل والعدل... والمساواة... والإخلاص... ونقاء الضّمير واحترام الأمم والشّعوب في منهجٍ ودستور عملي... بإتقانٍ وتفانٍ... ذلك هو الغاية الأسمى في كلّ ركنٍ من أركان الكوكب الأرضي...والحقيقة تقول: البشرية تعيش في غابةٍ قابلةٍ للانفجار المرعب الماحق في أية لحظة ...!!!
***
أهدي كتابي هذا إلى الأديب السوري الحلبي الأستاذ حسن بيضة الذي ساهم في تخليد الذاكرة الحلبية، وألّفَ مؤلفات زاخرة بالتراث الحلبي الأصيل، ومنحها رونقاً بهياً، وأصالةً عريقةً قديمةً قدم التاريخ... نال الأديب حسن بيضة عمالقة الأقلام وأمراء البيان.. سطّرتهُ الأقلام العالية الشامخة كقلم الدكتور محمد حموية.. وعصام قصبجي.. وعبد الوهاب الصّابوني.. وغيرهم من نوابغ حلب الحلْبَاء.. وأنا أنحني أمام أضرحتهم حزيناً باكياً ملتاعاً معزّياً لو ينفع العزاء.. مستغيثاً صارخاً.. وا.. وا... وا .. دون أن يستجيبوا حتى في الصّدى للهتفة الحرّى لا لوقرٍ في آذانهم وحاشا ففي أذن الثرى وحده الوقر.. وحسبي دموعاً ماطرةً...
" الدود فينا وحدنا ...!!! " عسى أن نفقأ الدّمامل النّتنة المدوّدة ونقتلع الأسنان النّخرة حاملين في القنوط رجاءً، وفي اليأس أملاً.. ومن الفشل نجاحاً..
إنَّ من يهمل الحراثة والسّقاية لأرضٍ صالحةٍ.. فلا ينبت فيها غير الأشواك والأعشاب الضارة.. وتتحول إلى أرضٍ جرزٍ جرداء..
أصبحنا يتامى العالم يا سادة.. لا يُلام الأعداء، الدّود ينخر أجسادنا.. ولد من رحم أمراضنا المستعصية على الشفاء.. كم من أصدقاء وإخوة لي ضيعتهم في هذه الأزمات في سرادقات الترف والنّعيم.. وأحسستُ في النهاية أنهم كانوا أخلاء التسلية واللهو واللعب.. أُحبُّ ذلك الرجل تلقّى نعمةً لا ينساها ويسعى ليلاً ونهاراً متى يدفع الإحسان بإحسانٍ أجلّ وأكرم ؟؟؟!!! أقدّر وأنحني أمام الرجل الذي شرب من إناء ماء وردّه بخوابي عسلٍ مصفّى...!!!
والسؤال: متى نستردّ يُتمنا الأخلاقي والعلمي والنفسي ؟؟؟ عندما تنتشر صحفنا المطهرة وفي صدرها أقلام بررة ولا ترهقها قترة... كامرأة تجذب إليها آهات المحبين وشهقات الهائجين..
إنّ الشعوب تتنوّع مشاربها، ولكن البشرية وحدةٌ متكاملةٌ ومتكافئةٌ.. إنّ أدبنا في خطر لا من الإيديولوجيا والمعلومات الحداثية المستجدة... مهدّد من مدارس النقد المُعاصرة المُهيمنة التي عزلت الأدب عن الواقع والتي حوّلت النقد الأدبي إلى ما يشبه نادياً للنّخبة الفانتازية المكرّرة حيث يتداول الأعضاء المصطلحات، ويكتبون لبعضهم بعضاً من دون الاكتراث بكلّ من يقف خارج ناديهم، والأنكى من ذلك كلّه أنَّ هؤلاء الأعضاء نجحوا في ترسيخ النظرة الكارثية للأدب بحيث جعلوه من دون أدنى صلة بالحياة وبالواقع وبالعالم معتبرين إيّاه مجرّد تجربة جمالية.. منغلقة على ذاتها.. أدفع تأليفي هذا إلى أولي النّهى عسى أتنوّر بانتقاداتهم... وحسبي تطفُّلاً ولغواً...!!!
أبجدية لغتي تتمرّد كحصان جامح بعد كرٍّ وفرٍّ وكنسمةٍ باردةٍ بعد لفحة حرٍّ لاهبٍ.. حروفي لا تدخل ولا تدرج ذاتها في طاعة الأسطر بشفتين متوسلتين متضرعتين...!!! خوفاً من مهابة ورهبة.. العقل الفلسفي الجدلي يهزأ بالحدود الزمانية والمكانية، ويتخطّى المقاييس الأرضية.. والشهادة على العصر تحتاج إلى رباطة الجّأش وثبات الجنان.. ومواجهة الذات أشدّ وأعظم جسارةً.. فكلّما أدخل دير الكلمات وأيقونة الحروف أُصلّي في محراب زوايا الوريقات ساجداً.. منقاداً.. أغدو جريئاً وجسوراً.. والعقل هو خليفة الله في أرضه لكنه لا يملك موتاً.. ولا حياةً.. ولا نشورا.. كما قال جبران العظيم:
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء
الإنسان الكهفي الأول انحدر من أغوار الكهوف إلى كائن النور المعاصر.. والآن حان الأوان أن نسبر أفلاك الإسهاب والتفصيل.. فحالة التشرذم والتمزّق والتفرّق ليست قدراً إلهياً.. هي من صنع أيدينا.. فالكيانات الكبيرة الموحدة هي وحدها القادرة على استيعاب التحديث والتكنولوجيا العلمية.. والحضارة المدنية والمادية.. فوَحْدَتُنا باتتْ ضرورةً تاريخيّة وإلا ستقذفنا الرياح العاتية إلى مثلث برمودا وأعماق المحيطات المجهولة..
إنّ فكرنا يحمل إلى يومنا هذا بصمات التخلّف والانحطاط.. آثارها مترسبة في واقعنا تذكرنا دائماً وأبداً بأننا أمةٌ متخلفة.. نستر سوءاتنا وعيوبنا بثوب ورداء الحداثة على قياسها فننفخ في أحداث وأفعال صغيرة تافهة حتى تصبح هائلة، ونقلل من شأن أشياء حتى لتكاد تختفي وهو الأمر الذي استخفَّ بنا وأصبحنا عرياناً أمام الحقيقة المثلى.. نتقاتل ونرفع السلاح في وجه بعضنا البعض لأتفه الأسباب وأدناها...!!!
إنّ الذاتية المسرفة دون أن نستطيع الفصل بين ذاتنا والموضوع الذي يهمنا جميعاً والحزبية الضيقة ذات الأيديولوجية المستوردة التي تجعل أفعال الزعيم الفرضي المفترض وأقواله الأسطورية المتحذلقة هي المقياس للرديء والصّحيح.. آفة التخلف قد عشّشت في مجتمعاتنا عبر قرون من المناهج الخاطئة.. والمضللة والمخادعة.. وأفرزت التقاليد المنحطة سلوكاً وعملاً من أفعال الراديكالية الطاغية.. ذات قابلية كبيرة لغول التخلف الجاثم والمقيم في صدورنا منذ أمدٍ بعيد.. حتى غدا كلّ فرد فينا مصاباً بالانفصام والعطالة في فهم نفسه، وفهم واقعه.. فكان غياب النقد الذاتي وكمّ الأفواه.. وملاحقة الأدمغة النيّرة.. كلّ هذه العوامل أسهمت في الهدم والخراب.. وأودى بنا إلى ما يشبه أسوأ من عصر الانحطاط.. قيل: إنّ الغراب نادراً ما ينعق أو ينعب وهو يطير ما يكاد يستقرُّ على أغصان الشجر حتى يبدأ في ذلك النعيق المقلق...!!! الشر المولود من أصلاب العقل أشدّ خطراً من الشرّ الغريزي... والعقول إذا خرجت عن عقالها وتاهت تحوَّلت إلى شرّ أَشِرٍ.. الهُوام من الفصيلة الواحدة لا يأكل بعضه بعضاً إلا أنثى العنكبوت.. على حين أنَّ الإنسان كثيراً ما يخطف اللقمة من فم أخيه الإنسان.. فكلما ازدادت البشرية تطوراً تكنولوجياً ازدادت انحطاطاً وتسفّلاً أخلاقياً فَتُبّاً لأمةٍ تستهلك ثقافتها في ملاهي الملذات الذاتية تأكل ولا تنتج.. تهدم ولا تبني.. فالعقم في رحمها، والكسل في ذهنها وتفكيرها..
التخلف أشدّ وطأة من الوباء، وأكثر هولاً من الحريق.. وأعظم تخريباً من السيل العرمرم.. والتخلف يحوّل النّصح فضولاً، والغيرة عداوة، والإنسانية حماقةً، والجهل علماً، والحمية والنخوة جنوناً مستطيراً.. والنفاق سياسةً.. اِعْبُدْ كما يروق لك وكما تشاء وتجنّب الهمز واللمز.. ولا تضرّ بالآخرين.. استعمل ذكاءك وعبقريّتك في تقدّم وطنك وازدهاره وارتقاء أمتك نحو السيادة فحريٌّ بنا أن نترجم عملياً ما قاله ابن عربي:
لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبي
فأصبح قلبي قابلاً كلّ صورة
وبيتٌ لأوثان وكعبة طائفٍ
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهَتْ
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فمرعىً لغزلانٍ وكهفٍ لرهبانِ
وألواح توراة ومصحف قرآنِ
ركائبهُ فالحبّ ديني وإيماني
فلنودّع وداعاً أبدياً الملذات البهيمية التي تجرّنا إلى الهاوية السحيقة.. كما قال سيد البلغاء الإمام علي: " إني أرى رؤوس الفحول طوامح...!!! " وقوله: " لا تلقوا الدّرر في أعناق الخنازير.. "، فالويل كلّ الويل لأمةٍ تأكل مما
لا تنتج، وتلبس مما لا تصنع.. فلو شُيّدت الإمبراطوريات بالنفاق ومسح الأحذية لكنّا إمبراطورية ضخمة تتحدّى الأقطاب المتعدّدة..
يقول الفيلسوف والمفكر الكبير ابن خلدون في هذا الصدد: (( العرب أهل بداوة لا يألفون العمران بل يمكن أن يهدموا البناء كي يحصلوا على أثافي لقدورهم أو أوتاد لخيمهم وهم أعداء الانضباط.. فلا يخضعون لرئاسة لحبّهم جميعاً للرئاسة وطمعهم بها.. وقد تقوّض عمران البلاد التي ملكوها، وحلَّ الخراب في الأمصار التي سكنوها كاليمن والعراق والشام.. وهي أصعب الأمم انقياداً لبعضهم البعض للغلظة والأنفة والمنافسة في الرياسة.. فقلّما تجتمع أهواؤهم من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة المعجزات الخارقة.. من نبوة وعلم غيب )).. الوطن الذي لا تشعر فيه بالعزة والكرامة إنه ليس وطناً.. إنه حظيرةُ موتى الأحياء.. الدول الراقية في المجتمعات المدنية المزدهرة تنظر إلى الموهوبين والمبدعين والمخترعين على أنهم الثروات الحقيقية، والجواهر الثمينة والكنوز الدفينة من الموارد البشرية المأثورة..." وما قيمة المرء إذا استوى لديه الظلام والنور " ..
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
والحكمة البليغة هي التي تدفعنا أنّ الحياة للأقوى، والقوي هو الحق.. والحقّ هو القوي.. فلنقرأ الدرر التي تفوّه بها الشاعر محمد عوض محمد الشاعر المصري والقصيدة كانت مقرّرة في كتاب القراءة للصف الخامس الابتدائي في مناهجنا السورية عام 1945م: تلك السطور تداعب الأيام الخوالي...
أتحنو عليك قلوبُ الورى
وهل ترحَمُ الحَمَلَ المستضام
لقد سمع النّسر نوح الحمام
بل انقضَّ ظلماً ليغتالها
فكن يابس العود صلـ
ولا تبغي بغي البغاة
إذا دمع عينيك يوماً جرى
ذئاب الفلا أو أُسودُ الشّرى
فلم يعفُ عنها ولم يغفرا
وأنشب في نحرها المنسرا
ـب القناة متين العرى
فكن كاسراً قبل أن تُكسرا
ثقافتنا على مفترق الطرقات فلم يعد هناك وقتٌ للتردّد أو الانتظار.. لنحميها ونصونها من الاضمحلال والذّوبان ونتحدى التحديات والمتغطرسين، فالأهرامات قامت على تخطيط هندسي محكم لكن أغلب العوام من الناس لا يفكرون بالمهندس الذي هندس ولا في العمال الذين أنجزوا، لكنهم يبهرون بالصورة الشكلية الظاهرة.. فيعجبون بها.. العبقرية الثقافية نبحث عنها في كلّ الحقول.. ذلك هو المشروع الكبير الذي نطمح إليه.. ويهزّني الألم من الشعوب الضعيفة تعتمد على الأقوال المعسولة، والتصريحات المزخرفة والمواقف المغسولة دماغياً.. عندما يفكر العقل بطريقة صحيحة تكون الأفكار المودّعة في بنك العقل الباطن أفكاراً بنّاءةً منسجمةً خاليةً من الاضطراب.. فإنَّ القوى الفاعلة العجيبة سوف تستجيب وتجلب أوضاعاً وظروفاً ملائمةً.. والسؤال الأهم: فهل نحن المجتمع المدني في انتشار أم انحسار ؟! فالمجتمع المدني هو المؤسسات الأهلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل مستقلة عن سلطة الدولة.. وتعتبر مؤسسات المجتمع المدني الرديف والقوة الموازية للمؤسسات الرسمية الحكومية التي تحفظ توازن المجتمع ووضعه باتجاه التقدّم والنهضة.. وامتدّ الجدل السياسي والفكري حول طبيعة النظام السياسي في بقاع الشرق الأوسط إلا أنه أصبح في مطلع القرن الحادي والعشرين من أشدّ القضايا المستعصية.. فعلى فقهاء القانون والإعلام ورجال السياسة أن يجدوا حلاً لمسألة تجاوز القانون إذا اقتضت مصلحة البلاد ذلك.. وقد قيل: ( إنّ الثقافة هي ما يبقى حين ننسى كلّ شيء..).. ثقافتنا الجامعة لم تبقَ مجرّد التسلي بالخبر أو التقصّي لأثر أو مجرّد إتقان حرفة الأجداد أو تلقين عاداته وتقاليد للأحفاد أو حفظ ملاحم شعرية أو روايات أسطورية..
غدت الثقافة بأنواعها مثقلاً بالمعاني المتناقضة ومحمّلاً وموقّراً بالأثقال الوعرة.. والأيديولوجيات الدخيلة الغريبة.. فالثقافة العالية في أوج سموّها هي تعني الإنسان نفسه في تفكيره وجوهره.. فالثقافة هي المعارف المكتسبة التي تتيح للمرء تطوير الحسّ النقدي، واستعمال الذّوق الفني البديع الوديع، وإصدار الأحكام التي تطوّر المجتمع..
والسّؤال: لماذا كان الشرق الأوسط وإلى اليوم.. كان جاذباً يجذب الغازين والطامحين منذ آلاف السنين ؟؟.. وما زالت نقطة جذب يتصارع حولها الآخرون بينما يعيش أهلها تحت الوعيد والتهديد...؟؟؟
والسؤال: كيف تكون الإرادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لنحمي ونتقي أنفسنا من خطر التهديد والغزو ..؟؟؟
التهرّب من الواقع بفكره ومشكلاته والالتجاء إلى الماضي نعلن إفلاسنا ولسنا أحراراً.. فكيف ننهض من الرماد ؟؟؟!!! وكيف نعيد الاعتبار إلى حياتنا وواقعنا الذليل...؟؟؟
إنَّ من يمتلك القوة عن طريق الغدر لا يملك قاعدة شعبية لا تكاد تذكر.. ويلتجئ إلى الشعارات الثورية والمزايدات الوطنية الحميمة.. وإطلاق الشعارات الخلبيّة عن الديمقراطيات وحقوق الشعوب المضطهدة.. واستخدام التقرب من المثقفين مع التلويح بالإغراءات.. والتهديد تارة أخرى.. والهيمنة على مراكز القوى، وأجهزة الأمن ومنح الرتب العسكرية لمن ليس جديراً واستقطاب وتنصيب المنبوذين من المجتمع.. وروّاد الفنادق العاهرة.. والمجرمين الذين قضوا حياتهم في السجون ومصادرة أملاك من لا يتقرب إليهم ولا يعزف على أسطواناتهم الفانتازية، واحتكار المقاولات والمتاجرة بالسّوق السّوداء من جهة أخرى والسيطرة على الاتحادات الثقافية والنقابية والمهنية والجامعة والصحافة والقنوات الإذاعية والتلفازية.. ومحاولة تشرذم الأحزاب وخلق انشقاقات عن طريق الزعامات الموهومة من الشخصيات الهزيلة والهزلية الضعيفة في الشكل والمحتوى وشراء الذّمم من الشيوخ والمذبذبين.. وشراء الكتّاب والأدباء والشعراء بثمنٍ بخس لقاء منصب هزيل البنيان.. ومع الزمن انحدرت وَهَوَتْ إلى الحضيض فيما صعد أصول هجينة.. وتستمد قوتها ووجودها من انتهازية الانتماء المتطرف المنحرف..
الفكر السياسي الديني في عمومه متردداً مرتبكاً في حسم العديد من القضايا الأساسية سواءً المتعلقة بطبيعة الدولة أو بجوانب من الحريات العامة.. والخطاب نفسه يكتنفه الغموض ويتعرّض للنقد والتساؤل.. وبالمقابل المعركة الديمقراطية ليست في تشكيل أحزاب سياسية هزيلة رديفة ونزولاً في مناسبات انتخابية للتأثير على القرار التشريعي والسياسي.. إن الأمر أكبر من ذلك بكثير ففي معظم الأحيان تكون هناك برلمانات وانتخابات ولا توجد ديمقراطية مثلما توجد مساجد ولا يوجد إسلام...!!! يبدأ التحول إلى النظام الديمقراطي الحقيقي بإعادة الاعتبار للفرد كقيمة مستقلة نسبياً.. كتحول اجتماعي حضاري والاستناد على مؤسسات قانونية لفعاليات المجتمع المدني وإعطاء الأجهزة الرقابية دورها المستقل.. والقضاء حريته المطلقة.. والجامعات سيادة العلم والبرلمانات تشريعاتها بعيداً عن الإملاءات السافرة الخاوية... وإطلاق حرية الصحافة ومواقع فيسبوك ومنح للجمعيات والنقابات قرارها واجتهادها والدفاع عن حقوق الإنسان بمنتهى الأريحية والصراحة.. فقوة المجتمع المدني وفعاليته كفيل بفرض القانون والمؤسسات.. فالنضال من أجل الديمقراطية هو جهدٌ فردي وجماعي من أجل ثقافة جديدة متحضرة ذات نعوت أخلاقية وثقافية وسياسية..
تصهر الديني والاجتماعي والقانوني والسياسي والتراثي والفكر الوافد وحكمة الشعوب وتجاربها ضمن نسق متوازن تراعى فيه الخصوصية للذوات جميعها.. وهذا هو القضاء الصافي النقي والكفيل والحارس الأمين بإنتاج فكر ديمقراطي متقدّم.. ومن المؤسف يتفشى في عالمنا التواكل الاعتماد على الغير، وخلق أسباب واهية لواقعنا المر في صورة وردية وعدم الشعور بالمسؤولية، وإلقاء اللوم على الآخرين.. أحلامنا قد تبخرت إننا بحاجة إلى التغيير في كلّ منحى من حياتنا.. ممارسة الحكمة الحكيمة.. نواكب عصر التكنولوجيا والتقنية الحديثة والتحضير للعقل اليقظ الذي يقودنا إلى الإيمان بالتغيير والتحول والمبادرة بتحديد حياتنا.. وتغيير جلودنا المريضة واستبدالها بجلود صحية نقية مغلّفة بغلاف عقلاني ناضج ومثمر.. وإنّ تحقيق المرامي يتعيّن إرادة سياسية وطنية شاملة.. لنفتح صفحة مشرقة من المحبة والتسامح النبيل والمناخ الديمقراطي من التعايش الحضاري والارتقاء بالعمل التلاحمي إلى مستوى التحديات هذا إن كنّا أمة جديرة بالحياة أو قادرة في النهوض..
في أعقاب الحرب الكونية الثانية حلَّ الخراب والدمار والقتل والفساد واللصوصية، والسّحر والشّعوذة والآفات والمجاعات في بلدان العالم كافّة.. وخاصّة في بلادنا الرازحة تحت نير المستعمر الفرنسي.. والحروب تترك بصماتها الدامية في طبيعة المجتمعات منها البؤس الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والنفسي.. واستفحلت المجاعة حتى التجأ الناس إلى أكل الأعشاب البريّة في السهول والهضاب.. وأصبح كلُّ فرد لا يعيش آمناً على حياته ومأمنه خوفاً من اللصوص.. واتفق الراعي مع الذّئب لاقتسام الرعيّة.. فهيمن على الوطن شبحٌ مخيفٌ يهدّد البلاد بالفناء والاندثار رغم الطبيعة الجميلة، والطقس البديع الرّخيم حيث البيئة الجبلية الغنية بأشجار التين والزيتون والأعناب.. وأشجار السنديان العاتية في الغابة العذراء..
ففي شمال وطننا العزيز حيث السُّفوح والهضاب والسهول والجبال تسامر النجوم وتعانق السماء.. ففي هذه البيئة الخلاّقة البديعة المبدعة يسودها الحزن الأليم.. والكآبة الخرساء.. اتّحدت زمرةُ الإقطاع والطغاة الفرنسيين وثلّةٌ من رجال الدين في أسرة مقدّسة لتطبيق الإجرام الثلاثي من الجهل والفقر والمرض وأحاطت دائرة السوء بموروث الحرث والنسل في هذا الجو المشحون بالكوارث والآلام كان يقطن في إحدى قرى هذه البيئة الموبوءة بالفساد والانحلال الخلقي شخصية دينية تُدعى خوجة ( درمش درخوني ) وكان يلقب بالخوجة الدّرخوني.. ولقب خوجة يطلق على الكتاتيب في تلك المرحلة، لكلّ من تلقّى قبساً من العلوم الدينية.. وخوجة كان يعلّم الصبيان تلاوة القرآن والحساب.. وكان يتمتع بسلطة دينية واسعة من قبل الأغوات المتحالفين مع المستشار الفرنسي.. وكان يتبوّأ خوجة الصدارة في العزائم والمآدب القائمة على حساب الفقراء الجياع.. وذلك في المناسبات الدينية.. وله القول الفصل فهو المفتي في دار الإفتاء الديني وصاحب القول الفصل في القضايا الاجتماعية والمالية والأخلاقية، وكان بيت خوجة الدّرخوني عيادة طبية للوافدين من المرضى المصابين بأمراض عصبية ونفسية.. وداء الصرع والهلوسة والهذيان..
( وخوجة الدّرخوني ) يكتب الحجاب لكلّ من يشكو مرضاً ما.. فالفتيات العانسات تأتين إليه ويكتب لهن الحجاب فيفتح البخت لهنّ.. والمرأة العقيمة العاقر تحبل وتنجب الأولاد.. والمرأة التي يكرهها زوجها.. والفلاح الذي يشكو قلة الرزق بفضل كتابة الخوجة الدّرخوني تتحقق الآمال والمآرب فهو طبيب ناجحٌ لكلّ الأمراض ويكسب مالاً جمّاً من هؤلاء الجهلة والسذّج.. والخوجة الدّرخوني يتمتم بعبارات قاتمة ويهمس بأسماء غريبة، وطلاسم غامضة مجهولة فترتعد فرائص المرضى من أطواره الشاذة الغريبة.. فيتخيّل للمريض بأنه يناجي الملأ الأعلى.. ولدى خوجة سيفٌ معقوفٌ يضعه ويحرّكه على مواطن الأوجاع.. وينادي الأولياء بصوتٍ جهير.. وأحياناً تأتيه امرأةٌ بارعة الجمال فيعاينها بخلوةٍ وانفرادٍ.. وتزوّج خوجة الدّرخوني نساءً كثيرات يستخدمهن لشؤون البيت.. وخدمة حقله وتسخيرهن للوقيعة وإشباع غريزته الجنسية.. وكان يفتح المندل بذكاءٍ ومكرٍ شديدين يتنبّأ بمستقبل آتٍ وما يحمله من أسرار مخبوءة، وأقدارٍ خافية.. والعوام ينظرون إليه أنه العصا السحرية.. يعتقدون أنه يطرد أشرار الجن عنهم، وتبديل مقادير حياتهم وإعادة البسمة إليهم وأثناء معالجته للمرضى الزائرين يتلفّظُ ألفاظاً عصيّة عن التبيان فيستسلم المريض لإرادته خائفاً مذعوراً...!!!
وبيت خوجة الدّرخوني مفزعٌ مُرهبٌ بالأعلام الخضراء والسّيوف والطبول القارعة.. وعيونه تدور في كلّ الاتجاهات كأنه شخصية لها صلتها بالقوى الخفية الغيبية...!!! فيتراءى للمريض الزائر أنه يتحدث مع عالم آخر من وراء المجرّات والنجوم.. إنه من الصّعب فك رموز طلاسمه.. وفي ليلة من ليالي الصيف الجميل.. والناس نيامٌ في حظائر الحيوانات.. بعد نهار شاقٍّ أمضوه في الحصاد راود خوجة الدّرخوني خواطر ترفيهية وردية بالهجرة من قريته إلى ما وراء ذلك الجبل حيث الينابيع اللازورديّة .. الزمردية.. وقطعان المواشي.. والمجتمع البليد الأحمق سوف يحقق أمنياته في العيش الرغيد والثروة الطائلة والمال الوفير.. ويتغذى السّمن واللبن.. والعسل الملكي ويتزوّج بامرأة جميلةٍ.. ويشيد قصراً عالياً تشعشع فيه الأنوار على أكتاف هؤلاء الرعاع.. وذلك بطريقة تخديرهم بمورفين الدّين.. سيقدمون له الأضاحي ويتناول لحوم الخرفان.. وفي الصباح الباكر حمل كتبه وأمتعته على حماره.. وشدّ الرّحال قاصداً تلك المروج والسهول.. مروراً بوادي الحصار وهو وادٍ عميق رهيب يحفّهُ ذريبةُ الذّئاب والضّباع.. وبينما يحثُّ خوجة الدرخوني خُطا حماره بالإسراع واجتياز المخاطر أوقفه قُطّاع الطّرق وهم يحملون البواريد الطويلة من النوع الألماني.. وفي خصرهم القامة الطويلة الحادة وهم أولو هيبة.. تبدو على سيماء وجوههم الشجاعة الفائقة والإقدام الوثّاب.. وزنودهم كجذور السنديان.. أوقفوه ارفع يديك واستسلم.. من أنت يا هذا...؟؟؟!!!
ارتعش خوجة الدّرخوني ارتعاشاً شديداً كاد أن يفقد وعيه، وانهارت أعصابه مهزوزاً.. مخذولاً.. مدحوراً.. أنا يا سيدي اسمي درمش الدرخوني الملقب بخوجة.. إلى أين أنت ذاهبٌ ؟؟؟ إلى قرى هذه السّهول الفسيحة زائراً خلاّني..!! ما عملك يا خوجة ؟؟؟ عملي يا سيدي أُعلّم القرآن الكريم للأولاد، وأهدي الناس إلى الدّين الحنيف وأعالج المرضى بالحجاب إذا مسّهم الجن الشّرير وأكتب الحجاب للثوار يقيهم من اختراق الرصاص جلودهم...!!!
حسناً يا خوجة اكتب لكلّ واحدٍ منا حجاباً سنكافئك ليرةً ذهبيّةً.. فانشرح صدر خوجة واطمأنّ وذهب عنه الفزع والخوف.. وشرع خوجة يكتب لكلّ واحدٍ منهم حجاباً ويعلّقه في عنقه ويقول لهم: هيّا تقدّموا إلى القتال تحميكم الحُجُبُ.. فرصاص العدو يذوب ويضمحلّ لقاء أجسادكم بفضل الحجاب وذلك الحصن الحصين...!!! وقال زعيمهم على الفور: يا خوجة سنعلّق حجاباً على صدرك، ونجعلك هدفاً ودريئةً لرصاصات أسلحتنا فإن نَجَوْتَ فأنتَ صادقٌ وسنجازيكَ بليرة ذهبية.. سنجرّب فوهة بندقياتنا نحوك فإما تنال مكافأتك وجائزتك وإما تموت...!!! فاختر ما تشاء..!!! عندئذٍ خارتْ قواه مرتبكاً.. متلعثماً.. متحيّراً.. وانحنى راكعاً على أقدامهم تقبيلاً.. أرجوكم...!!! دعوني يا سيدي أعود إلى قريتي آيباً.. وأتوب أمامكم ... لا أراوغ ولا أمكر بأحدٍ. فردَّ رئيسهم مزمجراً: اترك حمارك وأمتعتك وكتبك هنا واركض ركضاً سريعاً نحو قريتك بلا توقّف.. فإن تباطأتَ في جريك سيأتيك الرّصاص فوراً كلمح البصر ويُنهي أجلك.. فركض خوجة الدّرخوني مسرعاً دون توقّف يدفَعهُ إلى ذلك خوفُهُ المرعب.. كأنه في سباقٍ للجري ...!!!
في حلب تنطق الأوابد التاريخية عبر عصورها السالفة عمائر دينية واجتماعية حملت بصمات الزنكيين والأيوبيين والفاطميين والحمدانيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين والفرنسيين.. ويا لصدر المدينة يتسع لأعراف وقوميات ومذاهب دينية بديعة.. كان لها الأثر الملحوظ في تطريز الثوب الحلبي بالمتانة والمرونة تضاهي بها نعومة الحرير ودفء الصوف ورقّة القطن.. وامتدّت أمام باصريها التضاريس الجغرافية تشرف على السهول المنقوشة بالبساتين العامرة، وبكروم الفستق الحلبي، وأشجار الزعرور.. ولحلب قامة عالية وقمة شامخة.. قلعتها العتيدة التي تعانق الفضاء، وتسامر النجوم.. إنها شامخة كشموخ جبال طوروس.. طَوَتها الأيام والأعصر والسنون في حقيبة عمرها العامر.. كأنها فراشةٌ تعانق الوجود، وتنشر إكسير النقاء والخلود.. حلب ذات المطبخ الحضاري.. لعبت فيها الكيمياء لعبة التنويع البديع في صنع الثقافات بمراجعها المختلفة كجامع الأطروشي وكنيسة أرمنية وكنيسة الشيباني والمدرسة الحلوية إنها رائعة البقاء.. واشتهرت الشهباء بالسراديب التي امتدّتْ كأذرعة الأخطبوط في بطن الأرض لتصبح الممرات الآمنة.. وملجأ يركن إليه الناس.. إذا ما داهمها الخطر.. وهكذا ارتبطت بكثير من الدور والمرافق بفضاء أسوارها ومرابعها الجميلة.. حلب تحفظ في ذاكرتها ذكرى عالمين من أبرز عمالقة العلم السهروردي 1154-1191 والعالم النسيمي 1370 – 1417 بالرغم من ظروف مقتلهما التراجيدي، ومغزىً عميقاً في تمازج الروحي، ويظهر مدى الارتباط القوي للذاكرة الحلبية بذلك التمازج الحضاري والروحي والعلمي.. وهذان العالمان تعرّضا للاضطهاد.. وأقاما في حلب.. وتمّ رسوخهما في الفلسفة، والوجدان الحلبي كأشكال ميتافيزيقية لتضاريس إنسانية شفافة.. وتذكرنا حلب بالكواكبي الثائر الذي امتلك شرارات وهّاجة ساهمت في إغناء الفكر السياسي والاجتماعي.. ولحلب حظٌّ وافرٌ من الوافدين إليها .. زارها ابن عربي والمتنبي وجبران وقاسم أمين ومحمد عبده وعمر بن عبد العزيز وطاغور والشيخ قارئ القرآن محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل... مدينَتُنَا حلب.. ملحمة عريقة عاشت على الديمومة والاستمرارية.. ملحمة أقدامها في أرض عذراء ورأسها تعانق الفضاء المترامي الأطراف.. وانحنى الزمن أمامها حباً وكرامةً..
حلب ستعيد ربيع حياتها رغم الدمار والخراب الذي حلّ بها.. إنها صامدة أمام الرياح العاتية القاصفة.. وتسترد شبابها وحيويتها وبهاءها.. مهما عصفت بها العواصف والأنواء.. هي عاصمة الإبداع والصناعة والتجارة.. وبيت النعيم.. هي سيدة الفراديس الزاهرة.. إنها حلب الصامدة أمام جبروت النازلات الماحقات..!!وتزينت حلب بأسماء لامعة كالنجوم الساطعة في الليل إذا عَسْعَسَ والصبح إذا تَنَفّس.. خير الدين الأسدي 1900 – 1971..
توّج عمره بتآليفه المدهشة في عمق تجذرها التاريخي والثقافي.. فبات الرجل معجماً حقيقياً لمدينة حلب.. ومن الأسماء القدسية لحلب عمر البطش.. سكري الكردي.. لؤي كيالي.. فاتح المدرِّس.. والمطران هرمانوس وكبوشي.. وعمر أبو ريشة 1908 – 1990.. والشيخ كامل الغزي صاحب موسوعة نهر الذهب 1852 – 1933.. والشيخ الجليل راغب طباخ 1877 – 1851.. وسعد الله الجابري 1891 – 1947 واحداً من الرموز الوطنية ودليلاً على ظواهر التحدي السياسي.. فبات علاّمة حلبية بامتياز على صدر الوجدان السوري الطاهر النقي...
إنه من رابع المستحيلات لا يمكنني أن أعتلي منصباً أو أصبح مسؤولاً لأنني رجلٌ غير منحاز أو متعصب لفئةٍ دون أخرى.. قيل لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إنك من أبرِّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل مع أمّك في صحفةٍ...!!! فقال: أحاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها فأكون قد عَقَقْتُها.. فالنساء كالأنهار فهي قوّة مفيدةٌ حين تجري ساكنةً هادئةً، وهي قوّة مخرّبةٌ حين تثور وتهيج وتغضب...!!! إنّ الذين عبدوا شهواتهم وذاقوا آلام الحبوس في تلك العوالم السفلية.. وبالاً عليهم وخضعوا لأهوائهم المنحطة، وعرفوا في لجج الحياة الآثمة، وعاشروا المنبوذين وتآخوا مع الضّالّين في صحارى موحشة بآلام النفس والبدن وفي أحلام الرجز والدنس فيصيبهم الغثيان ممّا لاقوهُ غير عائدين إلى حظيرة الحياة الشريفة..
الثقافة هي المعارف المكتسبة من تجارب الحياة التي تتيح للمرء تطوير الحس النقدي، واستعمال الذوق الأخلاقي والنفسي والفني، وإصدار الحكام الكريمة.. والمثقف يتكلم بلهجةٍ واهنةٍ في ظروف حرجةٍ ومستعصيةٍ ومفعمةٍ بالتأثير وتأدّبٍ خفيٍّ.. نحن لسنا بالأحياء وإن كنّا نعيش ونمشي، ولكن موتى الأحياء.. فأفٍّ لأمّةٍ تدحض الثقافة والنقد. وأخيراً أي فائدة من التأفّف والحسرة والندم...!!!
نحن نحمل أحمال التاريخ وذلك بأنّ التاريخ هو جامع لكل ما يحدث في الأعصر وكلّ ما يحتدم من صراعات وعلاقات متشابكة معقدة التي تصطرع بين الناس والخلائق يتفاعلون حيناً ويتصارعون طوراً...فأركع مطأطئَ الرّأس كتلة واحدة متراصّة أحيي أولئك العظماء النجوم الزاهرة في سمائنا الطاهر النقي ذلك التصوف الممزوج بالوجد الإلهي وروح الغفران.. علّمني يا ربي الحكمة والصّمت.. علّمني يا رب علم المنطق والحكمة يا إلهي..!! كي أعزف أناشيداً حين يجنُّ الليل وتدركني الأشجان.. الحبّ والغفران الإلهي يزيل جميع الذّنوب ويوحي إلى غدير قلوبنا محبّتنا لبعضنا.. وتهبط من الملأ الأعلى كوكبةٌ من الملائكة تحيطنا بسياج من الرحمة والمحبة والغفران.. وتنثر الملائكة البررة على نفوسنا الورود العبقة وتجعلها تضوع بأطيب الأنفاس والعطور وترتعد زبانية البغضاء والحقد وتجرّ أذيال الهزيمة لواذاً وفراراً... المبدع يخترق المألوف واغتيال الأعراف والتقاليد النتنة.. تلكم الكلمة النافذة كالحربة.. اعذرني يا إلهي إذا جنحتُ عن الأصول.. وأنا أخاطب أولئك الذين ينعتون أسماءهم بأزهى الألقاب بأنهم فرسان المنابر، وأقطاب المجالس.. إنّ يراعي المنضّر يرعى في الغابة العذراء لا يملك يداً سحريّةً تقطف النجوم وحروفي منذورة بالحرق في اللهب القدسي.. إنني في عناق الحرف وعلى اسمه الماجد أعانقك مفاخراً يا قديس القديسين مفاخراً بك مؤنساً وفي الإرادة مضاءً هب لنا من لدنك قبساً بهياً ونوراً وضّاءً.. أنا عين اليزا لدى أراغون.. وعين اليزا المجهولة في أغراضه المجهولة.. إنني أقدّس ما كتبه سقراط ذلك النثر المقدّس.. إني أقدّم سقراط على أفلاطون وأرسطو على سقراط وهو يتجرّع السمّ امتثالاً لقانون باطل الذي يدوس بنعليه في مكان غير مطهّر دون أن يرعى حرمة الإبداع.. سقراط مثلٌ يُحتذى ولو ادّعى النبوة لصار نبياً.. تجرّعه للسمّ باطل الأباطيل.. إننا لن نغضي عن الذلّ حتى لو تأنّق الذلّ قولة بدوي الجبل" ثاراتنا الحمر أحقاداً وأضغاناً" فأي تضحيةٍ في موكب اللاأضاحي، وأي قانون هذا يقتل فلاسفته، وأي قانون في دول اللاقانون يقتل فلاسفته بدسّ السمّ في الدّسم... بين خيال الإنسان وإدراكه مسافة لا يختاره سوى حنينه.. وإننا لم نشعر بألم الوحشة والوحدة العازلة حين مدحني ثلّةٌ من النابغة عيوبي الثرثارة وطعنوا في سلبياتي البكماء.. وليس السخاء أن تدفع لي ما أنا في حاجةٍ إليه أكثر منك.. بل السخاء أن تعطيني ما تحتاج إليه أكثر مني.. وفي هذا يقول إمام البلاغة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه معلناً عن بلاغةٍ حكيمةٍ وفي قبض كفّ الطفل عند ولادته دليل على الحرص المركب في الحي، وفي بسطها عند الممات إشارةٌ ألا فانظروا إني خرجتُ بلا شيء.. ويقول أبو مسلم الخرساني: من سلّم نفسه للسباع، وأعطى مفتاح بابه لقطعان الوحوش.
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ
ونام عنها تولى رعيها الأسد
فضربتهـم بالسـيف فانتبهــوا
من رقدة لم ينمها قبلهـا أحد
فالكرامة إن خرجت لا ترجع ولا تسترد.. فأين مفتاح فردوسنا.. فهل أضعنا مفتاح بابنا أم لعلنا وضعناه في غير موضعه.. فتأمل يا خليلي.. هداك الله ...!!!
*****
للنجاح في الإصلاح المؤسساتي يجري على نحو أرقى وأحسن هندسية عندما تتوالى الخطوات الإصلاحية بشكل متناسق ومنطقي وذكي في نطاق العائلة الواحدة والأسرة المقدسة فلا تتنافر أهدافها، ولا تتناقض بعضها بعضاً.. وأن يندرج في إطار نظرة كلية، ولا تخضع لتأثيرات الاعتبارات الجزئية.. والسعي لجذب حتى المعارضين للإصلاح للاستفادة من خبراتهم العلمية كأطباء ومهندسين وقانونيين ومهنيين ومخترعين ومبدعين.. ويجب إعلام المجتمع بكل صراحة وشفافية عن المزايا والنفقات المترتبة على الإصلاح وأن يتم الاستعانة في سبيل ذلك بكل المساعي المتاحة، وأن يتقبل دعاة الإصلاح نقد المعارضين الموضوعي والمفترض على حدّ سواء.. وأن يناقشوا حججهم وأسانيدهم حتى تقتنع أغلبية المواطنين بمشروع الإصلاح، وأهمية دعمه وتقييم متطلباته برؤية بانورامية واسعة وبعيدة مؤطرة بحتمية التطور وإزالة الأضغان في قعر النفوس والالتزام باحترام المواطنين رجالاً ونساءً وصغاراً وشيوخاً ومنحهم التقدير والاحترام، وإشعارهم بكرامتهم في أمنٍ وأمان.. والتحلي بالمرونة والقدرة على التأقلم مع الأيام والسنين والاستفادة من المتغيرات الوقتية التي يمرّ بها أوضاع الدولة المؤسساتية.. ولتحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية متلاحمة ومتعاونة وموحدة على أرض الواقع المؤلم..
إنه من الضروري التركيز على الأبحاث العلمية التطبيقية حيث إن نتائجها ملموسة للمواطن، وتصبّ مباشرة في طريق يؤدي إلى ازدهار المجتمع اقتصادياً.. والحوار الوطني هو عنصر خلاّق في بناء المجتمعات.. إن موت الحوار هو موت المجتمع.. وتنزل راية الوطن إلى أدنى درجات الانحطاط لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.. والاعتراف بالخطأ وتقويمه هو سلامة في البناء وصلابة في القاعدة وإن التستر عليه والسكوت عنه بحجة التشويش وعدم الخلخلة في صف الحوار مجرد أوهام فالتناصح والحوار وسيلتان لاستقامة البناء المتين والتستر لون من الخداع والورم الكاذب وينقلب العمل التنموي إلى لون من الكهانة وضرب من التحزب المتعصب.. كل ذلك يساهم في الإبقاء على الأخطاء.. لقد آن الأوان إن كنا صادقين في رؤيتنا لصفٍ واحد وبنيان مرصوص لنضمن لأنفسنا مكاناً في عالم
لا يعترف بالكيانات الصغيرة والضعيفة وأن نهيئ الأرضية السمحة لهذا البناء حتى لا ينهار لهبة ريح آتية شرقاً وغرباً إن الاستبداد الفكري يقدّس الفردية والزعامة الموهومة المفترضة ويكرس الفردية وينشر الخوف والصمت واللامبالاة.. ويغيب كل إبداع وتتحول الطاقات المكبوتة إلى سوس وينخر الصف، ويبدّد قواه.. إننا نعاني غياب الحوار النزيه بأدنى درجاته في الحقل السياسي بمختلف اتجاهاته وأشكاله فتتجهم النفوس، وتحلّ الهواجس والظنون والكراهية محل المحبّة.. وأولى هذه الشروط لتمكين مجتمع متين تهيئة الأرضية الصالحة والخصبة.. وإلغاء الحزبية الضيقة، والالتزام بالروح الوطنية.. والتضحية والإيثار وتقديم العام على الخاص والاحتكام إلى العقل والمنطق السديد، ونسيان وشطب البقع السوداء بروح التسامح في سجل العلاقات والتلاحم لنفتح صفحة مشرقة من التعاضد والتآزر وتوفير مناخاً من التعايش الحضاري، والارتقاء بالعمل التلاحمي إلى مستوى التحديات في معالجة التخلف بنعوته السيئة التي تعشعش في كيان مجتمعاتنا...!!! وهذا ما نحلم به...!!!
إنّ مسؤولية المثقف أو الكاتب أو الأديب أو الفنان أو السياسي الحصيف أخلاقياً ووطنياً وإنسانياً أمام مجتمعه والمجتمع العالمي، والشقاء البشري أن يكرس جهده تحديداً في كتاباته وإبداعاته لتوسيع فسحة الحياة والحرية من حوله ومحيطه الجغرافي، والسكان الديمغرافي مأساتنا أشبه بمأساة إغريقية وأصبحنا ننعت رجال الفكر بالإرهابيين بينما يوصف الجلادون برجال السلام لقد زاد الطلب على حديث الإصلاح كما لم يحدث من قبل، وأصبحت سوق المثقفين والخبراء واسعة للغاية مع إدراكنا أنّ الحالة النفسية للجماهير يحكمها الانفعال بل الألم والغضب إلا أنه لا مفرّ من التأسيس لثقافة المصارحة والحوار الصادق في خطابنا ذلك هو المضاد الحيوي لأوجاعنا.. والمثقف والسلطة معادلة صعبة فإذا ركز المثقف على المنصب الذي يشتهيه قد يكون ذلك على حساب الموقف.. وإذا التزم بالموقف ربما كان هذا على حساب إدراكه واعتلائه على المنصب.. وكما قيل من ذي قبل في شطحات الفلاسفة: البيضة قبل الدجاجة
أم الدجاجة قبل البيضة..!! فظلّ هذا جرحاً نازفاً لا يستكين...!!! صحفنا مزخرفةٌ ومنقوشةٌ بنمارق مصفوفة وعليها غبرة وترهقها قترة متى نسترد عزّتنا وكرامتنا الوطنية والإنسانية عندما تنشر صحفنا المطهرة وفي صدرها أقلامٌ بررة..
وأخيراً أحبُّ ذلك الإنسان الذي شرب من إناء ماءٍ وردّه بخوابي عسلٍ مصفّى..
إنَّ من يحرث في أرضٍ جزر جرداء فلم ينبت فيها غير الأشواك والأعشاب الضارة...!!!
****
لقد شهد القرن العشرون حركات انشقاق ثقافية انشقاق بعض الكتّاب والفنّانين الروس في زمن السوفييت وبروز بعضهم على المستوى العالمي أمثال: نابوكوف الذي حاز جائزة نوبل.. وحركة المنفى الألمانية في ظلّ النازية التي تشكل الانشقاق الأكبر والأشمل في تاريخ الثقافة الأوروبية.. حيث ترك الكثير من الكتّاب والفنانين ألمانيا الهتلرية وعاشوا في أشباح ظروف سيئة بكثير من ظروف المنفى مثل بروتولدبريخت وتوماس مان.. وحركة المنفى الأسبانية في ظلّ الفاشية الفرانكوية حيث اضطر العديد من المبدعين المعادين للفاشية إلى الهجرة وأبرزهم الشاعر رافائيل والكاتب فرناندو آرابال فقد كان الحكم الفاشي الدموي يلاحق الكتّاب والأدباء والشعراء.. وهناك مئات الأسماء هاجروا وخرجوا إلى المنافي.. العالم انريكوفيربي الإيطالي ذلك الملاح الذي بدأ عصر الذرة والذي منح جائزة نوبل في عام1940.. إنه لولا حماسه وابتكاره لفكرة الركام ما كانت عبقرية أينشتاين قد وجدت من يحولها من مجرد معادلات رياضية على طريقة شعلة بروميثيوس إلى تطبيق عملي ليحقق ما قاله أينشتاين عن انطلاق الطاقة من المادة في عام1905 وفيما عرف بالنظرية النسبية.. فالركام في علم الذرة طبقات من اليورانيوم وتتخلّلها طبقات أخرى من الجرافيت لسرعة انطلاق النيوترونات عندما تنقسم ذرات اليورانيوم.. وفي هذا الصدد يقول أينشتاين للعلم مسؤولية سياسية كبرى.. وهو الذي كان على صلة وثيقة ببرنامج ألمانيا النووية من قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية وبعد
ما جرى فيها وما تلاها وصولاً إلى نهاية الحرب الباردة.. قال أينشتاين في هذا الخصوص لا أعرف الأسلحة التي ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة.. لكني متأكد أنّ الحرب العالمية الرابعة ستستخدم فيها السكاكين والحجارة والعصي.. ويتابع ألبرت أينشتاين قوله: لم أكن أعلم أنّ الألمان لم ينجحوا في صناعة القنبلة النووية ولو علمت لما فعلت ذلك..
وضع ماتيسكر الألماني العالم الفيزيائي المسؤولية التاريخية للعلم لا يجوز للمرء أن يعمل في مجال الفيزياء التي تنتج الطاقة الذرية لأنّ السياسيين الفاشيين يستخدمونها لأهوائهم.. وهذا ما أدى إلى الإرهاب الدولي متجاوزاً الرقعة الجغرافية والمسافات الشاسعة البعيدة.. وهذا ما أشار إليه أورميرود بقوله: هناك رغبة عميقة للتمكن من التحكم بالمستقبل لقبول التطورات الحديثة التي طرأت على الرياضيات والتي تلمح لنا بالأخطار من النتائج فقد غيّرت النظرية النسبية المفاهيم الفيزيائية المتعلقة بالكتلة والطاقة والمكان والزمان.. ووضعت نقلة نوعية في الفيزياء للفضاء الخارجي.. وعرفت مفهوم الحركة في نظريات الفيزياء الميكانيكية لنيوتن فمنذ نسبية أينشتاين تعرف تكافؤ المادة والطاقة إذ أنّ الطاقة تتحول إلى مادة وبالمقابل يمكن للمادة أن تتحول أو تنتقل إلى طاقة من هنا ندم أينشتاين على اتصاله بالرئيس الأمريكي روزفلت وإبلاغه عن احتمال توصل الألمان باختراع السلاح النووي حيث أراده صاحب النظرية سلاحاً رادعاً في حين أراده القادة السياسيون في أمريكا سلاح موت وتدمير.. فلما وشى أينشتاين بحديثه استنفرت أمريكا قاطبة لصنع قنبلة نووية.. فمشاعر الندم بدأت تساوره لأنه تسبب في مصرع مئات الآلاف من ضحايا التفجيرين المروعين النوويين في اليابان..
وفي هذا السياق تمّ اللقاء المشهود بين أوبنها يمر مع الرئيس الأمريكي ترومان صانع القنبلة، وصاحب قرار استخدامها حيث عبّر أوبنهايمر للرئيس ترومان عن أسفه لأنه يشعر بيديه الملطختين بالدماء.. ونظرية غويلز وزير الدعاية الألماني إبان حكم هتلر اكذب اكذب واكذب حتى يصدقك الناس.. والمقولة هذه هي صالحة في كل زمان ومكان وخاصة في حاضرنا اليوم.. والفوضى الخلاقة التي نحن ضحاياها.. قد تكو لـ صموئيل هنتنغتون له دوره في نظرية صدام الحضارات وله الأثر الأكبر في تنظيم وترتيب الفوضى الخلاقة حيث وصل مجتمعنا إلى أعلى درجات العنف الفريد في تاريخ بلدنا الحبيب.. وسالتْ سيول دماء غزيرة.. إنها من وحي الإبليسي نظرية اليوجينا من أكثر الأفكار شراً شعارها: " البشر ليسوا سواسية " في كتاب المكيافيللي " الأمير " الغاية تبرر الوسيلة الأثر الأكبر في تشكيل الخلفية الأخلاقية لرجال الاقتصاد والمجتمع والقادة السياسيين هذه الخلفية الخطيرة التي أحلّت المشروعية على طريق الوصول إلى الأهداف المدمّرة للشعوب...
براتراند راسل الفيلسوف البريطاني الشهير.. الذي كتب عن مسيرة الإنسان وحكايته عن المعرفة واختراعه نظرية المنطق الصوري الرياضي قابلة للإثارة جداً والديكارتيون احتجوا على نظرية الجاذبية الكونية لنيوتن التي تستدعي العلوم الفيزيائية احتضار الظواهر إلى قوانين عامّة.. وفي هذه الحالة يفقد أقطاب السياسة ضوابطهم الإرادية والأخلاقية.. عندها ليس مستحيلاً أن تتفجر الكوارث المدمرة.. ولا نعلم ماذا يحدث ويدور في مختبرات العالم من تقنية ماحقة تبيد البشرية وخصوصاً من بأيديهم مصير البشرية.. مكيدة لسم قاتل يفني البشرية.. وعمارة الكون.. فالسياسيون الدكتاتوريون وهم صنّاع القرار سوف تصطدم سفينتهم لصخور عاتية، وتُغرق البشرية في مجاهل المحيطات المجهولة.. هذا ما قاله أحد المفكرين لتلميذه : " اترك معطفك، وخيالك عند باب المختبر ".. في الربع الأخير من القرن العشرين قد شهد انتصاراً عريضاً للديمقراطيات الليبرالية بعد أن فشلت الأنظمة التي كان يحكمها الحزب الواحد.. وكذلك كشفت مختلف الصراعات التي دارت بين هذه الأنظمة وخصومها من انتهاكات فظيعة للحقوق الأساسية لحقوق الإنسان.. ودفع بالجميع إلى تأكيد مخاطر الاستبداد على الحرث والنسل والاستقرار..
الشر المولود من أصلاب العقل أشدّ خطراً من الشرّ الغريزي.. فالعقول إذا تاهت تحوّلت إلى شرّ مستطير.. نظرية الحرب الثالثة النووية المدمرة حيث إنّ إحدى عشرة ألف قنبلة نووية مخزنة وفق تقديرات عام 2010 قادرة على تدمير العالم كله فقد كان يرى ماركس أنّ التاريخ هو تعبير عن صعود اجتماعي أو قوى اجتماعية جديدة.. وأنّ الذي يحكم ذلك هو التطور الاجتماعي والحتمية المادية التاريخية، وصراع الطبقات عن مادية التاريخ لكن هيكل يخالفه، وأنّ التاريخ يقوم على أكتاف عظماء، واتفق معه فيير على دور القائد التاريخي معتبراً بسمارك موحّد ألمانيا أهم قائد صنع التاريخ.. فمعظم النظريات المتعلقة بهذا الشأن لتشير إلى دور الفرد " الكاريزما " كالفلاسفة والمفكرين والقادة السياسيين..
الانفتاح على المطلق بكلّ تجلياته عندما يتلاشى الزمن وراء السحب، وتخلّد النجوم إلى الراحة حينئذٍ من يلبس رذاذ الهوى في زمن اللازمن.. يبقى ذلك المعنى يدور في خلايا وغياهب الزمن اللازوردي كي تحقق السحب الماطرة توازن الزمن الدائري بوصفها تحمل شيئاً بقوة العدل الإلهي وانعتاقاً للروح من استبداد المادة.. وهذا ما نلمحه لدى " بارت " درس السيمولوجيا.. وخروج عن حدود الآراء السائدة..
انهيار الاتحاد السوفييتي " بروستريكا " ليس تبريراً عن انتصار الرّأسمالية الليبرالية ولا عن نهاية التاريخ إنما هو تعبير عن تحول حضاري وانتقال القارة الأوربية العجوز استرداد قوته وبنيانه.. من خلال الاتحاد الأوروبي الهش لتمكين قوة ذات الأقطاب المختلفة بقيادة اليابان والصين والهند..
علينا أن نتعلّم من الماضي بسلبياته وإيجابياته ونعيش مع حاضرنا.. ونخطط للمستقبل الآتي.. النظر إلى الماضي درسٌ وعبر وأنه نتائج المحصلة وليس يأساً وفشلاً..
أما المستقبل الضبابي الغامض يجب أن نفكر بكلّ الاحتمالات الرديئة والحسنة وبهذا يكون تفكيرنا منطقياً صائباً..
*****
هذه النظرية خاض غمارها كتّابٌ كثيرون ولم يفكوا رموزها حتى اليوم ومازالت تعيش في زحمة الضباب الرمادي... وجرَّبتُ نفسي في اقتحام أسوارها علّنَي أظفر بانجلاء الغموض عنها والوصول إلى قاع من قيعانها الباطنية.....
إنَّ الدّارس للدين المسيحي يجد أنَّ هذين المصطلحين: الحلول والاتحاد يدلان على معنى واحد ولكن يحدث اختلاف في التأويل والتفسير... واختلف معهم علماءٌ مسلمون فهذا ابن تيمية يقول: عَظُمَ اضطراب النصارى في هذا الموضع، وكثر اختلافهم غير أنَّ المصطلحين مترادفان لأنَّ اللغة العربية تأبى الترادف بينهما قال البيروني: ت440هـ ولكن من الألفاظ ما يسمح في دين دون دين، وتسمح به لغة، وتأباه أخرى... وقبل الخوض في هذه الجزئية اللغوية لا بد من الإشارة إلى عقيدة الثالوث في الفكر المسيحي باختلاف مذاهبه لأن لها علاقة بمصطلحي الحلول ولاتحاد... وثمة أمر لا بدَّ من بيانه وهو أنَّ علماء الغرب أنفسهم كانوا يعانون من صعوبة فهم المسيحية تولستوي: ت 1910م الذي يعد من أكبر أدباء العالم يقول:( إن العقل الصريح يرفض ذلك ) ويقول اسبينوزا:( إن المسيح هو إنسانٌ وليس بإله )، وأهم المذاهب المسيحية التي ادَّعت الاتحاد والحلول:
الملكية: إنَّ الكلمة اتَّحدت بجسد المسيح على طريق الامتزاج...
أما اليعقوبية: ( إنَّ اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء )... والنسطورية:( إنَّ اللاهوت حلّ في الناسوت كحلول الماء في الإناء... )
هذا بالنسبة إلى التراث المسيحي ورؤيته لعقيدة الثالوث من خلال مفهومي الحلول والاتحاد ثم اتفق العلماء: لا اتحاد بلا حلول... فالحلول هو حلول الحال في المحال... فَالْفُرَقُ المسيحية سواء قالت بالحلول أو الاتحاد فإن المآل واحد. وهو الامتزاج والصيرورة إلى تركيب آخر لا يضاهي مكوناته وما تركب منه بل يختلف تمام الاختلاف... وقد بيّن لنا ابن تيمية أن الاتحاد الذي لا يقتضي الامتزاج والاختلاط غير معقول بينما الحلول ربما يكون ذلك بحلول جزء من ذاته على فدر استعداد مزاج الشخص ويمكن ذكر بعض الفرق الإسلامية التي قالت بالحلول.
الحلمانية... البيانية.. الخطابية.. المقنعية.. الرزامية.. وغيرها.. بغض النظر عن كيفية هذا الحلول الذي قالوا به... فإنَّ لهم تفسيرات مختلفة... ذهب أكثر الباحثين إلى أنَّ الحلاّج ت. 309هـ من أعظم دعاة الحلول، بل كلّما ذكرت هذه النّظرية ذكر الحلاّج معها.. ومنه الحلول هو أن يحل اللاهوت في الناسوت من غير امتزاج حيث يفقد كل واحد منهما طبيعته.. ولهذا قال الحلاّج:( من ظنَّ أنَّ الإلهية تمتزج بالبشرية، والبشرية بالإلهية قد كفر.. ثم قال: مع أنَّ ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير مستهلكة غير ممازجة).
إنَّ الحلاج لا يثبت وجوداً واحداً كابن عربي بل اثنيني المذهب وذلك لأنه أثبت وجود ذاتين منفصلتين إحداهما اللاهوت والآخر الناسوت فثمة حال ومحل.. فالحال هو الإله والمحل هو الإنسان... وهذا هو الحلول الخاص أو نقول هو الإله والمحال هو ما سواه فيسمى حينئذ بالحلول المطلق العام... والذي دفع بعض الباحثين إلى نفي الحلول عن الحلاج. هو أنهم أخذوا كلام الحلاج المذكور في إثباته التمييز بين الحق والخلق، ونفيه الامتزاج وبنوا على ذلك أنه من نفاة الحلول، والحقيقة، فإن الحلاج أثبت التباين بين الحق والخلق، ونفى امتزاج الخلق، ونفى امتزاج الحق بالخلق لكنه لم ينفِ الحلول فإن الحلول غير الامتزاج لأن الثاني يفقد كل واحد منهما طبيعته عند الامتزاج بخلاف الحلول وهذه النظرية.. جاءت من تأثيرات المسيحية... ولعل خَير دليل على ذلك تلك المصطلحات المتداولة بين الصوفية خذ مثلاً مصطلحي اللاهوت والناسوت... إنَّ ذينك المصطلحين: اللاهوت والناسوت وكذلك الحلول استعملها المسيحيون...
بل نستطيع أن نقول مصطلحات مسيحية نفذت إلى دوائر الغلاة عامَّة ومنهم الصوفية ولأجل ذلك نرى المستشرق الإسباني: بلاثيوس يشبه مذهب الحلاج بالمسيحية في بعض النواحي... وقد اختلفت الأقوال حول الحلاج... هذه الشخصية القلقة في الإسلام وذلك لأن البعض يعتبره سلطان العارفين والبعض الآخر يقدح فيه والقادحونهم: الرازي وابن حزم والغزالي وابن الجوزي وابن تيمية. وأما المادحون ومنهم ابن عربي والفارس الدينوري وأبو القاسم النصر أبادي... قال عنه ابن تيمية: أنه كان من القرامطة وكان يظهر للشيّعة أنه منهم وأنه كان باطنياً... ومن الذين رجّحوا هذا القول المستشرق نيكولوسون... وأنه كان يدعو سراً إلى مذاهب القرامطة الذين أغاروا على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات، ونهبوا الحجر الأسود منها... ولهذا اتفق علماء المسلمين الأوائل وبعض المستشرقين على عدم إقرارهم بطريقته الخاصَّة، وينكرون عليه ما ابتدعه من أفكار...
وروي أنَّ الحلاج مرَّ يوماً على الجنيد فقال له: أنا الحق..!! فقال الجنيد: ( أنت بالحق أية خشبة تُفْسِدْ ) فتحقق فيه ما قاله الجنيد لأنه صلب بعد ذلك... ولكن من الإنصاف أن نقول: إن الحلاّج قد نسب إليه من الأقوال الباطلة وهو لم يقلها.. وصار كل من يرى شطحاً أو زندقة يعزوها إلى الحلاّج... ومن أقواله المنسوبة إليه:( ظاهر الشريعة مشرك خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية.. والكفر واجب لديّ وعند المسلمين قبيح... )، وذكر أنهم ظفروا بكتابٍ له إلى أتباعه فيقول: يا ذات الذات، ومنتهى غاية الشهوات نشهد أنك المتصوّر في كلّ زمان بصورة، وفي زماننا هذا بصورة الحسين ابن منصور.. ونحن نستجيرك، ونرجو رحمتك يا علام الغيوب ) وأغلب الظن أن هذه الرسالة جاءت من خراسان لأنَّ ابن باكويه ذكر أنَّ أهل خراسان كانوا ينادونه بالمجير...!!!
أما نهاية الحلاّج فإنه قد قتل بفتوى الفقهاء... والذين سلكوا الدفاع عن الحلاج ومعهم المستشرق نيكلسون فقالوا: إن الحلاّج قد خان ربه بإفشائه السر الأعظم لكل من هبَّ ودبَّ...وهذا ينطبق عليه قول ابن عربي:(من باح ناح ) . وقالوا: إن الحلاج قد قال ذلك تحت تأثير نشوة الجذب وقد ظنَّ أنه متحد بالذات الإلهية وقالوا: ليس الحلاج هو الذي صاح أنا الحق ولكنه الله نفسه تكلم بلسان الحلاج، ولما كان الحلاج متناقضاً ماذا حدث في كلامه؟... خذ مثلاً مفهوم نظرية الحلول عنده فنجده أحياناً يصرخ بأن الحلول هو امتزاج اللاهوت بالناسوت كقوله: مزجت روحك في روحي... كما تمزج الخمرة في الماء الزّلال... ولا شك أن هذه العملية فيها فناء النفس بالكلية وذلك لأن الخمرة إذا اختلطت بالماء تحوّلا إلى مادّة ثالثة بحيث يفقد كل منهما طبيعته وعلى هذا الأصل اعتمد بعض أتباعه في كون الحلاج لم يقل أنا الحق وإنما الله هو الذي تكلم بلسانه لأنَّ نفس الحلاج فنيت. وخلاصة القول: فإنّه مهما تكن أقوال علمائنا القدماء... فإن التدقيق العلمي للتجربة الصوفية كظاهرة عمت الأديان يفيد وجود إقامة الفصل والتمييز بين الفناء الشهودي ووحدة الوجود. الفناء الشهودي حالة نفسية لحظيّة لا تدوم يَفْنىَ فيها وعي صاحب التجربة بوجوده ثمَّ إذا ذهبَ عنه انفعال العاطفة واستعاد وعيه وأقرَّ بالتنزيه وهناك فرق بين وجوده النسبي وبين الله وهو ما أسماه ابن تيمية بالفناء عن شهود السَّوِي.
أما الحلول فنظرية لاهوتية معقَّدة ومن خصوصيات المسيحية لأغراض لاهوتية صرفة إذاً جعلوا القول بالحلول حلول الروح الإلهية في عيسى/عليه السلام/ قاعدة للقول بالخلاص من الخطيئة الأولى للإنسان توفيقاً في معتقدهم بين إلهٍ عادل لا بدَّ أن يعاقب المذنبين على ذنوبهم، وإلهٍ رحيم بعباده فضحى بابنه عيسى إنزالاً للعقوبة بالبشر ورحمة بالخلق فَبِصَلْبِهِ كفَّر عن ذنوب بني آدم الأصلية ولهذا قالوا: لا خلاص إلا بالإيمان بعيسى. وأمّا وحدة الوجود فنظرية فلسفية عن العالم مؤدّاها أن العالم المادّي هو الله وأن الله هو العالم... فلا ثنائية ولا تمايز بين الله والعالم وينتفي القول بالخلق.
هذه النظرية لا تنطوي على معنى واحد عند كل من يقول بها فمثلاً ما يذكره ( اسبينوزا ) لا يماثل ما يقوله أشياع الفلسفة الهندية... ولأجل ذلك فمن الضروري ذكر هذه المذاهب بصورة وجيزة جداً حتى تتم معرفة هذه الآراء حول تفسير النظرية وتحليلها...
الفلسفة الهندية: فقد كان حكماء الهند يتبنون وحدة الوجود في تأملاتهم... ويصوّر لنا البيروني عن حقيقة وحدة الوجود فيقول: إنَّ الوجود شيءٌ واحد، وإن العلة الأولى تتراءى فيه بصورة مختلفة، وتحلٌ قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد.
أما الفلسفة ( التاوية ) الصينية يقول ( لاوتسو ) مؤسس المذهب التاوي517ق.م تاو: ثمة شيء لا صورة له إلاّ أنه كامل... قائم قبل أن توجد السموات والأرض... لا صورة له ولا جوهر... موجود لا يتغير... إنه منشئ جميع ما في الكون ألا وهو ( تاو ) وكنيته ( العظيم ).
أما الأفلاطونية المحدثة وشيخها أفلوطين290م فيقول: بأنَّ المبدأ تصدر عنه الموجودات، والله تصدر عنه المخلوقات.
أما بعض فلاسفة الغرب تبنّوا نظرية وحدة الوجود أمثال يوهان مايستر ايكهارت ت 1327م وهو صوفي ألماني اتّهم بالهرطقة... فكان يقول: إنَّ كلّ الموجودات هي في الله، ولا يفصل الخالق عن المخلوق شيءٌ... وكل حجر أو خشب أو عشب تجليات وحدة كونية واحدة. وردّد قوله (اسبينوزا) الفيلسوف الهولندي اليهودي ت 1677م حيث يرى أنَّ الله والطبيعة شيءٌ واحد. ومن ثمَّ تطرف فلاسفة الغرب ( المتصوّفة منهم حيث بلغ القول إلى أن التصوف إذا أريد تعريفه فهو الشخص الذي يشعر باتحاد في الكون الأعظم من الوحدة المعترف بها في الحياة العادية... فوحدة الوجود متجذرة في التجارب الصوفية في معظم أديان العالم العريق... والتي يمكن إيجازها بالآتي:
1- النمط المنفتح على الخارج أي ثمة اتحاد بين الذات الإنسانية والطبيعة الخارجية... ونجد هذا عند الرومانسيين في الشعر والأدب والنحت والرسم.
2- النمط المنكفئ على الذات وهو الفناء بعينه مع الاتحاد الكلي بالواحد المطلق أو الاتحاد بالنفس الكلية... وهذا النوع ليس مكتسباً إنما هو نفحةٌ ربانية... حيث يقول ابن عربي عن علماء الرسوم ( وهم الفقهاء وطلبة العلم الشرعي... وعلماء الرسوم آثروا الدنيا على الآخرة... أنهم من أهل الله بما علموا وامتازوا به عن العامة حجبهم ذلك عن أن يعلموا أنَّ لله عباداً تولى الله تعليمهم في سرائرهم بما أنزله في كتبه وعلى ألسنة رسله )... وهذا المذهب شغل فلاسفة العالم وفلاسفة الإسلام خاصَّة ومن أجل ذلك يقتضي التركيز على ابن عربي فهو الممثل للنظرية في كلَّ أبعادها... ولعل هذه النظرية هي آخر ما انتهت إليها فلسفة ابن عربي ت 638هـ الصوفية وذلك لأنه قضى وقتاً طويلاً في كيفية صياغتها وأرهقت خياله وذوقه ولم يستطع مع ذلك أن يذكرها جملة واحدة خوفاً من سطوة الفقهاء. قال ابن عربي: وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من الغلوَّ فغوره بعيد والتلف فيه قريب ) ولمصير الحلاج دور فعال في تغييض عاطفة ابن عربي وإيقاف خياله الواسع دون تجاوز الحد حيث قال ابن عربي:
فَمَنْ فَهِم الإشـارَة فَلْيَصُنْها وإلا سوف يقتـل بالسَّـنان
كحلاج المحبـة إن تبـدت له شمس الحقيقـة بالتداني
فقال أنـا هو الحق الذي لا يغير ذاتـه مـرّ الزمـان
ولكن مع ذلك نجده يصرح بمذهبـه أحياناً، وإذا ما وجد أي اعتراض أو سوء فهمٍ يوقعه في أمر لا يحمد عقباه منح لكلامه تأويلاً مستساغاً مثال ذلك قوله:
يا من يراني ولا أراه... كم ذا أراه ولا يراني...
فقال لي بعض إخواني: كيف تقول أنه لا يراك؟
فقلت له في الحال مرتجلاً:
يا من يراني مجرماً ولا أراه آخـــذاً
كـم إذ أراه منعمـاً ولا يراني لائــذاً
والبيت الأخير صريحٌ في وحدة الوجود... ثمة أنواع من المصادر التي كَوَّنَتْ هذا المذهب ومن هذه المصادر: التأويلات الإشارية البعيدة عن مقتضى النص من القرآن الكريم والسنة، وأمشاج مستقاة من علم الكلام، وأقوال متصوفة الإسلام الأوائل، وآراء إخوان الصفا والقرامطة والفلسفة المشائية، والأفلاطونية الجديدة، وفلسفة فايلد الاسكندراني، والرواقيين.
أما بالنسبة لشخصية ابن عربي فإن الباحث يرى أنه لم يكن دساساً باطنياً يمثل حلقة في سلسلة من الحركات الهدامة بل كان تأثره بالثقافات الأخرى، واطلاعه على الديانات الأخرى واحتكاكه بشخصيات متعددة... كل أولئك كان سبباً في أخذه بهذه النظرية... فجمع من بين هذه الأفكار المشتتة، والنظريات المتباينة مذهباً يليق بخياله، ويناسب ذوقه، ويحرك عاطفته، ولهذا نجد عنده من ألوان التناقض، والاضطراب الفكري بدرجة غير عادية... ولقد كان ابن تيمية من المعظمين له من خلال كتبه: فصوص الحكم، الفتوحات المكية، ومطالع النجوم...
يقول ابن تيمية:( إنما كنتُ قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي، ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد... ) والحقيقة فإنَّ ابن عربي كان يحث على متابعة السنة والدليل على ذلك ما ألفه في السنة حيث ألف كتابين أحدهما المصباح في الجمع بين الصحاح، والمسند الصحيح لمسلم بن حجاج ). ومن أقواله: ( لا يرتجى الوصول من لم يتابع الرسول ).
قال أسين بلاثيوس: إن الفضل في تكوينه الروحي إنما يرجع أولاً إلى التعليم الحي الذي تلقاه من شيوخه الأندلسيين... وتأثره بالرسالة القشيرية... وبالبسطامي... ) وألّف ابن عربي رسالةً أسماها ( المنهج السديد في ترتيب أحوال الإمام أبي يزيد... وكذلك ابن عربي قرأ كتب ابن حزم كلها على أبي محمد عبد الحق الاشبيلي... وله كتاب( اختصار المحلى لابن حزم ) وهذه النظرية تذهب إلى أن الوجود واحد... ووجود الحق أصل لكل شيء يظهر بمظاهر مختلفة فهو وحدةٌ شاملةٌ مطلقة... ليس اتحاداً بين وجودين... ولهذا أجاز للواصل إلى الحقيقة أن يقول: أنا الحق وأن يقول سبحاني... وما وصل واصل إليه إلا ورأى صفاته صفات الله وذاته ذات الله... وهذه النظرية كمذهب فلسفي في الميتا فيزيقا اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفةً وذلك لأنه مذهب قديم... وهذه الأشكال المختلفة لمذهبٍ في الأساس تتخذ إحدى صورتين يمكن ذكرهما بإيجاز الأولى: صورة الاعتقاد بأن الله هو الطبيعة... فالحق هو الجامع لكل شيء في نفسه فكل الأشياء في العالم واحد والله هو الكل وتعرف هذه الصورة من المذهب بنفي العالم وهي صورة موغلة في الروحانية الخالصة... والثانية وهي الصورة المقابلة للوحدة الروحية المطلقة وفيها تغدو الألوهية اسماً على غير مسمّى، وينحصر الوجود فيما يتناوله الحس وتقع عليه التجربة ويصبح العالم المادي هو الكل الواحد الحقيقي ولا شيء سواه وتعرف هذه الصورة في الفكر الفلسفيnaturlism Pan cosmis... ومذهب ابن عربي له علاقة بالصورة الأولى لكونه روحانياً بعيداً عن المظاهر الخارجية بقوله:
فإني ظـلٌ بـه ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
ولعل خير مثال يصور حقيقة هذا المذهب.. ما نشاهده في أمورنا الحياتية... فلو أن أحدنا لاحظ الحديد وهو مادة أولية... يصنع منها أشياء كثيرة فالطائرة والسيارة والبواخر والأسلحة... فالحديد هو أصل هذه الأشياء كلها ولكن هذه الأشياء اتخذت صوراً متعددة وأشكالاً مختلفةً.
قال ابن عربي:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لمـا تخلقـه جامـع
تخلق مالا ينتهي كونــه فيك وأنت الضيق الواسع
وقال أيضاً: إن الحق وإن كان واحداً فإن له إلينا وجوهاً كثيرة مختلفة... وكل هذا يقتضي أن وجود الحق مفتقر إلى وجود الخلق... فلولا وجود هذه الممكنات لما كان ثمة وجود لوجود الحق فكما أن الإنسان لا يرى وجهه عند عدم وجود المرآة... فكذلك الحق في نظر ابن عربي مفتقر إلى الخلق إلاّ أنَّ ابن عربي لكي ينفي تناقضه أثبت ثبوتاً موجوداً ولم يقل بإثبات وجودين لأن ذلك يخالف مذهبه مع أن الثبوت والوجود بمعنى واحد بل إن التفريق بينهما
لا يصح وذلك لأن إثبات الشيء وجوده ووجوده دليل على ثبوته فهما متلازمان لا ينفكان...
قال ابن تيمية: وكل من الوجود والثبوت لا ينفك عن الآخر... وهو شبيه بقول من يقول: الوجود غير الماهية وهو ملازم لها ولكي تكون هذه المسألة واضحة فمن الأولى الاطلاع على الآراء المختلفة فيها:
1- يذهب أرسطو ت 322 ق.م وأتباعه إلى أن الماهية والوجود متغايران في العالم الخارجي.
2- إن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي في الذهن، ومتغايران في العالم الذهني... ذهب إليه طباطباني.
3- إن الوجود والماهية متغايران إطلاقاً... وهذا ما قال به أتباع المذهب الظاهراتي وأشياع المذهب الوجودي... فالفلسفة الفينومينولوجية موضوعها الأساس الماهية فهي تجعل الماهية سابقة للوجود بينما الفلسفة الوجودية تجعل الوجود سابقاً للماهية.
4- إنَّ معنى الوجود والماهية واحد وإن مسألة كون الماهية تسبق الوجود أو الوجود يسبق الماهية فكرة هشة... ولهذا قال ابن تيمية و معلوم أن لفظ الماهية يراد به ما في النفس والموجود في الخارج... ولفظ الوجود يراد به بيان ما في النفس والموجود في الخارج فمتى أريد بهما ما في النفس... فالماهية هي الوجود وإن أريد بهما في الخارج فالماهية هي الوجود أيضاً... وبعد عرض كل هذا نستخلص: أن الماهية والوجود متحدان في العالم الخارجي وبينهما تغاير في العالم الذهني... فيقول ابن تيمية في هذا الصدد: والفرق بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه... ولكنه فارقٌ نسبي مقدر في الأذهان والمقدر في الأذهان أوسع من الوجود في الأعيان كما يقول ابن تيمية وسبب ذلك أن المقدر في الأذهان يختلف باختلاف العقول فلا يكون ذلك حقيقة ثابتة بينما الموجود في الأعيان حقيقة ثابتة... ) فإنه من الناحية الفيلولوجية نجد أنَّ ثمة فرقاً بين الوجود والماهية فعندما نقول ماهية الشيء فالمقصود البنية الداخلية أو التركيب الداخلي له ووجود الشيء يقصد به التركيب الخارجي ومعلوم الفرق بين ذينك التركيبين أو بين تينك البنيتين... وثمة مثال يقوَّي ما ذهب إليه ابن تيمية: وهو أن الإنسان عندما يفارق الحياة تخرج الروح من البدن ويتحول البدن إلى تراب تذروه الرياح وتبقى الروح وهذه الروح هي ماهية الإنسان ولا أخال أن ثمة عاقلاً يقول بأن هذا الإنسان لم يبقَ له وجود مع بقاء الروح ووجودها... وهذه الروح عائدةٌ إليه، وملك لهُ فدل على أن الوجود والماهية شيءٌ واحد فماهية الشيء وجوده، ووجود الشيء ماهيته. وعليه فإن مذهب ابن عربي هو التفريق بين الماهية والوجود لكنه آثر استعمال الوجود والثبوت وهما عند ابن تيمية بمعنى واحد لا يقتضي تفريقاً البتة. وقال ابن عربي في تعريف التوحيد بأنه نفي الاثنينية وإثبات العينية ومن هنا تنتفي فكرة الحلول عن أهل وحدة الوجود لأن الأولى تقتضي إثبات وجودين الحال والمحال بينما الثانية على خلاف أي وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى.ولهذا قال ابن تيمية: ولهذا من سمّاهم حلولية أو هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول في باطن أمرهم لأنه من قال: إن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجود أحدهما وجود الحق( الحال )... قال ابن عربي:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا
من لا يدّريـه إلا من لـه بصـر
جمع وفرق فإنَّ العــين واحدةٌ
وهي الكثيرة لا تبقـي ولا تـذر
وقد بيّن القاشاني أن الحق خلق باعتباره ظهوره في الأعيان وليس خلقاً باعتباره موجد الموجودات إن البيت الأول يفيد ما قاله القاشاني ولكن ابن عربي في البيت الأخير نفي كون وجود الحق غير وجود الممكنات وأثبت وجوداً واحداً...
قال ابن عربي: من عرف نفسه علم أن وجوده ليس بوجوده ولا غير وجوده بل وجوده وجود الله بلا صيرورة... وجوده وجود الله بلا دخول وُجُوْدُهٌ في الله وخروج وجوده منه... وقد ذكر ابن عربي مثالاً آخر يوضح مقصوده بوحدة الوجود حيث قال:
وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدّدا
وقد ذكر ابن تيمية أن كلام ابن عربي يدور على أصلين: أحدهما: أن الأشياء كلها ثابتة في العدم مستغنية بنفسها نظير قول من قال من شيوخ المعتزلة أن المعدوم شيء. ثانيهما: أن الوجود الذي لهذه الذوات هو عين وجود الحق الواجب... ومعنى ذلك أن هذه الأشياء غنية عن اللَّه وذلك لأنه يلزم منه أنها ليست مخلوقة، بل في ذلك تعطيل للخالق وقدرته إن لم يكن سلباً لجميع صفاته... وقد ذكرنا أن ابن عربي لكي ينجو من تناقضه سمّى وجود الممكنات ثبوتاّ... ووجود الحق وجوداً وثمة حتى لا يكون ثمة وجودان... وهذا التفريق الذي قال به ابن عربي بين الوجود والثبوت صوري وشكلي لا حقيقة له، وذلك لأنّه قرّر أن هناك وجوداً واحداً... وحيث أنه يقول: بأن الحق وجودٌ حقيقيٌ في ذاته ووجودٌ إضافيٌ في الممكنات والوجود الإضافي عرض قائم بغيره ليس جوهراً كالوجود الحقيقي قال ابن عربي كما أسلفنا في القول:
فإني ظـلَّ بـه ظاهـر وإن كُنْتَ ظلاً فإني لفيء
فيرى ابن عربي أن الظل وجود إضافي قائم بغيره وهو الشيء الذي كان سبباً في إحداثه فاتضح أن الوجود واحد يظهر بصور مختلفة... وقال ابن عربي أيضاً: ناديت يا أنا فلم أسمع إجابة فخفت من الطرد، فقلت يا أنا لماذا لا تجيبني ؟
فقال لي: يا متناقض الحكم لو دعوتني أجبتك وإنما دَعَوْتَ أنانيتك فأجب نفسك عنك.
فقلت: يا أنا إنما قلت إمّا من حيث إن أنا في أنا أنا... كما أن الواحد هو الواحد الأحد.
قال: صدقت فأجب نفسك عني ولا تطلب فهي الإجابة فقل لأنانيتك تُجِبْكَ.
لكن ابن عربي لا يقول بإسقاط التكليف فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي، ويأمر بالسلوك مما أقرَّ به المشايخ من الأخلاق والعبادات ولهذا كثيرٌ من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك... وعند ابن عربي أن سر الألوهية يستكن في كل معبود وهذا هو حقيقة القول بوحدة الأديان... وقد سبق ابن عربي الحلاج في وحدة الأديان واعترف ابن عربي بعبادة التثليث واعتبرها من التوحيد وكما قال المستشرق الإسباني ( أسين بلاثيوس ).. وهكذا فرعون في نظر ابن عربي مات مؤمناً وبناءً على هذه النظرية يكون إبليس من الموحدين لأن كفره لم يكن منه وهو لا فعل له ولا حول ولا قوة ولا إرادة يقول ابن عربي: أنا مُجْبرٌ ولا فعل لي والذي أفعله باضطرار... فالإنسان في رأي ابن عربي كالريشة في مهب الريح... وهذا يؤدي بدوره إلى الإيمان بالقدر والحتمية... وهذه جبرية صرفة في علم اللوح المحفوظ الأزلي...
من خلال هذا الاستعراض المسهب أستخلص القول بأن الله أودع في الإنسان سراً من أسراره الذاتية العالية المخزون في خزائن رحمته، وأن الإنسان معجزته في كوكبه الأرضي وبما أن الإنسان آية من آياته البيّنات فيمنح لبعض مخلوقاته كراماتٍ تصديقاً لقول الرسول الكريم:( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله...).
إن في الإنسان قوة روحانية هائلة تتجاوز القوة الجسدية العضوية البيولوجية أضعافاً وأضعافاً... والقرآن قد أصبح دستوراً للبشرية بعد نزول الكتب السّماوية فكانت الكتب السماوية والصحف تبشر بنزول القرآن الحكيم ليغدو منهجاً وقانوناً للعالمين... فالأديان السماوية السابقة كانت تمهيداً ومقدمةً للقرآنٍ ليكون شرعةً ومنهجاً للإنسانية جمعاء ومن خلال نزول الكتب السماوية يريد الله أن يعلّمنا الصبر والتدرّج، والتسلسل ومحطات الاستراحة ويفتح للإنسان باب الاجتهاد والتعقل والسّعي... فالأديان التي سبقت القرآن كانت لبيئة محلية ثم مهَّدت لبيئة عالمية...
ففي زمن سيدنا موسى/عليه السلام/ طغى الإنسان وتجبّر وانتشر السحر والشعوذة فسلّح الله نبيه موسى بمعجزة العصا واليد البيضاء... وفي زمن سيدنا عيسى/عليه السلام/ تفشى الحقد والبغضاء فبعث الله نبيه بنور المحبة والسلام... وأتى بالقرآن العظيم ليكون كاملاً وجامعاً لما سبق للعالمين قاطبةً... والقرآن هو ذاته معجزة الله في أرضه ليس كتاباً نحوياً ولا طبياً ولا فلسفياً... إنما هو قانون إلهي أزلي لخدمة الإنسان ولإعلاء شأنه وإسعاده في الدنيا والحياة الباقية، خاطب القرآن عقل الإنسان ليرتقي به نحو الأفضل وليخدم أخاه الإنسان للعيش الكريم المشترك تحت ظلال القرآن الكريم في أمنٍ وسلام وحبٍّ ووئام...
أما بصدد ظاهرة التصوّف التي خرجت إلى التاريخ في أواخر العصر العباسي... والعصر المملوكي... كان ظهوره لبواعث عديدة... ظاهرة الضلال والشواذ والفقر... وانتشار الأمراض الاجتماعية... والتحزّبات والفرق المتنازعة... وضعف الدولة وانغماس السلطات في المجون واللهو والّلغو والنفاق المستشري بين الأئمة والعلماء والأدباء والشعراء... وتبوّأ المال الصدارة في تقييم الفرد فمن يجمع مالاً كثيراً من أي مصدرٍ كان وبأيّ أسلوب فهو موضع الإعجاب والاحترام حيال هذه الظروف المعقدة الشائكة خرج رجال من المتصوفة يبتغون التقرب إلى الله للخلاص من المحن والكوارث... وأرادوا من ذلك إنشاء مريدين لهم للوصول إلى الزعامات الدينية عن طريق روايات شعبية خارقة للهيمنة على عقول البسطاء والسفهاء فجمعوا حولهم أتباعاً لهم... وخاطبوا بقولهم ولات حين مناص... فلا سبيل أمامنا من تخليص الأمة من غائلة الجوع والفساد والشقاق إلاّ بوحدة الوجود وإندغام ذاتك في الذات الإلهية وادّعى بعضهم بأنه يتحدث إليهم بالنيابة عن الله ولا فرق بينه وبين الله...
في هذه الحالة يطلق المتصوف عبارات فيها الهذيان والألفاظ الغريبة كالهلوسة والهذيان؟! كما يتلفظ بعض المرضى النفسيين بكلمات خارجة عن المنطق... مما أدّى هذه المرحلة من التصوف إلى الغلوّ والتطرف وأوصل الناس إلى العجز والكسل وقفل باب الاجتهاد والتسليم بأقوال المتصوف وأتباعه... فالتواكل أخذ ينخر القلوب والضعف يسري في النفوس... فأصبح المتصوفون شفعاء ووسطاء بين العبد وربه كما أصبحوا أئمةً يقتدى بهم ونموذجاً يحتذى بهم والسُّذج من الناس التفوا حولهم يقدّسونهم...
نحن في إسلامنا بقيادة نبينا محمد/عليه الصلاة والسلام/ لم يركن الرسول إلى التواكل... كان حياته كلها جهاداً في شتى مناحي الحياة فمن خلال سعيه يريد أن يعلّمنا أن الحياة علمٌ وعملٌ وجهادٌ وكفاح... وأن الله كان بإرادته أن يحوّل جهاده إلى معجزات.. لكن الله ابتغى من وراء ذلك أن يعلّم الإنسان على التفكر والسعي وأن متعة الحياة لا تذاق إلا بعد جهدٍ ولُغوب...وفي آيات التنزيل الحكيم يعاتب الله رسوله في بعض مواقفه الهزيلة(عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ). فالذين انغمسوا في الروح الباطنية للتصوف ألهبوا مشاعرهم القلبية فاتخذوا من القلب سبيلاً للاتحاد مع الذات الإلهية... والقلب يخطئ ولا يستطيع السير في الهدي الصحيح إلاّ بأنوار العقل فهم مخطئون في مسلكهم ولهذا أصاب بعضهم مرض الجذب والهذيان، وأضغاث أحلام... فخرجوا عن واقعهم المألوف، ودخلوا إلى عوالم خيالية رمادية ضبابية سديمية غامضة وألفاظ ردّدوها واعتبروها طلاسم وشفرات للوح المحفوظ... إن ما اتخذه المتصوفة من سلوك في الشذوذ والانحراف لا يستقيم مع التنزيل الحكيم والنهج النبوي الرشيد.
إن الكرامات قائمة إلى يوم القيامة وهي صفة فردية يمنحها الله لمن يشاء من عباده.. وهي أمر فرديٌّ مخصوص لا يقبل التعميم وهي صفة نادرة قلّما نكتشفها ويظهرها الله في إنسان يختاره لحكمةٍ قدَّرَتْها الإرادة القدسية الأزلية...
وختاماً أقول قولي هذا وأفصح في التصوف أخيراً..
كن مع الله صادقاً فالله يحفظك وهو أرحم الراحمين، وأقول ما قاله سيدنا محمد/عليه الصلاة والسلام/:يا غلام: احفظ الله يحفظك... احفظ الله تجده تجاهك...فالتقرّب سبيل الصدق مع الله... أما الاتحاد أو وحدة الوجود لا يليق بالخالق والمخلوق.. كلام نُسِج من خيالٍ سقيم لا يمت بصلة إلى المنطق العقلي والتدبر القرآني العميق.
*****
الثقافة نهرٌ يجري من نبعٍ دفّاق لا ينقطع يتفجّر ماؤه زلالاً.. نقياً.. صافياً.. في ديمومةٍ لا تعرف الجفاف.. تحيي القلوب وتسقي العقول بماء العطف والحنان والحبّ والريحان..
الثقافة الناقدة هي أعلى درجات القيم والعطاء تزول في بحرانها الأحساب والأنساب والملل والنحل والطوائف والاثنيات.. وتبقى الإنسانية في جنّاتها هي الأعلى، وهذا هو حلم كلّ إنسان نبيل على هذا الكوكب الأرضي الصغير..
الغرب الأوربي يتّخذ من الأسباب الأرضية للبحث والكشف عن عوامل وعناصر التقدم التقني.. والبحث عن الرّخاء المعيشي للمجتمع في بلاده.. والقانون هو الحاكم الأرضي فوق الجميع.. أما الشرق البائس المسكين ينتظر معجزة السماء والعصا السحرية ليتسابق الغرب الأوربي في مكاييل القوة ليثبت كيانه في الحسبان.. فما السرّ الخفيُّ في تقدم الغرب وتأخّر الشّرق ؟؟؟!!! فالتقدّم الأوربي هو نتاج العقل الكوني.. حينما أنجزت أوروبا قطيعتها المعرفية مع العصر الوسيط اللاهوتي المسيحي الذي غلب العلم التجريبي من الأدمغة الكبيرة ومن خلال فلاسفة العلم مروراً بـ: بيكون ولايبنتز ونيوتن وكانط وديكارت وهيجل وبرتراند راسيل وغيرهم من عباقرة الفلسفة ولهذا المعنى التجريبي أو الطبيعي أو العقلي.. أما العلم في شرقنا العربي.. ظاهرة التأويل السطحي والاجتهاد القاصر والشرح على الشرح والتكرار العقيم.. وخلق المذاهب كزعامات دينية غارقة في الغلو والتطرف...
إنّ التقدّم هو إيديولوجيا هذا العالم المصنوع السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمصلحة الإنسان وغرس بذور المعرفة في مفاصل المجتمع وتنظيم دولة المؤسسات.. فالإنسان بقدراته الكامنة، وبملكاته العقلية يستطيع أن يؤسس مجتمعاً عتيداً ووطناً حصيناً...
الثورة الفرنسية هدمت الزعامات الدينية وقصور القياصرة.. وأتت بمعارف التقدّم ما نشهدها اليوم من البناء والتصنيع وغزو الفضاء الخارجي.. لا يأتي التقدّم من عبث.. النموذج العلماني في شخص روبنسون كروزو الذي استطاع بقدرته الإنسانية العجيبة بناء العمران بالمعنى الخلدوني.. استطاع في وحدته في جزيرته المقفرة أن يعيد العناصر الأولى للحضارة البشرية وأن يقوم بدوره صياد العنز، ومربي الماشية، والنجار، والمعمار، والحفّار، والسلال... وبالمقارنة تذكرنا هذه الرواية الأسطورية برواية حي بن يقظان لابن طفيل فمنذ قبل خمسة قرون من ظهور رواية دانييل دي فو في جزيرة قريبة من الهند فشبَّ عن الطوق، وتدبّر أمر نفسه بنفسه في حين أنَّ همّ روبنسون كروزو كان إعادة هندسة بناء العمران البشري..
أما حي بن يقظان انصرف بكلّ تدبيره بالحفاظ على حياته أولاً وتغذية جسده للحفاظ على قوته والبحث عن وجود الله وإلى معرفته بفطرته وبقدرته العقلية وأعلن عن روحانيته بأنه هو الداعية وهو المبشر الديني.. أما رواية روبنسون كروزو الإنسان يستطيع أن يعيد للبشرية مادتها بفكره الخلاق وجهده المضني.. فنحن بين نموذجين أو طرازين من العقلانية عقلانية الإنسان الصانع وعقلانية الإنسان الكامل وثمة قاسم مشترك بين الروايتين.. كلتاهما من الأسطورة.. فالتقدميون يضعون العصر الذهبي للبشرية في مستقبلها بينما يضعها السلفيون في ماضيها وهذا ما تترتب عليه نتيجة خطيرة.. فالزّمن عند الأوائل تقدّم بينما عند الآخر نكوص وانحطاط..
فالسلفيون على الرغم من الخواء الفكري والاجتهادات الهامشية الخاوية فالإيديولوجيا التقدمية تسعى لصنع المستقبل في إيديولوجيا التقدّم أكثر صعوبة من عبادة الماضي وتقديسه.. فهناك أربعة عوامل في تخلف الشرق..
أولاً: السلفيون اعتمدوا على العلم الديني وأطلقوا اسم عالم على كلّ من درس العلم الديني من فقه وتفسير ومصطلح الحديث.. وغيرها، والحال أنَّ كمية هائلة من الأحاديث قد وضعت وضعاً، وكان يتفاقم طرداً مع الابتعاد زمنياً عن عصر الصحابة.. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كونه جعل من الثوابت الضمنية واللاشعورية للعقل العربي فرضيّة مؤدّاها أنَّ العلم فعل إجرائي لاتقاء شرّ عوادي الزّمن، والحقيقة أنَّ الزّمن لا يحمل في طيّاته إلاّ تحريفاً وتدليساً وتشويهاً لنقاء المنابع الأولى.
والثاني عامل اللغة: فرضية اللغة في مسألة اللحن فجعلوا من الزّمن عامل تحريف وتشويه لأصحاب النحو واللغة فكانت مهمة النقد لغوياً ونحوياً فقط فقد كانوا يحصون سقطات المتنبي لا تجديداته ولا إبداعاته.
ثالثاً عامل التاريخ: السلفيون أوغلوا في الزمن أكثر من اللازم فأرجعوه إلى العهد الجاهلي ورأوا في حركة التاريخ إلا حركة نكوص وانحطاط ووصولاً إلى عصر الدول المتتابعة والانحطاط الكبير واتخذوا من العصر الجاهلي نقاء اللغة بعيداً عن تلوّثها بلغات الأعاجم.
والعامل الرابع هو عامل الاستعارة: السلفيون اعتمدوا على الاستعارة، والاستعارة هي لغة اللاشعور فإنّ دورها في تكوين العقل الجمعي لا يزداد إلا خطورة عندما ترتبط بإيقاعات كونية بيولوجية ذات طابع دوري كقولنا:
( ربيع الحضارة العربية ) و( صيف الحضارة العربية ) و( خريف الحضارة العربية ) و( ربيع الشباب وخريف العمر )، فالكون محكوم لدى السلفيين بأنه الأول والفساد هو المآل، فالزمن لديهم قانون للفساد والزوال لا للنمو.. قانون للتآكل.. وحبّ الذّات هو الجرح النرجسي.. فالعوامل الأربعة قد عزّز الجرح النّازف الذي لا يتوقف عن السيلان وقد زادته عمقاً منذ عام 1948 حتى عام 1967 فكلما بدا الحاضر متشابكاً مستعصياً على الأنا القومي وأشدّ تجريحاً رَكَنَ هذا الأنا القومي إلى التشبّث بعظمة الماضي.. ولا غروَ تراكم الاحباطات.. الأنا القومي تبدو لنا السلفية المسرفة استجابة مرضية حيال موقف معتل ومُمْرِض وكل استجابة مرضية فإنها تمثل استجابةً كاذبةً عن نظرية عملية صحيحة.. فالسلفية بأنواعها الدينية تستمد أقوى عوامل برهانها وحيويتها من شبه الجزيرة العربية مهد ثالثة الديانات النبوية الكبرى ومن كون العربية هي اللغة التي نزل بها القرآن فصحيح أن سلفياً أفغانياً مثلاً يمكن أن يتطرف في نزعته السلفية تطرف السلفي العربي، ولكن أدوات هذا التطرف ومقوماته تظل تعوزه فهو لن يستطيع أن يكون سلفياً صافياً ما لم يتعلم العربية حتى لو تعلمها فإنه سيظل يفتقد رابطة الانتماء الجغرافي.. وفي منظار السلفي العربي أنّ كل تقدم هو ابتعاد عن صفاء الأصول الأولى مثله في ذلك مثل النهر الذي تزداد مياهه تلوثاً كلما تطاول مجراه وتباعد عن ينبوعه.. أما السلفي القومي عنده أنَّ العصر الذّهبي للأمة العربيّة كان الجاهلية أي العصر الجاهلي وكلّ ما تلاه كان انحطاطاً بدأ مع بداية الرعيل الأول من الصحابة وبداية الفتوحات الإسلامية حيث أدخلت الفتوحات الإسلامية على الصفاء القومي أو شاباً وعناصر عجماء تشوّه الأصل فكان عصر الانحطاط فلا سبيل إلى الاستنهاض إلا بتطهير الذات العربي من مظان الشّكوك والهجين والدعوة إلى تضخيم الشعارات للعودة إلى الأصول الأولى.. أما السلفية الرومانسية وجدت في التقنية الغربية الحديثة من طائرات وبواخر وسيارات و.. و.. و.. و.. دماراً رهيباً لثروة النفس، والقيم الفاضلة واحتجوا بأنّ الناس قطرات ماءٍ في نهر الحياة وفضّلوا الرحلات الطويلة على ظهور الجياد والتمتع بالطبيعة العذراء.. ونالت السلفية النرجسية العربية الشرقية عوامل التقدم ومقومات النهوض بالماركسية والاشتراكية أو تمزيق الحجاب المتخلف وتحرير المرأة من لباسها التقليدي ثمّ ارتدَّت عن المفاهيم الماركسية وانتقلت إلى الليبرالية الخادعة وارْتَدَتْ لبوساً لها.. وفي هذا الجو من الاحباطات.. ووجدت العصا السحرية في هذه الجولة من الاخفاقات الذليلة الديمقراطية المستوردة من الغرب الأوربي..
الإسلام الحقيقي يرفض العصا السحرية وهو ضد السحريات والخوارق ولا يتعارض مع موقف عقلاني من الطبيعة ومن القدرة الإنسانية على تحويلها من دون وساطة إلى منظور فلسفي.. إنّ ذلك سرّ التقدّم والتقدّم مثله مثل التخلّف نتيجة مركبة لعوامل تستعصي على الحصر والإحصاء، كلّ ذلك يستوجب العقل الشرقي العربي أن يقف من نفسه موقفاً نقدياً أي ثورة عقلية في كلّ المضامين والأشكال.. إنَّ الشرق بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية.. وهذه الثورة بحاجة إلى الانتلجانسيا أي وظيفة الثقافة الناقدة.. فثقافتنا كانت موزّعة بين الانتهازية القطرية وتقدم التنازلات تلو التنازلات للنزعة السلفية بأنواعها وتتخذ من الماضي موضوعاً للعبادة وليس للدراسة وتغرق نفسها في ثقافات تافهة..
إنّ الغائب الكبير في ساحة الشرق العربي ليس الديمقراطية وإنما الانتلجانسيا نفسها.. فاستقراء تجارب الأمم اليابان ألمانيا وغيرهما يدلّ على أنه حينما وجدت أوضاع كارثية متخلفة وجدت انتلجانسيا متقدمة استطاعت من خلال مضاعفة دور العامل الذاتي الوعي الثقافي يعوض عن قصور العامل الموضوعي والحال أنّ القانون الذي يحكم تطور الانتلجانسيا العربية يبدو معكوساً فهي تتخلف طرداً مع التخلف.. إذ كيف نستطيع أن نكون تقدّميين بالمعنى الصحيح للكلمة فنحافظ على إيماننا بالمستقبل الزاهر على الرغم من قانون التدهور الذي يحكم حركة الحاضر.. إنّ الدور التاريخي للانتلجانسيا العربية لا أن تكون مدَّاحة كما كانت بالأمس أو نائمة باكية اليوم فإذا اتخذنا انتلجانسيا الغد نقّادة طليقة ذلك سرّ تقدّمنا مادياً تقنياً ومعنوياً صالحاً عادلاً.. في أوربا قاطبة غرباً وشرقاً لا تدور دوائر الحروب فهم متفاهمون.. والقانون سيد الجميع.. فمواطنيهم يعيشون في أمن ورخاء مادّي ومعنوي وحتى من يلتجئ إليهم لا يتمنى العودة إلى دياره يمضي حياته هناك رغم أنه لما كان في وطنه يوجّه إليهم كلّ النّعوت البغيضة.. فلماذا الحروب في شرقنا العربي قائمة.. على الهدم والخراب والإبادة المذهبية والاثنية في أغلب بلداننا والنخبة الثقافية في بلداننا ما زالوا يتخاصمون على تاريخنا ويتقاتلون عليه لأسباب شخصية فردية نرجسية حيناً وطوباوية تارة أخرى.. ولكلّ واحدٍ من هؤلاء له مريدوه وكورسه في المسرح الهزلي والعالم الغربي يغزو الفضاء الخارجي مكتشفين خارج مجرة شمسنا.. إنهم لا يريدون لشرقنا الخير والاستقرار والرّفاه لأنهم عاينوا أمراضنا السريرية بأننا أمم لا نحبّ الخير لبعضنا لأنّ الجينات الوراثية في تاريخنا البيولوجي تنتقل من جيلٍ إلى جيل.. نتقاتل على الأجداد هذا جدّي كان أفضل من جدّك.. وهكذا دواليك مسرحية سفك الدماء تنهي فصولها بتراجيديا مروّعة.. ديمقراطية الغرب الأوربي لهم ولبلدانهم.. الديمقراطية لا تستورد ولا تتصدر.. ديمقراطيتنا مرهونةٌ بالثورة العقلية والانتلجانسيا بالثقافة الواعدة الناقدة.. وهذه الثقافة التقويمية الثائرة على التخلّف هي التي تنجب ديمقراطيتنا الواعدة..
أوروبا تتناطح كالكباش أو الذّئاب ولكنها تخرج من الحلبة دون خصام.. تفعل ذلك كي نصدّق ذلك التهريج في مهرجانات عديدة من الساحات المصطنعة.. إنهم يتفقون في تقسيم حصص شرقنا لامتصاص خيراتنا وتصدير المبادئ لنتقاتل ونبيد بعضنا بعضاً لأسباب وهمية رخيصة بخسة.. إنّ الأمة المتحدة على الدستور والقانون وصنع التقنية والأسلحة وتصدر مبادئها للأمم المتخلفة لهي أمةٌ جديرةٌ بالحياة.. أما الأمة المتخلفة التي لا تصنع شيئاً وتستورد الديمقراطية من غيرها ولا تخترع لنفسها الأسلحة وتستورد أسلحة غيرها هي أمةٌ راقدةٌ كرقود الجثث في القبور..
الحكم المأثورة من الأدب الشِّفاهي الكردي حفظتُها من كبار السنّ الذين بلغوا من العمر عتيّا، ووهن العظم منهم.. وجاءت هذه الحكم من التجارب الحياتيّة، واستخلصوا منها الاتعاظ وخبرة الحياة.. وباتت قوانيناً للأعراف الاجتماعية السائدة.. تردّدها الألسنة في المناسبات والأندية والمجالس والوقائع والحوادث، ومن هذه الحكم قولهم:
( إذا لم تكن وردة فلا تصبح شوكةً ): مغزى القول إن لم تستطع فعل الخير فلا تكن شريراً.
( ما تعمله يداك لا يعمله أبوك وأهلك ): أي الاعتماد على الذات.
( اليوم السّعيد يبدأ من صباحه ): أي الأمور في بداياتها ومقدماتها بشائر الخير.
( لا يحيا الإنسان بالخبز وحده بل بكرامته ): أي الخبز المعجون بالتعب.
( يربّي الثّعلب لدجاجاته ): أي من لا يحسن الاختيار.. أولئك السُّفهاء.
( اليد التي لا تستطع قطعه قبِّلهُ ): تدلُّ على ضعف المرء والأخذ بالحكمة.
( قراب الماء المثقوب يفرِّغ في منتصف الطريق ولا يصل إلى بيته ): تدلّ على الإهمال وعدم الإتقان.
( عدوّ أبيك وأجدادك لا يصبح صديقاً مهما جاملتهُ وتنازلت له ): أي لا تثق بأعدائك السابقين.
( من يركب فرس غيره لا يصبح فارساً بل يكون راجلاً لأنَّ الفرس ليس له ): المراد ملك الآخرين ليس لك.
( لا تسلّم سلاحك لأقرب الناس لك ): أي لأنه يحفظك ويحميك.
( لا تسمع ولا تطع المرأة الغبية لأنها سبب هلاكك ): أي الغباء سبب البلاء.
( اليد التي تبطش لا تعرف مصير الخصم ): أي الغضب جنون.
( كن ديكاً شجاعاً ليومٍ واحدٍ ولا تكن دجاجةً تعيش سنةً كاملةً ): أي الحياة موقف.
( الشجاع يموت موتاً واحداً، والجبان يموت كلّ يوم سبعين موتاً): أي الحياة الذليلة لا يرضاها الشجاع وينبذها.
( الفقير إذا اغتنى يظهر عليه صفات البؤس أربعين عاماً.. وكذلك الغنيُّ الموسر إذا افتقر يبدو عليه علائم النبل والشهامة أربعين عاماً ): هذا القول يدلُّ على الأصالة والموروث الأبوي والسُّلالة المتسلسلة.
( الكرماء كرمهم ديونٌ عليك فَأَوْفِ ديونك ): أي ردّ الإحسان بالإحسان.
( لا توجد شجرةٌ ناطحت أعالي السّماء سيأتي يومٌ وتُسقط ): أي لا دوام لأحد. ( من أُستغضب ولم يغضب فهو حمار ): القول هذا مَنْ يقبل الإذلال والانكسار.
( من انتهك أعراض الناس أُنتهكت عِرْضُهُ ). ( الشجرة تُسقَطُ بدودها المنخور ): أي العلة في أهلها.
( الشّيخوخة أرذل العمر تذلُّ صاحبها ). ( الظلم من شيمة الجبناء ). (كما تدينُ تُدان في هذه الدّنيا ): أي للخير ثمنه وللشرّ عقابُهُ.( الشكوى من صفات الضّعفاء ): أي دليل الوهن والقلق المفرط.
( الباشق يموت ورأسه إلى الأعلى ): صفة الشجعان.
( الشاة الجرباء تفضح سمعة القطيع ): أي الفرد العاقّ وصمة عار للعائلة.
( في أيام الرخاء لك أصدقاء كثيرون وفي الأزمات تكاد تنعدم أصدقاؤك ).
( لا تخف من النهر الجاري وتجنّب الماء الرّاكد ): أي عاشِرْ من يتحدّث معك بصراحة واحذر من السّاكت اللئيم. ( أولاد الزّناة يصبحون أخلاّء ): أي الخبثاء يتفقون.
( إذا ارتويت من ماء بئرٍ لا تبصق فيها ): معنى القول لا تنسَ الإحسان.
( جابه عدوّك وجهاً لوجه ولا تغدر به لأنَّ الغدر من سمات الجبناء).
( بيت المرء جنتُهُ ولو كان كهفاً ).
( من عاقَ والديه فقد عاقّه أولادهُ).
( حياة الدّنيا كأوراق الخريف ).
( كبش للذبح ): أي الرجال الشجعان مصيرهم القتل.
( الطبل الفارغ صوتُهُ أجمل من بعيد ): أي احذر ذلك لأنه هراء.
( تراب الموتى بارد ): أي الميت يُنسى مع مرور الأيام.
( البخت أو الحظ يأتيك بالسرير الذّهبي ): المراد الدّنيا حظوظ.
( بأيدي الناس صيد الأفاعي ): أي لا تثق بكلّ الناس فإنهم يجلبون لك الشر.
( الذئب يبقى ذئباً ولو بدّل جلده ): أي العدو يبقى عدواً ولو تودّد إليك.
( البيت الجميل المحبوب بساكنيه وليس بشكله وطلاوته ).
( صاحب السلالة الأصيلة لا يتخلّى عنك ).
( العقل ميزان الإنسان فإذا ولّى ذهب كلّ شيء.. والموت سترٌ ).
( الفقر ثوب ناري يحرق صاحبه ).
( العاقل يقلل من أعدائه، ويكثر من أصدقائه ).
( إذا أَكَلْتَ في مآدب الناس صغّر من لقيماتك ولا تكثر في الأكل ).
( احترم كبار السنّ فإنك ستصبح مثلهم في مستقبل الأيام).
( إذا ضرط الغنيُّ في المجالس قالوا ما أعطر هذا المسك !!! وإذا ضرط الفقير طردوه وأصبح مضرب المثل في القبح والبشاعة ).
( إذا لبس الفقير ثوباً جديداً قالوا عنه: من أين له هذا ؟! ).
( الشريف يبقى شريفاً حتى كان في الملاهي.. والخبيث يبقى خبيثاً ولو دخل المساجد ).
( السارق ليس له صديقٌ ولا قريبٌ يسرق مال أبيه إذا خدمته الظروف ).
( مال الظالم بلاءٌ لأولاده ولأحفاده ).
( أولاد الأعداء لا يصبحون أصدقاء ).
( الشام ما أعظم جمالها وروعتها !!! ولكن أجملها على الإطلاق مسقط الرأس ).
( بيت المغفل أو المهمل يهدم ويخرب قبل بيت الظالم المستبد ).
( قال البوم: يا ربِّ ! امنحني عاماً واحداً لأعيش الفصول الأربعة ولا أحبُّ التكرار ): المغزى ليست السعادة بطول العمر أو قصره.
( أشهى المأكولات عند الغراب أكل الجيف ): هذا المثل يضرب للبخلاء الشحيحين.
( الخُلْدُ لا يحبّ النور ويهوي الظلام، وحفر الأنفاق تحت الأرض ): مغزى القول المقصود الجهلاء المارقون.
( في موت الإنسان قامت قيامتُهُ ورحلت دنياه ): معنى القول رحيله إلى حياة أخرى.
( كان لفلان سبعة أولاد أحسنهم لوّاط أو لوطي ): يضرب هذا المثل للذرية السيئة العفنة النتنة.
( فلان لا يبول على موضع الجرح ): كناية عن البخل وفقدان الضمير.
( الحَجَر إذا تدحرج من مكانه سقط إلى الوادي ): كناية عن الغربة وفقد توازنه.
( هناك في الجبال مخدّات من الأحجار.. حجرٌ قاسٍ إذا لم يكن هناك أمان.. وحجرٌ لينٌ إذا وجد الأمن والأمان ): كناية عن حالات الشّقاء.
( البنتُ التي لا تتزوج وتصبح عانسة فيقال عنها تركتها لتكون مخللاً يفور ): كناية عن التعاسة والشقاء والقلق والهيجان.
( الكلب الذي يعوي ليلاً ونهاراً لا تخف منه ولا يعض ): كناية عن الثرثرة التي لا فائدة منها.
( الحرب هدمٌ وخراب ولكن إذا فرض عليك القتال فحاول أن تكون منتصراً وليس خاسراً ).
( ثلاثة نماذج من الناس احذرهم: طبيبٌ جاهل ينزع روحك، وشيخٌ جاهل يخرجك من دينك، وعالمٌ جاهلٌ يفسد علمك ).
( لا تهزأنَّ بالناس ولا تهمز ولا تلمز لأنَّ لك عيوباً وأعذاراً مثلهم ).
( افعل الخير واتركه للبحر الأزرق فإنه أعدل العادلين ): هذا القول يرمز إلى الله وهو خير الحاكمين.
( لا تتخذ الأحمق صديقاً فإنه يجرّك إلى المهالك ).
( ولا تتخذ البخيل شريكاً لك فإنه يفسد سلوكك ).
( لا تحمل السلاح وَلَسْتَ من أهله فإنه يخذلك عند المواجهة ).
( اِعْمُرْ سكناً لك في كلِّ قريةٍ ومدينةٍ في عموم البلاد ): هنا إشارة إلى اتّخاذ الأصدقاء الخلّص.
( البغل ليس له أمان لأنه ابن الزاني والزانية ): هنا يرمز إلى الحذر من اللقطاء.
( تموت الثيران الناشطة العاملة الحارثة المفلحة ويخلفهم الثور الأجرب والأعور): هذا المثل يرمز إلى موت الطيبين وبقاء السافلين الصاغرين.
( فلان لا يدرك مصيره ولا يحسُّ بخطئه عندما يبدأ السّكين بذبحه ): يضرب هذا المثل لمن لا يحسب حساباً لما يقدم عليه وحينذاك يدرك أنه أخطأ.. ولكن هيهات !! لا خلاص أنه مذبوح.
( العائلة الفلانية ليس لها سرب كالعصافير الطائرة ): يضرب هذا المثل للأمة المتخاصمة فيما بينها على المصالح الشخصية والنزوات الفردية الساقطة لا تجمعهم الكلمة الواحدة..!!!
(قول الزوج لزوجته وهي تعجن العجين لماذا تهزّين دبرك ): هذا القول يضرب لمن يختلق المبررات الباطلة ليعاقب خصمه.
( المكر حبل يلفُّ حول عنق صاحبه أولاً): هذا القول ينطبق على كلِّ مكّارٍ ومخادع.
( اتّقِ غضب الشّجاع إذا اسْتَهَنْتَ به ) لأنه لا يُبالي بحياته إذا اُستهنت كرامتهُ.
( ابحث عن صهرٍ لابنتكَ قبل شبابك ). ( عديم العقل يضحك لأتفه الأسباب ): يضرب هذا المثل للأغبياء.
( الشاة الأم لا تدوس على خروفها ): أي الأم تعطف على ولدها.
*****
ما ندعوه بالبداية كثيراً ما يكون هو النّهاية، والانتهاء هو الابتداء، والقاعدة هي السيرورة والديمومة... والشعراء الحقيقيون لا يموتون... وهم رسل الحق وأنبياء الكلمات.. كقول المعرّي:
ولمّا رأيت الجهل في النّاس فاشياً
تجاهلـت حتّى ظُنَّ بأنّـي جاهلُ
فواعجباً كمْ يدّعـي الفضل ناقص
وواسـفاً كمْ يظهر النّقص فاضلُ
ويقول أبو فراس الحمداني:
فليتكَ تحلو والحياة مريرة
وليتكَ ترضى والأنام غضابُ
ولله درُّ من قال:
أميلُ مع الصّديق على ابن أمي
وأقضي للصديق على الشّقيق
ويذمُّ الشّاعر الأخ الشّقيق كإخوة يوسف:
وكنتَ أخي بإخاء الزّمـانِ
فلمّا نبا صرتَ حرباً عوانا
وكنتُ أذمُّ إليـكَ الزّمـانَ
فأصبحتُ فيكَ أذمُّ الزّمانا
وكنـتُ أعدُّكَ للنائبـات
فها أنا أطلبُ منكَ الأمانا
ويقول أحمد بن أكثم الكوفي في قبول العذر من شيم الكرام:
إذا اعتذر الصّديق إليكَ يومـاً
من التقصيـر عذر أخٍ مقـرٍّ
فَصِنْهُ عن جفائكَ وارض عنه
فإنَّ الصّفـحَ شـيمة كلِّ حرٍّ
وجاء في رسالة الحقوق للسجّاد: وحقّ الأب أنْ تعلم أنهُ أصلك وأنّك فرعه وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أنَّ أباك أصل النّعمة عليك فيه...!!!
وطيّب الله ثرى الشّاعر حين قال:
ومن نكد الدّنيا على الحرِّ أنْ يرى
عـدواً ما مـن صداقتــه بُـدُّ
نظر الماضي إليَّ بعيونٍ ثعلبيّةٍ ماكرةٍ... ومن وراء حجاب قاتم وأعلن مثل طبلٍ قارعٍ فارغٍ يعلن ساحة الكرِّ والفرِّ...!!! وخاطبني قائلاً: جمجمتكَ مستسلمة للفناء... ودولاب التّعذيب أرجوحتك المريحة... والموت هدف الحياة، وتمجيد الله هو عزاءٌ لك... والشّجاع لا يكترث بسفاسف الأمور وتوافه الضّجيج كالأسد لا يهتم بنقيق الضّفادع...
ألم ترَ أنَّ الليث يحمي عرينه
ويفرّق من أنيابه كلّ ذي ناب
ويعرض إن نقت ضفادع غابةٍ
ولو ملأت أصواتها أفق الغابة
والزّمن لاعب لعبة الأمم يرنو إليك ككيان حيّ لا كجثّة محنّطة... مُتْ أيّها القابض على القلم لقد فات الأوان وولى عهد طائر الفينيق الذي ينهض من رماد المحارق والمجامر... ولا يصلح العطّار ما أفسده الدّهر... وأعداء المرء أهل بيته... ولا كرامة لنبيّ في وطنه... وامنح ما لله لله وما لقيصر لقيصر...
كنْ أيّها المخدوع كالراعي الذي كان يرعى أغنامه حين سمع صوت آذان فسأل هل هذا الصّوت يصعق أغنامي ؟ فقيل له: لا ضرر. فقال: لا بأس... وتابع قولاً: لا تكن كالضحية والجلاّد... ثمّ التزم الماضي الصّمت... وغاب عن الأنظار واختفى بين دخانٍ كثيفٍ وسُحُبٍ سديميّةٍ رماديّة...!!!
في ظلال بداية الألفيّة الثّالثة برزتْ ظواهر غريبة أشدّ بؤساً وخذلاناً في مجتمعنا السّوري من هذه الأمراض المزمنة الجشع والاستغلال والعُجب وحبّ الذّات والنّفاق وأكل أموال الآخرين بالباطل وتسييس القيم والمثل العليا والمناداة بالشعارات البرّاقة وراء جمع المال وتضخيم الجيوب على حساب المخلصين والشّرفاء... وظهر في الساحة السّورية مراكز القوى... من التجار ورجال الأعمال وأنماط من مؤسسات الدّولة... وخلف يافطة الشّعارات الخلّبيّة أجمعوا حولهم أصحاب النّفوس الصّغار الذين يعيشون على فتات أسيادهم... فهؤلاء الرّعاديد هم عبيد لمن يقدّم لهم مالاً كعصفٍ مأكول وأثناء زيارتي لأصدقائي منهم من كان يوماً من طلابي في نقابة المحامين وقصر العدل كنتُ أشعر بألمٍ وحزنٍ دفين أسمع لأحاديثهم فأرى فيهم النّرجسية وتورّم الذّات والكذب المكشوف الملهي الممتع ويضحكون ويضحك الكورس معهم مع أنَّ حديثهم لا يثير الضّحك بل يبكي القلب... وحينما أزور بلدي أشاهد الأعلام ترفرف والصّور الغريبة المفتونة الفارغة المثيرة للدهشة واللافتات الملتهبة التي تنذر بعاصفةٍ هوجاء وإعصارٍ مدمّرٍ... فتحتُ فهرس تاريخنا السّوري تذكّرتُ هنانو ويوسف العظمة والزركلي ومحمد كرد علي وحسني الزّعيم وشيشكلي ومحمد علي العابد عام 1936م وفوزي سلو ومحمود الأيوبي وغيرهم... هؤلاء أسهموا في بناء هذا الوطن لم يضلّوا ولم ينحرفوا في خدمة بلدهم سوريا... فمن شيم المجتمع المتخلّف يتشبّث بالسلبيات ولا يذكر الحسنات، فميزانه له كفٌّ واحدٌ يزن السّيئات ويصدر قراره وعقابه بناءً على الكفة الراجحة...
أما المجتمع المتنوّر ميزانه يزن الحسنات والسيئات ويصدر أحكامه... ويحاول التمسّك بعنصر الخير ليقوّض أركان الشرّ... كنّا في العقد الأول من بداية القرن الحادي والعشرين في أمنٍ وسلام.. وحياة اعتيادية كلّ طبقات مجتمعاتنا في عيشٍ مقبول... وتحسدنا دول الجوار من رخص الأسعار وتوفير مستلزمات العيش... إنّ الأسرة الواحدة تهوي إلى الحضيض إذا خرج منها ولدٌ عاقٌّ شقيٌّ وتدفع الأسرة ثمناً باهظاً لجنايات ذلك الشقيّ الأهوج... وكذلك مجتمعنا السوري من الشرفاء والوطنيين قدّموا فاتورة هؤلاء الضالين ... الغاوين... كانت سوريا بلد اللاجئين والمشردين والجائعين واليوم أصبحنا يتامى العالم... أصبحنا أذلاء صاغرين ينظرون إلينا بازدراء واستهزاء...
المجتمع الصالح المتنور عندما يتعرض للنكبات يراجع نفسه... يزيل الخطايا... ويقدم حكماءها وذوي الأيدي النّظيفة، والسيرة الحسنة إلى المقدّمة... ويبدأ بالإصلاح معنوياً ومادياً... ودفن الماضي بكلّ موبقاته وسلبياته...!!! وأنهي مقالي هذا بهذه الهزلية المفضوحة: يروى أنّ إبليس بكى يوماً فسأله أحفادهُ: لماذا البكاء يا جدّي ؟
فأجاب: أُعلّم تلاميذي على المكر والخديعة لتشييد قصورهم ويكتبون على جبهتها ( هذا من فضل ربّي ) فيذهب فضلي هباءً منثورا...!!!
*****
عرّف الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسة تعاريف شتّى وآخرها إنها فن الممكن. وأنا أعرّفها منذ أن وعيت ذاتي ومنذ صحوتي الأولى في أواسط الستينات من القرن الماضي وخلال مراقبتي للأحداث العالمية والتغيرات التي طرأت على عالمنا هذا، وحصيلة دراساتي واطلاعاتي وتجاربي الحياتية الغنية بالآيات والعبر... فالسياسة هي صراع العقول.
يقول دنكان بل: لا أحد يحبّ أي واقعي في السياسة. ثمّة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ سوفوكليس تعمّد جعل قصّة أوديب محاكاة لأثينا بريكليس، ومع أوديب براعة أثينا الفائقة من الناحية الفكرية صارت تهوّراً، وتصميمها غدا طيشاً، وشعورها بالسيادة أصبح تعصّباً وتطرفاً... كان سقوط أوديب ينذر بسقوط أثينا، وللأسباب ذاتها أمريكا عليها أن تحسن صنعاً إذا ما عكفت على معاينة المدى الذي لا يمكن للسياسات الخارجية الأحادية الفوضوية التي دأبت على اتباعها منذ انتهاء الحرب الباردة أن توصلها هبوطاً على طريق أوديب وأثينا الانحدارية... فسياستها الخارجية الأحادية المصحوبة غالباً بخطابات عدوانية أدّت إلى إحداث فجوة وهوّة سحيقة بينها وبين أسرة الأمم الديمقراطية التي سبق لها أن مكّنتها من ترجمة قوتها التكنولوجية إلى نفوذ بطرق مقتدرة قوية... وما إن تصبح واشنطن خارج هذه الأسرة مجرّدة من هويّتها حتى تغدو متزايدة الاضطرار لاستخدام التهديدات والمال من أجل بلوغ مآربها مثل أثينا وأوديب... قد تصبح الأهداف التي تلتمسها قصيرة النّظر... فإنَّ ذلك سيكون برهاناً تراجيدياً لحماقاتها المتغطرسة واستكبارها في العالم الكوكبي... فالصداقة وقوة الاقناع ذانك برهانان للمسار الصّحيح يجلبان الألفة والانسجام والرّوح الجماعية، والجماعة بدورها تمكن وتعزّز الهويات التي تسمح بالصوغ العقلاني للمصالح في الملاذ الأخير، فالعدالة والسلطة " القوة " هما تتبادلان التأسيس المتين... ما هو مطلوب للإمساك بزمام السياسة الدولية لا يتمثل العقلانية بالمهندس بل بحكمة رجل الدولة...
كان الإغريق يؤمنون بأنّ الناس لا يكتبون هويات بشرية إلا عبر عضوية الجماعة الإنسانية فممارسات الجماعات الإنسانية وطقوسها هي التي تضفي على الأفراد قيمهم وتؤدي على أعمق المستويات بوظيفة معرفية جوهرية ويميزوا أنفسهم عن الآخرين تثقيفاً وأكثر تهذيباً عقلانياً ودون العضوية مع الأمم والجماعات الإنسانية لم يكونوا قادرين على هذا لافتقارهم إلى مرجعية وموسوعية... تلك كانت مشكلة أوديب بسبب أصله المجهول لم يكن يعرف من يكون أو المكان الذي يتقدم نحوه... ومحاولته الرامية إلى اجتراح هوية منفصلة مستقلة وتدعيمها عن طريق العدوان... كانت محكومة بالإخفاق.
الأحداث في عام 2018م إنها وميض تنين جديد في القضية الكوكبية في أخطر مهماتها الراهنة... في الايستمولوجيا المعرفية والسياسية التي ترجمها بسمارك وبرأي كثير من منظّري السياسة تشكل الواقعية الأخلاقية...
أما اللاواقعية السياسية لها أتباع في كواليس السلطة... كسنجر الذي امتطى الجوادين أحدهما جواد أفلاطون وثانيهما جواد طائش... السياسة الواقعية بالارتباط مع النظرية السياسية الجذرية والراديكالية والليبرالية تتمثّل في قوى عظمى قائمة على الريبة أكثر بدائية في عمليات جيوناسيد إبادة الجنس البشري في راوندا والصراعات الاثنية في المشرق عامة وفي الصّومال وتيمور الشرقية ويوغسلافيا سابقاً وغيرها ومع بزوغ الألفية الجديدة جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول وما أعقبها من حروب في أفغانستان والعراق من أهوال العنف السياسي الناجمة عن رأسمالية ليبرالية جديدة أماطت اللثام عن الوجه المظلم للعولمة، وفي الوقت نفسه نجح العداء الواقعي المطّرد للحرب ضد بلدان الشرق الأوسط... فالتركيب الاجتماعي القائم على التسلّط وحتى اليوم لم نتخلّص منه من شيخ القبيلة أولاً وإلى الإقطاعي وإلى رجل الدين والحاكم المستبد...
السياسة هي أعلى القمم في هيكل المجتمعات البشرية السياسة الواقعية ولاسيما مبدأ انتصار القوة على الحقّ.. والسلطة على العدالة.. بقي توسيديس مصرّاً على ضرورة مزاوجة القوة مع الأخلاق ولا تغريب إحداهما عن الأخرى غربة... كتابات اسخيلوس وسوفوكليس وأفلاطون تنطوي على نوع من الاعتراف بالأسس الاجتماعية للسلطة كما على نوع من الوصف المتقن للشروط الضرورية من أجل تأمين العدالة وتوفر سبيلاً أكثر إقناعاً لفهم العلاقة بين الذات الفردية والجماعة... كتب مورغنتاو ذات مرة وقال: إنّ الأمم تلتقي تحت سماء قد غادرها الآلهة.
كان الهدف انتهاء الأوهام وهذا ثمّة خطر احتمال انزلاق الواقعية السياسية وسقوطها في مستنقع القذرية الباعثة على الشلل والنزعة التشاؤمية وصولاً إلى قوانين الفوضى الخلاّقة. مورغنتاو كان عقعقاً ثقافياً، وانخراطه في العشرينات من القرن السالف في الدوائر السياسية لم يفقد شفرته النقدية إلا بعد انتقاله إلى أمريكا، ولعلّ انشغاله بالوسواس السياسي المخنّس بالقيادة ذلك برأي توريز علامة فارقة لواقعيته السياسية المرتجلة.. كتب مورغنتاو عام 1948م إن تقسيم الحالي للعالم السياسي إلى دول قومية سيجري إبداله بوحدات ذات طابع مختلف تماماً وتطوير الأسلحة الحديثة النووية إلى إضفاء التفكير الواقعي الكلاسيكي في اللاهوت السياسي... وحشدٌ كبير تصدّوا للعواقب السياسية لهذه التكنولوجيا المدمّرة والراديكالية الجديدة والعولمة وُلدت من رحمها... أصبحت حتمية وضرورية...
في كتاب مورغنتاو الإنسان العلمي في مواجهة سياسة القوة يدحض النظريات الكوزموبولوتية أي النظريات الأممية أو نظريات السياسة الأممية إنها لا تستطيع استيعاب التناقضات العالمية ويردّ عليها يجب إضفاء الصفة التعددية على الهيمنة والاستبداد... إنَّ دور المثقف السياسي متمثل برفع راية روح النقد التقويمي الدائم الصائب في الواقعية الليبرالية والموازنة السياسية اللوكية نسبة إلى الفيلسوف البريطاني لوك وفوق أسس وقواعد هوبزية نسبة إلى الفيلسوف البريطاني توماس هوبز وذلك في مواجهة أخطار الحياة السياسية غير القابلة للاستئصال تدرج على أوتار ليبرالية الخوف وعلى فضح غليان الأنانية والنفاق والحماقات المشلولة في السياسة الداخلية والخارجية إنه سلوك ديماغوجي قائم على الريبة والشكّ واغتيال العقل حول مدى العقل المغدور والسعي الدؤوب الذي لا يعرف معنى الرحمة لامتلاك القوة والسلطة...!!! والسؤال المفتاحي هو إيجاد رؤى سياسية متماسكة ومقنعة في ظلّ الموارد الفكرية المتوافرة من أجل تحسين المحاولات ابتغاءً لتأمين سعادة الأمن البشري...
في منظوري القريب والبعيد أمريكا على مفترق الطرق الديمقراطية... ديمقراطية التقنية المذهلة المروّعة... والتركة الموروثة العفنة والمحافظون الجدد والصقور الطاغية... كل ذلك ينذر بكارثة إنسانية ماحقة قد تحلّ بصنّاع القرار أنفسهم...
ولد الإنسان شغوفاً بالسلطة غير أنّ وضعه الفعلي يجعله عبداً للسلطة... وتحققت نبوءة تشرشل حين قال: أمامنا خطران... خطر الإسلام الحقيقي وخطر البلشفي العادل، يمكن تحويل الإسلام الحقيقي إلى إسلام إرهابي، والبلشفي إلى دكتاتورية الحزب الأوحد وذلك بدعم وتنصيب المستبدين وخلق بؤر متوترة بين المذاهب والاثنيات ودعم كليهما معاً وخلق الفوضى العارمة ليبيدوا بعضهم بعضاً...!!! وأنهي مقالي للأمير الشيخ حسن مكزون السنجاري:
موصوفة لا يراها بالأنام بها وقد تفرّدت بين الخلائق بي
وغبت عنها بها من شدة الطرب
****
الشرّ هو القاعدة، والخير استثناء... وغريزة البقاء هي التي تسيطر على العقل... علينا أن ننبذ الافتراضات الموهومة المزعومة بالوسواس الخنّاس... أولئك الأوغاد الذين يركبون الموجة الغوغائية الشعبوية الجاهلة منطلقين من فلسفاتهم الدوغماتية من اللاهوتية السياسية مستندين إلى بوتوبيا تفاؤلية زائفة حالمين بقلوبهم السقيمة بأحلام النسور بعيداً كلّ البعد عن الأفق الليبرالي الحليم المعتدل... والقراءات النخبوية المغروسة بسنديانة الروح... الشخصيات الاحتيالية هي التي تنفث بسمومها في أدغال القلوب... وقلائل هم الذين يعرفون النهايات المروّعة والنكبات الفظيعة...!!!
أخاطب الروح الإنسانية عبر كلماتي المغسولة بماء الطهر والنقاء عصيّاً عن خائنة الأعين وما تخفي الصدور... فمن الضروري والواجب الوطني والإنساني أن يُطهّر كلماتنا وعقولنا وقلوبنا من الضغائن والأحقاد لولادة كلمات جديدة بريئة عذراء... نزرع وردة النيلوفر بنبع الرحمة والتسامح والغفران أن نبتسم لإشراق الصباح ونعانق شروق الشمس الحزين مودّعين ترانيم أرواحنا تصدح على أبواب الرّجاء والأمل...
علينا أن نقذف العاطفة العمياء إلى هاويةٍ سحيقةٍ لأنها كانت المعول الهدّام في تقويض أعمدة عزّتنا وكرامتنا فهي التي أودت بنا إلى أودية عميقة من الإذلال والانكسار والفضائح العارية الشحطاء... ندفع ثمنها دماءً غالياً وأنفساً عزيزةً غاليةً وخراباً هاوياً في مهاوي الاندثار والاضمحلال...
حجر الرحى يطحن طحناً كلّ الغلال بدءاً من القمح وانتهاءً بالأشواك... وهكذا قادتنا العاطفة الحمقاء إلى جبل الأحزان فتمخّض فأنجب فئراناً ملوثين بداء الخبث والرّياء، لكلّ واحدٍ منّا له سهمه في هذه النّكبات، ولكن على مستويات ودرجات متفاوتة... ألم نتّعظ بعد هذه الزلازل التي زلزلت وطننا روحاً وجسداً ؟؟؟ فلنعدْ إلى صوت العقل هو خليفة الله في أرضه... دعوا خطابات الأوثان البشرية وآلهة الأرض واركنوا إلى طهر النفس وإزالة الثارات والنّقم والتباغض والأحقاد، وارفعوا رايات المحبة والإخاء والعدل والرّخاء...
أستفتح مقالي هذا بقول الشاعر قطري بن الفجاءة:
وما للمرء في حياة إذا ما عدّ من سقط المتاع
حديثي هذا ذو شؤونٍ وذو شجونٍ مرير.. كَوني أكتبُ لفضح الظّلم في كلّ مكان.. وألتزم الحياد ولستُ منحازاً لأحدٍ من الاثنيات والطوائف والمذاهب مبتغياً يقظة الشرق واستنهاضه واسترداد سيادته وكرامته.. إنّ العدو الأكبر للشرق هو التّعصّب المذهبي والطائفي والاثني والخرافات العمياء والعادات والتّقاليد العفنة والشقاء الكبير الذي يمسك بتلابيب الشعوب الشرقية.. لا يقاس غنى المجتمع بما يملك ويكنز من كنوز، بل بما يملك من فكرٍ نيّرٍ، وعقلٍ حصيفٍ طليق.. يقول الفيلسوف كانط: من ليس مثقفاً فهو بهيمة، ومن ليس مؤدّباً فهو متوحّش..
إنّ الهرم والزّهايمر قد دبَّ في جسد الثقافة الأوروبية، والمجتمع الأوروبي قد انقلب إلى كائن مادّي صرف فقد ضلَّ زمرّد الإبداع والحضارة الإنسانيّة.. التغوّل الغربي الأوروبي المؤمن بالهيمنة والاستكبار في الأرض بأسماء فضفاضة لامعة.. العولمة تارة، والديمقراطيّة تارةً أخرى.. الأسئلة الحارقة تطرح نفسها بحسراتٍ وزفراتٍ أليمةٍ.. السّعادة البشريّة مفقودة ما دام الظّلم الغربي والأوروبي يُطال المجتمعات البشريّة.. الكتّاب الحقيقيون يبتغون تغيير العالم نحو الأفضل.. فالكتّاب ليسوا حرّاس القيم والتّجدد والتّألّق فحسب.. فأهميّة الثقافة تتجلّى في امتدادها العالمي لأنها ثروة إنسانيّة مشتركة بين الشعوب عامّةً.. الغرب الأوروبي مارس سياسة التخلّف والجهل والعبوديّة.. واستعمر الشعوب وكبّلها بأغلال الكبت والإرهاب والحرب والدّمار.. الكاتب الحقيقي صاحب موقف.. هذا هو جان بول ساوتر يطلب من فرنسا الاعتذار من الشعب الجزائري.. وطالب باستقلال الجزائر والاعتراف بثورة شعبها..
الغرب الأوروبي بقوة التّقنية الهائلة يغزو الفضاء الخارجي بمراكب فضائية إلى المريخ لفحص تشكيلات الصخور هناك بينما في الوقت نفسه تموت الشعوب جوعاً في الكوكب الأرضي.. إنني آمل ألا يكونوا قادرين لاستعمار الفضاء الخارجي لأنّ الفيروس البشري لا يحمل نوايا صالحة لخدمة الإنسانية لقد رفض سقراط الديمقراطيّة وصندوق الاقتراع في المجتمع العبوديّ لأنه عاجز أن ينتخب الحكماء يأتي بالسّفهاء والمارقين.. فالمجتمع العبودي لدى سقراط لا يميّز بين الصالحين والطّالحين..
إنّ المشروع الحضاري الذي أطرحه للشرق جسداً وروحاً عن صيغ جديدة لبناء المجتمعات والدّولة النّموذجيّة المتحضّرة.. هناك ثلاثة عناصر لبناء النّهضة الشّرقيّة وإعمارها.. الإنسان أولاً والخيرات ثانياً والزمن ثالثاً.. إنّ أيّة حضارة تبدأ بالإنسان العاقل المفكّر الحكيم المجرّب...
صاحب الفكر النيّر والعقل الفاعل الحاكم العادل فبه يبدأ النهوض الحضاري الذي يملأ الكون بهجةً وحبوراً.. أما المادة فمهما كان مقدارها وقيمتها تبقى مجرّد كم متراكم متكدّس لا يمكن أن يثمر الحضارة إلا بالاستعمال العلمي الصّحيح من قبل الإنسان العلمي النّخبوي المتميّز.. ففي القرن التاسع عشر كانت الدّول تقاس بما تملك من مصانع وأساطيل وأسلحة وذهب وفضّة.. غير أنَّ في القرن العشرين شهد تحوّلاً نوعياً في مضمار القوة ولم يعد المعيار يساوي شيئاً ما لم يقترن برصيد الفكر الخلاّق المُبدع..
أما الوقت أو الزمن هو العنصر والركن الثّابت في يقظة الشرق ونهوضه.. فالزّمن هو نهرٌ يتدفق من نبع الأزل مروراً بالشعاب والممالك ليستغلّه الإنسان للحفاظ على بقائه وارتقائه نحو الخصب والخير والعطاء..
فالزمن غنيٌّ بالحيوية والإنجاب إن استطعنا التعامل معه بذكاءٍ ونشاطٍ واستثمرناه لصالحنا.. فهو يتدفّق على سواء في أرض الأمم والشعوب.. فهو ثروة ضخمة إذا تعاملنا معه بإرادة وخبرة ذكيّة وإن أهملناه تحوّل صفراً أو عدماً.. الفكر العملاق يوجّه المجتمعات بثلاث نواحي بالتوجيه الثقافي أولاً لأنّ الثقافة ملكٌ للإنسانية جمعاء.. وتوجيه العمل ثانياً.. العمل الذي يشيد ويعمّر ويبني وتوجيه المال بقوانين الاقتصاد نحو الخصب والرّخاء والنعيم، ففكرة التوجيه تشمل قوة في الأساس وانسجاماً في السيرورة التاريخية والنّشأة الحضارية.. ووحدةً في الغاية والهدف.. وتقنين الإسراف والتّبذير في الجهد والكدح والاستفادة من الزّمن الذي لا يتوقّف لحظةً، فالثقافة تحتلّ مركزاً أساسيّاً وعنصراً قيادياً في البناء الحضاري ومواجهة التخلّف بأزماته الكليّة المتقهقرة إلى الخلف والانحطاط.. والعناصر الأساسية للثقافة.. الدّستور الأخلاقي والذّوق الجمالي، والمنطق العملي وعلوم التّقانة..فالجماليات تكتسي أهمية اجتماعية.. والأخلاق تعتبر رديفاً لعمليات تكوين الرّوابط بين الأفراد في المجتمعات طُراً.. ولا ينفصل البتة الدستور الخلقي عن الذّوق الجمالي. والإطار الحضاري بكلّ عناصره ومحتوياته متداخل ومتكامل بذوق الجمال.. بل إنّ الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة وعلينا أن نبصر ما في نفوسنا.. وأن تنعكس مرآة الجمال في داخل بيوتنا وأن تتمثل في شوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا.. وتقاس درجة رقي الأمم والدّول المعاصرة وتقدّمها وأخلاقها بمستوى ونوعية الجماليات وانحطاط الأخلاق يتزامن بانحطاط الذّوق الجمالي في المجتمعات كافّة.. إننا نرى اللافاعليّة والإهمال واللامبالاة في مخاطر حياتنا اليومية.. إذ نهدر طاقاتنا الجمالية والأخلاقيّة في العبث والمحاولات الهازلة الخاسرة سواء في السياسة والاقتصاد والثقافة.. فسياساتنا تجهل وسائلها وثقافتنا لا تعرف مُثلها العليا.. ومواردنا تجهل قضايا التنمية وأسس الدّولة المعاصرة والمجتمع المدني الحديث.. النّخبة المفكّرة تخاطب الأمة بلغة قلوبهم وانفتاح عقولهم.. لا تقدم مشروعاً نهضوياً كمسلّمات يؤمن بها القلب تحت عمىً عقليّ بل حقائق يتشرّبها القلب ويمتلئ بها وعاءً صافياً صرفاً تحت إشرافٍ عقليٍّ منير علينا أن نخاطب الأمم والمجتمعات الشرقيّة بعقلٍ صريحٍ نجمع بين دراسة الماديّات والتّعمّق في دراسة الرّوح الإنسانيّة ونمزج بين العقل والقلب معاً في مزاج فريد متميّز.. إنّ الطبيعة تبدع النّوع.. والتّاريخ يصنع المجتمع.. وهدف الطبيعة هو مجرّد المحافظة على البقاء والسيرورة وفي الوقت نفسه غاية التاريخ وهدفه السير بركب التقدّم نحو شكل من أشكال الحياة السعيدة الراقية.. وترتبط فكرة المجتمع بوضع متحرّك ذي وسائل وعناصر ثلاثة حركة مستمرة وانتاج دائم لأسبابها وغايتها المُثلى.. صناعة التاريخ تتم تبعاً لثلاثة عوالم.. تأثير عالم الأشخاص وعالم الفكر وعالم المادّة.. كلّ هذه العوالم تجتمع وتتوافق في عالم مشترك تأتي صورته طبقاً لنماذج أيديولوجية من عالم الفكر يتمّ تنفيذها بعالم الأشياء أو الماديّات.. من خلال غاية يبتغيها الأشخاص ( الكاريزما ). فالمجتمع والجماعة الإنسانية تتطور ابتداءً من نهوضه ويتعثّر المجتمع بعوائق ثلاثة: عدم تشخيص غاية النهضة.. عدم تحديد المشكلات الاجتماعية تحديداً خبيراً بصيرا.. وعدم تحديد الوسائل..!!! إنّ سبب انحطاط المجتمع أو الدول لا يعود إلى الأعداء.. بل إلى الأرضية الخصبة من الشتات والتّفرّق والتّشرذم إلى القابليّة التي تصرخ وتستغيث وتنادي الأعداء باحتلالها.. إنّ المكر والخداع والشراسة من نصيب المستعمرين.. وأنّ السفالة والخيانة والدّناءة من نصيب القابليّة للسيطرة الاستعمارية.. يجب أن توافق النظريّة الاقتصادية مع النظرية السياسية ومع الظّروف الاجتماعية ومراعاة الخصوصية الحضارية والبيئة الثقافية المحددة لكلّ أمة.. فالتجربة في إندونيسيا فشلت.. إنّ إهمال أو تجاهل قضية الإنسان البيئي الجغرافي هي من الأمور التي أفقدت هذه التجربة لأنّ الدكتور( شاخت ) ألماني، فالدّولة غير الدولة والشعب غير الشعب والبيئة غير البيئة.. فالتجربة الاقتصادية يجب أن تنطلق من الإنسان الإندونيسي نفسه فلا يكفي استيراد التّجارب الاقتصادية والنظريات الغربية.. واقعنا السّوداوي يملك قابلية للأيدي الخارجية الرّجيمة.. الفكر الحكيم يصنع من الأوثان أبطالاً ومن الأمم والشعوب سادةً أحراراً.. فالحضارة المستديمة تستمدّ شروقها من رجال الفكر ومن كنوز التربة الغنية.. ومن الزّمن السّرمدي الذي يسيّرُ قادة الفكر.. والأرض الغنية بعناصرها وموادّها نحو المشروع النّهضوي ليقظة الشّرق من سباته الطّويل... وختاماً: مبارزتنا الكتابيّة من دون فائدة ما لم تتحوّل إلى ممارسة عمليّة في واقعنا المنكوب.
أعجبني قول روزفلت حين قال: " تكلّم برفقٍ، واحمل عصا غليظة ". تأويل القول: كن حليماً ودبلوماسياً ناجحاً رصيناً حصيفاً.. وكن قويّاً في مواقع القوة.. ويقول بوشكين: العبقرية والشرُّ لا يجتمعان.. وإنَّ من يخدم الأشرار فهو أدنى دركاً منهم، والتّعصّبُ هو هرطقةٌ ساقطةٌ واعتقادٌ باطلٌ لأنهُ يُعادي الحقيقة ويعتبر غيره على باطل مهما أوتي الآخر من المحجّة البيضاء، والبراهين الدّامغة..
خُلقتْ الغريزةُ لحفظ البقاء البيولوجي وفُطرَ الضّمير الإنساني لتحقيق العدل الإنساني والارتقاء القِيَمي... والحياة تتدحرج بين المتناقضات... وتتزحزح بين السلبي والإيجابي بين الحقّ المشفوع بالقوة والشرّ الذي يتلظّى دخاناً أسوداً...
إنَّ اعتماد العقل على القيم التي يصنعها ينتج سلوكاً عقلياً أخلاقياً، واعتماد العقل على الدوافع ينتج سلوكاً عقلانياً ولكنه غير أخلاقي...
السلوك العقلي القويم هو الالتزام بالقيم... وذلك لأنّ العقل هبة الله... فالكون قائمٌ على التّوازن والتنسيق المحكم بدءاً من الكواكب والمجرّات الهائلة.. وانتهاءً بالكائنات... والإنسان عيّنةٌ أو نقطةٌ في دائرة الكون المركزي... فكل خلل في جسم الإنسان يؤدي إلى فقدان توازنه... فكلّ خليّة في جسمه يؤدي مهمتها بإتقانٍ دقيقٍ...
فولتير في القرن الثامن عشر عندما قال: " لو لم يكن الله موجوداً لاضطررنا لاختراعه ". إذ أنَّ فكرة الإله ذات حيوية فائقة من أجل الحفاظ على القانون والانضباط في قوانين استمرار الحياة البشرية... والحفاظ على الارتقاء نحو حياة سعيدة مطمئنّة...
يُروى أنّ تشرشل سُئلَ عن توقعاته إبّان الحرب العالمية الثانية فقال: لن نُهزم ما دامت العدالة قائمة في بلادنا. قال هذا القول في الوقت الذي كان فيه الألمان في زهوة انتصاراتهم، وطائراتهم المحلقة في سماء لندن تدكُّ بلادهم دكّاً شديداً.. إنّ الصديق الحميم الذي لا يفارق صاحبه بعد الموت هو العدل والإخاء والمحبة... وكلّ شيءٍ سواه يفنى بفناء الجسد... هذا عمر الفاروق بوحيٍ من ضميره الحيّ وإيمانه القوي يقول: " لو ضاعتْ شاةٌ على شاطئ الفرات لكان عمر مسؤولاً عنها ". فالعدل أساس الملك وعماد الأخلاق، ودليل رقي الأمم.. وغيابه وفقدانه يعني انتشار المفاسد من:/ رشوة، وسرقة، ومحسوبية، وتباغض، واعتداء على الأعراض وقتل الأبرياء، ونهب الممتلكات، والعودة بالأمة والوطن إلى غابات موحشة قاتلة/... وتحقيق العدل ينطلق من الخلية الأولى في الهرم الاجتماعي للأمة ذلكم وهو المؤشّر الأول في بناء المجتمعات نحو الإعمار والبناء، فمن خلال أسفاري في ربوع وطننا العزيز ألتزم الصّمت وأسمع حكايات المسافرين ألاحظ نماذج شتّى من التناقضات... نساءٌ بأيديهنَّ الهاتف المحمول... يتحدّثن عن الموائد والمال والملذّات ومدح الذّات وكشف عيوب الآخرين... والغيبة والنميمة والأكاذيب المزخرفة... والإسراف في الحديث الخاوي من كلّ المعايير الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية... وألاحظ في النّوع الآخر مصلحته الشخصيّة ولا يستيقظ ضميره في نكبات الآخرين... ويعتبر كلّ واحد منهم سياسياً بارعاً يدافع بفهلويته عن مصالحه الشخصية ومريديه من أتباعه... يقدم نفسه السياسي الذي لا يشقّ له غبار بأنه حامي الديار... ومن خلال اجتماعي مع الكتّاب المخضرمين والمعاصرين أجد لفيفاً منهم كان بالأمس غائباً واليوم حاضراً يميل ما مال الميزان، وفئةٌ أخرى جُفّت قريحتها تعيش في عوالم الخيال الدونكيشوتي متجاوزاً ظروف الزمان والمكان تحيا في عوالم مجهولة... ونخبة تالية تكتب وتنشر في الصّحف المحليّة والخارجيّة يملي عليها واجبها أن يكتب قول الحق إن نشر أو لم ينشر عسى أن تكون كلماته نبراساً للتائهين... وجماعة أخرى تنفخ في ذاتها وتضخم نرجسيتها بأنها هي المعصومة عن الأخطاء وأنها هبطت من ملكوت آخر بأنها الأجدر في قيادة راية الثقافة... وفئاتٌ أخرى ترى نفسها بأنها المخلصة والمتفانية لأمتها ووطنها غير أنها تنظر بمنظار قريب وليس ببعيد تُؤثِر مغانمها على الآخرين...
إنّ الكنز الثّمين والجوهر المشع اللؤلؤي الذي فقدناه خلال تاريخنا الطويل هو الثقافة، والثقافة تعني أولاً إيثار الهوية الوطنية ومحبة السوري للسوري ومحبة الإنسانية فوق الاعتبارات الأخرى ذلكم الوعي الوطني الإنساني الناهض وترسيخ الصّدق الوطني في الصّدور والثقة بالنفس وبالآخرين ونبذ وجوه الحرباء واستئصالها من جذورها في قعر الأفئدة... إنّ سعادة الفرد جزءٌ من المجموع الكلي لا يمكن للفرد مهما أوتي من علم ومال أن يكون سعيداً إذا كانت الأمة في بؤس وشقاء.. وراقني ما قال أحد الشعراء في وصف الواقع الذي نعيش أشباحه فيقول:
ما كان في ماضي الزمان محرّماً
صاغوا نعوت فضائلهم لعيوبهم
فالفتك فنٌّ والخداعُ سياسةٌ
والعريُ ظرفٌ والفسادُ تمدّنٌ
للناس في هذا الزمان مُباحُ
فتعذّر التمييز والإصلاحُ
وغنى اللصوص براعةٌ ونجاحُ
والكذبُ لطفٌ والرّياءُ صلاحُ
إنّ إصلاح واقعنا مرهونٌ بسلوكنا إذا التزمنا العدل والتّسامح واحترام الملل والنحل من المذاهب والاثنيات. سُئلَ أحد الفلاسفة السؤال التالي: تقولون بأنّ الله قد خلق آدم على مثال صورته، فهل أنت في الله أم الله فيك ؟ فأجاب العالم قائلاً: هذا السؤال باطل الأباطيل أحدهما يؤدي إلى الشرك، وثانيهما يفضي إلى الاتحاد والحلولية... وتابع قائلاً: هل معك مرآة ؟ فانظر في تلك المرآة... ألا ترى صورتك ؟؟!! فقل لي: هل أنت في المرآة، أم المرآة فيك، فذلك مَثَلُ الله في آدم وصلته بعباده، فليس كمثله شيء، لا يحلّ في شيء، ولا يقارن به شيءٌ، فهو الخالق البارئ المصوّر فتبارك الله أحسن الخالقين...!!! فأخذ السائل يهرطق وذكّرتني أسفاري الشّاقة في هذا الواقع الشّائك بقول الإمام علي: مالي أرى رؤوس الفحول طوامح. حينما مرّت امرأةٌ ذات روعةٍ وجمالٍ أمام معسكره ثمَّ نطق شعراً فقال:
لَنَقلُ الصَخرِ مِن قُلَلِ الجِبالِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن مِنَنِ الرِجالِ
يَقولُ الناسُ لي في الكَسبِ عارٌ
فَقُلتُ العار في ذُلِّ السُؤالِ
بَلَوتُ الناسَ قِرناً بَعد قَرنٍ
وَلَم أَرَ مِثلَ مُحتالٍ بِمالِ
وَذُقتُ مَرارَةَ الأَشياءِ طُرّاً
فَما طَعمٌ أَمَرَّ مِنَ السُؤالِ
وَلَم أَرَ في الخُطوبِ أَشَدُّ هَولاً
وَأَصعَبُ مِن مَقالاتِ الرِجالِ
العظماء يتركون بصمات ناصعة على مسيرة الإنسانية المعذّبة، ويصبحون منارات تهتدي بهم الأجيال... أمّا الإمَّعات إلى مزابل التاريخ ليتجرّعوا اللعنات... أصحاب العقول المضيئة والنفوس الطاهرة يطلبون العدل والإخاء... فالعدالة هي أمّ الفضائل والصدق أبوها... والظّلمات هي أم الرّذائل والكذب أبوها...
أنا لا أحصر اللوم في أولئك النّماذج من الكتاتيب الذين لامستُ واقعهم والمنظّرين والمفكّرين والأدباء والشّعراء المزيّفين الخلّبيين بل اللوم الأكبر في الحاضنة التي توافقهم قولاً زوراً وعملاً مأجوراً تقبل التزوير والتزييف وغالباً عن دراية أو عن غير دراية والمصيبة حينها أمرّ وأكثر استفحالاً... وفي الوقت ذاته تعيق كلّ فكر أصيل وتحاول خنقه بطغيان الرّياء والنّفاق المستشري في مجتمعنا...!!!
ذلك الاحتضان البخس الذّليل الذي يعتلي صدارة الواقع حتى هذه اللحظة... إنّ الرّكض وراء المال بغير حقّ والسّعي نحو الشّهرة الزّائفة وتلوين الوجوه بالمكر والخديعة لابتغاء المال والمناصب... ذلك سرابٌ كاذبٌ... ومحصّلةٌ خاطئةٌ ومخزية...!!! العاقل الحكيم يفضّل رخاء أمنه وسعادتها وحلاوة وطنه على إنجازاته الشخصيّة...
فالله درُّ من قال:
لا تعجلن ّ فليس الرزق في العَجَـل ِ .... الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل ِ
فلو صبرنا ، لـكان الـرزق يـطلـبـنا .... لكنه خــلـق الإنـسـان مـن عـجـــل
ويقول الإمام علي: لو ركبت الريح هرباً من رزقكَ لركب رزقك البرق وجاء إليك... وقال أحد الشعراء:
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه
يزيد الفتى في الناس جودة عقله
فقد كَمُلتْ أخلاقهُ ومآربهُ
على العقل يجري علمه وتجاربُهُ
وإن كان محظوراً عليه مكاسبُهُ
ذلكم هو الترياق الشّافي لإصلاحنا واستنهاضنا من كهفنا المسحور وسكراتنا الهستيرية التي هدمت صروحنا وقلاعنا... وإنْ تمادينا فيما نحن فيه سنلاقي الأجل المحتوم إلى ربّك يومئذٍ المساق والعاقبة للطاغين، وينطبق عليهم قول أحد الشعراء:
إنَّ الطَّبيبَ لهُ عِلْمٌ يُدِلُّ به * إنْ كانَ للمرءِ في الأيامِ تأخيرُ
حتّى إذا ما انتهتْ أيامُ رِحْلَتهِ * حَارَ الطبيبُ وخَانتهُ العَقَاقيرُ
القانون يعلو ولا يُعلى عليه، وتحت راية العدل فلا أحساب ولا أنساب، يحيي الشعوب والأمم ونزدهر الحضارات. وفي إحدى الروايات التاريخية للإمبراطورية الفارسية في عصر الإمبراطور الفارسي كسرى أنوشروان رغم أنه كان صارماً ومستبداً.. كان يركع الناس أمامه غير أنه كان يسجد للقانون إذا دخل على القضاء ينحني أمام القضاء ولا يتورّع عن تنفيذ القانون لأقرب المقرّبين إليه... أمر بإنزال أقصى العقوبات بأحد أبنائه الذي ارتكب جريمة القتل بحقّ أحد الفقراء... فالقانون هو العدل عينه يحمي الأمة من التفكّك والضياع والانهيار... وهكذا بقيت إمبراطورية الفرس قائمة إلى يومنا هذا لأنهم ورثوا من أجدادهم ميراث العدل الحضاري، والوعي الوطني والتراث الحضاري التليد...
وختاماً: في كلّ خريفٍ بائسٍ حزين تُحكى حكايات الأوراق المتهاوية... ونباتات الأشواك الدّامية... وتنهار الويلات في أعماق القبور... ويُلوَّح لي من بعيد مدينة ذات العماد الذين جابوا التوابيت من أخاديد التماسيح... ورهطٌ من الجنّ يتلو ما تيسَّرَ من عبير الورد والحبق من الكهنوت والتابو الكلاسيكي المقدَّس...!!!
واقعنا الشقي التعيس، ومشهدنا الحزين الدّامي... أَحْدَثَ تبدّلات جذريّة هابطة أسكن قوماً القصور... وأورثَ غيرهم القبور...!!!إنّ مقارعة النّفاق بقوّة الحقّ والثبات على الهوية الوطنيّة السّوريّة ورسوخها برسوخ اليقين هي الضّماد لجرحنا البليغ...!!!
*****
إلى مؤسس موقع تيريج عفرين الأستاذ الفنان المبدع: عبد الرحمن حاجي عثمان ( أبو تيريج ) الذي أوصل عفرين بالعالمين الداخلي والخارجي... وجعل من عفرين نجماً لامعاً في فضاء الشهرة والألق والانبهار، وموقعاً ملفتاً ومثيراً لأنظار القراء عامَّة ولمحبّي عفرين خاصَّةً... أَحْيِيْتَ تراثاً شعبياً نفخْتُ فيه روح الانبعاث والحياة... فأخرجته من قمقمه العتيق، ونفقه المظلم إلى مسرح الوجود... فنّاناً عاشقاً من الطراز البارع بامتياز وعبر غسق أرجواني (لازوردي) تتعالى همسات العشاق بليل أبدي يغفو على نهر عفرين السلسبيل الجاري...
رأيتُك يا عاشق الجمال، وعاشق سوريا وعاشق مدينتك عفرين رأيتُك ملتفاً بغلالةٍ( لازوردية ) تتأمل في وشم عفرين بطمأنينة جذلى، وابتسامةٍ خجلى بين أباريق الورود... هيهات أن تحجب جوى النفس البنفسج والزيزفون...
يأتي الألم من صراخ النشوة والحبور... أفكان ( الحلاج ) يبتسم للحجر إذا لم يكن يبصر فيه أريج الورد..؟؟؟!!!أنْطَقْتَ يا أخي أحجار عفرين وأوابدها بلغتك البليغة، وحدسك الصادق المبدع وبأغانيك وموسيقاك الحزينة الممتعة الهادئة.... من زلال ينابيعها الجارية أبدعت موقع تيريج... ومن سبحات أفكار عمالقة الفلسفة ومن شطحات أولياء الله ومن روائع الشعراء زَخْرَفْتَ موقعك بأطيافٍ مترعةٍ بالنشوة الغامرة... قد أوثقت مشاعر الشعراء بخيوط حريرية... فلا نبرح عاكفين على مجالي حسنك، وجمالك البهي نهيم نهيم...!!! دَخَلْتَ خدر عفرين، وَأَمَطْتَ الّلثام عن خدر الخدر..... إليك سلام ( اللازورد ) المطيّب بالرَّحيق المختوم في ليل عفرين السّاجي مع السعادة الأبدية الطافحة بسكينة الخلود والدخول في محراب التاريخ....
إبداعك هذا قطرات ندى اعتصرت من أفواف الزهر وعبق الحبق... رأيتك تنشر روائح المحبة بين كروم القلوب، وحدائق الأحبة... كما قال الفيلسوف الايطالي ( بتزيني ): بالمحبة تعلو شواهق الأمم، وتعتلي تسانيم المجد....
حينما وطَّدْتُ العزم في تأليفي هذا [ صراعٌ بين الحقّ والحق ] تلفّفْتُ بإزار الجلال، وتزمَّلْتُ بالقلق، وتدثرتُ بالكآبة المترعة بالنشوة والانشراح... يقول تعالى في بيانه الحكيم: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)/الدخان38ـ39/... بالحق أي بالحجة والبرهان، والعلم، والصدق، والعدل، والميزان...
لقد تكرّر كلمة الحقّ في التنزيل الحكيم في كل سورة من سور البيان الإلهي... والحقُّ اسمٌ من أسماء الله الحسنى... والحق هو منحُ الحقوق لجميع المخلوقات والكائنات... حتّى البهائم لها حقوقٌ علينا... فبالحق نعيش أحراراً سعداء شرفاء كرماء... وبالحق وليس بأشباه الحق نحيا حياةً مطمئنةً هادئةً عادلةً كريمة... وبالحق نبني حضارتين الجسديّة والرُّوحيّة... حيث تسعد البشرية تحت قبّته الذهبيّة النورانية أسعد أيامها وأروع أعمارها...!!!
لقد ورد صراع الحق مع أشباه الحقَّ في الدستور الإلهي البليغ... قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وإن بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا فإن الله يحب المقسطين ـ سورة الحجرات الآية 9.
فالحقُّ في صراع مرير مع أشباهه وشركائه المتشاكسين الذين هدموا صروحه وبنيانه... وقد قال فيهم المعري:
يسوسون الأمور بغير عقلٍ ينفّذ أمرهم ويقال ساسـة
فأفٍّ من الحياة وأفٍّ مني ومن زمنٍ رئاسته خساسة
وقال هيجل في كتابه نقد العقل: (( القرآن دستورٌ عادل، ومعجزة الصحراء في ذلك الزمن البائس ))... والرعيل الأول من الصحابة الكرام الذين تلقّوا مبادئ القرآن أصبحوا سادة الأرض بفضل القرآن الحكيم لأنهم طبّقوه نصّاً وروحاً... ونحن نتباهى بانتمائنا إلى هؤلاء الرجال الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها بحقهم وعدلهم ونبلهم... فإما نحن لسنا حفداء لهم ولسنا من أصلابهم... وينطبق علينا قوله تعالى في سورة القلم (عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم) تخلّينا عن مبادئ الحق وأركانه... واتخذناه مكائداً للوصول إلى مبتغانا الفردي، وإرواء غرائزنا بحضارة الجسد... فأصبحنا من أتباع أشباه الحق. هل أفعالُنا وأعمالُنا تمت بصلة إلى عدل عمر، وشجاعة علي، وتضحية أبو بكر الصديق، وسلم عثمان، وحكمة خالد وصلاح الدين ؟؟
يقول ابن خلدون في مقدمته: لا يقوم للعرب قائمة إلا بتمسكهم بالقرآن، وأتباعهم بهدي القرآن يمتلكون مفاتيح الأرض من العدل والمحبة والجمال...
هذا الكتاب هو الكتاب الحادي عشر من سلسلة كتبي من خلاصة فكري، وعصارة ضميري ووجداني، ونقاء تأمُّلِ باحثٍ، ومصفاة بصيرتي وملاحظاتي الطافحة بنور الأيمانومن خلال عنوان الكتاب قد يندهش القارئ مستغرباً...!!! فلا يوجد حقّان متصارعان في هذا الكون بل يوجد حقٌ واحدٌ أحد... هناك صراعٌ بين الحق والباطل...
وقد يتصارع الباطلان... والفوز للأقوى عدّةً وعتاداً... الحق الأول الذي أقصده هو الحق الإلهي الوارد في التنزيل الحكيم... وهو علم وحجة وبرهان وعدل وصراط مستقيم... ومنحٌ لحقوق الكائنات كلَّها سواءً بسواء بالقسطاس المستقيم... ويرادفه العدل والميزان والمساواة، أما الحق الثاني الذي أقصده وأعنيه هو أشباه الحق الذي هو ذاك الحق المشبوه الذي انفصل عن الحق الكلي الذي بات ممسوخاً ومشوهاً... وطفق يناور ويخادع باسم الحق... وأمسى يأكل ويشرب ويلبس وينام في فنادق ذات النجوم الهائلة على حساب الباطل... وأخذ يهتك بالقيم والمقدسات... صانعاً من ذاته خادماً ذليلاً في قصر الباطل المدجج بقوة التقنية والرأسمال...!!! ولمّا خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وأدخل فيها كنوز الخيرات ما لذَّ وطاب من طيبات الرزق الرغيد... وقال للعالمين:{ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ولم يرسم سبحانه وتعالى خرائط سياسية للأرض لقومٍ دون قوم... وأن هذه الخزائن التي أودعها الله في الأرض تكفي للجميع... يحيون عليها حياة سعيدةً إذا اتخذوا الحقَّ والميزان والعدل والمساواة دستوراً لهم... لكنهم زاغوا وانحرفوا واتخذوا من شهواتهم وغرائزهم أوثاناً لهم يعبدونها قياماً وقعوداً...!!!
إنَّ الحقَّ يحتضر ويرزح تحت وطأة أشباه الحق... وهؤلاء الأشباه العاقّون تمرّدوا على تعاليمه، وتاهوا في مزابل الفساد والرفث... فالصراع ناشبٌ بين الحقَّ وأشباه الحق في كلَّ بقعهٍ من بقاع الأرض ومنها شرقنا اليتيم والغني بثرواته الباطنية، وقيمه الروحية حتى الأعناق وأصحابه هم السفهاء وأشباههم... ويرقدون في أروقة الباطل الباطر المكابر... أجل!... الحق يحتضر وأشباهه شاخصة أبصارهم ترهقهم ذِلَّةٌ....!!!
لأنهم خانوا العهد والميثاق... وخاضوا في وكالات اللغو واللّهو... من خلال بحثي هذا متأملاً... وقارئاً جيداً لصفحات التاريخ في مراحله المتعاقبة... خرجتُ بموعظةٍ لا تنسى... وعبرةٍ ماثلةٍ شاخصةٍ أمام أهل البصائر والبصيرة وهي: أنَّ البكاء على الأطلال من حيث تلافيف الدماغ لأهل الفكر والفلسفة لا يجدي نفعاً بل يزيد تقهقراً وارتكاساً إلى الخلف....!!!
إنَّ قراءة التاريخ تدفعنا إلى مراجعة الذّات، وتصحيح الأخطاء والشُّروع بالصحوة واليقظة... ونسيان كهوف الأحزان والتخبط في جحور المياه الآسنة... لكي نمحو آثار الخذلان، وننهي دور أشباه الحق... وننهض لولادة مباركةٍ ونستظل بظلال التنزيل الحكيم، ونفيء بفيئه تحت عرش الرحمن... لنستعيد عزَّنا الآفل، ومجدنا الزائل....!!!
اعتمدتُ في منهجي هذا على التجربة الحياتية، والملاحظة الدقيقة، والحدس والتخمين، والتأمل العميق، والاطلاع الواسع لعظماء الفكر والفلسفة أمثال: العلّامة بديع الزمان سعيد النورسي، وابن خلكان، وابن تيمية، وابن خلدون، وابن رشد، وأحمد أمين، ومصطفى محمود، والعقاد، وسيد قطب، وبنت الشاطئ... وغيرهم... رحمهم الله جميعاً... وأقف متهيباً و خاشعاً أمام مدادهم المهراق للبحث والتأليف مقتبساً من آرائهم ومضيفاً عليها اجتهادي المتواضع المغلّف بعمق الرؤى، وبعد النظر....
وُلِدَ كتابي هذا ( صراعٌ بين الحقّ والحق ) من رحم مخاضٍ عسير... من غمرات الشعوب والأمم وانتكاساتها، واصطدام مصالحها الفردية بالحق الكلي المطلق المتمثل في البيان الإلهي الحكيم... وإنَّ أهل الحق عندما يتقاعسون ويتكاسلون عن أداء واجبهم يولد من حمأة العجز والكسل وعبادة الذات أشباهُ الحق... فأردتُ أن أسلّط العين الثاقبة، والبصيرة النافذة إلى هؤلاء المارقين الذين أنزلوا الحق من أبراجه العالية إلى الحضيض... عسى أن يكون كتابي هذا يبلَّ صَّدىً، ويريح النفس وينعش القلب ويساهم في إحقاق الحق نحو الفكر القرآني الجليل، والهدي الصحيح.... وأوجَّه شكري وامتناني إلى أغلى الغوالي الشاب الأنيق: عمر عبد الرحمن مصطفى الذي ساهم في تنضيد الكتاب، حَفِظَتْهُ السَّماءُ بجنودها البررة...... وأرحَّب بورود النقّاد وأشواكهم ولكلَّ كبوةٍ ارتكبتُها... وأكون شاكراً لهم... مستفيداً من نقدهم البنّاء العلمي الرّشيد ولسوف تنتفع الأجيال الآتية من أعماق السنين المكنونة... وأقول كما قال الفيلسوف جان جاك روسو: ( قد أختلف معك في الرأي لكنّني أساعدك للدفاع عن وجهة نظرك حتّى الموت.... وختاماً أردّد قوله الله تعالى في بيانه المحكم الرّصين: ( وفوق كلّ ذي علمٍ عليم )
التوقيع: خادم الحق وأحد جنوده المجهولين في إعلاء شأنه في الأرض الملآى بالآثام.
الخائفون لا يصنعون الحرية... والضعفاء لا يخلقون الكرامة... والمترددون لا تقوى أيديهم المرتعشة على التعمير والبناء...!!! لماذا تذهب صرخات الدّاعين إلى الفضيلة في بلادنا مع الريح ؟؟؟ نعم كأنهم ينادون دمى خشبية لا أناساً يمورون مورا بانفعالات وجودهم والحياة ؟؟؟ أجل... هذا هو الهتاف المجلجل للسيد المسيح وهو هائم على روابي الجليل ونداءٌ صارخٌ لمحمد وهو يتهيأ نفسه للتبليغ وهو ثاوٍ في غار حراء وهذا في وعي ( بوذا ) وهو يتواثب وراء الحقيقة بين سهول الهند ونجودها... وهذا في خطاب سقراط وهو يدعو إلى الحق فيقول: اعرفوا الحق ثم اتّبعوه وسيجعلكم الحقُّ أحراراً... ويقول حكيم صيني: من غير الحكمة أن يكون الإنسان حكيماً إذا لم تساهم التجربة في تكوينه...أما الاكتفاء بمشاعرنا الذاتية والاهتداء بانفعالاتنا العارضة، وتقليدنا الضرير لآراء لا ندري كيف تكوّنت فأسبابٌ لا تمنحنا الدليل لعمل ناجح أو إصلاح نافع.
يقول كنفوشيوس: الاستبداد الداخلي والخارجي أخطر على روح الإنسان من الوحش المفترس. ويقول أيضاً إضاءة شمعة أفضل من أن تلعن الظلام... والسمع والطاعة لنداء الديمقراطية هو الذي يعشب البيداء... وما الديمقراطية إلا ثمرة أثمرتها الحاجات الملحة للتخلص من المهانة والعجز... وإن الطغيان بشتى أنواعه هي تلك الحالة الإنسلاخية التي ينسلخ المجتمع فيها عن إرادته ومشيئته... وحتى عن ذاته... وعندما يفقد الإنسان حريته يفقد سيادته على نفسه... وحينما يفقد هذه السيادة يحرم الوسيلة المجدية للاكتمال الخلقي، ويمسي كل إيحاء له بالفضيلة مجرد رطانة أعجمية لا ينال منها سوى التلمظ بها... كما يفعل أي حيوان مجتر بملء فمه من علف لذيذ... وكل الجهود التي تبذل لأخذ الناس إلى مكارم الأخلاق في ظل التسلط الذي يسلبهم اختيارهم هو ذلك الجهد يحرث في البحر... ويزرع في المحيط...!!
إن طغيان المؤسسات وطغيان المجتمع والقانون والعادات هي العنوان الضخم لكل هذه الأثافي التي تقوَّض المجتمع وتهدم أركانه... والطغيان يسلب من الروح روحها وطهرها وبسالتها... والخوف يشوّه الضمير ويعطّل الإرادة ويبطل القدرة... فالضمير هو ذلك الرقيب في داخل ذواتنا الذي يصلصل أعماق ذواتنا عندما يستهوينا الشر وتقودنا الرذيلة... فحاجة الشرير إلى الضمير ترجح حاجة الخير... وفي هذا المنحى يقول هادفيلد: ( الضمير لسان الخير المقموع ) عندما يكون الشر هو المسيطر وهو السائد...؟ فالضمير ليس جزءاً من تركيبنا العضوي ليس قطعة لحم أو مضغة دم بل هو وظيفة كالغواية سواء بسواء وهو بهذه المثابة يحيا بالمران المستمر فإذا أخلد إلى السكون تحلّل ومات...!! ( نيرون ) ولّى الملك بكى بكاءً مراً إذ جاءوه بأمر إعدام أحد الذين يستحقون الإعدام كي يمهره بتوقيعه... أجل...! بكى وصاح ( ليتني ما تعلمت الكتابة ) والفساد مزرعة للرذيلة... يعطل وظيفة الضمير... والضمير ذلك جرس الإنذار الذي لا يكف عن القرع موقظاً اتجاهاتنا الخيرة النبيلة... والإرادة هي كالضمير ليست جزءاً من جسدنا الحي أو عضواً من أعضائه بل هي وظيفةٌ تنمو بالمران وتعيش بالعمل... يقول هادفيلد: الإرادة وظيفة الذات وهي تتماسك بالعمل والمران وتلتحم بعضها ببعض حين يكون لها نشاط عام مثل الكائنات الحية تماماً.
إن عظماءنا يجب أن نجلَّهم... إننا نتذوّق العظمة وسجاياها الدافئة المشرقة... هؤلاء الأفذاذ الذين أنجبتهم الإنسانية... هؤلاء الذين تتمثّل فيهم القدوة الصالحة... فالعظيم الذي نعنيه بكلمة عظيم ليس هو صاحب المنصب الرفيع... أو الجاه العريض أو المال الوفير إن عظيماً واحداً من هذا الطراز يفعل في أمة ما تفعله عشر جامعات... عندما فرغ ماوتسي تونغ من قراءة كتاب عن بطرس الأكبر وواشنطن ولنكولن وروسو... وتوم بين وقال: إنَّ الصين في حاجة لمثل هؤلاء العظماء وتعرَّفت على الطريق الآن...
وروى أحد رفاق ماوتسي تونغ عنه بأنه دائم الاهتمام بالآخرين بينما لا يهتم بنفسه... إنه ينام معنا على الأرض ويأكل من طعامنا نحن الجنود ويعطينا ما يهدى إليه من ثياب وأحذية وفي آخر معركة خضناها معه رأيته منبطحاً على الأرض يطلق النار من بندقيته...ويتابع قوله: كنتُ تائهاً وتافهاً وتحت ظلاله أصبحتُ إنساناً... أسير أمام ضيائه... وأهتدي بأضوائه... ) إنَّ المتملقين يتظاهرون بالفضيلة... ولا يلبث أن يتحول إلى قطب عظيم من أقطاب الضلال والإفك... ولقد صدق نهرو قائلاً: الاستبداد والنفاق والمراوغة مفسدة مطلقة للروح والأخلاق... والضمير والإرادة...
قد يبدو المجتمع مريضاً مرضاً عضوياً... ويقدر الكشف الطبي الواعي أنه ليس مرضاً عضوياً بل مرضٌ نفسي... لقد تحوّل الاضطراب الانفعالي إلى اضطراب جسماني فكانت آلام معدته ومفاصله... وكذلك تشيع في المجتمع أمراض خلقية لا تكون في حقيقها أكثر من اضطراب انفعالي وقلق جاثم يتسللان في كيان الجماعة فيدمران سكينتها... وينتزعان الثقة من وجدان الجماعة على هذا النحو...
فيتيّمُ وجهها شطر الإشاعات الملفقة والرأي العام الكاذب ويعيش في أخطبوط معتّم من هذه العادة السرية التي تنهش عافية عقلها وعافية عواطفها من حيث لا تدري... فالمجتمعات الواجفة المريضة تتسلى بالأكاذيب المصطنعة وتلتمس منها العزاء والأمل، وتضيف إليها الكثير من خزائن غيظها الموهوب فيتخدّر المجتمع بمكروب الإشاعات الآثمة... ذات القشور اليابسة القابلة للاشتعال والانتشار السريع وفي الحياة الحرة الطليقة تموت الإشاعات فور ميلادها.. ويتفرغ المجتمع ويخلو له السبيل في رؤى العظمة والجمال... والحياة العقلية الرفيعة الناضجة التي تثمر المكاسب الاجتماعية والخلقية والاقتصادية... والسياسية... والمؤسساتية...
أما المجتمع العفن يفكر تفكيراً عفناً ويعيش داخل تقاليد عفنة لأنه تعاقب على حكمه وحياته وأرضه طغاةٌ لم يتيحوا لعقله فرصة التبصر والتألق منذ قدم الزمان... بل شحنوه شحناً معتماً بشعوذاتهم وعنجهياتهم المضللة...
يقول توما الأكويني: إنه لما كان كل من العقل والإيمان هبة من هبات الله فهما بالضرورة متوافقان... أجل إنه صحيح عندما يذهب عقلك في إجازة يرفع الله عنك جميع التكاليف والمسؤولية... فالعقل هو الركن الركين في حياة الفرد والأسرة والمجتمع... وذلك أن العقل الذكي الصارم ينأى بأصحابه عن دواعي العلة من تخمة في الأكل وإفراط في السهر،واستسلام للشهوة... شهوة النفس، وشهوة الجسد... وهو بهذا يؤدي دوراً وقائياً يتحاشى بها الكثير من أمراض الجسم... ويستطيع العقل البصير أن يعالج أمراض المجتمع الخلقية لأول ظهورها قبل أن تستفحل... فالمرض يبدأ رغبةً ثم يصير سلوكاً... ثم يكون عادة ثم يعقب عليها الإدمان الضاغط فيصير مرضاً خلقياً مقيماً... وهكذا يواجه العقل فرصاً كثيرة يستطيع بها أن ينقذ الضحية من سوء المصير...
لست أعني بالعقل أن تكون فيلسوفاً أو مخترعاً أو مفكراً... أو أديباً كبيراً إنما أعني العقل المتزن، والذهن الثابت... أعني سكينة النفس... وسكينة التفكير... وآفة العقل في التعصب ذلك هو قرين الحكم المطلق وثمرة الحنظل التي تثمرها شجرته الملعونة... ذلك أن المتعصب هو العدو الأول للثقافة الحرة... وقاطع الطريق على قافلتها المباركة... يبدأ المتعصب صاحب الحكم المطلق متوسلاً بالرغبة فيطلق في نفوس المفكرين والكتّاب والأدباء والشعراء... أنواعاً من الشهوات، يبسط لهم موائد الجاه والمال والشهرة... فيستجيبون له... أجل لا يكتبون ليفيدوا مجتمعهم بل يكتبون ليشهروا وليكسبوا... فيتحولون هؤلاء فوراً من قدّيسين إلى أبالسة... فخير ما يهدى إلى الفضيلة أن تعيش الجماعة في كنف الكلمة الطيبة... والشر يدفعك أن تعيش في مستنقع آسن للكلمة الخبيثة... فالفكر والأدب لا يرتفعان بنزعة التكسب
ولا يرفع لوائهما بالهوس الغوغائي... ويرويان بالثقافة... ويحلقان بفضاء الحرية الفطرية الواعية...
إن الطغيان الوصولي يرفع أصوات التافهين الذين يتخذون من الفكر والأدب تجارة ولهواً فيغمسون أقلامهم من مداد اللهو والبهتان... بينما ينزوي الذين عندهم علم من الكتاب ونور من الحقيقة... عازفين عن الشهرة التي ثمنها الكذب... وعن المال الذي هو عن طريقة التسليم وعن الراحة التي ثمنها خيانة المعرفة... فمن أدب الأمة وأخلاقها رباط وثيق فمن أدب أثينا تعرف أخلاقها... ومن أدب الرومان تبصر سلوكهم... ومن أدب الفرنسيين وأخلاقهم وشيجة... ومن أدب الإنكليز وأخلاقهم صهر ونسب.
إنَّ الدوافع الغائية الشريفة تستمدُّ وجودها من القيم الفاضلة السائدة في المجتمع كما يستمدُّ الماء من عناصره المكونة له... وعلماء الأخلاق والنفس يقررون أنَّ دوافعنا مزدوجة فهناك دافعان: الابتدائي والغائي... فالأول هو الدافع والباعث تلقائي لأنه ينبعث من غرائزنا وقوانا الفطرية والثاني كسبي... ويرى هادفيلد: أن رجلاً سياسياً يخدم وطنه فالدافع الأول ينبثق من غرائزه... يمنحه القوة المغامرة وحبّ التفوق والظهور والمجد...
أما الدافع الثاني يدفعه إلى تحقيق مكاسب عظيمة خدمة لمجتمعه ووطنه... وإنَّ الناس يحبون وطنهم لأنه المأوى الذي يصون حياتهم، ومصالحهم... والعش الجميل الذي يضم الذكريات الخوالي... فالسلام الاجتماعي الذي هو المناخ الصالح للفضيلة لا يتآتّى قطُّ لجماعة يحملون للوطن ضغناً وحقداً... هل نستطيع أن نقارن بين عمر ومعاوية... وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز الذي ساد في عهده السلام والرخاء والإخاء والفضيلة بأعلى رتبها... فأصبح عهده ينعت بأنه الأيام التي كان الذئب يرعى فيها مع الشاة..!! قول نبيَّ الوحدة الايطالية( متزيني ) الحب ثم الحب ثم المزيد من الحب...
سأله يوماً ( توماس كوبر ) الانكليزي عن سبب دعوته العنيفة وتوسله بالعنف والقوة لنضال الطغيان النمساوي... فأجاب: كيف نعمل بهدوء والطغيان النمساوي جاثمٌ على صدورنا بجيشه المثلث: الجواسيس والضباط – ورجال الشرطة... إن الطغيان لا يتحدى الفضيلة وحدها بل والإيمان أيضاً... ولقد رأينا كيف أفضى اضطهاد البيض لزنوج أمريكا ببعض هؤلاء الزنوج إلى الكفر بالإله إذا كان أبيض البشرة... بل لقد ذهب بعضهم وزعيمهم ( ماركوس ) ينفث في القارة السوداء عقيدة جديدة... يجب علينا أن نستبدل بهذا الدين ديناً جديداً إلهه أسود وملائكته سوداء... وخاطبهم قائلاً: اعلموا أن من وراء هذا التفوق الخلقي حكماً ديمقراطياً راسخاً كرسوخ الجبال... ووراء ذلك حرية تملأ صدور الرجال...
إنه لجدير حقاً أن ننظف مجرى النهر من جديد... وتحرير الفرد من الخوف والفزع والجوع...والقهر وأن نتهيأ لمناخ الحوار والمحاورة... لخلق مجتمع متحرر من الأحقاد... مجتمع أخلاقي مدنيّ متطور يتحدى المتحديات... ويكشف سبيل الخلاص... يقول الفيلسوف جويو)فيضٌ في الحياة يريد أن ينفق وهو لا يأتي عن إكراه أو ضغط خارجي إنهُ لتعبير عن قوة طافحة تظهر إلى الخارج في حب وغيرية...) فمن خلال التسلسل لغزوات وكل غاز يجيئنا حاملاً تقاليده وسلوكه... والغزو لم يكن واحداً يذوب فينا أو نذوب فيه بل متكرراً ومتعاقباً كان كليل الشتاء بارداً. فلا نكاد نفيق من استعمار حتى ينالنا استعمار غيره... ولا نودع غازياً إلا على قرع طبول غازٍ جديد...!!!
إن استعماراً آخر أكثر ضراوة من الاستعمار الراحل يمثل كل أركان حياتنا... إنه لا يحتل المدائن إنه يتقمص أجساماً وأرواحاً ويسير في دمائنا ووجدان الجماعة... ذلك هو التربية عن طريق القوة... سواء في ثكناتنا... ومدارسنا... وجامعاتنا... وأسرنا... في سويسرا مثلاً لا يكادون يستعملون عبارة ممنوع فحيث تقرأ ( هنا في حدائقنا ممنوع قطف الأزهار ) والعبارة المتألقة في حدائق سويسرا ( هذه الزهرة في يدك تكون لك وحدك ولكنها في مكانها تكون للجميع )
الإلزام والإكراه المبتديان في ظواهر حياتنا ليسا عرضاً طارئاً... بل عرضاً مزمناً لعلة مزمنة وآفة لابثة مقيمة... وهذه الأغراض تنتشر في المجتمع في سلوكه وتربيته وثقافته وتشريعه هذه الأغراض لا تمنحها إلاّ أكثر من زخارف وألوان باهتة قاتمة..!! أجل..!
إن شجرة الحنظل لا تثمر الكمثرى والمجتمع الذي تنطلق دواعي سلوكه وتربيته من الإكراه والخوف ليس أكثر من شجرة حنظل مريرة الثمر والظلال... أجل إن السلوك الإرهابي هو الهدية النفسية التي يهديها الإرهاب للفضيلة... والطامّة الكبرى هو تحول هذا السلوك إلى نهج عام للمجتمع... فتصوروا كم يكون المصير ويبلا...!!!... ومما يؤسف أن التطور الباهر الذي أحال بيوتنا من أكواخ واطئة إلى قصور كالأبراج لم يزامله تطور مماثل في روح مساكننا وبيوتنا... إن الطغاة ملّة واحدة...
طغاة المؤسسات والبيت والمجتمع كلها يشدّ بعضها أزر بعض وهذه الحكمة الصينية تكشف عن تضامنها العتيد فمن آداب الصين القديمة وتعاليمها المقدسة يقول: ( أيها الأمير كن أميراً ويا عبدُ كن عبداً )
بيد أن جميع عظماء الصين الذين صنعوا تاريخها الجديد والذين يصنعون الآن كانوا من الأولى حطموا هذه الحكمة وداسوها بأقدامهم الباسلة قدسها الشريف... ولولا ( صن بات صن ) أب الصين... ولولا ماوتسي تونج لظلت الصين... قرية صغيرة يطن الذباب الضاري في خوائها ويتدحرج ضحايا الأفيون فوق أرضها... إنَّ هناك ظاهرة اجتماعية مختلفة في مجتمعنا وهي دفع الفتيات اللاتي إلى أزواج لا يريدونهن....
أعرف فتاة كانت كالزهرة تقدم لخطبتها شيخٌ هرم في مثل سنّ أبيها بيد أنه من ذوي الجاه والثراء ورأت الفتاة أنها ستكره على معاشرته والاقتران به... فهددت أهلها بالانتحار ولم يأبهوا لها ولا لتهديدها وزفّت إلى مصيرها في ليلة حالكة السواد... وبعد ستة أشهر طُلِّقت من زوجها بعد أن أعلنت حرباً على كل حرمات الحياة الزوجية... إنَّ معظم الخيانات الزوجية ناجمة عن هذا اللون البشع من الإكراه... إكراه الفتيات على زوج لا يردنهولا يحملن له مودَّة ولا توقيراً...وهذا الحكم لا نصدره عفو الحديث ولكنه صورة يقين أثمرته الشواهد والمثلات... إننا بقانون الغابة الذي نستعمله مع أبنائنا وبناتنا نملأ بواطن أنفسهم بالصراع الذي لا يكاد يفارقهم أبداَ... والصراع الداخلي في النفس يضعف القدرة على أداء الواجب... ويهيئ المجتمع لحريق لا يبقي ولا يذر... إنَّ روح السيطرة الشخصية تشيع في مؤسساتنا ومدارسنا وجامعاتنا شيوعاً يدعو لوجوب تفهم بواعثها ووقف امتدادها...
إنَّ روح التشريع والجزاء عندنا تعتمد على القانون كعقوبة لا كعلاج... والبلد الذي يستمرىً هذا الإشراف فيحل بقانون ويحرم بقانون لا يلبث أن يصير كالمدينة التي أهلكها السكوت... ( أميكلي ) إحدى مدن اليونان القديمة وكانت تزعجها الإشاعات عن قرب غزو الاسبارطين لها فصدر قانون شديد يحرم على أهلها ذكر كلمة أسبرطة أو غزو أسبرطة وبعد حين وصل الاسبرطيون الغزاة فلم يجرؤ أحد على انذار قومه ودخلوا المدينة واحتلوها فوصفت في التاريخ بأنها المدينة التي أهلكها السكوت...!!! والسؤال اللاهث... هل نستطيع أن نكافح رذائل النفاق والخنوع والكذب بقانون ؟؟؟ وإذا كان القانون هو النص الذي يتضمن الجزاء والعقاب...؟؟؟ ذلك التشريع... هو القانون النص والسجن أداة والاثنان يشبهان حجري الرحى يطحنان في بلاهة وقسوة... إنَّ السجن يجب أن يتحول من عقاب إلى علاج ومن أداة تعذيب إلى وسيلة تهذيب...
إنَّ من آفاتنا الاجتماعية التزمت والتعصب... والنفاق الاجتماعي الذي يصد عن طلب الحق ونشدان الكمال... فماذا ينفع تصلي وتصوم فتؤثر الجبن على الشجاعة... والهوان على الآنفة والمداهنة على الصراحة... وتأكل الحرام وترتشي من أجل مطمع فانٍ وغرضٍ زائل وتتحايل على الحق؟؟؟!!!
الواجب كما يقول ( جويو ) ليس شعوراً بضرورة أن تضغط لأن ذلك يوحي إلى عدم الشعور بالاحترام العميق...
ويقول ماكولي: إن خير عمل يفعله المرء باختياره الحر... وفي خلوته... ولن يطلع على سرّه أحد... الواجب الذي تمليه ضرورات عادلة تتمثل فيها مصالح الأمة والجماعة ومن ثم يكون واجباً أخلاقياً نبيلاً... لا ذلك الذي تمليه مخاوف طغيان باغٍ أو تقاليد مجتمع متخلف...
في كتاب الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء يحدثنا المؤلف عن طفلة فرنسية أعطتها أمها قرشاً لتشتري شيئاً للمنزل وإذ هي تعبر الطريق دهمتها سيارة ألقت بها على الأرض وأصابتها بجروح وأغميت عليها غير أنها ظلت قابضةً على القرش في حركة عصبية عنيدة ولما أفاقت وجراحها تنزف... وجدت أمها أمامها ففتحت يدها المقبوضة، وبسطتها إلى أمها تناولها القرش قائلة: قرشك يا أمي... لم أضيعه...
يقول جويو معلقاً على هذه الواقعة الرائعة: لقد كانت الحياة عند الطفلة أدنى قيمة من القرش الذي اؤتمنت عليه... فرحلتنا إلى الكمال الإنساني تبدأ من إيماننا بالواجب واعتمادنا عليه.
إنَّ إنسان هذا العصر إنسان جديد... مبدع ورائد حضارة... وهو إذ يرفض أن يكون امتداداً أفقياً لسلطة باغٍ يريد أن يكون امتداداً رأسياً صاعداً... ولم يعد هدفه في الحياة أن يفلسفها بل أن يحياها فتأملوا قول عمر بن عبد العزيز من خير الذين حملتهم الأرض فوق ظهرها فهماً وزهداً وعلماً... اللهم اجعل ما أنا صائر إليه أحب إليَّ مما أنا مدبر عنه. فدولاب الحياة إلى الأمام... والأمام يعني التقدم والمدنية...
هل نرى أنفسنا قوماً مارقين إذا لم نأكل في الجفان التي كان آباؤنا الأقدمون يأكلون فيها ؟ إنَّ كثيراً من تقاليدنا التي تحولت إلى أخلاق تشبه هذه الجفان التي ولّى زمانها وذهب... ليس من الصالح أن تتخلى أمة عن تقاليدها بل إن التقاليد ضرورة من ضرورات التقدم والمدنية ولكن لا يجوز الإسراف والتقديس لها... منذ أمدٍ بعيد وتحت عنوان: ماتت الخرافة تحيا الحقيقة...
كتبتُ أتساءل كيف نامت جماهيرنا في زحمة الحياة وكيف زاغ نهانا ؟!! وكيف وقف نموها دهراً طويلاً، وتعطلت ملكاتها... وكيف ألقت عصاها، وأناخت كبرياءها حتى سامها كل مفلس، وحتى تسنّمت ظهورها الغربان؟!
ما الذي أسلس قيادها وأحنى ظهرها للهوان والخذلان ؟؟؟ ولماذا جعلت شعارها حسبي وجميع ما حولها ومن حولها يطلبون المزيد ؟؟؟!!!
إن الحقيقة تفصح عن أعماقها وتقول: لم يبق من تلكم الحضارات سوى التي قامت على احترام الحياة واستشراف حقائقها النيّرة... ومن هنا يسوقنا القدر إلى حرية الإرادة والاختيار... وهذا هو القدر الأخلاقي... علينا أن نشطب على التعصب القبلي والنفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي... ذلك الذي يسلب ضحاياه أجلّ الفضائل الإنسانية وأزكاها... يسلبهم فضيلة الصدق والثقة بالنفس والأمانة والتسامح والحب والعدل والرحمة... ولقد صدق ( فون بابن ) حين قال في مذكراته التي نشرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية: إنَّ الألمان لم تهزمهم القوات المسلحة في ميادين الحرب بقدر ما هزمتهم قوى الظلام التي هاجمتهم من داخل أنفسهم والتي هي التعصب ( الأنا السفلى )...
إن قرآننا المكنون يلزمنا بواجبات عبادية يمنح لنا فرصة التأمل والاستشراف ويصل إرادتنا الواهنة بأسباب القوة والتفوق... ويصرف قلوبنا عن التشبث بالماضي الكئيب الذي فقد اعتباره وموضوعه... فهو إذن لا يضيق بالمدنية الرشيدة التي تستطيع أن تلعب دوراً نافعاً في مشاكلنا السلوكية الحياتية لنرتفع إلى مستوى الدورة من دورات التطور الحلزوني الصاعد... وحركة التاريخ تقتضي إنشاء أوضاع تتفق وحاجات العصر فلننطلق صوبها في شوق لاهب كما يفعل فرس الرهان عندما يشارف الهدف وتعصف حوافره في الأرض فتملأ الأفق رماداً... إنه رماد الخطوات لتعانق النصر وليس تراب الهزيمة والانكسار... فمن قوانين الحياة نشأت قوانين الأخلاق وقوانين الحياة لا تهبط من اللاحياة بل تنبعث انبعاثاً تلقائياً من الحياة نفسها ولنعلم جيداً أن بربرية الجسد والفكر والروح ضريبة التخلف وهؤلاء هم الذين تغشاهم غواشي الوصولية ويجب قطع أدبارهم ولننطلق نحو تطور أخلاقي مدني متطور...
فلنرفع لواء الإيمان بيميننا ونمضي مع عقل التاريخ والإرادة الحرة الرغيدة... الكريمة... العامرة.
التاريخ هو ذاكرة الشعوب قراءة التاريخ ضرورةٌ وطنية وسياسية واجتماعية وإنسانية... حينما نستعرض لوحات التاريخ البيضاء ثم مآسيه القاتمة الفاحمة.
إنَّ من ينظر إلى التاريخ الأموي والعباسي ويقارن بينهما ثم يتصفح ويقرأ تاريخ الأندلس... والعصر المملوكي وغيره نجدْ أنَّ متعة التاريخ ضرورية لكل قائد ولكل من يبتغي القيادة ولكل باحثٍ ومفكر ومن تهمُّه مصلحة أمته ولكني لا أرى هذه الضرورة متعة فحسب بل هي أيضاً شيء أعظم الفائدة... ونحن لن نقرأ التاريخ لنعرف أن معاوية هو كان أبا يزيد... ولكننا نقرأ التاريخ لشيءٍ أعظم وأخطر وندرسه لما هو أمثل وأهم وأنفع... ذلك أن فيه صورة موضوعية لماضينا ولما فيه من نقاط القوة ومواطن الضعف... وليست هذه الصورة صورة أمة فحسب بل هي صورة لكل فرد من أفرادها... فالتاريخ فهو إن شئت فهو حقيقة الأمة بالفعل لا حقيقتها بالقوة... وتاريخنا هو الوجه العفوي للأمة ولكن الحقيقة العفوية شيءٌ والحقيقة الإرادية شيءٌ آخر ولكن ما هو تاريخنا حقاً...
هل نحن أبناء وأحفاد هؤلاء العظماء الذين فتحوا العالم أم أن الذين كتبوا التاريخ لم يكتبوه على حقيقته... انحازوا إلى الحكّام وساروا على هواهم... إنَّ تاريخنا ليس غريباً عنا وهذا صحيح جداً غير أن تاريخنا ليس كل حقيقتنا وهذا صحيح أيضاً لأن الذين كتبوا التاريخ معظمهم مقربون من بلاط الخليفة... ولكن ما هو تاريخنا حقاً إنَّ قارئ هذا التاريخ لا يستطيع إلا أن يدهش لتماثل حلقاته، وتجانس أحداثه فكأنك في كل ظرف من الظروف تحيا ذات المشاهد... فالمشهد واحدٌ... فكأنك أنت ممثل يتنكر بلباس خاصّ فإذا أنكرته قليلاً لم تنكره طويلا...وعبثاً تسقط الدولة الأموية، وتحل محلها الدولة العباسية في بغداد أو دولة الأمويين في الأندلس إنك لن تجد إلاّ المشهد نفسه حيثما كنت... والآن ما هو هذا المشهد...
إنه مشهدٌ يتألف من دولة تقوم فيسعفها الحظُّ حيناً ويخذلها أحياناً... إلا أنها تبدو لأول وهلة ضخمةً ممتدة الأطراف موحدة الجوانب ولكنها تنتهي من الوحدة إلى التشرذم... ومن الامتداد إلى التقلص... ومن القوة إلى الضعف... ولكن المهم لم يكن هنالك وحدة تزداد مع الأيام قوة... على مثالما نعرفه عن تاريخ ألمانيا أو فرنسا أو ايطاليا أو اسبانيا ولكن كان هناك دوماً وحدة تضعف مع الأيام وتتغير حدودها حيناً بعد حين وتنقلب عواصمها بين أقصى الشرق وأقصى الغرب...
إن عاصمة فرنسا وعواصم أوروبا لم تتغير ظلّت هي هي على اختلاف الملوك والأزمان أما عاصمة الدولة العربية فلها دوماً نزهات جميلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. فلقد كانت عاصمة الخلافة أولاً هي المدينة ثم انتقلت إلى دمشق ثم إلى بغداد ثم إلى القاهرة ثم إلى بلادٍ أخرى في المغرب والأندلس. وهذه حادثة قلما تجد لها في التاريخ مثيلا... هذا هو القلق الجغرافي السياسي إنما يعكس قلقاً نفسياً ليس أقل منه خطراً ينبئ عن قلق نفسي كبير وما نظنُّ أن هنالك من يجهل أن الدولة العربية كانت تقفز أحياناً إلى أعلى درجات الحضارة ثم تعود فتهبط إلى الحضيض فكان نقطة الصفر هي الملتقى للجميع...
منه نبدأ لا نلبث أن نعود إليه كما كان... وهذا أمرٌ قلما نجد في تاريخ الحضارات القومية... أما نحن فحظّ النمو عندنا يهبط ويصعد بفعل القوى الخفية والغيبية دون أن نثق تماماً في يومٍ من الأيام أن ما نبنيه اليوم سيكون ركيزةً لما سنبنيه في الغد أو أنه لن يهدم في الغد... وهذه القاعدة بالنسبة إلينا شاذَّة... تاريخنا قلقٌ دائم... لا نريد إلاّ الإشارة إلى حقيقة موضوعية هذه الحقيقة هي القلق وعدم الاستقرار على وتيرة واحدةٍ... فنقول مثلاً: إن وضعنا الجغرافي هو السبب أو أن بنيتنا النفسية الاجتماعية هي السبب منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم... ألا وهو المريدية أو التعصب للقبيلة والجماعة والعائلة والفرد الواحد الأحد الذي لم يأتِ قبله ولا بعده أحدٌ... ولعل هذا هو السبب الحقيقي والجوهري في انتكاساتنا الحضارية منذ زمنٍ بعيد... وأن التفاعل بين الوضع الجغرافي والبنية النفسية والتربية العائلية هي السبب... لكن الذي أريد قوله هو أن تاريخنا والقلق الذي فيه ليس إلا التاريخ العفوي الذي صاغته نفسيتنا السقيمة في تفاعلها مع الظروف المختلفة التي وجدت فيها ولكن هذه النفسية لم تكن في المستوى المناسب من الوعي ولم يكن ما تفعله إرادةٌ ولكنه كان رغبة... وكانت الرغبة اللاشعورية هي التي تحل دوماً محل الإرادة... أما اليوم ونحن لا نزال في نقطة الصفر الأولى فأظن أن شروط الحضارة العالمية تجعلنا أكثر وعياً لوجودنا وأعظم قدرة على تخطيط مستقبلنا وإنَّ تقدم الحضارة البشرية تتوقف على التفاهم والتعاون والتضامن بين جميع الشعوب أينما كانت في الشرق أو الغرب... وها هي الشعوب الآسيوية والأفريقية والهندية تسير في طريق التقدم الحضاري وتثبت للعالم بأنها قادرة على تخطي العقبات الكأداء والمساهمة في خدمة الإنسان و الإنسانية و تكشف بذلك عن زيف الأساطير التي تدَّعي الاستعلاء والأنا العليا... في عالمنا اليوم ثلاثة تفجرات أو انبثاقات أو انبجاسات... أو الصحوات العلمية.
أولاها: في عالمنا الراهن هو تفجّر العلم من اختراع التقنية المتقدمة ابتداءً من الانترنيت... واختراق حجب السموات في الفضاء الخارجي البعيد...
لقد اعتاد المؤرخون أن يدّعوا التقدم العلمي الذي حدث في غربي أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الثورة العلمية... حمل لواءها أمثال ليوناردو وكوبر نيكس وفرنسيسن باكون وغاليلو وديكارت ونيوتن وقلَّبت هذه الثورة التفكير الإنساني رأساً على عقب... فإذا به يرتاد آفاقاً للمعرفة مجهولة ويفتح أبواباً مغلقة وأصبحت الاكتشافات النظرية تدخل حقول التطبيق فتصبح مبعثاً للثورة الصناعية التي بدّلت وجه أوروبا بل وجه العالم أجمع... أجل إننا نعيش اليوم في خضم ثورة علمية تكاد تفصل بين الماضي والمستقبل وهي تفعل في حياتنا المادّية، ونظّمنا الاجتماعية و تفكيرنا وعقائدنا فعلاً أشدّ نفاذاً، وأوسع نطاقاً ولعلنا لا نخطئ صواباً إذا قلنا أن هذه الثورة العلمية الثانية هي الصفة الأولى المميزة لحياتنا الحاضرة بل هي الحقيقة الكبرى التي يجب أن نتفهمها ونسعى إلى امتلاك ناصيتها إذا أردنا أن نكون من أبناء هذا الزمان ومن بناة الزمان الآتي للثورة العلمية هذه أربعة وجوه...
أولها الشمول فهي لا تقتصر في انطلاقها على نواح محدودة من الطبيعة أو من الحياة الإنسانية بل هي تسير بموكب عريض شامل متنوع الوظائف، ولكنه موكب واحد بترابطه الذاتي الداخلي، وبتصديه لشؤون المعرفة جمعاء وبشموله كل علم من علوم الطبيعة والإنسان....
ووجهها الثاني: هو عمق فعلها النظري فجاءت الثورة الثانية فبدلت هذا المفهوم الجديد تبديلاً أساسياً... فالأسس والقواعد التي تقوم عليها فيزياء أينشتاين هي غير القواعد و الأسس التي تستند إليها فيزياء نيوتن ويكاد هذا القول يصدق في كل علم من العلوم وكل منحى من مناحي المعرفة...
أما الوجه الثالث للثورة العلمية هو سعة فعلها التطبيقي التنفيذي إنَّ ما نشاهده من صناعات واختراعات وفتوحات تسابق الخيال، وتحيّر الألباب من أثر بليغ يكاد لا يعرف أحداً في تبديل الأوضاع، وتغيير معالم الحياة... والوجه الرابع للثورة العلمية هو تزايد سرعتها واندفاع تقدمها إنها لا تتمهل ولا ترحم وكل من يتباطأ أو يتنكب يقضي عليه بالتخلف والخذلان....والتفجر الثاني بعد التفجر العلمي...
التفجر السكاني فسكان العالم في تكاثر متفاقم يثير المخاوف ويدعو إلى القلق على المصير فمن ناحية التفجر العلمي تكثر الموارد والمنتجات (أغذية وألبسة ومساكن... ومن ناحية أخرى يزداد عدد مستهلكيها والمحتاجين إليها... فكأننا في سباق خطير (النتائج كثير المضاعفات.... يقدّر الباحثون أن عدد سكان العالم كان يبلغ في مطلع العهد الميلادي حوالي 250 مليون وفي منتصف القرن السابع عشر حوالي 500 مليون وفي منتصف القرن الثامن عشر حوالي 750 مليون.... وفي عصرنا تخطى الملايين إلى مليارات... قفز عدد سكان الأرض إلى مضاعفات مذهلة وسريعة جداً... إنَّ هذا التفجر الحياتي مضاعفات عدة خطيرة فمنها أن أضخم الزيادات هي عند الشعوب المتخلفة علمياً وتقنياً واقتصادياً... وأمر هذا التفجر على خطورته يصبح هيناً لولا تفجر آخر يلازمه وما ينفك يشتد تدفقاً فيهز الأوضاع القائمة من جذورها ويثير عواطف ويحدث انقلابات تتجاوب أصداؤها في كل جانب من جوانب الأرض ذلك هو تفجر الحاجات والآمال والمطامح والنقمة المتصاعدة على الظلم والعوز والمرض والجهل وشتى صنوف العبودية والشقاء... هذا التفجر الثالث من نتاج تفجر العلم والمعرفة وما صاحبه من تعزيز مبادئ العدل والمساواة ونشرها واتساع سبل الاتصال الانترنيت والجهاز المحمول وعبر القنوات الفضائية الغاية في التطور... لم تكن البشرية في الماضي تشعر بالفقر أمراً عجباً فلقد تعوّدت جموع كبرى من البشر حتى ألفته على مرّ الزمان ولكنها لم تعد تَأْلَفْهُا في هذا الزمان بل أخذت تحاول أن تنتفض منه وتطالب بسد حاجاتها في العيش بل بأن يكون لها منه مستوى يليق بكرامتها الإنسانية من العيش الرغيد، والعدل السْويّ... فكانت البشرية تقبل بالمرض والجهل والفقر بأنه قدرٌ محتوم أما اليوم فقد أخذت تتألم من الألم، وتتوق إلى الحق، وأخذ جسدها الجبار يتحلحل و يهتز فتهتز الأوضاع القائمة عليه فتصدع أو تنقلب أو تندثر..... هذا التفجر في الإحساس بالحاجة والحق وهذه الفورة في المطامح والآمال يضاعفان ويصبح السباق بين تدفق العلم والإنتاج، وتبدل الأوضاع السياسية وانتشار العدالة الاجتماعية من جهة وبين توفير حاجات تتوافر لعدد من الناس يتكاثر من جهةٍ أخرى يصبح هذا السباق أمراً عسيراً محفوفاً بالمزالق والأخطار باعثاً شتى المشكلات والأزمات عاقداً حول مصير الإنسانية غيوماً من القلق والاضطراب كثيفةً سوداء... هي ذي إذن ثلاثة مظاهر لتفجر الحياة الإنسانية وهي إن دلت على شيء...
فالتطورات السابقة قد بلغت من السرعة والتجمع والتفاعل مبلغاً لم تعهده البشرية في ماضيها وإننا الآن أمام عصرٍ جديد فائق في التقدم المذهل السريع أمام مستقبل جليل رهيب.... جليل بما يحمل من تحقيقات، وقدرات هائلة تفوق خيال الشعراء، ورهيب بما ينطوي عليه منَّ شدائد وأخطار...
هذا التفجر الهائل الذي اكتفينا بذكر ثلاثة من مظاهره البارزة يثير مشكلات عديدة لكل شعب من الشعوب وللإنسانية جمعاء وليس ممكناً الإحاطة بها أو سبر غورها... على أنه مما لا يقبل الشك أن هذه المشكلات لن تعالج ذاتها ولن يحل بعضها بعضاً وإن أمرها لا يصح أن يُترك للقدر وللقوى الخفية...
فلعل من الخير أن نحاول استئناف الهيكل العقلي وتحكيم موازينه هو الشرط الأول والضامن الأقوى لرقي الحياة المقبلة والفوز في مصارع الحياة المقبلة وأن نعدّ أنفسنا وأن نكون من الجماعات الناشطة أمام التبدل المستمر والتغيير السريع سواءً في مجال التقنية الصاعدة أو التنظيم الاجتماعي أو الإنشاء التربوي أو غيرها من مظاهر النشاط البشري.. وهذا هو المعنى الأساسي للتخطيط إن التخطيط الصحيح يتطلع إلى المستقبل فيرسم الغايات ويحدد الوسائل على ضوء الصورة التي يكوّنها له... إنَّ عالم الغد سيختلف عن عالم اليوم وأشكال الحياة ونظمها في تحول وتبدل... فليس الزمن مجرد مرور سنوات ليس له طوله فحسب بل إنَّ له عرضه وعمقه... ليس من الضروري أن يتساوى عامٌ وعام وقرنٌ وقرن بل إن صفة كل من هذه وقيمته تتوقفان على الأحداث والتطورات...
إنَّ للماضي عبره وما يحمله من خيرات وما يكنزه من ذخائر وإنَّ لنا من هذا كله عدة ومدداً ولكن غايات الحياة تتعدّل وأساليبها تتبدل ونظمها وأشكالها تتحول وعلاقاتها تتعقد ومشكلاتها تتسع وتتعمّق... فلا يمكن ضبطها إلا بفكر أقوى منها فعلاً وأسرع جرياً... وبقدرة على استباق الأحداث والإعداد لها بدلاً من التخلف عنها والخضوع لحكمتها إننا لا نحسن البناء في البدايات الثانية من القرن الواحد والعشرين إذا كان قادتنا أو بعض قادتنا على الأقل يفكرون تفكير ذلك الزمان الذي يحكمه الفرد الواحد بدلاً من الجماعة المنضبطة بالعلم والحق والعدل... والأمة التي لا تتميز عقليتها بالاستطلاع والاستكشاف ولا تجد السير قدماً إلى العلم الآتي سيوقظها يوماً عنف الصراع وستجد أنها في مؤخرة الركب وأنها ليست وفيه لماضيها وحاضرها لأنها لم تكن وفيه لمستقبلها...
وصفة ثانية من صفات العقلية الجديدة هي عالمية نطاقها... فالثورات العلمية والصناعية والتقنية الحديثة المتتابعة وسواها من الانبثاقات والمتفجرات والصحوات العلمية التي تجتاحنا صَفَّرَتْ عالمنا الأرضي، وقربت أبعاده، وربطت بين أجزائه، وَوَحَّدَتْ مصيره... فالعلم لا يستسلم للقيود ولا يقف دون الحدود لأنَّ من طبيعته الانطلاق والاقتحام... ومثل سريان العلم والتقنية العلمية المادية ويقابلها الجبهة المعنوية من الفكر والآلام والآمال... وهذه الظاهرة هي نتيجة للتقدم الصناعي والتقنية الحديثة...
وأي تطوّر يحدث في بقعة من بقاع العالم تتجاوب أصداؤه في البقاع الأخرى فتتعدّد مناطق الصحوات العلمية ومنافث الخطر وتتسرّب آثارها إلى كل ناحية من نواحي المعمورة... لم يعد ممكناً أن تبقى بعض شعوب الأرض سائدة وسواها مسودة.... لم يكن ممكناً أن تظل كثره من أبناء الأرض جائعة، وقلة متخمة... لم يعد ممكناً أن تنعم بلاد بالسلم بينما تذوق غيرها مرارة الحرب...
إننا نعيش في عصر كوني وعلى هذا فالعقلية المنشودة لضمان البقاء في هذا الزمن وللوقوف في وجه تفجراته هي عقلية عالمية في نطاقها كوكبية بل كونية في سعة مداها فلم يعد يَصُحُّ للفرد أن ينظر إلى مشكلات أمته من زاوية مصلحته الخاصة أو من نافذة طائفته أو بلده بل يتوجب عليه أن يضع هذه المشكلات في موضعها من التطورات العالمية الظاهرة منها والخفية فيسعى إلى إدراكها في هذا النطاق وإلى معالجتها بما ينطبق على مقتضيات هذا العصر الفضائي العولمي... ولهذه العقلية المنشودة صفة ثالثة هي المرونة وهي من أسهل الأشياء للفكر الإنساني... وكان من أسباب التضعضع والاضطراب في الحياة الفردية والعامة تأخر عقلية الفرد أو المجموع عن اللحاق بالركب العلمي عندما تتصلّب هذه العقلية فتعجز عن التطور...
فكانت اليقظة والمرونة وقابليته للنمو من أبرز الميزات التي يتطلبها عصرٌنا الذي نعيش فيه متميز بانطلاق العلم واندفاع الآمال والأهواء وليست المرونة التي أقصدها والتي لا تعرف لنفسها مبدأً صريحاً أو موقفاً معيناً وإنما هي نشدان الحق أينما وجد والاستعداد للاعتراف به وقبول نتائجه... وليست هذه المرونة مطلوبة في مواقف النظرية فحسب وإنما تتطلبها كذلك الحياة العملية...
فيقظة الطبقات والشعوب المتخلفة وإحساسها الملتهب بحاجاتها وحقوقها لن تسمح للشعوب والطبقات المنعمة المترفة بأن تحتفظ بنعمها وترفها... إن المفاهيم تتغير أو تضطر إلى التغير والأوضاع تتبدّل أو يفرض عليها التبدل فلا غرور إذا تطلّب هذا كله عقلية تتميز بالمرونة والنمو المستمر... وهذا أمرٌ ليس جديداً في تاريخ الحياة... فإن النظر في تطور أنواع الأحياء على وجه الأرض يدل على أن تلك التي بقيت وسادت لم تكن أقواها وأضخمها بل كانت أشد استجابة لحاجات المحيط، وأكثرها تطوراً حسب مقتضياته... وهذه الصفات هي التي مكنت النوع الإنساني الحفاظ على ضعفه الجسدي بالنسبة لأنواع أخرى... وكذا الأمر في الجماعات والشعوب فإن درجة يقظتها ومرونتها واستجابتها للأحوال المتبدَّلة فكانت عاملاً من عوامل ازدهارها أو ذبولها... وإن رفع مستوى أي شعب أو رفع المستوى المعاشي لا يكون بحسن التوزيع فحسب بل بزيادة الانتاج في الوقت نفسه ولذا كان من أهم الواجبات المفروضة الاقبال على الموارد الطبيعية لتفجير طاقاتها واستغلال ثرواتها لسد الحاجات المتصاعدة... وأن نعدَّ الناشئة لتتسم بالعقلية الإنتاجية... وكما أن القعود عن الإنتاج جرم كذلك يجرم من يسرف في تبديد المنتجات أو إضاعة الثروة... يصدق هذا في النطاق القومي وفي النطاق الإنساني عامة... وإن انقسام أي قوم إلى فريق منعم وفريق معدم لم يعد جائزاً أو ممكناً في هذا العصر فكيف يجوز أو يمكن ذلك إذا كان الفريق الأول يغالي في الإسراف وفي تبديد الثروة القومية التي كان مفروضاً أن يكون قيماً عليها ويضيعها في سبيل شهواته وأهوائه وينطبق هذا في النطاق الإنساني على الفريقين المماثلين الذين تنقسم إليهما شعوب الأرض.
إنَّ الإنسانية تسير سيراً جنونياً في هذا التبديد والتبذير مع أن العلم يمعن وفي ايجاد موارد جديدة للطاقة والإنتاج فالعلم بطبيعته رائد مستطلع يخترق الآفاق وينفذ خلال الحدود وهو بذلك عالمي النطاق بل هو الذي وحّد عالم اليوم مادياً وتقنياً وإن لم يستطع بعد توحيده عقلياً وروحياً والعلم متنبّهٌ مرن يعترف بالحق ويخضع له ويكيف نظمه وأساليبه بحسبه وكذلك منتجٌ مفجّر للطاقات بل هو العامل الأقوى في استغلال موارد الطبيعة وفي النظام العولمي الهائل الذي أنشأه لهذا الاستغلال والذي يزداد كل يوم ضخامةً وتعقداً ورقياً... من هنا أريد أن أشير إلى صفة بارزة للعقلية التي تتطلبها تطورات القرن الحادي والعشرين... وأول هذه الفروض يقع في صميم الشخصية الفردية وجوهره الإيمان الصادق بالحقيقة والعزم على احترامها والعمل على رفع لوائها وليس هذا بالأمر السهل فسبيل الوهم أوسع وأيسر من سبيل الإدراك والخضوع للحقيقة أو القبول بحكم العقل قد يؤدي إلى التنازل عن مصلحة أو الإعراض عن هوى أو عن تقليد متبع وهو يتطلب فوق هذا نقداً صريحاً للذات ومحاسبة مستمرة للنفس... وكل هذه المتطلبات عسيرة لا تأتي بالطبيعة، ولا تجاري السليقة بل تحصل بفعل قناعة مستحوذة وإيمان مستأثر ونتيجة ما يفرضانه من جهد وسعي ومن بذلٍ وتضحية... والحقيقة هي أرفع قيمة إنسانية وأنفس ما يمكن أن تكسبه المجتمعات وأنها في نهاية الأمر أسلم للفرد والمجتمع من الخطأ وأبقى وإن طريق الخلاص الأمينة هي طريق العلم والعقل.. وإذا حصل هذا القرار والإقرار سار المجتمع في السبل الذي يصبح العلم فيه محور اهتمامه ومدار سياسة دولته وأصدقها وعندها إذا برزت قضيةٌ من القضايا لم يقبل بالناس بالكلام يلقي الكلام على عواهنه أو بما تمليه مصلحة الفرد والجماعة أو بما الشعور بل يثير الحماسةً بل إلى حكم الحقيقة ومنطق العلم...
يتساءل البعض أحياناً: لماذا تخفق الدولة حيث تنجح المؤسسات التجارية إن أهم أسباب هذا القائمين على هذه يشعرون بشدة التنافس في الميادين الموضعية والوطنية والعالمية... وبأنهم إذا اهتموا بالمصالح الآتية الصغرى وانتهوا بها عن بقية المصالح الكبرى ولم يكونوا أسرع من سواهم في متابعة تطورات العلم واقتباس نتائجه وتطبيقها فقد قضي عليهم بالتخلف... هذه الحقيقة ذاتها أصبحت تنطبق اليوم على الدولة والمجتمعات... فما كان منها أشد إحساساً بالتنافس والتسابق في هذا العصر وأكثر تقديراً للمصلحة الكبرى، وأوفر أهلية للإنتاج... وبكلمةٍ جامعة: ما كان أعظم إيماناً بالعلم وقياماً بفروضه غدا أقدر على البقاء والقيادة وأجدر بها ومن فروض هذا الإيمان في النطاقين الشخصي والعام.
العمل لتوفير وسائل العلم وبناء أجهزته وإن أهم أجهزة العلم معاهد التعليم الاختصاصي بالإضافة إلى معاهد البحث والاستقصاء لمستوياتها المختلفة وأن يحرس القائمون على العمل في سبيل نمو المعرفة البشرية، وزيادة الإنتاج وتطبيع العلم بطابعٍ وطنيٍُ أولاً وقومي ثانياً وإنسانياً ثالثاً... فالأمم الناشطة اليوم في تسابق وتنافس شديدين في هذه المجالات يقيناً منها أنها سبل القوة والمتعة ووفرة الإنتاج وازدهار الحضارة... لقد كانت قوة الأمم في الماضي تقاس بوفرة عددها أما اليوم فإنها تقاس بعدد الفاعلين الحقيقيين وبمستوى فعلهم في شتى فنون الإنتاج والإبداع، والثروة الصحيحة التي تتمتع بها أمة هي ثروتها العلمية القائمة بجامعاتها و بمعاهد الأبحاث العاملة فيها وبالأجهزة الاختصاصية المنبثة في مصانعها ومتاجرها، ومنظماتها الاجتماعية والتربوية ودوائرها الحكومية... إنه الثروة المتمثلة بعمق العقلية العلمية في الأمة... وأن تطبعُ هذه العقلية العلمية حياة المجتمع وأن تغدو محور اهتمامه ومدار سياسته وأساس تنظيمه على أن العقلية العلمية على أهمية قدرها وجلال نتاجها إذا لم يزاوج يقظتها وفعلها بالضمير فيتسيب العقل إلى مزالق خطيرة، العقل يحدد الغايات ويبين الوسائل ويرسم الخطط ولكنه كثيراً ما يقف عاجزاً وذلك بسبب نضوب معين الضمير، وخفوت صوته ثمة ضمير فردي، وضمير مسلكيٌ وضمير قومي، وضمير إنساني... ويجب أن يتسرّب هذا الضمير إلى خلايا المجتمعات الإنسانية حافزاً أو رادعاً ومكوّناً الضمانة الأخيرة لسلامة الجسم الاجتماعي ومناعته الذاتية... ونحن إذا قلّبنا نظرنا اليوم في المجتمعات القومية والإنسانية ها لنا فقر هذه الخلايا ونضوب حيويتها، وضآلة فعلها... أين هي هذه الخلايا في مدارسنا ومعابدنا ومصانعنا ومتاجرنا ودوائرنا السياسية الحكومية ؟؟؟.... وإذا نظرنا إلى العالم الإنساني بوجهٍ عام ألسنا نرى أن أزماتها العنيفة راجعةٌ بنسبة كبيرة إلى هذا التفاوت الفائق بين تفجر علمها ونضوب ضميرها أو بين القدرة على إطلاق الطاقات الهائلة من معاقلها والعجز عن توجيهها... إنَّ الحضارة تقدَّر بنوع الوجدان الذي يتجسد فيها... هذا العنصر الضميري الإنساني الممزوج بقوى عقلية هائلة هو المثل الأعلى للحضارة البشرية... نحن في القرن الحادي والعشرين نعيش في زمانٍ ثوري لاشك في هذا ولا جدال... أجل إنه زمانٌ ثوريٌّ إنه ثورة إنه ثورات في كل بقعة من بقاع هذا العالم المترامي الأطراف... ثورات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والمطامح والآمال... ولا ننسى أبداً إنَّ من أعظم القوى الثورية في التاريخ... إن لم نقل أعظمها قوّتي العقل والضمير تلك القوتان العظميتان تطيحان بطواغيت الوهم والضلال وعلى الخداع والانخداع... وثورة العقل والضمير هي التي تمهد وتهيئ للثورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحدّد قدرها وجدواها... إن مواطن العقل عندما تكون أمينة لوظيفتها يغدو مصدر قوة ثورية عارمة دافقة عميقة الأثر لأنها ثورة على أرسخ عاملين من عوامل الجمود والتأخر وكذلك ثورية الضمير لولاها لما أنتشر دين ولا قام إصلاح ولما أعطت الحضارة بعضاً من أفضل ثمارها، وأصوات من استيقظً ضميرهم في التاريخ لا تزال تحدث أثرها في تنبيه الفاضلين واستنهاض المكبوتين والمعذبين...
تصوّر أخي القارئ: أي انقلاب يحدث في حياتنا لو انبعثت في نفوسنا ثورة ضميرية صحيحة وأخذ كل منا يسلك في حياته الخاصّة والعامة بوحي من ضمير واعِ حي على أن سبيل الثورية الضميرية كسبيل الثورية العقلية صعبة شاقّة لأنها تتطلب محاسبة مستمرة للذات واستعداداً للخضوع لأحكامها لأنها تتمثل في الجهاد الأكبر (جهاد النفس)... ها نحن نعيش في عصر متفجر (صحوة الذات) يتفجر في داخلنا لا يقل عنه دفقاً وفعلاً... تفجر لطاقات الضمير ولإمكانات العقل... إن الموارد الطبيعية التي يمكن الإنسان اعتمادها لحفظ بقائه ولضمان ازدهار حضارته هي موارد محدودة... أما الموارد في داخل الإنسان هي موارد هائلة لا تنضب...
إن أيّ تبديل في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية لا يكون له أثره النافع الباقي إلاّ إذا صاحبه تبدّل جذري في صميم نفوسنا هي الثورية الداخلية الشخصية... ونحن أمة وأمثالنا من الأمم نطمح اليوم إلى بلوغ أهداف أصبحت محط أنظارنا ومعقد آمالنا أهداف السيادة والقوة والحرية والعدالة والفعل الحضاري... وخير قوةٍ تهدينا إلى السبيل الصحيح من تفتّح العقل ونقاء الضمير وسلامة الخلق. وحريتنا لن تكتمل إذا لم تبلغ نطاق التحرر من النفس ولو تحررنا من المستعمرين... ولا سبيل إلى هذا التحرر الذاتي سوى سبيل الضمير والعقل التي أشار إليهما السيد المسيح:(تعرفون الحق والحق يُحرركم) لذلك أدعو إلى التفجير المرجو لطاقاتنا العقلية والضميرية وبهما نحقق آمالنا في السلامة والكرامة في هذه المرحلة العسيرة الفاصلة من حياة أمتنا وحياة الإنسانية... وحسبي كذلك أن أردد دعاءً صادراً من صدر نفسٍ عظيم في ميادين الفكر الطليق والأدب الصافي من صدر طاغور العظيم قائلاً: إلى تلك الجنةً.... حيث الفكر لا يخاف والرأس يرتفع عالياً... حيث المعرفة حرة طليقة... حيث لا جدران تضيق الإنسان، وتفتت العالم... حيث الكلمات تنبعث من أعماق الحق... حيث جدول العقل الصافي لم يضل طريقه في بيداء التقليد المقفرة... إلى تلك الجنة من الحرية أيقظ يا أبتي وعي أمتي...
1- مسبّب الأسباب:
المناجاة الإلهية حينما تسقط الأسباب كلياً ولا ملجأ سوى مسبّب الأسباب، فينكشف للملتجئ سرُّ الأحدية خلال نور التوحيد في الذات الواجب الوجود بنور الإيمان وضياء القرآن. فصورة حوت يونس هي صورة مركوب وغوّاصة له وبحره تشكل بصورة صحراء طيبة، والليل تصوّر بصورة لطيفة مقمرة على أثر مناجاته.
2- أمراض معنوية:
إنّ هناك أمراضاً تهدّد حياتنا الدنيوية القصيرة، وثمّة أمراض معنوية تهدد حياتنا الأبدية المديدة تمسّ باطن القلب... لا حقّ للإنسان للشكوى من المصائب والأمراض لأنه يمس سرّ القدر لأن الله فصّل لباس البدن ويظهر عليه جلوات أسمائه المختلفة فإن اسم الرزاق يقتضي الجوع، وكما أن اسم الشافي يطلب المرض... والحياة تتصفّى وتترقّى بالمصائب والعلل وتؤدي الوظيفة الحياتية، وإن الحياة المتناسقة على فراش الراحة أقرب من الوجود الذي هو الخير المحض... وإن هذه الدنيا لا بدّ من الشكر عليها لا الشكوى منها، والآلام المعنوية تنشأ من زوال لذائذ الزمان القديم وعن فراقها لأن زوال اللذة ألمٌ وقد ينتج لذة فانية ألماً دائماً... وإن اللذة المعنوية الدائمة الناشئة عن زوال الآلام التي قضاها المرء في حياته القديمة هي التي تنطق بالحمد لله فبها يصبح عمره القصير بمثابة عمر طويل لأنه يُولّد نتائج حياته كعمر طويل.. وإن عمره الفاني الماضي يصبح في حكم عمر باق وسعيد... فكما أن شرب الماء وأكل الطعام متتالياً بزعم أنه سيجوع ويظمأ غداً وبعد غد جنون على وجه الحمق... كذلك أن تفكر المصائب والأمراض في الأيام الآتية التي هي معدومة الآن والتألم بها وإظهار الجزع منها والظلم بنفسه على نفسه بدون أي اضطرار بلاهة تسلب لياقة الشفقة والرحمة في حقّه..
لي صديق مريض زرته يوماً وقال لي منذ مئة يوم لم أضع راسي على الوسادة، فلم أنم، وشكا شكوى أليمة فتألمت له كثيراً وخطر لي خاطر فجأة فقلت: يا أخي إن أيامك المئة الماضية المنغّصة هي الآن بمثابة مئة يوم ذات سرور فلا تذكرها فتشكو منها وانظر إليها فاشكر عليها، وأما الأيام الآتية فلم تجئ بعد، فتوكّل على الرحمن الرحيم، ولا تبك بدون أن تُضْرَب، ولا تخش من المعدوم، ولا تعط العدم صبغة الوجود، واذكر هذه الساعة فقط، فيكفي لها ما فيك من قوة الصبر، فاحشد كل قوتك إزاء هذه الساعة واذكر رحمة الله وتحويل عمرك القصير الفاني إلى صورة طويلة باقية، وأشكر الله شكراً جزيلاً عوضاً عن هذه الشكوى الأليمة، ففرح كلَّ الفرح، وقال الحمد لله لقد هبط مرضي من العشرة إلى الواحد.. إن التشكّي والتأوّه اعتراض لقدر الله واتهامٌ للرحمة الربّانية.. فمن انتقد القدر يضرب برأسه على السندان فيكسره، فكما أن استعمال اليد المنكسرة للانتقام بها يزيد في كسرها، واستقبال الإنسان المبتلى بالمصيبة بلسان الشكوى يضاعف المصيبة.
إن الإنسان كلّما استكبر المصيبة الماديّة تتكبّر وكلما استصغرها تتصاغر.. إذا لمس خيال بصر الإنسان في الليل كلما اهتمَّ به ينتفخ، وإذا لم يهتم به يغيب.. دع العويل والشكوى أيها البائس إذ العويل بلاءٌ في بلاء.. واضحك في وجه البلاء بالتوكّل.. وكلما ضحكت يتصاغر ويزول.. فالبلاء أحياناً لطفاً إلهياً يخوضه المبتلى بسكر الشباب وسفه الزمان.
3- أسرار الإنسان:
إن في جهاز الإنسان آلافاً من الآلات فلكلّ منها ألم آخر ولذة أخرى وعمل آخر ومكافأة أخرى ويمنحه الله له الالتجاء إليه بألسنة أعضاء الشكر.. كأن الإنسان قلمٌ متحرّك يتضمّن ألوف الأقلام المختلفة، وكأنه قصيدة منظومة تعزف على كل الأوتار المتنوعة ويؤدي وظيفته الفطرية.. وإن اختلط بعض الحسّ والذوق فلا توزن بموازين المنطق لأن إفراط الحسِّ والذوق لا يستمع إلى دساتير العقل ولا يراعي موازين الفكر..
إنَّ في فطرة الإنسان عشقاً شديداً إزاء البقاء حتى إنه يتوهّم في كلِّ شيء يحبّه، فإذا تصور زواله يستغيث من أعماقه.. فكل النياحات الناشئة عن الفراق مترجم للبكاء الوارد من عشق البقاء.. يعلن النص القرآني أن ليلةً واحدة كليلة القدر في حكم ألف شهر هي عبارة عن ثمانين سنة وبضع سنين، وكذلك إذن عدة دقائق من زمن المعراج الذي هو في حكم سنين كثيرة تثبت وجود هذه الحقيقة وتدل على وقوعها بالفعل، لأنه دخل عالم البقاء بطريق ذلك المعراج.. وعدة دقائق من عالم البقاء تتضمن آلاف السنين من هذه الدنيا، ويبنى على هذه الحقيقة ما وقع بكثرة بين الأولياء من حادثات بسط الزمان.. (إن يوماً عند ربّك كألف سنة مما تعدّون) على بسط الزمان.
إن الإنسان وإن كان فانياً إلا أنه خلق للبقاء وليكون مرآة لذات باقٍ وأن يتوجه إلى الباقي بجميع جهازاته وبكل استعداداته (يا باقي أنت الباقي).
4- سيدنا علي مرجع للأولياء الصالحين:
إن إقرار سيدنا علي كرّم الله وجهه نفسه وأتباعه لأولئك الخلفاء الثلاثة وقيامه في مقام المشيخة لهم أزيد عن عشرين عاماً تنقض دعوى الغلاة المتطرفين هذه، وكون سيدنا علي مرجعاً للأولياء والطرق الصوفية بالأكثرية المطلقة، وقول الرسول الكريم فيه ما معناه: كلُّ نبي نسله منه ونسلي هو نسل علي، وعلي هو المثل والشخص المعنوي لآل البيت المتسلسل منه، وشخص آل البيت المعنوي من حيث كونه ممثلاً لحقيقة محمدية لا يوازن.
فالرأي الصائب فيه إيماء خفيّ.. غلو الحب في حقّ علي خطر كما أن إفراط المحبة في حقّ عيسى عليه السلام خطر للنصارى، فالإفراط والتفريط في كلّ شيء يرقى إلى التهوّر وإلى اللاعقلانية... فصحابة رسول الله لم يفتحوا الفتوحات ببرق السيوف إنما بشوق بارقة الحقيقة الربانية في التنزيل الحكيم، وأشير إلى لمعة مهمة من لمعات القرآن في أبجديته التي تفيد أسراراً كثيرة بجهة التوافق وبحساب الأبجدية الذي هو نوع من علم الجفر ومفتاح له...
5- القرآن حمّال أوجه:
فمن إعجاز البيان الإلهي من النبيين والصدّيقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، فإن كلمة الصدّيقين هو أبو بكر الصدّيق، والشهداء هم عمر وعثمان وعلي (وحسُنَ أولئك رفيقاً) هو سيدنا حسن بن علي، فلمعات الإعجاز من إخبار الغيب الذي هو نوع من أنواع إعجاز القرآن... إن آية: {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً }النساء69/. والصالحين إلى معان إشارية ورمزية، وهم التابعون يعبّر عنها في علم البلاغة بمعارض الكلام ومستتبعات التراكيب غير المعنى المقصود، والتنبؤ النبوي الغيبي قوله عليه السلام: (إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وهو الحسن الخليفة الخامس، وهذا ما يسمى الإخبار الغيبي، وإن الكائنات مرآة، وماهية كل موجود مرآة أيضاً، وإنها معروضة للإيجاد الإلهي بالقدرة الأزلية، وإنّ كل موجود يصير نوع مرآة.
6- سرّ تحريم لحم الخنزير:
وإني لأسأل يا للعجب أليس لأكل لحم الخنزير دخل في توغّل بلاد الإفرنج في ظلمات الضلالة المادية والطبيعية المنافية كلياً للترقيات الحضارية والكمالات الفنية والعلوم الإنسانية، مع تقدمها بهذا القدر في تلك الترقيات والكمالات والعلوم الخارقة؟ والدليل على أن الإنسان يتأثر مزاجه بما يتغذى به ما صار في حكم المثل (مَنْ أكل كل يوم لحماً أربعين يوماً يتأثر بقساوة القلب).. فإن للخالق حيوانات على صورة فلاسفة سفهاء... لا موجود إلا هو، فيتصوّرون بسكر العشق، وبمقتضى شوق البقاء واللقاء والوصال، وإن في وحدة الوجود مشرباً حالياً ذا ذوق للغاية، فاتخذوا مسألة وحدة الوجود ملجأ للنجاة عن المفارقات الرهيبة.
7- الإيمان بإرادته الأزلية.. ولا يحيطون بشيء من علمه:
فإذاً، فإن منشأ السبب الأول صدر من عدم إدراك العقل إلى بعض الحقائق الكونية الإيمانية العالية الواسعة للغاية، ومن عدم إحاطته بها، وعدم انكشاف العقل بتمامه في نقطة الإيمان، ومنشأ السبب الثاني ورد من انكشاف القلب فوق العادة ومن انبساطه وتوسعه خارقاً للعادة في نقطة العشق، وأما مرتبة التوحيد العُظمى التي رآها أولياء وراثة النبوة العظام، وأصفياء أهل الصحو بصراحة القرآن فهي عالية جداً، وتفيد المرتبة العظمى من مراتب الربوبية والخلاّقية الإلهية، وتبين أن الأسماء الإلهية كلّها حقيقية وتحفظ الأسس ولا تُفسد موازنة الأحكام الربوبية، فإنهم يقولون إن الله تعالى مع أحديته الذاتية وتنزهه عن المكان أحاط بكل شيء مع جميع شؤونه وعيّنها بعلمه بدون واسطة ورجّحها وخصصها بإرادته، وأثبتها وأوجدها بقدرته بلا توسط، وإنه يُوْجد جميع الكائنات ويدبّرها كوجود واحد ويخلق زهرة بسهولة وكما يخلق الربيع العظيم بتلك السهولة، ولا يكون شيء مانعاً لشيء ولا تجزُّؤ في توجهه ولا توزيع وانقسام في تصرفه المبتلى بضرورة الاختلاط بأناس معجبين ومتكبرين فأضطرّ إلى الرياء والتبصبص لهم بوجه غير لائق بالمروءة...
فكان الشيطان الجني والإنسي يستفيدان من حال هذا المنفى لروح خدمة القرآن الحكيم مع أنه كان يورث برودة وفتوراً في خدمتنا فذقْتُ إزاء قصوري هذا صفعة شديدة ولكن مشفقة، ولم يبق لي شبهة أنّ هذه الصفعة أتت من ذلك التقصير، والآن قد اعتقدنا قطعاً أن تلك الحقائق القرآنية أنوار وأضواء لا تجتمع مع ظلمات التصنع والتملق والتذلل...
8- سعادة المؤمن وشقاء الضالّ مؤيدة بالشواهد:
إنّ المؤمن سعيد أكثر من المنحرف أو الضالّ في نظر الحقيقة المثلى، حتى إن إيمان المؤمن يصبح في حكم جنة معنوية في روح المؤمن، وإن كفر الكافر أو الجاحد يوقد جهنماً معنوياً في ماهية الكافر.
ذلك البديع ذا الجلال بديع السموات والأرض الذي زيّن هذه الكائنات بهذا القدر من معجزات صنعته، وكذلك إن ذلك الجميل ذا الكمال الذي جعل هذه الكائنات مظهراً لتجليات جماله وكمالاته التي لا تعدّ ولا تحصى، يعطي أكمل كيفية من العبودية قطعاً وبالبداهة، فطوبى لمن كان حظُّه وافراً، وويل لمن لا يقدرّها.
إن مسائل الشريعة ودساتير السنّة السنية كل منها دواء نافع في الأمراض الروحية والعقلية والقلبية ولاسيما في الأمراض الاجتماعية وأحسست بالمشاهدة أن المسائل الفلسفية والحكمية لا تسدّ مسدّها، تلك مسائل النور للحياة الأبدية، ونافع للحياة الدنيوية بأي مقدار.. فاتباع السنّة السنية ركن سعادة الدارين ومعدن الكمالات ومنبعها.. { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْـزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }/آل عمران53/. إن هذا الإنسان الصغير يسع قلبه الصغير مقدار الكائنات عشقاً.
إن خالقي أنقذني من العدم الذي هو ظلمات أبدية، وأعطاني في هذه الدنيا دنيا جميلة، وإنه سينقذني إذا جاء أجلي عن الهلاك والفناء الذي هو إعدام أبديّ، وسيحسن إليّ بعالم أبديّ محتشم في عالمٍ باقٍ، وينعم عليّ بحواس ظاهرة وباطنة تستفيد من جميع لذائذ ذلك العالم، ومن محاسنه، وتجول متنزّهة في ذلك العالم.
يقال، إنهم قالوا للنعامة: إن لك جناحين فطيري، فقصّت جناحيها، وقالت: إنّي جَمَل. فما طارت، ولكنها وقعت في فخّ الصياد، فأدخلت رأسها تحت الرمل كي لا يراها الصياد، مع أنها تركت جثتها في الخارج، وجعلتها هدفاً للصياد. ثم قالوا لها: إذا كنت تقولين إني جَمَل فاحملي حِمْلاً، فحينئذ بسطت جناحيها، وقالت: إني طائر فنجت من محنة الحَمل ولكن أصبحت هدفاً لسهام الصيادين.
لو أستند الرسول الكريم إلى المعجزات وخوارق العادات في حياته الشخصية الاجتماعية لما كان حينئذ إماماً مطلقاً ومرشداً أكبر، فلهذا السرّ كان يظهر المعجزات أحياناً قلائل عند الحاجة لتصديق دعواه ولكسر إنكار المنكرين.. فكان يلبس الدرع إزاء العدو، ويأمر أن يدخلوا الكمين، ويصبح مجروحاً، ويقاسي المحنة، حتى يظهر رعايته وإطاعته لقوانين الحكمة الإلهية والشريعة الفطرية الكبرى في الكائنات...
إن اللبن الرائب إذا فسدا يؤكلان أيضاً، وإن السمن إذا تغير لا يؤكل، وقد يصير مثل السمّ، كذلك إن الإنسان الذي هو أكرم المخلوقات إذا تفسّخ يصبح أفسد حيوان متفسخ فيتلذذ بالشرور ويفتخر بالأخلاق الفاسدة في وحل الضلالة كحشرات متلذذة برائحة مواد متعفنة.
9- العلل والآثام والالتجاء إلى القرآن:
كما أنه جعل الأمراض حجاباً للأجل لإنقاذ ملك الموت عليه السلام من سخط العباد الذين يموتون، كذلك جعله الله حجاباً لقبض الأرواح حتى لا تتوجه إلى الله تعالى الشكايا من تلك الحالات التي تتوهم بدون رحمة.
العالم إنسان كبير كما أن الإنسان عالم صغير فهو فهرس وخلاصه لذلك الإنسان الكبير، كما أن وجود القوة الحافظة في الإنسان دليل قاطع على وجود اللوح المحفوظ في العالم، كذلك إن القوة الواهمة المفسدة وآلة الوسوسة المسماة باللمة الإبليسية في زاوية من قلب الإنسان، التي يشاهد كل أحد في نفسه حسّاً وحدساً أنها أصبحت في حكم إبليس صغير، دليل قطعي على وجود كبار الأبالسة في العالم..
إنَّ القران الحكيم يفيد إفادة معجزة أن الكائنات تغيظ عن شر أهل الضلال.. وذلك هجوم السموات والأرض بالطوفان النازل على قوم نوح، وغضب عنصر الهواء على عادٍ وثمود، وعنصر الماء على قوم فرعون، وغيظ عنصر التراب على قارون وقومه، زجراً على وجه الإعجاز وبأسلوب وعملية رهيبة.. فيا أيها لإنسان البائس الصغير الجرم والجسم، وكبير الجرم والظلم، وعظيم العيب والذنب، إن أردت أن تخلص من غيظ الكائنات، وعن نفرة المخلوقات، وعن غضب الموجودات، فها: إنَّ وسيلة الخلاص هي الدخول في دائرة القرآن الحكيم القدسية والاتباع لسنة الرسول الأكرم السنية عليه الصلاة والسلام فادخلها واتبعها.
10- مخاطبة الإنسان:
فيا أيها الإنسان البائس المخلوق لعالم البقاء، والمفتون بالعالم الفاني، تدبّر واسمع إلى سرّ آية:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ}/الدخان29/، مفهومها الصريح: إن السموات والأرض التي لها صلة بالإنسان لا تبكي بموت أهل الضلال على جنائزهم، يعني: إنها تفرح بموتهم.. وتفيد الآية المشار إليها: إن السموات والأرض يبكينَ بموت أهل الهداية على جنائزهم ولا يرضين بفراقهم، لأن جميع الكائنات لها علاقة بأهل الإيمان وهي مسرورة بهم، فيا أيها الإنسان تبكي عليك السموات والأرض متأثرة من فراقك حسب درجتك، وتشير إلى أن لك استقبالاً حسناً بالنسبة إلى درجتك في عالم البقاء الذي تدخله بباب القبر بمأتم رفيع، وتشييع محتشم.
11- فساد القلوب والانقياد إلى الله:
أهمّ ورطة في هذا الزمان هو فساد القلوب، وتزلزل الإيمان بضلال ناشئ، والوسيلة الوحيدة هو النور وإرادة النور حتى تصلح القلوب وينجو الإيمان.. المنافق هو أضر من الكافر.. (إن الحادثات الجزئية في آيات القرآن رؤوس لحادثات كلية) لمعات فكرية وتوحيدية وسياحة قلبية وانكشافات روحية في المعرفة الإلهية..
مخاطبة النفس أيها الإنسان الفاني اعلم أن ما لا يفارقك بعد فناء هذا العالم... ولاسيما أمور فانية تتركك محولة ظهرها إليك... ولاسيما ما لا يصاحبك في سفر البرزخ، ولاسيما ما لا يشيعك إلى باب القبر... ليس من شأن العقل أن تعلق قلبك به، فإن كان لك عقل فاترك الأمور التي تضمحل وتفنى تحت اصطدامات التقلبات الدنيوية، وفي الأطوار البرزخية والانقلابات الأخروية، ولا تهتمّ به ولا تغتمّ من زوالها، فانظر إلى ماهيتك فإن بين لطائفك لطيفة لا ترضى بغير الأبدي، فتلك اللطيفة هي سلطان حواسك ولطائفك، فأطع سلطانك ذاك المطيع لأمر الفاطر الحكيم، وأفلح (إذ المخلوقات كما تتساوى في جهة البعد لمن كونها معبودة تتّحد في نسبة كونها مخلوقة) باتفاق العلوم وشهادة الفنون يحكم بحدس قطعي بأنّ كلّ فرد من البشر سيعاد بعينه وجسمه وباسمه ورسمه في الحشر والنشر الأكبر.
12- حضارة أوربا وفلسفة الروح:
إن أوربا اثنتان، إحداهما هي أوربا التي تتبع العلوم التي تخدم العدل والحقّ وتراعي الصنائع النافعة لحياة مجتمع البشر، وذلك بالفيض الذي استفادته من الدين العيسوي الحقيقي. أما القسم الثاني الفاسد، هو ظلمة الفلسفة الطبيعية، الفلسفة الضارة الباطلة، والحضارة السفيهة المضرّة...أيتها الروح الشقية الناشرة للكفران، السعادة في الروح وليس في الجسم.. لقد أهديت هذه الحالة الجهنمية إلى روح البشر بدهائك الأعور، أسقطت الإنسان إلى أسفل السافلين كأشقى الحيوانات فالعلاج الذي وجدته لهذه العلة هو ملاهيك الجذابة المزخرفة ومشتهياتك المنومة التي تخدم إبطال الحواس إلى حين، فحكمت حمقاً بأن الحياة جدال... الدنيا مناحة عامة والأصوات في الدنيا نياحات ناشئة عن الموت والآلام.. الذليل يظهر دناءة بحيث يقبل قدم الإبليس لنفع خبيث.. شهادة من أهل الذمة مقبولة في مذهب الحنفية ولكن الفاسق مردود الشهادة لأنه خائن، لأنه يتلذذ بالتسميم كالحيات.. إن الوالدات الحيوانية تحمي أولادها باللذة.. وإن الجمادات تطلب شرفاً وكمالاً وانتظاماً..
قطرة ماء وذرة من زجاج ترى نفسها في عرش الشمس فالذرات الموجودات تصعد من الظهور والتنوّر باسم الفاطر الذي وظّفها بتلك الوظائف وأدرج فيها اللذة برحمته.. وامتثال النباتات والأشجار لأوامر الفاطر الجليل بوجه يشعر بالشوق واللذة.. كشجرة التين تتباهى بنفسها وبخزينة الرحمة وغذاؤها الطين، وشجرة الرمان تأخذ شراباً صافياً من خزينة الرحمة وهي تقنع بماء حمأ كدر.
إن الكسالى والعاطلين يشتكون دائماً من عمرهم فيطلبون انقضاءه فوراً بالملاهي، وأما الساعي والناشط فهو شاكر وحامد، ولا يطلب زوال عمره، فكل سعي وحركة في الكائنات من دوران الشموس وسيرها وسياحتها إلى اهتزاز الذرات وتحولها ودورانها كالمولوي يجري على قانون القدر الإلهي، ويصدر عنه يد القدرة الإلهية، ويظهر بالأمر التكويني المتضمن للإرادة والأمر والعلم.. حتى إن كل ذرة وكل موجود يشبه مجنداً فكما أن لذلك المجند وظائف ونسباً مختلفة في الجيش وفي الدوائر المختلفة.. إن لذرّة في عينك نسباً، ولها وظائف حسب تلك النسب.. وفي أعصاب الوجه وفي شرايين البدن، وهكذا فَقِسْ كلَّ شيء عليها، فبناء على هذا يشهد كل شيء على وجود قدير أزلي.. الإيماء الإلهي إلى النحل:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}،{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
الإنسان الذي هو مخلوق ضعيف وصغير كالذرة بين الكائنات، عبد محبوب لخالق الأرض والسموات وخليفة الأرض وسلطانها، وذلك بسرّ الاتحاد الكوني(الهيولى الكونية) إفادة القرآن المعجز البيان شفقة ورحمة، يكرّر القرآن ما كتب على صفحات السموات والأرض من الآيات.. في أسلوبه جزالة وسلامة وحالة فطرية، كأنّ القرآن حافظ يتلو ما سطر بقلم القدرة على صفحات الكائنات من الآيات.
13- مناجاة التأويل الروحي:
فيا ربي أراني عنه قريب، لبستُ كفني، وركبت تابوتي، وودعت أحبابي، وتوجهت إلى باب قبري، فأنادي في باب رحمتك: الأمان.. الأمان، يا رحمن، يا حنّان، يا منّان، خلصني خجل العصيان، وأنادي: الأمان.. الأمان، من ضيق المكان، ومن وحشة العصيان، ومن قبح وجه الآثام.
14- الالتجاء إلى الله:
يا خالقي.. مخلوقك وعبدك العاصي العاجز الغافل الجاهل.. الشقي الآبق معترفاً بالذنوب والخطيئة الكبرى، وأنت أرحم الراحمين، فأي بابٍ يقصد غير بابك، وأنتَ الحقّ المعبود...
(طوبى لمن عرف حدَّه ولم يتجاوز طوره).
خذْ قبضة من مختلف بذور الأشجار والأزهار والنبات، فادفن تلك القبضة التي هي بمثابة صندوق الأزهار والأشجار والنبات المختلفة الأنواع والمتغايرة الأجناس، وازرعها في الظلام وفي تراب مظلم بسيط وجامد، ثم اسقها بماء بسيط بلا ميزان، لا يميز بين الأشياء، ويجري حيثما صرفت وجهه، ثم أنت في فصل الربيع الذي هو عرضة الحشر السنوي، وانظر إلى زمان صيحة ملك الرعد الشبيه بإسرافيل على الغيث في الربيع من قبيل نفخ الصور، وإلى وقت تبشيره بنفخ الروح بالنوى المدفونة تحت الأرض، فكيف تمتثل الأوامر التكوينية الواردة من الفاطر الحكيم بكمال الامتثال تحت تجلّي اسم الحفيظ، وأن تلك البذيرات المتشابهة تتمايز ويفترق بعضها عن بعض، وذلك بالقصد والإرادة والعلم وكمال الحكمة.
مثلاً: أصبحت هذه الشتلة شجرة تين فشرعت تنشر نِعَم الفاطر الرحيم، وتنثرها على رؤوسنا، وتمدُّها بأيدي الأغصان، وكذلك شقائق النعمان ودوار الشمس، فتزينت لنا وتبتسم في وجوهنا وتحبب إلينا.. فتنكشف تلك البذيرات بحيث أصبحت تلك القبضة في حكم حديقة مليئة بأشجار مختلفة وأزهار متنوعة.. ويظهر سرّ قوله تعالى:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}/الملك3/. فيحفظ كل بذرٍ على الإرث الذي أعطاه الله بإحسانه وحفظه الخارق(أيحسب الإنسان أن يُترك سدى) سيظهر التجلي الأكبر في القيامة والحشر حجّة قاطعة على أن أمثال الناس الذين هم حملة الأمانة الكبرى وخلفاء الأرض وآثارهم وحسناتهم وسيئاتهم ستحفظ في كمال الاعتناء وستحاسب حسابها..
الإنسان مبعوث إلى الأبد ومرشح للسعادة الأبدية والشقاوة الدائمة، وسيرى الحساب عن عمله، صغيراً وكبيراً، قليلاً وكثيراً، فالشواهد في كتاب محفوظ لا تعدّ ولا تُحصى، والشاهد الذي بيّناه هو قطرة من مياه البحر.
إن الفاطر الحكيم خلق بدن الإنسان صورة على صورة قصر مكمّل، وعلى مثال بلد منظّم، وجعل القوة الذائقة في الفم كحاجب، والأعصاب والعروق كأسلاك البرق والهاتف، والمعدة في جهة تدبير الجسد سيداً وحاكماً.. الروح حاكم الجسد.. والعقل على المعدة.. يفدي بعزته ويقبل الذلّ، ويقع في حالة المسكنة المعنوية بحيث يقبّل أقدام الأرذال، ويفدي أحياناً مقدساته التي هي نور الحياة الأبدية..
إن حاتماً الطائي المشتهر في العالم بالسخاء.. أهدى لضيوفه هدايا كثيرة وانطلق إلى الصحراء، فرأى شيخاً فقيراً حمل على ظهره حملاً من الشوك والحطب يشوّكُ جسمه ويدميه، فقال له الحاتم: إنّ حاتم الطائي يقري قرىً مهماً مع الهدايا فاذهب إليه تأخذ خمسمائة درهم عوضاً عن هذا الحمل الشائك بخمس دراهم، فقال ذلك الشيخ المقتصد: إني أرفع حملي هذا وأحمله مع عزتي ولا أقبل منّة حاتم الطائي، ثمّ سألوا الحاتم: من وجدته أسخى وأعزّ منك؟ فقال: رأيت ذلك الشيخ الذي لقيته في الصحراء أعزّ وأعلى وأجود منّي.
إن اللذة التي يذوقها فقير من قطعة خبز يابس أسود بسبب الاقتصاد والجوع أزيد من لذةٍ يذوقها سلطان أو غني مما يأكله من أفخر الحلويات مع فقدان الاشتهاء، وبالملل الناشئ عن الإسراف. لا إسراف في الخير كما لا خير في الإسراف، وعدم القناعة يهدم شرف السعي والعمل ويجعله شاكياً بدل أن يشكر، ويلقيه في الكسل، ويترك المال النظيف المشروع فيطلب مالاً غير مشروع وإن الحريص خائبٌ خاسر..
والقناعة الفطرية للأشجار المحتاجة إلى الرزق تسوق رزقها إليها، إن قناعة الأسماك برزقها كانت وسيلة لأرزاقها المكملة، وإن الحيوانات الذكية مثل الثعالب والقردة تبقى نحيفة وغير سمينة لعدم تحصيلها المقدار الكافي من الرزق وذلك لعلّة الحرص الشديد، أو الركض وراء التخمة الزائدة، فهذا الحرص سبب المحنة، والقناعة مدار الراحة...
والبدويون في الصحراء والجبل قانعون برزقهم الكافي، ويعيشون بالعزة على وجه القناعة، وهكذا إن وقوع كثيرين من العلماء المفكرين والأدباء والكتّاب والشعراء في حال الفقر في سبيل الحرص بنتيجة ذكائهم، وغنى كثيرين من البله بحال قناعتهم الفطرية.. وبصورة قاطعة إن الرزق الحلال يأتي حسب العجز والافتقار وليس بالاقتدار والاختيار..
بل إن ذلك الرزق يتناسب عكساً مع الاقتدار والاختيار.. سألوا بزرجمهر العالم الشهير بالعقل وزير أنو شروان العادل من عدول ملوك إيران، لماذا يُشاهد العلماء بأبواب الأمراء ولا يُرى الأمراء على أبواب العلماء؟ مع أن العلم فوق الإمارة، فأجاب: إن ذلك من علم العلماء وجهل الأمراء...، يعني أن الأمراء لا يعرفون قيمة العلم بسبب جهلهم حتى يذهبوا إلى أبواب العلماء ويطلبوا منهم العلم، أما العلماء فلكونهم يعلمون قدر المال أيضاً بسبب معرفتهم يطلبون المال بأبواب الأمراء.
هكذا أجاب بزرجمهر جواباً لطيفاً.. فحرص العلماء الذي هو نتيجة ذكائهم المفرط والمسبب لفقرهم.. ولذلك القناعة كنزٌ لحسن العيش ولراحة الحياة وأما الحرص فهو معدن الخسارة والسفالة.. نعم إذا اجتمعت بأي مسرف أو حريص على المال تسمع منه الشكايا، فيشكو لسانه مهما كان غنيّاً وإذا التقيت بأفقر إنسان ولكنه قانع تسمع منه الشكر...
إن أفلاطون وحكماء الإسلام وشيخ الأطباء وأستاذ الفلاسفة الداهية الشهير عليّ (ابن سينا) جمع الطب في الأبيات الشهيرة:
جمعتُ الطبَّ في البيتينِ جمعاً وحسن القول في قصر الكلامِ
فقلّلْ إن أكلـت وبعـد أكـلٍ تجنّبْ فالشفا في الانهضــامِ
وليس على النفوس أشدُّ حالاً من إدخال الطعام على الطعامِ
إننا بحاجة إلى التساند والاتحاد الحقيقيين بتحصيل الإخلاص مع أنفسنا ومع الآخرين، وإن كل فرد منا يستطيع أن ينظر بعيون سائر إخوته، وأن يسمع بآذانهم في اتفاق صميمٍ حقيقيٍّ، ويتفكّر بعقولهم... فلهم جميعاً قيمة مادية وقيمة معنوية عالية.. فالقوة في الاتحاد والحقّ والإخلاص...
15- فلسفة الموت:
رابطة الموت بين البشر فوائدها كثيرة، التخلّص من المباهاة والرياء بملذات الدنيا، فجنازة أي إنسان هي ثمرة وحيدة على شجرة عمره القصير هذا، فمن خلالها يرى المرء موته كما أنه إن ذهب قليلاً إلى ما وراءها يرى موت عصره، وإن ذهب إلى ما وراءه نبذةً أخرى يشاهد موت الدنيا أيضاً، فيفتح الطريق للإخلاص الأتمّ... وإن التحاسد الوارد من جهة النفع المادي ينقص الإخلاص شيئاً فشيئاً... سرّ الإخلاص هو فناء النفس في المجموع دحضاً للشهرة الناشئة عن حبّ الجاه والعجب والرياء وجنون العظمة المعبر عنه بالشرك الخفي. يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء...
ذلك النور الأسود السائل من الأقلام الخالصة المباركة التي تخدم الحق والإيمان الصادق.. شهادة هؤلاء كل الشهداء الذين يصدّقون دعوى أن الموت حقّ ويوقعون عليها بخواتم جنائزهم كل يوم، ذلك الإيمان الذي هو ورقة جواز السفر للسياحة في طريق الأبد، ومشعل القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح السعادة الأبدية، والتواضع أمام المتكبرين تذلّلٌ، وأن تلك الذرات الموجودة في بدن الإنسان مأمورات صغار من مأمورات القدير الأزلي، تتحرّك بقانونه أو أنها جيشٌ من جيوشه أو رؤوس القدر وكلّ ذرة ريشة..إن بدنك يشبه قصراً خارقاً له ألف قبة، تساندت الأحجار في كل قبة منها رأساً إلى رأس، وأُوقِفَتْ في الهواء بدون عمد.. وإن الحبّ الإلهي يستوجب الإخلاص في الحبّ والطاعة، كما يقول ابن المبارك رحمه الله:
تعصي الإله وأنتَ تُظْهِرُ حبَّهُ هذا لَعمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُّكَ صادقاً لأطعتَـهُ إنَّ المُحبَّ لمـن يحبُّ مطيعُ
إن ذلك الوجود الواحد خرج عن يدٍ واحدة قديرة وحكيمة غاية القدرة والحكمة، وإن تلك الذرات الموجودة في بدنك مأمورات صغار من مأمورات القدير الأزلي، تتحرك بقانونه، إن ما يشاهد في الموجودات ولاسيما في ذوي الحياة من الإيجاد الحكيم والصفة البصيرة.
مواد البذور متساوية كالنطف والبيضات، فإنها عبارة عن خليطة من مولِّد الماء ومولِّد الحموضة والكربون والآزوت، كعجين بلا شكل ولا انتظام، مع أن الهواء والماء والحرّ والضياء كل منها بسيط لا شعور له يجري إلى كل جانب جري السيل... فلذلك يقتضي نشوء تلك الأزهار التي لا حدّ لها من ذلك التراب مصنعة ومنتظمة للغاية ومختلفة الأشكال، يقتضي بالبداهة والضرورة أن يوجد في ذلك التراب في الكأس مطابع ومصانع معنوية على مقياس صغير، فكيف شذّ فكر الطبيعيين عن دائرة العقل؟ وكيف اتخذوا خرافة ممكنة، والسكارى الحمقى باسم العقل والفن واتخذوا هذا المسلك الضالّ؟.
16- الفكر الروحي والمادي:
إن إسناد كل موجود إلى واجب الوجود له سهولة في درجة الوجوب، وإن إسنادها إلى الطبيعة في جهة الإيجاد مشكل في درجة الامتناع وخارج دائرة العقل.. فنقول لهذا الوجودي والطبيعي، أنت السكران الأحمق المتحقق عن أحمق الحمقى، أَخْرِجْ رأسَكَ عن وحل الطبيعة وانظر إلى ورائك, أبصر صانعاً جليلاً تشهد له الموجودات كلها من الذرات إلى السيارات بألسنة مختلفة وتشير إليه بأصابعها..
إنّ ذلك الأمر الموهوم بلا حقيقة الذي يسميه الطبيعيون بالطبيعة، إن وجد وكان ذا حقيقة خارجية فإنما يكون صنعة، ولن يكون صانعاً، وإنه نقش ولن يكون نقاشاً.. إن الله تعالى ليس بحاجة أو بمحتاج إلى عبادتك.. العبادة للعابد بمثابة الأدوية لجراحاتك المعنوية، وتحد حدوداً لطغيانك وتجاوزاتك لحقوق الآخرين، أي تهذّبك تهذيباً, إن الإنسان الذي يعبد ويسبّح مخلصاً ومتفكّراً يرى تسبيحات الموجودات وعباداتها، وأما تارك العبادة يتوهّم الموجودات بصورة خاطئة... ومن المصدّق لدى أهل العقل أجمعين أن الأسباب تخلق من العدم... ففي الوحدة والتوحيد سهولة وفي الشرك والضلال مشكلات...
الفلاسفة الوجوديون يقولون: إنّه لا يحدث شيءٌ ما من العدم، والذي يشغل مصنع الكائنات هو تركيب وتحليل، والردّ عليهم أنهم لم ينظروا إلى الموجودات بنور القرآن... قسمٌ منهم السفسطائيون استقالوا عن العقل الذي هو خاصة الإنسان وسقطوا إلى أسفل من البهائم، فوقعوا في الجهل المطلق. والقسم الآخر أنكروا الإيجاد ضرورة إنه لا يمكن الوجود من العدم فيحكمون أن الموجود لا ينعدم، وإنما يتخيلون وضعاً اعتبارياً على صورة تركيب وتحليل واجتماع وافتراق بحرمان الذرات وبرياح الصدفة... فالضلال جعلهم دريئة للجهل والسخرية...
إن للقادر المطلق نوعين من الإيجاد على صورة الإبداع والإنشاء وإن إعدام الموجود وإيجاد المعدوم قانون أسهل وأهون عليه، بل قانون دائم وعام من قوانينه... فلينعدم من يقول إزاء قدرة توجد في الّربيع أشكال آلاف الأنواع من النباتات والكائنات من ذوات الحياة وصفاتها...
17- التستر في النساء فطري:
إنه فطري تقضيه فطرتهنّ لأنهنّ ضعيفات نحيفات، فتحتاج المرأة إلى الحماية الزوجية وأولادها... ويوجد ميل فطري لتحبّب نفسها إلى زوجها... إن العري للمرأة مخالف للفطرة والتستر ينقذها من السقوط والذلة والسفالة والإسار المعنوي... وإن العلاقة الشديدة بين الزوج والزوجة هي علامة الدنيا والآخرة... إن الزوجة ليست رفيقة حياة زوجها رفاقة مخصوصة بالحياة الدنيا وحدها، بل إنها رفيقته في الحياة الأبدية، إن سعادة حياة أسرة تدوم بمحبة خالصة واحترام صميم وبأمن متقابل بين الزوج والزوجة، وأن التبرّج ينقض تلك المحبّة والاحترام المتقابل وتفسد ذلك الأمن... والمرأة المتستّرة التي تحصّن جمالها بزينة آداب القرآن في دائرة تربية الإسلام، يصبح ذلك الجمال الفاني جمالاً باقياً، ويوهب لها في الجنة على وجه أحلى وأجلى من جمال الحور...
18- بدنك هو هيكلك المؤقّت:
فيا أيها المريض المشتكي..! إنّ حقّك هو الشكر والصبر لا الشكوى، لأن جسمك وأعضاءك ليست ملكاً لك، وإنك لم تصنعها ولم تشترها من مصانع أخرى، فإذاً إنها ملك الغير، ومالك الملك يتصرف في ملكه كما يشاء... ويهب الله الصحة لبعض الناس فيفسدونها بالخمور والشهوات.
19- إنَّ الأشياء تعرف بأضدادها:
إذا لم تكن الظلمة لا تعرف الضياء وتبقى بلا لذّة... وإذا لم تكن البرودة لا تفهم الحرارة وتبقى بدون ذوق... وإذا لم يكن الجوع لا يورث الطعم لذّة، وإذا لم تكن العلّة فلا ذوق للعافية.. إذا لم يكن هذا المرض في رأسك أو في يدك أو في معدتك فهل كنت تشعر بالنعمة الإلهية اللذيذة الطيبة في صحتك... ما كنت تتشكر عليها بل لا تذكرها ولصرفت تلك الصحة بالغفلة بدون الشعور... بل صرفتها للسفاهة...
إن أكبر علاج لك أيها الإنسان هو علاج الإيمان الذي هو ترياق شافٍ وعلاجٌ ناجع، وإن الطريق الأقصر هو معرفة قدرة قدير ذي جلال ومعرفة رحمته... إن من لم يعرف الله تكون الدنيا مليئة بالبلاء، ومن يعرف الله فدنياه ممتلئة بالنور والسرور المعنوي الذي لا حدّ له.. ويذوب فيه ألم الأمراض البدنية، ويضمحل ذلك الألم تحت ظلال السرور والشفاء... واللذة المعنوية الناشئة عن هذا الإيمان المطلق الذي لا يتزعزع أمام الرياح العاتية من الأمراض والبلايا والمصائب... والموت لأهل الإيمان ليس هائلاً بل هو تسريح عن كلفة خدمة الحياة, وعطلة عن العبودية التي هي تعليم وتدريب في الابتلاء في ميدان الدنيا ومسرح الحياة، ووسيلة للوصول إلى أحبابه، وواسطة للدخول في وطنه الحقيقي وفي مقام سعادته الأبدية... ودعوة من سجن الدنيا إلى روض الجنان... ورحلة للظفر بالمكافآت وعرابين الأوسمة... فلا ينظر إلى الموت بمنظار الفزع بل ينظر إليه ببصيرة الرحمة والسعادة الخالدة... والدعاء إذا لم يتقبل فإن الخالق الحكيم هو الذي يعلم الخير فيعطي ما هو لنفعنا، فيصرف أحياناً دعاءنا العائد إلى الدنيا، يصرفه لنفعنا، إلى الآخرة فيتقبله كذلك...
19- المرض نوعان:
إن المرض قسمان: قسم حقيقي... وقسم وهمي... أما الحقيقي، فإن الشافي الحكيم الجليل خلق لكل داء دواء، وادّخرها في صيدليته الكبرى التي هي كرة الأرض، فكما أعطى الداء يعطي الشفاء... أما القسم الوهمي من المرض، فإن علاجه الذي يكون تأثيره أشدّ هو عدم الاهتمام به، فإنه كلما يهتمّ به يتكبَّر، وإذا لم يبالِ به يتصاغر، كما أن أحداً كلما خالط النحل تهجم عليه وإذا لم يبال بها تتفرق... كما أنّ في عمر الإنسان يسقط كل يوم حجر من بناء عمره على الأرض وينام الروح غافلاً... وفي كل سنة في الربيع ما لا تعدّ ولا تحصى من جنائز أشجار ميتة واقفة على الأقدام، وفي الربيع الذي يليه يظهر ما لا يعدّ ولا يحصى من أنواع الزينة والمحاسن، وإن الإيمان بالله وبالآخرة تحفّز الإنسان إلى التمسّك بالعروة الوثقى حجّة للتفاؤل وإثباتاً قاطعاً بأنّ بعد هذه الدار الفانية دار سعادة، وهي دار الخلد في الآخرة الباقية... وعندما نظرتُ إلى ذروة شجرة عمري فرأيت أن لتلك الشجرة ثمرة واحدة وهي جنازتي تقف فوق تلك الشجرة... فخفضت رأسي إلى الأسفل، رأيت جنازتي تحت التراب يداس عليها بالأقدام... فرأيت أن الدنيا فانية بلا أساس تسافر متدحرجة في أودية العدم, وظلمات الفناء، وبينما أنا في هذه الحالة من الدهشة والوحشة واليأس... فإذا بأنوار الإيمان المتلألئة في سماء القرآن المعجز البيان أمدّتني... شقّ الإيمان صورة القبر الأكبر وحوّله إلى مجلس ضيافة رحمانية في قصور السعادة الطيبة... فأصبح الإيمان دواء وعلاجاً لعالمي.
20- وجه الموت:
نظرت إلى وجه الموت الذي يخوّف كل أحد، وبتوهّمٍ أفزع، فرأيت بنور القرآن أنّ لثام الموت وإن كان أسوداً مظلماً إلا أن سيماه الأصلية جميلة ومشرقة للمؤمن، وأن الموت ليس إعداماً ولا فراقاً بل إنه مقدمة الحياة الأبدية، وإنه تسريح عن كلفة خدمة الحياة وتبديل مكان، ووصال إلى ركب الأحباب الراحلين إلى عالم البرزخ، ونظرت إلى وجه الموت مشتاقاً إليه وفهمت سراً من أسرار رابطة الموت، إن ما بعد الموت حياة البرزخ هي روضات الجنة من غرسات وحدائق وجنان.
أولئك الأرواح تركوا أفكارهم العتيقة تحت التراب فيسير بعض منهم في الكواكب وبعض منهم في طبقات عالم البرزخ... والقرآن والإيمان قد أثبتا هذه الحقيقة بصورة قاطعة.. قال قلبي لنفسي المتفلسفة إن الشيء الأصغر كأكبر الأشياء، وأما الأسباب فهي حجاب، وذلك ما نظنه أصغر من المخلوقات قد يكون أعظم في جهة الخلقة والصنعة، والذباب قد يكون أعقد وأصعب صنعة من الكائنات العملاقة...
إن الذرات والخلايا في حكم جيش منظم وتعمل بدساتير علم أزلي، فإن ذباباً يقتل نمرود, والنمل يدمر قصر فرعون, وبذر الصنوبر كالذرة يحمل على عاتقه حمل شجرة جسيمة كالجبل... يطوف خيالي في أصغر الأشياء, وأكبرها... وقادني الإيمان إلى وطن أزلي أبدي إلى حياة البرزخ... وأعتبر المدافن هي المواطن الثابت والساكن.. فيتألم القلب من أعماقه بحيث لو كانت آلاف القلوب لي لبكت معاً، لولا الفراق عن الأحباب لما وجد الموت سبيلاً إلى أرواحنا حتى يأتي ويقبضها. فإذاً إنّ أشدّ ما يميت الإنسان هو الفراق عن الأحباب... فلولا المدد من القرآن والإيمان لأثر ذلك الغم والكدر والحزن تأثيراً كبيراً، إننا ولدنا لنموت، فلولا الولادة لما كان الموت، فالموت وصال لا فراق، وتبديل مكان، وتسنبل ثمرة باقية، نبني القصور للخراب... القلاع القديمة كانت قصوراً شاهقة وأمست اليوم خراباً مهدماً، فنحن نبني للخراب... وأعظم بناء أن نسعد الإنسان وأن نجله ونحترمه، ونحقق أهدافه في العيش الكريم... والكرامة الإنسانية.
21- سرّ الأحرف في بدايات سور القرآن:
إن حروف: ألم, طس, حم... الحروف القدسية، من الرموز الإلهية، هي حروف عقد وأزرار تهز خطوط المناسبات الدقيقة الخفية بدون زمان بين ذرات الهواء، تؤدي مخابرات قدسية وهواتف معنوية من الأرض إلى العرش، إن كل ذرة وكل الذرات من الهواء تمتثلها الذرات المنتشرة في أقطار العالم... فهذه الحروف هي الرموز الإلهية في أوائل السور، كأنها تسمع الأوامر، وتعمل لها منتظمةً وحساسةً بلا نهاية، بدون زمان.. يصحّ أن يحصل الشفاء، وسائر المقاصد بقراءة تلك الحروف وبكتابتها كالعلاج البدني والباطني...
22- الحديد وأسراره في التنزيل الحكيم:
(وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس) لماذا لم يقلْ أخرجنا... فجهة النعمة ليست في الأسفل بل تنزل عن خزينة الرحمة، ولا شك أن خزينة الرحمة عالية وفائقة وفي المرتبة العليا، وأن النعمة تكون من الأعلى إلى الأسفل. وإن كلمة الإخراج لا تشعر جهة الإحسان... فالنعمة الواردة من خزينة الرحمة التي هي تجلٍّ من تجليات مرتبة علو الرحمن... فالحديد أعظم نعمة إلهية، وإن الأعلى والأسفل نسبيان فالأعلى يكون أسفل بالنظر إلى مركز كرة الأرض... حتى إن ما هو أسفل بالنسبة إلينا يصير أعلى بالنظر إلى قارة أمريكا، فإذاً إن الموادّ الواردة من المركز إلى جانب سطح الأرض يتغير كيفيتها بالنسبة إلى من هم على سطح الأرض... إنه ليس مادة عادية تخرج عن مخزن كرة الأرض التي هي دار الإنسان، وليس معدناً فطرياً استعمل في الحاجات تصادفاً، إنّ الحديد نعمة أعدت في مصنع الكائنات العظيم، وفي خزينة الرحمة من جانب خالق الكائنات، ليكون مداراً لحاجات سكان كرة الأرض، لإفادة النفع العام في الرحمة والضياء النازلة من السماء، كأنه يرسل من مصنع الكائنات لا من مستودع الأرض الضيق... بل أعد في خزينة الرحمة العظيمة في قصر العالَم، فَوُضِعَ في مستودع كرة الأرض، فيخرج قطعاً قطعاً عن ذلك المستودع حسب احتياج الأعصر... فيقول البيان المعجز لنا: اعملوا لإخراج الحديد المُنزَل، واستفيدوا منه وأدّوا بهذا الحديد حاجاتكم فيسخّر كرة الأرض ويسير في البر والبحر والجو بصورة خارقة ومحيرة للعقول، فأظهر لمعة من لمعات الإعجاز من قبيل الإخبار عن الغيب لكلمة ( فيه بأس شديد).
23- سرّ المخلوقات:
وقوله تعالى:(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}/النمل25/. إن من مزايا كلامٍ بليغٍ أن يُشير الكلام إلى عمل المتكلم وصنعته التي يشتغل بها كثيراً، وإن الهدهد السليماني كان عريف الحيوانات والطيور كالعرفاء البدويين الذين كانوا يكشفون بالفراسة، شبه الكرامة، أماكن الماء المخفي في صحراء جزيرة العرب القليلة الماء... فإنه كان طيراً مباركاً موظفاً يجد الماء ويعمل عمل المهندس لسليمان عليه السلام....
(وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ) إن المخلوقات مثل الإبل والبقر الجسيمة التي هي من الحيوانات المهمة مسخرة ومطيعة للإنسان... حتى أنها تعطي زمامها بيد صبي ضعيف وتطيعه...
فهي حيوانات جنة معنوية فأنزلت من الأعلى... من خزينة الرحمة، فالأنعام هي الرزق.. ومبادئ هذه الحيوانات نزلت من السموات:(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ) ورزقها، أي رزق هذه الأنعام النباتات، ورزق النبات هو المطر، والمطر الذي هو رحمة وماء حياة، هذا الرزق من السماء، وتهزج الأمطار بشهادة فوائدها...
اللهم فأبِّدْ على صفحات الكائنات وأوراق الأوقات إلى قيام العَرَصَات أصْدِيَةَ تسبيحاتِ خاتم النبيين... ويا من تسبح بحمدك الأرض ساجدة تحت عرش عظمة قدرتك بلسان محمَّدِها عليه السلام... ونور الإيمان يزول الزوال, وينقلب إلى تجدد الأمثال، وفي التجدد لذّة أخرى، طلسم الفعالية الدائمة في الزوال والفناء والموت والحياة عنوان لوجودات مختلفة، وإنها تثمر وجودات كثيرة، وإن موت ذي حياة وزواله يثمر وجودات كثيرة ويتركها وراءه ثم يذهب..
نعم إن فانياً يبقى بجهات كثيرة, وإن نواة تموت بالتفسخ وتترك في موضعها سنبلاً جامعاً لمئة حبة.. وكما أن شجرة التين تموت ويبقى روحها الأمْريّ الذي هو قوانين تشكلها ويدوم في نواتها الشبيهة بالذرَّة ولا يموت ذلك الروح...
بل تتجدّد عليه الصور، بل تدوم ماهية ذي الحياة، إذ ماهيته ظل اسم من الأسماء الحسنى الباقية، فتبقى تلك الماهية تحت شعاع ذلك الاسم الباقي، وتبقى هويته أيضاً في كثير من الألواح المثالية، فلا يكون العدم إلا عنواناً لانتقال وجود زائل إلى وجودات دائمة... إن الأرض مصنع كبير وهو يتوسخ بالأقذار ويتلوث بالقاذورات فهو مصنع الكائنات... فإذاً من يتعهد بالكائنات يعتني بها جداً... وإن لها مالكاً يكنس ذلك المصنع الكبير والقصر العظيم وينظفه كغرفة صغيرة، ولولا ذلك الاعتناء بالدقة عن تطهير دقيقه وتنظيف حكيم، ولولا هذا التطهير لغرقت الكائنات... وأمطر على رؤوسنا حجارة في عظمة الجبال وشردتنا عن وطننا الدنيوي... ولو سئل عن فنّ الطب ما هي الأرض وكائناتها، لأجاب إنها صيدلية كبرى مكملة ومنتظمة غاية الانتظام، أعدَّ فيها كل أدوية ونضدت تنضيداً جيداً...
ووصف الكيماوي: إنها مصنع كيماوي مكمّل ومنتظم جداً، معمل مكمّل للغاية لا نقص فيه.. وقال عنها الخبير الزراعي: إنها حديقة مكملة، ومزرعة منتظمة ذات محصولات عالية تنضج كلّ أنواع الحبوب في أوقاتها... وقال عنها التاجر: إنها معرض منتظم للغاية، وسوق منظم جداً، ودكان مصنّفة البضائع.. ويقول عنها فنّ الإعاشة: إنها مستودع منتظم جامع لكل أنواع الأرزاق... وقال عنها الخبير في الأرزاق والبركات: إنها مطبخ رباني، وجفنة رحمانية تطبخ فيها مئات ألوف أطعمة لذيذة معاً بكمال الانتظام... ويقول عنها الخبير العسكري: إن الأرض معسكر يوجد فيه أربعمائة ملّة مختلفة اجتلبت ووضعت خيامها على وجه الأرض في كل فصل ربيع... ولو سئل عن فنّ الكهرباء لقال: إن سقف قصر هذا العالم المحتشم قد زين بما لا حدّ لها من سراج كهربائية منتظمة موزونة، وعلى مقدمتها الشمس والسرج السماوية ولا تولّد الحريق ولا تفسد موازنتها... وهذه هي السرج الكهربائية تعطينا النور والضياء بدون ثمن... وإنكار ذلك جهل وجنون عجيبان لا يعرَّفان.
إن الموجودات تخلق بوجهين: أحدهما إيجاد من العدم ويقال له الإبداع والاختراع والآخر إيجاد بصورة الجمع بين الأشياء والعناصر الموجودة ويطلق عليه الإنشاء والتركيب... فالروح من العوالم المعنوية بميزان مخصوص... فإيجاد ذبابة بهذه الصورة يشكل مقدار إيجاد الكائنات... وذلك لأن أهل الفنّ متفقون على أنه لا يستطيع شيء أن يَخلُقَ من العدم سوى الخالق الفرد الواحد الأحد الصمد... وإن من يسندون الإيجاد إلى الأسباب والطبيعة يقعون في جهل مضاعف وذلك لأنه يوجد على الطبائع والأسباب أيضاً أثر صنعه منتظمة وأنها أيضاً مصنوعة كسائر المخلوقات، فمن صنعها كذلك، فإنه يصنع نتائجها أيضاً، ويظهرها معاً، ومن صنع النواة يصنع عليها الشجرة، ومن يصنع الشجرة يخلق عليها الثمرة، وإلا فإنها تقتضي طبائع وأسباباً منتظمة أخرى أيضاً لإيجاد طبائع وأسباب مختلفة أخرى...
وهكذا دواليك، وهلم جرى، فيلزم أن يقبل وجود سلسلة موهومات غير متناهية لا معنى ولا إمكان لها، وهذا أعجب أنواع الجهل، وإن أهم أسباب الحاكمية هو الاستقلال والانفراد فلهذه الخاصة الأساسية المهمة جداً ترد الحاكمية الإلهية في درجة الربوبية المطلقة... وكما أن الانتظام الأكمل والانسجام الأجمل في نهاية الدرجة على وجه الكائنات من المجرات إلى النباتات والحيوانات والمعادن وحتى الجزئيات والذرات شاهد عدل وبرهان باهر على تلك الفردية والوحدة، لا يقبل الشبهة بجهة أصلاً، إذاً لو كان تدخل الغير لفسد هذا النظام والانتظام وموازنة الكائنات الحساسة لغاية الحدّ...
هذا النظام المكمل الخارق:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}/الأنبياء22/، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ}/الملك3/. وكما أن الأنبياء والأولياء كلهم يجدون أعظم أذواقهم وسعاداتهم في كلمة التوحيد... وإن جميع البراهين التي تثبت التوحيد، تثبت قطعاً رسالة النبي الكريم وحقيقة وظيفته وصدق دعواه... وهناك الدلائل الدافعة التي تشهد على درجة قيمة الشخصية المعنوية للذات الأحمدية التي أدت تلك الوظيفة أتم أداء، وعلى أن تلك الشخصية المعنوية هي شمس هذه الكائنات في مصنع هذه الكائنات...
يصفي الأشياء، نعم إن الحياة جهاز للتصفية، ويطهرها وينورها دائماً في كل جانب، وكأن ذلك الجسم الذي هو وكر الحياة مصيف ومعسكر ومدرسة لقوافل الذرات لتوظيفها وتدريبها وتنويرها، فكأن ذات الحي المحيي يلطف هذا العالم الدنيوي السفلي المظلم وينوره، ويعطيه نوع بقاء، ويعده للسفر إلى عالم باقٍ، وذلك بواسطة جهاز الحياة هذا...
حتى إن المطر لم يجعل وقت نزوله تابعاً لقانون مطرد لكونه نوعاً من الحياة والرحمة، حتى تفتح الأيدي إلى الباب الإلهي في كل أوقات الحاجة لطلب الرحمة...
فلو كان المطر تابعاً لقانون كطلوع الشمس لما سئلت تلك النعمة الحيوية كل وقت بالرجاء علامة الحصر والتخصيص، إن الرزق والشفاء والغيث تأتي من جانب الحي القيوم بدون حجاب، وإن ذلك الشافي الحقيقي هو الذي أعطى الأدوية الخواص وخلق فيها التأثير{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}/الشعراء80/،{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}/الذاريات58/، {فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، نعم كما أنه تخير عناصر الإنسان عن عناصر الكائنات، وعظامه من أحجارها وصخورها، وشعراتُهُ من نباتاتها وأشجارها، والدم الجاري في بدنه أنهارٌ، والمياه المختلفة عن عينه وأذنه وأنفه وفمه تنبئ عن عيون الأرض ومياهها المعدنية وتدل عليها وتشير إليها, كذلك يخبر روح الإنسان عن عالم الأرواح وحافظته عن اللوح المحفوظ وقوته الخيالية عن عالم المثال وهكذا يخبر كل جهاز منه عن عالم ويشهد على وجوده قطعاً...
الكائنات خُلِقَتْ للإنسان، والإنسان خُلِقَ للمعرفة والمحبة الإلهية، ولا ريب إن الإنسان سيذهب إلى دار بقاء ويصبح مظهراً لحياة باقية قطعاً، وعلى كل حال. وإن محمداً رسول الإنسانية ذلك المرشد الأعظم والإنسان الأكمل الذي يعلم قيمة الإنسان ووظائفه وكمالاته يثبت بإظهاره جميع الكمالات والوظائف في حق الإنسان في نفسه ودينه بأكمل صورة... وإن المقصود والمنتخب عن الكائنات هو الإنسان، كذلك أن المقصود الأعظم والمنتخب الأقوم عن الإنسان والمرآة الزهراء للأحد الصمد هو محمد عليه الصلاة والسلام...
وأخيراً: إن الإنسان يصير مرآة للكمالات الإلهية.. والإنسان يفهم قوة خالقه المطلقة بعجزه المطلق, ويفهم درجات قدرته بدرجات عجزه... ويفهم قوة خالقه بضعف نفسه... وهكذا يصير بصفاته الناقصة مرآة شبه مقياس لأوصاف كمال خالقه, وتختم خاتمَ أحديّة على وجه كل شيءٍ وتعلن بأسمائها العظمى وبألسنة لا نهاية ولا حدّ لها...
- أجيالنا عرفاناً بروحهم الانتماء للوطن شريان الحياة للشعوب ومقياسٌ لا يقبل الريب في صلابتهم وصمودهم حين يداهم الوطن الخطر... فهم درعنا الواقي وزادنا الخالد الذي لا تمحوها الأيام....
- لقد انتهى العصر الحجري بنقص في الحجارة فقط ونحن بحاجةٍ إلى ثقافة الصمت... وعملنا يسبق كلامنا.....ومادامت قدراتنا العقلية محدودة فإنه من الضروري أن نكتفي بالتفكير بالفن الممكن....
- والفرق الجوهري بين الشعوب المتخلفة و المتحضرة ينحصر في كلمةٍ واحدةٍ هي قدرات العلم التطبيقي والتجريبي.
- علينا أن لا نستهين بالمستضعفين في الأرض:
لا تستصغرنَّ صغيراً في صغارنه إنَّ الذبابـة تدمـي مقلة الأسـد
- المفكر القومي دون تعصّب هو حصان جامح... تمتزج فيه أنشطة الثقافة بروح الانعتاق... والحرية بمعناها الحقيقي هي حرية العقول لأنه من دونها تتخبط الأمم والشعوب في وهدة الظلام نتيجة الانغلاق العقلي والاستبدادي وامتدت نيرانه لتحرق كل ما يحيط به فالمسرح اليوناني شاهد ومعبّر عن نعمة الاستنارة.... ونشأ في اليونان بلاد الديمقراطيات ولم يكن لينمو ويترعرع إلا في ظلَّ إدارة حكيمة وعقلية مستنيرة على مستوى الحكم والشعب...
- صحيحٌ أن التاريخ وليد ظرفٍ موضوعي خارج عن إرادتنا وظرف ذاتي يخصُّ كل شعب على حدة ولكن يبقى للفرد تأثيره على تطور الظرف الذاتي في علاقته بالظرف الموضوعي محلياً وإقليميا ودولياً ويحفل التاريخ بنماذج لشخصيات استغلّت الظرفين الموضوعي والذاتي لصالح شعوبها ورقيها وأخرى استغلتها لتحقيق طموحات شخصية أو أطماع فئوية أتت على شعوبها بأوخم العواقب...
- إنه من الواجب الملّح علينا أن نبني جيلاً جديداً معافى بدنياً وذهنياً مشرئباً بالحق والعدل وفي ظلّ مؤسسات وقوانين تخدم الأمة والوطن... علينا أن ندرك ببصيرتنا الثاقبة...
أن نعمة الانعتاق والانطلاق من قمقم التبعية والعبودية يدفعنا إلى التفاؤل بمزيد من الحرية السياسية والثقافية ومن غير المعقول أن تمر ريح التغيير التي تعبر كل بلدان العالم دون أن تقتلع أشجار الأفكار القديمة المزمنة والنظم السياسية الغائبة عن الوعي... وأن نستعد على المستوى السياسي و الثقافي لكل هذه التغييرات وإلا سوف نتحول إلى غرباء في عالم غريب... وعلينا أن لا ننتخب لخدمة حزب وإنما لخدمة أمة وخدمة وطن... أن يكون نضالنا خدمة للمقدستين:(الأمة و الوطن)، وإن الذي يبصر الغاية والمرتجى سينكشف له الطريق، لأن أصحاب القضايا همهم الأول قضاياهم وليس أشخاصهم...
- وأنهي كلامي بقول أمير الشعراء:
وليـس الخلد مرتبةً تلقّـى وتؤخذ من شـفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همـم كبــار إذا ذهبت مصادرها بقينـا
وآثار الرجـال إذا تناهـت إلى التاريخ خيـر الحاكمينا
وسرّ العبقرية حين يسـري فينتظـم الصّنائع والفنونـا
وأخذك من فم الدنيـا ثنـاءً وتركك في مسامعها طنينا
أرصفة المدن السورية... ملتهبة بنار الحريق , وهجير السعير... تتلظى بشظايا الموت الرهيب... تنعي الأرصفة السوداء بألسنة حدادٍ هول الفاجعة، وجهنم الكارثة... الموت يحمل في ذراعيه مناجل الحصاد يحصد بها رؤوس الأهلين والأحبة و الأبرياء، شوارع المدن يعقد فيها الموت أعراس الفناء بدوي القنابل وقصف الطائرات وتحيلها رماداً ملطّخاً بأشلاء الموتى تنطق بمقابر جماعية... وجثث متفسخة ترتل صحائف المآسي الدامية إنها أسطورة الملحمة الباكية... يرقص الموت في شوارعها وزواياها رقصة الوحش الكاسر حينما يصطاد قطعان الخراف والنعاج... إنها مأساة شعب طيب نشيط متسامح ووطن شامخ عزيز مقتدر... إنها سورية الحبيبة...
ويا درة بين المزابل ألقيت ويا جوهرة بيعت بأبخس قيمة
خاضت الأنظمة الحاكمة المتعاقبة ثلاث حروب ضد العدو وباءت بمسرحيات هزلية هابطة مضحكة حيناً ومبكية حيناً آخر وبالهزائم الفاضحة المتتالية...
وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغـزال
إنه قدر أحمق الخطا، إنها سورية تكابد مرارة الخذلان ووصمة عار...
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
إنها قتال داحس والغبراء التي دامت أربعين عاماً...
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
لقد حولت الحروب العربية والنزاعات الأهلية المواطن إلى فأر مذعور هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر والرعب من القصف العشوائي والقتل على الهوية واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفذ كل شيء وهو يتحول بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحركه فقط غريزة البقاء.
إن الوطن السوري يكفي لمائة مليون إذا طبقنا ميزان العدل والإنصاف... ألم يقل الشاعر القروي - رحمه الله - ذات يوم في حبة القمح بأنها مشطورة إلى نصفين... نصف لك ونصف لأخيك...
من حبة الندى اتخذ مثل الندى يا من صرفت عن الندى يمناكا
كأنما الشـّقُّ الذي في وسطها لك قائـل نصفي يخص أخاكا
وحالتنا المأساوية تعبر عن الانفصام بين السلطة والجماهير ولو أن الإنسان الوطني خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حد معقول أن يتشارك في صنع القرارات السياسية التي أثرت على مصير حياته لتغير كثير من معالم الصورة التي نعيشها... دماء ودماراً، إن لدينا ذاكرة مثقلة بكل مرارات الماضي، وثارات التاريخ محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والاثنية والطائفية الدينية... وكلما وقفنا على أبواب المستقبل ردتنا هذه الذاكرة إلى الخلف... وإذا كنا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة بشكل عاطفي ووجداني فإن هذا الحلم كان مثالياً راديكالياً متطرفاً.
علينا أن نسأل أنفسنا... لماذا قتلنا عمر الفاروق الذي ملأ الأرض عدلاً وعثمان بن عفان الذي ضحى بماله ونفسه في سبيل بناء دولة العدل وعلى الذي حمى الحمى وطبق المبدأ على نفسه وأولاده أولاً وعمر بن عبد العزيز الذي عاش في عصره المسلمون وقد تخلصوا من الفقر نهائياً، ولماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت الثنائية والثلاثية والرباعية... لماذا ترتفع شعارات الوطنية والحب والعدل في لحظة ونلتجئ إلى التباغض و الأحقاد و حمل السلاح... علينا أن نتخلى عن هذا الحلم المثالي هذا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءاً... ونتجاوزه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون كرامتنا وثروتنا ووطنيتنا... إنها مهمة المفكرين والحكماء من شتى المكونات السورية في نسيجها البديع... دعوها لهم دعوة إلى أهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس بشرط أن لا نصل إلى مرحلة العداء تحت الأشكال الظاهرة تقبع تناحرات القبلية في أقطار شتى...
إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين أتو من كل بقاع الأرض ومن ملل مختلفة متنوعة, لا تجمعهم اللغة والجنس والعرق والتاريخ المشترك, وهم رغم ذلك متفقون موحدون لا يختلفون وإن اختلفوا لا يتقاتلون...!!
في الهند شعوب كثيرة متباينة ولغات عديدة أكثر من مائتي لغة... وأديان لا تعد ولا تحصى وفوق ذلك هم مخلصون للهند و مدافعون عنها دفاعاً مستميتاً...وفي السويد وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية... هؤلاء جميعاً يجمعهم وطن واحد وهدفهم بناء وطنهم و تعميره والعيش فيه بالمحبة والعدل والإخاء...
إننا بأمس الحاجة إلى ثقافة المحبة والتسامح و الإيثار... وكل هذا مدونٌ في صحفنا السماوية المقدسة ولكننا نرددها بألسنتنا لنصب الفخاخ لإخوتنا ومليء الجيوب وتجويع الآخرين... يساورني الخجل الجم الغفير حين أرى طائراتنا الحربية تناور في سماء المدن السورية بعنجهية ماكرة... يا ليتها رأيتها وهي تحلق في سماء حيفا و يافا و هضاب القدس و الجولان... نعم... عليَّ أسدٌ وعلى الآخرين نعامة , يؤرقني هدم البيوت على رؤوس ساكنيها وقتل الأبرياء من الولدان والشيوخ والنساء من الشعب المسكين... ليست المدن هدفاً لمدافعنا وراجماتنا بقذائفنا وقنابلنا...
حينما هوجمت سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي وكان البطل الشهيد يوسف العظمة وزيراً للدفاع وهو من أصول كردية من البديع السوري الخلاّق عقد العزم أن يتوجه مع رفاقه إلى ساحة ميسلون لمواجهة العدو وجهاً لوجه نصحه الحكماء من ذويه بالتخلي عن المواجهة لأنه لا تكافؤ في القوة العسكرية من حيث العدة والعتاد وخاطب البطل جنوده قائلاً: لا يجوز أن نقاتل بين الأبنية والمساكن لأن العدو يلجأ إلى القصف... وقتل الآمنين وهدم مساكنهم... علينا أن نقاتل في ساحات البطولة وإني ذاهب إلى حتفي إلى الاستشهاد لكي لا يكتب التاريخ أن فرنسا دخلت دمشق بدون مقاومة... وسنقاتل في ساحة ميسلون ونرويها بدمائنا ولن أسمح لفرنسا أن تجعل دمشق منتزهاً لها... و تقدم إلى ساحة ميسلون و بأسلحة بدائية... قاتل حتى استشهد... وأنشد الشعراء الوطنيون عنه بأعذب الألحان وأدق الكلمات وبقواف تقطر دماً ودمعاً تخليداً لبطولاته...
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيهـا غبـار التعب
إن التراجيديا السورية لا تحل في أروقة الأمم ولا في المحافل الكولونيالية... إن السوريين هم الجديرون بحلها... فالأولى أن يجتمع النخبة الممتازة الوطنية النزيهة التي تحب سوريا وشعبها قولاً وعملاً وتضحية أن يرفعوا شعار السلام لأن السلام أقوى من قعقعة السلاح ودوي المدافع... وهدير الطائرات , ونسعى جاهدين بدون تلكؤ لحقن شلال الدماء... ومسلسل الموت الرهيب، أما كفانا قتلاً وتدميراً... زوراً وبهتاناً... على كل فرد في هذا الوطن الغالي، أن يكون وطنياً قبل أن يكون سياسياً حزبياً أو مصلحاً أو كاتباً أو شاعراً، أن يتحلى بالوطنية... أن يؤثر وطنه سوريا على نفسه وأهله وبنيه وبلده... لأن سوريا هي الأشمل والأرحب... لأن سوريا هي الرحم وسكانها ولدوا من ذاك الرحم، سوريا هي السور الذي يحمي كرامة الأمة والحصن الحصين لأهلها... إننا في سوريا أسرة ضمائر الرفع المنفصلة ( أنا أنت نحن ) لنرفع وطننا إلى أعلى الأعالي حباً وسلاماً وتسامحاً ونبلاً.
بنيَّ: أتحدث إليك بحكمة الستين.....
بنيَّ: لا تستخف بالأشياء وأيّ شيءٍ تلمسه فهذا الكوب بين أيديك
لا تعلم من شفاه مَنْ ومن خدود أيّة غانية....
اعلم يا بنيَّ: تعلّمتُ نصف معلوماتي من أنصاف المجانين... ومَنْ خُلِقَ لأن يزحف لا يستطيع أن يجد للطيران سبيلا...
بنيَّ: لا يوجد حقَان متصارعان بل يوجد باطلان متصارعان وصراعٌ بين الحق والباطل...
بنيَّ: الإنسان الحكيم كشجر الحور أصلها ثابت وفرعها في السّماء يتمايلُ وينسجم مع الأجواء... وكل شيءٍ يعود إلى أصله... وليست العبقرية أن تخترع شيئاً ما بل العبقرية أن توجد أشياءً من لا شيء أو من أشياء تافهة...
بنيَّ تأمّلْ هذا البيت:
يخادعني العـدوُّ فلا أبالـي وأبكي حين يخدعني الصديق
بنيَّ: فإذا حَسُنَتْ أخلاق المرء كثر مصافوه، وكلَّ معادوه فتسهلت عليه الأمور الصّعاب ولانت له القلوب الغضاب...
بنيَّ: إيّاك والبخل بكلَّ أصنافه... إنه يشوَّه روحك ويحطُّ من إنسانيتك ومن قدرتك على الخلق والابتكار...
بنيَّ: خبزٌ جاف مع الراحة النفسية ألذّ من العسل مع الخوف والقلق، وخيمةٌ مع ستر أحبّ من قصرٍ فيه فتنةٌ...
بنيَّ تأمل في البيت التالي:
لا تسألوني المدح أو وصف الدّمى إنّي نبـذتُ سفاسف الشعراء
باعوا لأجل المال ماء حيائهم مدحاً وبتَّ أصون ماء حيائي...
بنيَّ: إذا أَمَرْتَ أن تُطاع فَأْمُرْ بما يستطاع...
بنيَّ: ليس المهم أن تفوز أو ترسب ولكنَّ الأهمَّ أن تنهض كلّما سَقَطْتَ.
بنيَّ: الغضب سلاح الأحمق وسيد الشرور والآثام... يقود صاحبه إلى المهالك واتخذ الحكمة في كلَّ باب من أبواب الحياة واتخذها سبيلاً لك حتّى في ساحات الكرَّ والفرَّ...
بنيَّ: من سلَّ سيف البغي قُتِلَ به، ومن هتك حجاب أخيه انكشفت عورات بيته ومن اقتحم البحر غرق ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبّر على الناس ذلّ، ومن دخل مداخل السوء اتّهم، ومن خالط الأنذال حُقِرَ، ومن جالس العلماء وقر... ومن مَزَحَ استخف به، ومن ترك الشهوات كان حرّاً، ومن ترك الحسد كان له المحبة بين النّاس... والسعيد من وعظ بغيره والأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين...
بنيَّ: تجنَّبْ مجالسة السّفهاء... وأغلى شيءٍ في الحياة صحتك وكرامتك...
بنيَّ: من كثر كلامه كثر خطؤه ومن كَثْرَ خطؤه قلَّ حياؤه ومن قلَّ حياؤه مات قلبُهُ... وإعجاب المرء بنفسه دليلٌ على ضعف عقله.
بنيَّ: كم من نظرةٍ جلبت حسرة وكم من كلمةٍ جلبتْ نعمة أو نقمة...
بنيَّ: الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب وداعٍ إلى التقحم في الآثام... ومَنْ تورّط في الأمور من غير نظر في الصواب فقد تعرّض لمفاجأة الغرائب...
بنيَّ: التدبير قبل العمل يؤمنك الندم ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
بنيَّ: طولب لعالم علم فكف، وعمل فجد... إن سُئِل أفصح وإن ترك سكت...
بنيَّ: من لانت كلمتهٌ وَجَبَتْ محبَّتهٌ... ومن لم يكن له حياءٌ ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة...
بنيَّ: اليأس أمرُّ من الموت فلا تيأسْ:
فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيـا بقاء
بنيَّ: صغتُ لك هذه التجارب بصياغة المداد الذهبي، ورسمتُ بريشةٍ بريقةٍ أين منها ريشة الرسامين... كلماتي ايجازٌ ناصعٌ لحمأة التجارب التي خُضْتُها في تاريخ حياتي... فالتزمْ بها تعشْ حياةً سعيدةً.....
الحكايات والوقائع المتفرقة التي كانت تثير الدهشة والاستغراب ظَّلت مستمرةً منذ قرون... وكانت جزءاً من حكايات الميثولوجيا والأساطير ومعجزات الأنبياء والأولياء والقدّيسين... فإنسان القرن الواحد والعشرين حينما يقرأ حادثة ( زرقاء اليمامة ) التي كانت تستطيع الرؤية بوضوح على مسافة مسيرة ثلاثة أيام... وقيل إنها رأت علائم غزو صوب قبيلتها... فلما حذَّرتهم سخروا منها ثم وقعت الواقعة وأتاهم الغزو ولات ساعة مندم يشعر ابن هذا القرن بمبالغتها أو أنها خرافية... أما في نظر علم النفس تعتبر واقعة محتملة... هذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى لم تمر على الباحثين مروراً عابراً بل دفعتهم إلى تجميعها وتدقيقها بالطرق العلمية وبمناهج البحث هذه الدراسات تتعلق بالعقل والنفس والروح... فعلماء النفس الذين تخصّصوا بالخوارق نظروا إلى هذه الحوادث باهتمام وحرصٍ شديدين... مستندين على حقائق دامغة فانتهجوا سلوك الدرب الوعر... فشرع البروفسور ( وليم باريت ) أستاذ الفيزياء في كلية العلوم الملكية في دبلن عام 1876م يعلن عن تجاربه حول قضايا تواصل، وقراءة الأفكار ثم تأسَّستْ في لندن عام 1882م جمعية أبحاث خوارق الإحساس، وامتدت الأبحاث والشُّعَبُ والأقسام إلى جامعات كبرى كجامعة كمبردج واكسفورد، ونيويورك... ولندن... وانتقال موضوع الخوارق إلى الجامعات العلمية قفزة كبيرة في إزالة الالتباس والغموض والريب... فعلم النفس المتصل بالخوارق توصّل إلى الكشف عن الخوارق المتصلة بالأحاسيس بالتخاطر وتواصل الأفكار وذلك بإمكان الشخص أن يتعرّف على أفكار الآخرين من مسافات بعيدة بدون أن يمتلك واسطة الاتصال به...
تنكشف لصاحب الخوارق ظاهرة التجلي أو الاستبصار وهي القدرة على رؤية الأشياء والناس والحوادث خارج نطاق البصر وهنا تغدو قصة زرقاء اليمامة شيئاً محتملاً جداً لأنها كانت ترى الأشياء بقوة الاستبصار وليس من خلال العين، وأعصاب الشبكية بالأضواء والظلال التي ينقلها الجهاز العصبي... والظاهرة الثالثة هي التنبؤ أو الإدراك المسبق وهي قابلية الفرد على استباق الحوادث وتوقع ما سيحدث قبل وقوعه بساعات أو أيام أو أشهر... وعلم النفس الحديث المختص بعلم الخوارق يؤيد ذلك فالناس ليسوا سواء في إدراك الشيء الواحد... إنَّ حدود الإحساس لدى البشر لها معدل طبيعي... ومن المحتمل جداً أن يمتلك بعض الأفراد قابليات حسية تتجاوز الحدود الطبيعية وهي التي تبدو لنا من جملة خوارق الإحساس والملاحظ أن الأحاسيس الخارقة تولد أو توهب لأناس منذ الولادة يمتلكها عقلٌ موهوب، وجهازه العصبي دون تمرين أو تعلم... فخوارق الإحساس إذاً غير شاذة، وغير فرضية بل هي تجانب الطبيعة المألوفة كما أنها لا تأتي باليوجا والتدريب والتمرين وليست لها علاقة بالجهد والإرادة وهي تتصف باللاشعورية أو غير المتعمدة...لا يزال من العسير وضع صيغة علمية أو تفسير لهذه الظواهر يتلاءم مع منطق العلم المادي الحديث وهنالك مجموعة من النظريات والفرضيات التي تقول إحداها بوجود موجات مخية تختلف عن الموجات المعروفة وأنها أشبه بموجات الراديو وتقوم بعملية نقل الأفكار... تلك نظرية أستاذ ( كروكس ) ونظرية أخرى تقول : باحتمال انتقال جزيئي الذرة الإلكتروني من دماغ لآخر... تلك نظرية الأستاذ السويسري ( فوريل ) ونظرية أخرى تقول : بوجود قوة روحية متنقلة... نظرية الألماني ( اوستوالد )... والمتفق عليه أنه ليس بمقدور علم الفيزياء وحده في مجال التفسير المادي أن يقدم تفسيراً كاملاً لظواهر خوارق الإحساس كما لا يمكن القول إنَّ التجارب العَلمية لعلم النفس الروحيات ستسد الطريق أمام علم الفيزياء... بل إن الأفضل للاثنين إيجاد تفسير يجمع بينهما يوماً ولا يناقضهما... ويحق لنا أن نتساءل ماذا يفيدنا هذا النوع من البحث... وإلى أين سيقودنا؟؟؟ إنَّ ما أثبته علم النفس الخوارق من الحقائق التالية يمكن أن يفتح أمام الإنسان أبواباً أخرى من المعرفة... فقد أثبت أنَّ بإمكان العقل أن يتصل بعقل آخر دون واسطة مادية معروفة... وأن بإمكان العقل بموجودات أو مخلوقات أخرى يشعر بها دون واسطة وأن بإمكان العقل تخطي المسافات الشاسعة وإن بإمكانه سباق الزمن، وتوقع الحوادث وإن بإمكانه التأثير في حركة الجماد والحيوان دون أثر لواسطة مادية، وإن هناك شيئاً لا يدخل في صفات المادة قد يكون طاقة أو روحاً، ويدخل في تلك العمليات العقلية...
وإن العقل أو الروح و المادّة يتفاعلان بعملية واحدة ذات اتجاهين أو يسيران في طريق واحد ذي ممرين... والحادثة التالية تثبت ما سبق... مات رجل ثري في إحدى مدن أمريكا وترك وصية تجعل من أحد أبنائه الأربعة الوريث الوحيد لثروته، وبعد تنفيذ الوصية بأربع سنوات رأى أحد الأبناء الأربعة حلماً يقول له والده فيه أن وصيةً أخرى موجودة في دارهم القديمة فإذا ذهب هناك وجد في جيب جاكتة القديم لوالده ورقة مكتوبة فيها وصيته... وقد عثر الابن على وصية والده فعلاً وقد جاء فيها : إنَّ الثروة توزّع على الأبناء الأربعة بالتساوي وحكمت محكمة كارولينا الشمالية في مقاطعة ( دافي ) بتنفيذ الوصية بعد أن تأكد لديها بأنها صحيحة ومكتوبة بخط الميت مما تقدم نرى أن علم النفس الخوارق يرسم خطوطاً جديدة على اللوحة الهائلة للكون وموقع الإنسان منه... كما يضع في ذهن الإنسان مسألةً تقول : إن الحقيقة لا تحددها القوانين الفيزيائية السائدة فحسب بل لابدّ من وجود قوى أخرى لا تخضع لقوانين المادّة بل لقوانينها هي... إذن فمن الجهالة الجزم بأنَّ كل ظاهرة خارقة أو غير مألوفة تعتبر خرافة أو تدجيل أو بالأحرى إن بعض المعجزات الدينية شيء يقبله العقل والمنطق والعلم الحديث النفسي الخارق...
إن الإنسان لا يزال عالماً غريباً معقداً فهو والكون المحيط به مجموعة أسرار عالمية تستوجب التواضع البشري والحماس العلمي لكشف المجهول والإيمان بعظمة الخالق فعلم النفس الخوارق يحاول تفسير كيفية التوافق بين العقل والبناء العضوي للدماغ بأسلوب يختلف عن الإطار العلمي السائد وبذلك يمكنه أن يسلط أضواء جديدة على علاقة الفكر بالمادّة.... الكون في ذاتنا وفي الفضاء حوالينا... وما علينا إلا أن نتدبر وأن نستعد لمزيد من البحث والتواضع والإيمان... ولا شك أن علم النفس الخوارق هو الذي يحمل راية الروحيات وهو الذي سيكون أقرب العلوم إلى الفكر الروحي بل إنه فعلاً يتلاءم مع الروحانيات ويسير معها جنباً إلى جنب والمستقبل وحدة كفيلٌ بجلاء الحقائق... وما علينا إلا أن نردّد مع ( سوفوكليس ) قوله : كثيرةٌ هي عجائب الدنيا... ولكن أعجبها هو الإنسان... وأن عظمة الخالق تتجلّى في كائناته ومخلوقاته...
****
قبل أن أنام طاف بي الخيال إلى عوالم الغيب وما وراء الحجب قادني إلى ما وراء الموت وما وراء المجرات والأفلاك أخذني إلى ما قبل ستة عشر ملياراً من السنين والأحقاب كل ذلك في ثوان معدودات، قطع هذه المسافات فهو يتفوّق على سرعة الضّوء، فالعلم الفيزيائي الكمومي لم يصل إلى ما هو أسرع من سرعة الضّوء...
فمن خلال مطالعتي المحاضرات السبعة لقوانين الفيزياء للعالم رتشارد فانيمان أستاذ الفيزياء في جامعة كورنيل يونيو 1965م أنَّ قانون التثاقل كلّ جسمٍ يؤثّر في الآخر بقوة تتناسب عكساً مع مربع المسافة وأنّ الكواكب حول الشمس تشكل منحنيات إهليلجية وأنّ مركز العطالة ( القوة الجاذبة لجملة الأراضي والقمر فهي القوة العطالية أي القوة النابذة الناتجة عن الدوران ) فقانون التثاقل في تناسق ميكانيكية الكون فالأرض تجذب النجوم في مجرتنا الشمسية وكلّها معاً تجذب المجرات الأخرى فتؤلف مجموعة مجرات تسبح في الفضاء الرحيب تولد النجوم عندما يبالغ التثاقل في كتلة الغاز تنفث النجوم لدى انفجارها غباراً وغازات وتتجمع لتؤلف نجوماً..
دوران الأرض حول نفسها ناتج عن احتكاك القمر فمن المادّة تكوّنت النّجوم، فالإلكترونيات تابعة للنواة.. فالتثاقل هو ميزان تماسك المجرات فكل شيء منظّم تؤدي إلى قوانين.. البروتون والإلكترون إن زاد أو نقص تصبح قوة مذهلة ينهار الكون وتولد جسيمات جديدة من جسيمات قديمة والطاقة والكتلة متكافئان والعزم الزّاوي يعبر عن ازدياد المساحة... وأهم خاصية للقانون الفيزيائي هو شموليته واستمرار السُّدم في التوسّع والحركة المنتظمة في خطّ مستقيم هي نسبية في نظر آينشتاين والرياضيات علم عقليّ جدليّ منطقي والفيزياء علم التجربة وأول من اكتشف قوانين الفيزياء غاليلة عندما قارن قوة أغصان الشّجر بقوة العظام... فالزمن هو تعاقب الأحداث... فالزمن موجود بالحركات فإن لم توجد أحداث لا يوجد زمن.. فاتفق الفيزيائيون أنّ ولادة الكون كان فجأة خلال ثوانٍ فذهب فريقٌ من الفيزيائيين أنّ الكون خلق من الفوضى ثمَّ بعد ذلك انتظم وأوجد له قوانين يسير عليها أردُّ على هؤلاء أنّ الفوضى لا تخلق إلا الفوضى العمياء ولم يولد من الفوضى قوانين... القانون الإلهي هو الذي أوجد للكون قوانيناً..يجري الكون على هداها... فالعقل النسبي يستمدُّ شعاعه من أشعة العقل الكلّي المطلق والخيال جزءٌ من الدّماغ فهو يخترق الزّمن ويصل إلى ما وراء الحجب والكواليس المظلمة يصوّر المشهد وينحت ويؤرّخ ويعود خلال لحظة أقوى من سرعة الضّوء...
خلقُ الكون سرٌّ من أسرار الخالق... قائمٌ على أسس وقوانين.. ولغزٌ غامضٌ لا يكشف شفراته إلا النّذر اليسير... فعلم اليوم لم يوضح أسراره 10 % من ألغازه المكنونة.. فالكون ذلك العالم المجهول بسرّه وأسراره...
إنّ الخيال البشري هو قوة استطلاع يستطلع العقل ما وراء الاستبصار ليفكر العقل ويخطط للبلوغ إلى مكمن المجاهيل بقوة العلم ووسائل الاتصال للارتقاء نحو ما وراء الأستار وكشف النّقاب عن إحداثياته ومثلثاته المبهمة في أرقى مستوياته... ذلكم هو الخيال الأسرع من سرعة الضّوء. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}/ص88/.
*****
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ المخلص ,والمربي الخبير ,والباحث الاجتماعي الأستاذ : حنيف حسن عليكو الذي أوقد شعلة عواطفي في حبِّ الناس وخدمة الآخرين بصدق وشرف وتكرّم ْ–يا أخي –بقبول إهدائي ومحّبتي المشفوعة باحترامي وتقديري لكم .
واسلم أخاً خالداً في غدير قلبي أخوكم : جعدان جعدان
رغبة صادقة منّي ,ونشاطا متحفزا من لدنِّي ,وطّدت العزم على كتابة هذا البحث لتنوير الأجيال بما اختزنْتُه من طاقات وتجارب تربويّة عبر عقود من السّنين ,وخاصة في هذا الزمن الرمادي الذي استشرى فيه التسيّب والحرية الطائشة التي لاتستند على مقاييس الجدل الصحيح وفي وقت لم نتهيّأ لهذا الزحف الصامت المباغت من العولمة المتطوّرة بالتقنية الحديثة المذهلة في غزو الأرض والفضاء الكوني .
يهاجمنا في عقر دارنا ونحن نعلن إفلاسنا أمام الغزو الهمجي ,ونستسلم لأقداره :
فالابن يناقش بحدة ٍ أباه بأنه إرث متخلف ,والفتاة تنعت أمها بأنّها عقلية ٌ واهمة ٌ موهومة ٌ قد شرب منها الزمان وارتوى ,والطالب يردّ على معلمه بأنه كلاسيكي ٌّ مقّلد لا فائدة من علمه ,والزوجة تودّع زوجها لأسباب واهية بأنه شخصية غير عصرية وغير لائقة لا يليق بها . وأمام هذه التحيات الخطيرة التي تستهدف إنهاء أصالتنا وهويتنا ..علينا أن نسلّح أجيالنا بتراثها ,وماضيها المجيد ,وحضارتها الإنسانية ,وبكل ّ تجلد وعقل منفتح تجنبا لزوبعة تقتلعنا من أساسنا ..ونطمئن أجيالنا بأنّ الزوبعة هذه حالة ٌ طارئة ٌ سرعان ما تجهض .. والسبيل الأسلم لمواجهة هذا الخطر الدّاهم بناء الذات ودفعه بالثقافة الأصيلة لا الانبهار بغرائب الثقافات الغازية . وإنه ليسعدنا ,ويشرفنا أن نحصّن الناشئة بجذورنا التاريخية ,وقيمنا الروحية التي حيّرت الألباب !! وأن نكرّم المبدعين والمبدعات في كل منحى من مناحي العلم والتقنية ,وندفعه إلى الإبداع لنسابق هذه الهجمة العابرة ,ونتحداها تقنيا وروحيا ..ونوقظ في عقول أجيالنا خلايا العلم وخفايا المعرفة بأن أدمغتهم ليست قاحلة بل تتفجّر منها عيون الإبداع والانجاز ,وأرجو من كلّ مربًّ ومربية أن يحمل لواء المسؤولية التاريخية أمام جيله ,وأن يبذل منتهى الكدح في تقوية ذاته ثقافيا لتربية الأجيال تربية سليمة عصيّا عن الغرق في أوحال العولمة المدعومة من الماسونية العالمية .
وختاما: آمل أن أكون واحدا من الذين ساهموا في تشييد بناء النهضة التربوية ,وأفتح صدري شرّعا لكلّ نقد بنّاء يوجّه إليّ من قبل السّادة التربويين ,وأرجو أن أكون قد وُفّقْتُ في هذا المجال ,وخدمت الأجيال بجهدي المتواضع ودعائي لأجيالنا البررة بالصّلاح والسّداد ,والهدي الصحيح .
وحسبنا الله ونعم الوكيل
والله عليم بذات الصدور
كل مجتمع له مظهره السياسي والاقتصادي والاجتماعي وسط جملة من الظروف والأوضاع الاجتماعية وما تنطوي عليه من اعتبارات ومعايير أخلاقية ودينية وتاريخية ... وهذا الترابط له علاقته وتأثيره مع سياستي التجريم والعقاب وذلك بحثا وسعيا لرسم إطار علاقات الأفراد ببعضهم وتأمين حماية ركائز المجتمع الأساسية لتحقيق الأمن الاجتماعي ..فالمجتمع الذي يتجرد من الأخلاق والأعراف الاجتماعية لا يختلف ذلك المجتمع عن عالم البهائم... فالقيم الأخلاقية لم تظهر في المجتمع إلا نتيجة ظروف تاريخية واقتصادية وسياسية ودينية واجتماعية وتعرف الجريمة: بأنها كل سلوك جدير بالعقاب سواء فرض المشرع الوضعي عليه عقوبة أم لم يعاقب عليه وجدارة السلوك بالعقاب رهنٌ بالرأي العام السائد في مجتمع معين من حيث تقديره أن بعض الأفعال تشكل مساسا بمصالحه الأساسية ففي المجتمع الواحد تختلف الجرائم باختلاف الزمن وتبعا لتغير أو تبدل عادات وقيم ذلك المجتمع والحكم الذي يصدره أفراده على أنماط السلوك المختلفة ففي الشريعة الإسلامية عرفت الجريمة بأنها إتيان فعل محرم معاقب على فعله أو ترك فعل محرم معاقب على تركه فالجريمة إذن هي فعل ما نهى الله عنه وعصيان ما أمر الله به.تعتبر الجريمة خرقاً للقيم والأعراف السائدة في المجتمع وتشكل اعتداء على حق أو مصلحة قدر المشرع جدارتها بالحماية الجنائية ولذلك هي من أهم المشكلات الاجتماعية الملحة تتطلب منا البحث عن حلول مناسبة للحد من تفاقمها وتحجيم آثارها... فالجريمة ظاهرة اجتماعية خطيرة والأسرة وهي نواة المجتمع ولها وظيفة اجتماعية وقاية الأولاد وحمايتهم من الجريمة،فالأسرة فهي المدرسة الاجتماعية الأولى في صبغ سلوك الفرد بصفة اجتماعية... وهي تقوم بالتنشئة الاجتماعية حيث تؤثر في النحو النفسي للطفل فهي تؤثر في نموه العقلي ونموه الانفعالي ونموه الاجتماعي،ولذلك أشار العالم الاجتماعي (مورر)Mowrer إلى أن الانحراف يمكن أن يحدث نتيجة للتنشئة الاجتماعية الخاطئة أو الفشل في تعلم القيم ونمو الضمير بصورة صحيحة...وقد أكدت الدراسات على أن الطفل الذي ينمو في عائلة فيها من الأسباب الملائمة نجد وقائع الجنوح نادرة ذلك لأن الأسرة المتماسكة التي يكون على رأسها الأب والأم يكون لها دور في سبيل الحد من ظاهرة الجنوح لأن الصغير أو الحدث يتعلم داخل الأسرة الاحترام المتبادل والمحافظة على التقاليد والعادات.
حيث يقود له الجو الصحي في النمو البدني والعقلي أما الأسرة المتفككة أو التي تتنازعها المشكلات المعاشية والصراعات نجد أولادها عرضة للانحراف والجنوح فحرمان الأطفال من الحب الخالص أو العجز في سد حاجياته يجعل الطفل أو الحدث يعاني وقد يؤدي بالبعض من الشباب إلى الهروب من بيوتهم نتيجة إهمال وعدم الرعاية داخل البيت. وقد دفع بعض الآباء في أخطاء تتعلق بتنشئة أطفالهم وقد تكون تلك الأخطاء عاملاً مساعدا في ممارسة السلوك العدواني أو السرقة مثلاً... ولهذا أكّد الدارسون بضرورة احترام حقوق الطفل من لعب خاصّة له ثم السماح بالتصرف فيها بقدرة من الحرية وهذا يساعده بتكوين اتجاهات ايجابية نحو الأمانة...
كما أظهرت الدراسات أن الآباء غالباً ما يفرضون على أبنائهم أنماطا وأساليب يحاولون من خلالها تمكين الأبناء من تحقيق ما عجز عنه الآباء وهذا ما يتعارض مع إمكانيات الأبناء مما يؤدي إلى ظهور الانحرافات أو التناقض بين اتجاهات الآباء وأبنائهم.
كما أن المشاكل العائلية والعلاقات بين أفرادها لابد أن تترك آثارها بصورة مباشرة على موقف الفرد من الجماعة التي ينتمي إليها وعلاقاته العامة في الوسط الذي يعيش فيه وقد أشار قانون رعاية الأحداث إلى مسؤولية الآباء عن جنوح أبنائهم المشمولين بولايتهم وذلك في المادة(29) منه. فالتنشئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيرا في تحديد اتجاهات السلوك لدى الطفل ثم رسم أنماط السلوك... فالأسرة كما أسلفنا هي أساس المجتمع وخليته الأولى،وتمدّن المجتمع ورقيه مرهون بوعي العائلة أو الأسرة وعياً قانونياً يحد من الوقوع في الجريمة لدى أفرادها عليها الاعتماد على التربية القيمة على الوازع الخلقي المثل الجيد والقدوة الحسنة للطفل وبذلك تتوصل الأسرة إلى تكوين أجيال صالحة لأن تكون بذرة المستقبل متحلين بالقيم والأخلاق وبالعواطف الروحية والإنسانية المستمدة من الدين لعاطفة حب الآخرين والأمانة والصدف في القول والفعل والإخلاص،وشجاعة القلب واحترام الواجب وتقدير المسؤولية نحو ربه ونحو نفسه ومجتمعه ووطنه. وعلى الأسرة أن تعتمد في توجيه الأطفال وحمايتهم من الوقوع في أوحال الجريمة بتوعية الأطفال بخطر الجريمة وتعميق كراهية الفرد لها. فالأسرة لها الدور الكبير في إيجاد مثل هذه الحالة النفسية وفي صوغ هذا الموقف العقلي وخلق الإيمان لدى الفرد بضرورة وجود قيود ونظام داخل المجتمع وبضرورة احترام الآخرين وحرياتهم وشخصياتهم.
فعلى الأسرة أن تتحصن بالوقاية الذاتية من الجريمة وذلك بتعبئة الفرد وتسلحه بالوعي والأخلاق والتهذيب وأن تتحاشى الأسرة اتخاذ أي سلوك أو مظهر قد يحفز ظهور بوادر إجرامية لدى الأشخاص القابلين. وأن تعود الأسرة أفرادها على اتخاذ كل ما يمكن من صيانة وحفظ الممتلكات المادية الشخصية أي وجوب عدم تعريض الممتلك الشخصي بصورة تسهل للآخرين التجاوز عليه. وأن تدرب الأسرة أولادها عن الامتناع عن الأعمال المخلة بالأخلاق والآداب العامة والابتعاد عن مظاهر السلوك المحفز للغرائز الفطرية وذلك يتطلب بناء أخلاقيا لأفراد الأسرة عند النشأة بشكل متوازن ومستمر بحيث يكون كل فرد فيها نموذجا لبناء أخلاقي قويم يستند على الأسس التي يتطلبها المجتمع المعافى والسليم من الأمراض..
المصادر:
1- عبود السراج علم الإجرام وعلم العقاب ص237
2- جاسم العبودي التجريم والعقاب ص125-128
3- د.واثبة داود السعدي التنشئة الاجتماعية وأثرها في خلق وعي قانوني يحد من الجريمة ص150
4- د.سليم إبراهيم حرية وسائل الحد من ظاهرة جنوح الأحداث ص129
5- محمد أبو زهرة (الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي)ص25
6- قانون رعاية الأحداث رقم76 لسنة 1983
7- د.ماهر عبد شويش دور الشباب في الوقاية من الجريمة ومكافحتها ص5 وما بعدها.
من البديهي أن التطور والتقدم لدى الأمم يقاس ويقارن بمدى تطورها الحضاري والعلمي وخاصة تاريخ وطننا السوري الذي يرافقه بقية جوانب الحياة وأقسامها ومنها العملية التربوية التي تعتبر كلا واحدا تستند على الفعاليات والأنشطة البشرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتي توجه إلى إعداد الجيل الطالع للحياة, ونظرا لأن تجارب العلوم قابلة للتغيير والتطور وباعتبارها غير واقعة في مكان الجمود والركود وبالأخص نحن نعيش في عصر يسود فيه التقدم العلمي والتقني ومن الواجب علينا أن نشارك في هذا التطور التقني الحديث ونساهم ونزدهر هذه المسيرة ودفعها نحو التقدم والبناء , ولهذا فإن غرس أسس العملية التربوية في مؤسسات التربية ..لا بد قبل كل شيء أن تستمد هذه الأسس قوتها المحركة من واقعها الحضاري أي من مستوى ودرجة الثقافة الروحية والمادية للمجتمع وبذلك يتم غرس ثقافتنا في شخصية الجيل وتأصيلها في دفع مسيرة سلوكه بعد تصفيته من الشوائب الأخرى وإفساح المجال للجيل التفاعل مع الحياة والتسلح بالنظرية التربوية الصائبة دعامة قوية للدفاع عن حقها الحضاري وعلى كافة الأصعدة.
فالحاجات التي تصنعها ثورة التقنية في كافة المجالات يتطلب الاستحواذ على معارف أفضل والوصول إلى رؤية الوقائع والقدرات الفكرية المتطورة بغية السير والمواصلة على مواكبة التقدم الحضاري ودفعه إلى الأمام في مضمار التقدم والازدهار .
ومن هذا المنطلق تتحمل التربية ما قبل المرحلة الجامعية مسؤولية هامة في المجال التربوي والثقافي ..فمن الضروري تقديم ثقافة متقدمة تواكب متطلبات العصر وأسس تربوية توازي وتوافق عناصر العصر وخطوطه الرئيسة وبهدف تكوين إطارات واعية تستطيع التعامل مع المحيط عن دراية ووعي وإدراك حتى يستطيع العيش كل فرد من أفراد مجتمعنا السوري عيشة تليق بكرامة الإنسان وميوله واتجاهاته وتطلعاته للمستقبل الآتي وذلك بتزويد التلاميذ بمعلومات قيمة عن الأصالة التاريخية والجغرافية والتفاعل مع المجتمع وتغذية عقول التلاميذ على تحصيل المعلومات بأنفسهم واستخدام خبراتهم الدراسية والحياتية في ميادين الإنتاج الذي سوف يحقق يوما بعد يوم قفزات سريعة متلاحقة في القاعدة المادية والتقنية للبلاد لأن التقدم المطرد في المجالين الاجتماعي والاقتصادي يرتبط بتطوير المناهج ومواكبة العصر في هذه المرحلة من التجربة التربوية الرائدة,وإن أسمى آيات التقدم والبناء هي الاعتناء والمساهمة في متابعة تطوير وإغناء الحركة التربوية التي تعتبر حجر الزاوية والقواعد الأصولية في دفع وتدعيم ثورة النهضة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ..فمن الأهم الالتفات إلى النظرية التربوية وأهدافها ووظائفها حتى تكون وتيرة التطور العلمي تتناسب مع روح العصر بما يتوافق مع مبادئنا وتقاليدنا العريقة الراسخة ..وهذه القواعد والأسس المتينة التي تتيح للفرد مجالات واسعة الانطلاق إلى ميادين العمل والإنتاج فوسط هذا الانفجار العلمي الذي أدى إلى تغيير جذري في طرق الإنتاج ووسائله واخذ يطرح أسئلة ملحة حول نوع الإنسان الجديد الذي يبدأ عملية السيطرة على هذه الوسائل وقيادتها وحسن التعامل معها بذكاء وإخلاص واقتدار..
وكل تخطيط تربوي جاد وسليم في مدارس ينبغي أن ينطلق من حاجات المجتمع ولذلك يتطلب تطويرا مستمرا في الأساليب والطرائق التربوية التي يتمكن من إعداد وتخريج كوادر منتجة وعاملة,وخلق نظم جديدة تقوم على أسس التربية المستمرة وفق توقعات المستقبل بحيث تفقد المدرسة الحالية جانبا من امتيازاتها المتوارثة لدى المجتمع منذ القديم إلى اليوم وبخاصة تلك التي تعتمد على تلقين المعارف للناشئة وتقديم العلوم لها بأساليب متشابهة في الجوهر مهما
اختلفت أشكالها لأن مفهوم التربية المستمرة يتطلب إعادة تنظيم البنية التعليمية والبرامج المدرسية وتهيج المستويات التدريسية في جميع المراحل ليقوم نظام تعليمي جديد ذو خصائص جديدة ومميزة تحقق المساواة بين الصغار والأكبر سنا .
إن إنسان الغد قيد التربية اليوم في مدارسنا ففيها يكتسب الأساس العلمي ومنها تنطلق مواهبه الفكرية والجسدية وفيها يتكون وعيه وتتبلور طاقاته الخلاقة المبدعة وإن تربية هذا الإنسان للمستقبل يستدعي دراسة واقع التربية في هذه المدارس وإعادة النظر بين فترة وأخرى في الطرائق والأساليب التربوية المتبعة فيها .. وهذا كله يهدف إلى خلق إرادة التغيير لدى الطلاب بحيث يستطيع بعدها الطالب لعب دور المبادرة والمشاركة في تطوير الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. وعلى ضوء معطيات العلم الحديث وتطوراته المستقبلية المرتقبة نستطيع ربط المدرسة بالحياة والعمل المنتج وبخطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتتوقف التربية لمستقبل الجيل الناشئ على مدى تفاعله مع المواقف الحياتية المتغيرة لأن مثل هذه التربية إنما تقوم على إعادة بناء الخبرة الحياتية للدارسين بشكل مستمر من خلال تعليمهم كيف يفكرون بصورة واعية ناقدة لا أن يتقبلوا الأفكار بصورة عمياء داخل جدران الصف الأربعة.
أما الاحترام الشديد للكتاب المدرسي المقرر والتقيد به تقيدا شديدا ,وحث التلاميذ على الاستظهار للنجاح في الامتحان .. إنما يعرفهم بمجموعة محددة من الحقائق العلمية ولكن لا يكوّن لديهم الميل والاستعداد لمتابعة الاطلاع والبحث ولا نريد من هذا الكلام التقليل من أهمية الكتاب المدرسي المقرر ولكننا نريد أن نقول بأن المبالغة في احترام الطرائق التقليدية ومعاقبة التلاميذ إذا هم خرجوا عنها ومكافأة من يتقيد بها حرفيا لا تنسجم مع أسس التربية الصحيحة للمستقبل التي هي في حد ذاتها تربية للإبداع والابتكار لذا من واجب المعلم أن يشجع الأصالة والابتكار عند تلاميذه وعدم قسرهم على طرائقه هو في معالجة الموضوع المطروح بل عليه إفساح المجال أمام شخصيتهم كي تنمو نموا متكاملا ناضجا وربط التربية بخطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية ربطا متوازنا في جميع المراحل المدرسية والجامعية مع تحديد أنواع الاختصاصات المطلوبة للبلاد في الحاضر والمستقبل على صعيد المناخ الديمقراطي فيما يخدم مصلحة المجتمع على ضوء احتياجات القطاعات المختلفة أما تجسيد هذا الربط من خلال المناهج المدرسية والجامعية الواعية التي تعكس أهداف التربية بشكل سليم متطابقة مع انسجام التطورات العلمية المتسارعة والتطورات المستقبلية لتقدم مجتمعاتنا وتنمية الشخصية الإنسانية للفرد الذي يستطيع العيش وبالتفاعل في إطار اجتماعي له قيمه وآدابه ومثله ونظم حياته في هذا السياق التاريخي من العملية التربوية التي فيه يجب أن نرى الوحدة والتنوع في المناهج واتجاهات التطور الرئيسية وتنوع السبل التربوي التي تتحرك عليها بقية الأمم وقوانين التطور العامة وخصائص الدول المتقدمة تربويا التي تعكس علينا بنتائج تجاربهم العلمية ومقاييس تقدمهم المزدهر وبذلك يكون قد ربطنا الجانب التربوي بجدلية التقدم الدينامكي المتطور.
جاء في لسان العرب راهق الغلام فهو مراهق إذا قارب الاحتلام والمراهق: الغلام الذي قارب الحلم
(ابن منظور د.ت 1242) فالمراهق هو الذي اجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل إلى مرحلة الرشد ويعيش في مرحلة انتقال وتدرج نحو النضج الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي اعتقد(فرويد) أن المراهقة حقبة عاصفة ومرهقة إذ تنتاب المراهق بعض الصراعات نتيجة للتغيرات الجسمية والجنسية المفاجئة في هذه المرحلة وإلى حدوث إضرابات نفسية وخاصة بين الإناث وقد تطول الحقبة التي يتم فيها الانتقال أو تقصر حسب الثقافة السائدة في المجتمع. ذلك أن البناء الاجتماعي يتأثر بالظروف التربوية والاقتصادية والنفسية التي يتعرض لها أفراد المجتمع بشرائحه، ومستوياته العمرية المختلفة إلا أن مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة هما مرحلتان مهمتان تؤثران في بناء شخصية الفرد وتماسكها في المستقبل.
وأن مسألة تعلم الأبناء وتربيتهم والاهتمام بمشكلاتهم وقضاياهم تعد في المجتمعات الحديثة من أهم المسؤوليات التي تقع على عاتق كل أسرة وكل مجتمع في آن واحد هي العنصر الأساسي في أي حوار حول مستقبل الإنسان وتقدمه. ويتفق كثيرٌ من علماء النفس والتربية على أن البذور الأولى للشخصية توضع خلال فترة الطفولة والمراهقة وتقوم الأسرة بدور كبير في هذا الشأن لأنها تمثل الركن الأساسي في تشكيل متغيرات البيئة التي تتفاعل مع الوراثة وتحدد بالتالي نمط الشخصية.
وتعد المراهقة مرحلة حاسمة في النمو إذ يبدأ خلال المراهقة سلوك التعلق بالأبوين في الاضمحلال وينمو في الوقت ذاته التعلق بالآخرين بدرجة قد تفوق التعلق بالأبوين ويساعد النضج الجنسي في المراهقة على التحول نحو الجنس الآخر والتعلق به والرغبة في صحبته،وتزداد الفروق الفردية بين المراهقين في التعلق بالأم كما تختلف الإناث عن الذكور في هذا التعلق وتكون الإناث عادة أكثر ارتباطا بالأبوين من الذكور ويرغب قلة من المراهقين والمراهقات في الانفصال عن الأبوين في هذه المرحلة. ولكن الغالبية العظمى من المراهقين والمراهقات تتحول طبيعة العلاقة بينهم وبين الأبوين.
ويعتقد(هارولد برنارد)إن المجتمع (الثقافة الاجتماعية) هو المسؤول عن مشكلات المراهق وهو الذي يحدد تصرفاته فالظروف العائلية والاجتماعية والاقتصادية والمدرسة وجو العمل.
كل ذلك يحدد اتجاه أو نمط النمو عند المراهق. ويرى(زهران) إنه قليلا ما تمر مرحلة المراهقة دون أن تعترض المراهقين بل هي أيضا مشكلات ليس كلها مشكلات الآباء الذين يضيقون ذرعا بأولادهم الذين تختلف أفكارهم عن أفكار الوالدين وهي أيضا مشكلات المدرسيين الذين يريدون تعليم المراهقين أشياء لا يريدون تعلمها وهي كذلك مشكلات المجتمع الذي يفرض على المراهقين قيودا جامدة يثور المراهقون عليها أو يخضعون لها مكرهين.
ويرى(هاندل) أن الأسرة تمثل المرجعية الأولى والإطار الأساسي في بناء شخصية الفرد وتكاملها.
ويؤكد(شرّابي) على أن الأبوين هما أكثر الأشخاص أهمية في حياة الفرد لأنهما يقدمان أولى نماذج التي يستند عليها في بناء ذاته والتي تمثل مختلف القواعد والقيم ويكون المجتمع بوساطة الأبوين موجوداً في داخل المراهق كما في عالمه الخارجي.
وغياب أحد الوالدين يمكن أن يكون سببا في غياب نموذج مهم في حياة المراهق حيث تتميز الأسرة التي تفقد أحد الوالدين بخصائص لا تشابه الأسر المتكاملة.
وللآباء في تنشئة أبنائهم أساليب متباينة فمنهم من يستعمل أسلوب العقاب ومنهم من يستعمل أسلوب النصح والإرشاد ومنهم من يرعى أبناءه رعاية شديدة ويحميهم حماية زائدة.
واهتم (بلاك وسلات) بدراسة العلاقة بين احترام الذات لدى المراهقين والتفاعل اللفظي مع الوالدين حيث أشارت النتائج إلى وجود علاقة دالة بينهما.....
إذ تبين أن المراهقين الذين أدركوا أن لديهم مستوى عاليا من التفاعل اللفظي الايجابي من قبل الأبوين يميلون إلى أن يحبوا أنفسهم أكثر ولديهم مستوى عال من الثقة بالنفس...
واستنتج (مور) أن اعتماد مستوى عال من الواقعية ومستوى متوسط من الضبط يساعد البالغين في الرعاية السليمة ويساعد المراهقين في أن يصبحوا ناضجين وأعضاء أكفاء في المجتمع... وفي هذا الزمن المتسارع نحو التقدم المعرفي الهائل التقانة الحديثة المتطورة المذهلة كثرت الخلافات بين المراهق والأبوين أو بينه وبين أفراد الأسرة ونتيجة للصراعات التي يعيشها المراهق يكثر التناقض في الرأي والاختلاف في الحكم يؤدي إلى فتور العلاقة بين المراهق والأبوين الأمر الذي يدفع بالمراهق إلى التفكير في وضعه وينتج سوء التوافق عادة نتيجة لدفاع المراهق عن مكانته فيتحدث كثيرا عن حقوقه المهضومة في اختيار أوجه النشاط والرفاق والتعليم والمهنة،وينتابه شعورٌ بأن الآخرين لا يفهمونه أو على الأقل يسيئون فهمه وذلك من شأنه أن يؤدي إلى ظهور مشكلات يومية، ويمكن التعرف على أسلوب معاملة الأبوين والاستراتيجيات المستخدمة من قبلهم في التعامل مع مشكلات أبنائهم المراهقين أو بناتهم المراهقات من خلال الحلول اللفظية التي يقدمها كل من الأب والأم إزاء تلك المشكلات التي يبديها المراهقون في حياتهم اليومية.
من هنا لا نعرف إن كان الوالدان يستخدمان استراتيجيات سليمة ايجابية مع التعامل مع مشكلات أبنائهم وبناتهم أو استراتيجيات سلبية قد تؤثر بشكل سلبي في شخصية المراهق وسلوكه وفيما إذا كان هناك اختلاف بين الأب والأم في الحلول اللفظية المستخدمة لمواجهة المشكلات المراهقين والمراهقات فهل تختلف الحلول اللفظية التي يقدمها الوالدان لمشاكل أبنائهم المراهقين تبعا لاختلاف مستوى الأبوين التعليمي والمهني؟
وهل تختلف الحلول اللفظية للوالدين اللذين يسكنان في مركز المدينة عن تلك الحلول التي يقدمها الأبوان في ضواحي المدينة؟
وأخيرا هل تتباين الحلول اللفظية المستخدمة من قبل الوالدين لحل مشكلات الأبناء والبنات تبعا لجنس المراهق؟
كل تلك الأسئلة تشير إلى مشاكل عدة تتطلب الإجابة عنها من خلال التجربة الميدانية الحياتية الخاضعة للدقة والملاحظة.
يمكن العلاج المناسب أمام تحديات المراهق وإعراضه من قبل الوالدين باحترام رأي المراهق والتحدث معه بعقلانية ومنطق وحوار هادئ رصين.. وأن تقرن كلمات الوالدين بالعمل المثمر الناضج أي أن يكونا على مستوى الحلول اللفظية كدحا وعملا وإستراتيجيتها موحدة في أسلوب التعامل مع المراهق وأن يبديا أمامه حرصا على حياته ومستقبله وأن يبتعدا عن أساليب الجفاء والمقاطعة وأن يحرّكا أخلاءه المخلصين في التعامل معه بذكاء وحذر شديدين... ولا يشعرانه بأنه مخوّل من قبل والديه. والوالدان الذكيان يبتعدان عن أسلوب القمع والعنف والتوبيخ.. يسردان للمراهق عن تجارب حياتية مرّت بهما عسى يتعظ بها المراهق من تجربتهما الذاتية أو من خلال قصص وحكايات يسردها الوالدان أمام ولدهما المراهق أو خلال الأفلام التاريخية والبرامج العلمية والمنوعة المفيدة وان يسعى الوالدان بأقوالهما وأمثالهما بأنهما المثل الأعلى والقدوة المثلى للأسرة الكريمة فالمراهق هو خليفة أبويه،ورجل الغد في مستقبل حياتنا الاجتماعية ومرحلة المراهقة هي مرحلة التحضير للدخول إلى مرحلة الشباب فعلينا التعامل معه حسب المناهج التربوية الحديثة والدراسات النفسية الهادفة لبناء شخصية متكاملة له للولوج إلى عالم الشباب القوي المتحفز نحو النشوء والاكتم.
إنك ستلد ذات يوم ,وتكبر ,وستقف عند ذلك على أكداس وأكوام من قاذورات أخطاء آبائك ..
إن نضالنا لم يعلن شروقه بعد ..أوصيك يا بني بأن تحب و تحترم بسمات الأطفال في أحضان الأمهات , وثغاء الخراف عند الخروج من حظائرها ..وشروق الشمس عند الصباح ,وأزهار الحقول ..أحبّ كل جميل .. واعلم يا ولدي ليس على الأرض زرع يدوم ولكن هناك حصاد يتجدد ,وأن الأنفس الشريرة تصنع للمناجل أسنانا حادّة من حديد ونار تحصد الرؤوس الآدمية..!!
اعلم يا بني : إن شرقنا غارق في القيم حتى الأذقان ولكن من دواعي الأسى يتخذ من القيم طعما وآلة لاصطياد النفوس البريئة ..مستخدما المشاعر العاطفية والقيم النبيلة دروعا مقدسة للظفر بالصيد الثمين .
اعلم يا ولدي: من أضاع وأفنى ربيع شبابه في العبث والمجون لم يقطف في خريفه إلا المرارة واليأس ..ومن شبّ على الفوضى والتردد عاش حياته قلقّّا مضطربا.
ولدي الذي لم يأت بعد : الضلال الفكري مرض خطير يجب استئصال شأفته والتشاؤم داء يحوّل حياتك إلى جحيم فاتخذ العقل والعلم والأمل سراجا وهاجا لك وحاول خلق روح الإبداع والاختراع في عقلك .
اتخذ جريان النهر قدوة لك ..فالنهر يجري وتتجدد ماؤه أثناء المسير وتخضرّ الأرض من حوله ,وتزهر الزهور والورود عبر جريانه ..
يا بني :يجب أن تنبثق قوانينا من أخلاقياتنا المتجذرة ..وإن الحقيقة أسمى شموخا من المنفعة ويشترط في نشرها الحب والتسامح والكياسة لا عن طريق الوعيد والتهديد والقهر والتعصب والقمع .. الحقيقة يا بني: كالشمس الساطعة كل الناس يعرفونها بامتياز ولكن أصحاب النزوات الآنية الفردية و يسفهونها وإن اختلفت باختلاف الزمان والمكان فإن اختلافها عرضيّ لا جوهري ولولا ذلك لما توصلت البشرية إلى حقائق كلية موضوعية مشتركة بين الناس كافة..
آن لنا يا بني أن نشرب من المنهل الروي الصافي الذي شرب منه قادة الفكر في كل زمان ومكان وساروا في طريق الحق والخير والإبداع .. فالحياة علم وعمل وأمل متجدد وهي أيضا خبرة واقتباس وحكمة ..وعمل لإصلاح الحاضر .
أوصيك يا بني بالمقدستين في هذه الأرض ..
شعبك ووطنك بهما تخلد في دفتر الزمان إياك يا بني العاطفة الطاغية ..
إن القليل من الجهد المنظم يغني عن الكثير من الحماسة المبددة كما أن القليل من الفطنة المركزة خير من الكثير من الذكاء المشتت .
الحياة يا بني مسرحية خير لك أن تبتعد عن رؤية ما وراء الستار فإذا ما رأيت خلف الستار فإما أن تكون الضحية أو أن تكون المخرج ..
إذا رافقت إنسانا يا بنيّ تعرّف على جوانبه الايجابية والسلبية واستمر في معاشرته فإنه لا يقدر على إيذائك ..
تستطيع التغلب عليه إذا راودته نفسه الضرر بك .. وإن كنت جاهلا بما في داخله فأنت لقمة سهلة لابتلاعك..
وخير الإيديولوجيات يا بني : ما نبع من عقولنا اليقظة المستقلة وعبرت عن أصالتنا ووافقت طبائعنا .. وجاءت أصولها العميقة ملائمة لحاجتنا وميولنا ومبتغانا .
وداعا يا ولدي الآتي من طلسم الغيب ..قد دنا أجلي واقتربت منيتي .. سوف تقرأ كلماتي تصطدم وتضجر ثم تهدأ رويدا رويدا ..
التوقيع
والدك الذي لم ينحن يوما للسفهاء.
بعد رحلة شاقة وممتعة قطعتها في أروقة مدارسنا الثانوية في محافظات قطرنا السوري العزيز ابتداء من العاصمة دمشق والرقة وانتهاء بحلب وبينما أنا أتنقل بين المحافظات الثلاث ويدفعني إلى ذلك نشاط الشباب وحافز الهمة والنشاط واحمل بين أجنحتي أطفالي كطائر مهاجر يبحث عن ملاذ امن من الدفء والمأمنة والعيش الرغيد ..
وقد أثمرت جهودي بتربية أولادي أولا وتحصيلهم العلمي ثانيا لان من لايهتم بأهله وأولاده لا يمكن أن يخدم الآخرين .. فالأمر يبدأ بتربية أولاده ويواصل عمله في خدمة أبناء مجتمعه ..
ففي مجال أهلي وأولادي ابنتي سوزان فهي معلمة الأجيال ورولان فهو مخرج سينمائي وتلفزيوني ومصطفى فهو معلم الأجيال ونوزاد خريج الإعلام وابنتي الأخيرة بروين وهي مدرسة الأدب الانكليزي أما في مجال بناء الأجيال لأبناء مجتمعنا السوري الغالي فهناك العشرات من خريجي الجامعات في كل مجال من مجالات العلوم في التدريس والمحاماة والقضاة والضباط والأطباء وغيرهم من حاملي الشهادات الجامعية يشار إليهم بالبنان في شهاداتهم وخبراتهم المعرفية..
أتذكر تلك السنوات الخمسة والثلاثين التي أمضيتها في حقل التدريس وأنا اشعر بالنشوة والذكريات الطيبة رغم قساوة العيش والجهد المضني الدءوب أتذكر وأنا شاب لا اعرف التعب والإرهاق ولا اليأس والملل بل أنا كتلة من الشعاع المتوهج أضيء سبل المعرفة لأجيالي المتعاقبة وانشر رسالة العلم في كل منحى من مناحي الحياة وأسلح أجيالي بسراج المعرفة، واحمل شموعي الموقدة لأنير دياجير الظلام لأجيالي عبر دروب اليقظة ومحطات التأمل والاستحواذ على سنابل المعرفة ..
تلك هي مسيرتي في دروب الحياة التي أحرقت فيها شبابي بشموع العلم ووحي الليالي .
كانت رحلة عسيرة تمخضت عن بروز جيل متوج بإكليل من تيجان الغار ..وكمزارع شذب بستانه وأتقن غرساته فأضحى روضة قطوفها دانية وعرائشها مزهرة ناضجة.
المنزل هو النشأة الأولى في حقل التربية فالأب هو القدوة المثلى لأولاده وكذلك الأم والأهل أنمذجة لتربية الأولاد ..
فإذا كانت الإستراتيجية القيادية واضحة المعالم في البيت ومتماسكة البنيان من حيث النظري والعملي والمادي والمعنوي فالقيادة الأبوية إن كانت تتمثل بالقيم العملية وتترجم المبادئ على ارض الواقع فالأولاد يقلدون هذا السلوك نظريا وعمليا فإنهم سوف ينمون نموا طبيعيا كاملا ويفوزون بشهادة الحياة النظرية والعملية ..
أما إن كانت القيادة الأبوية غير متماسكة متنافرة كل واحد يغني على ليلاه فلا حياة لمن تنادي أصبح الأولاد ضحايا التشرذم والتنافر وتنخر العقد النفسية قلوب الأولاد يحملون أخلاقا شاذة فيها الغلوّ والتطرف تراهم في مستقبل حياتهم ضائعين تائهين يجهلون أنفسهم والآخرين يعيشون عيشة شبيهة بالتشرد والحرمان .. وإذا كان الأب أو الأم يتبختر بالقيم والمثل العليا جهارا ولكنه لا يحولها إلى حياة عملية أي (شخصية متناقضة) أو مناقضة لإرواء نزواته الشخصية على حساب القيم و الأولاد فانه يوعز إلى أولاده كونوا مثلي ..
فالأولاد البسطاء يتخرجون على يديه بشهادة التملق والمداهنة فيتقنون أساليب الكذب والخداع فيصبحون أعضاء ضارا في المجتمع..
عرفت رجلا ذا جاه ومال يزهو في المحافل .. ويعاتبني على قلة مالي وعلى مهنتي بأن التربية لا تعطيك شيئا ولا تحررك من الفقر ..هذا الرجل عرفته بقوة كان مزاجيا فهو في بيته يختلف عن خارج بيته ..
متناقض مع نفسه، ويحمل معايير مزدوجة حتى انه يجهل تقييم نفسه وتقييم الآخرين .. وتراه غير مستقر في داخله أحيانا ينفعل غاضبا وأحيانا يقهقه قهقهة غير طبيعية رغم انه كان يملك ثلاث شقق سكنية ومزرعة ومركبة فاخرة .
هذا الرجل رّبى أولاده على إستراتيجيته المنهارة .. فكبر أولاده .. فشرع الأول يسرق من مال أبيه ويذهب إلى حوانيت السّكر والعربدة والثاني التحق بعصابة الإجرام والثالث تخلف عن أداء خدمة العلم وهاجر إلى بلد للعمل والتكسب..
فأصبح الأب مفلسا وباع شققه الثلاث وسيارته الفخمة ..فأصبح مستأجرا فلم يسعفه غير راتبه التقاعدي وأخذ يسعى للحصول على عمل ليكمل نفقته الخاصة مع زوجته ..
فقد غدا بليدا ورخيصا في أعين أهله وأصدقائه وأعدائه و الناس جميعا ..
ختم نهايته بالشقاء والسّواد.
هذا نموذج للتربية المزدوجة ذات المنهج المتناقض,وتعرفت على رجل ضابط لا يملك من الحياة غير راتبه فهو شهم كريم ..وجديّ في حياته ورصين في سلوكه وتعامله ومتواضع مع زملائه ومع من هو أدنى منه درجة زرته ذات يوم وكان أولاده صغارا .. رأيته وقد خصص غرفة خاصة لتدريس أولاده ,وتربيتهم تربية خلقية تهذيبية على الصدق والوفاء والشجاعة والاستقامة ..
واستمرت الصداقة بيننا إلى يومنا هذا فقد تخرج أولاده من جامعات القطر بشهادات عالية وكل واحد يمارس منصبه القيادي في منشآت وطننا السوري.
وهذا النموذج الايجابي الذي يرفد مجتمعنا بكوادر ونوابغ صالحة لخدمة المجتمع فدور القيادة الأبوية في البيت (حجر الأساس في الانطلاق نحو البناء والازدهار ). وهناك نمط آخر من أنماط القيادة الأبوية ..وهو الغضب الشديد والتسلط والانفعال العنيف والصرامة وعدم قبول رأي الآخر.. وفرض رأيه بالقساوة والشدة .
كان لي صديق في الدراسة .. وقد تطوع في القوات المسلحة برتبة ضابط فقد كانت معاملته مع أولاده قاسية، فالأولاد يحترمونه كرها ويعقد معهم جلسات يسود فيها البطش والقمع .. ويسرد لهم عن تاريخ حياته بأنه حصل على الثانوية بدون مساعدة من أحد وأن أباه كان يقسو عليه ماديا ومعنويا وانه عاش في فقر مدقع ورغم ذلك نجح وهو الآن ضابط من خيرة الضباط وهو يتلو هذه الكلمات وأولاده يصغون إليه هلعا وفزعا .. فأولاده ضحايا طيشه ومغامراته الهمجية فلم يدرس أحد من أولاده فأصبحوا بلا عمل لا يتقنون صنعة ولا يتميزون بصفة متواضعة فأصبحوا عالة على المجتمع فأصبح الأب بعد تقاعده رجلا يائسا من الحياة تنطلق من بركان قلبه الحسرات والتأوهات فالعصب والغضب والانفعال العشوائي لا يربي أولادا ولا جيلا .. فهو عدو التربية الصحيحة .. والنصح المكرر يورث مللا وجفاء وتجربة حياتية أفضل من مئات النصائح,فالزمن يتغير والأوضاع تتبدل فلا يجوز أن أقيس تربيتي بتربية أولادي فالظروف تختلف والاعصر تتغاير ..
ولذلك سيدنا علي كرم الله وجهه يقول:(ربّوا أولادكم لغير زمانكم ) فالانفعال العاطفي يورث أحقادا وانفصاما وفراقا في الأهل والأسرة والمجتمع .. ومن الصعب جمع الشمل ولمّ الشتات وتداوي الجراح.. وهناك نمط آخر مرّ معي أكثر من عشرين عاما ..
طالبان في الصف التاسع وهما شقيقان يعيشان في بيئة فقيرة متردية .. أبوهما أمي لا يعرف القراءة والكتابة يعمل في بيروت حامل أكياس الاسمنت وإخوتهما كذلك عمال بناء يسخّرون عضلاتهم بغية الحصول على لقمة العيش.
هذان الطالبان في بداية العام الدراسي شاهدت في وجوههم البؤس والفاقة والحرمان واليأس .. فحاولت رفع معنوياتهما ومنحهما المبادرة في الصف وإخراجهما إلى السبورة وتقديم المساعدة لهما ماديا ومعنويا .. تعرفت عليهما جيدا وزرت منزلهما ورأيت أهلهما ..
طالبان يعيشان في بيئة معدومة (البؤس الاقتصادي والبؤس الاجتماعي والبؤس الثقافي) .
بقيت معهما أربع سنوات وقد دخلا على كلية الطب بأوسع أبوابها بجامعة حلب وتخرجا منها وتخصصا فأصبحا طبيبين متخصصين ..
إنني إذ أعرض هذه الحكاية الواقعية أستخلص درسا مهما وهو إن لم تستطع أن تكون وردة ..فلا تكن شوكة.
فهذان الطبيبان لم يشرفا عليهما الأبوان ولا الأهل ..الأب يعمل خارج الوطن ليؤمن حاجيات أهله وأولاده ..وترك الأمور على عاهلها أفضل من تربية القمع والاستبداد الذي يهدم الجيل برمته ..فالأسرة الآمنة الهادئة البسيطة المتآلفة المتماسكة تهيئ أجواء النمو والإنبات وأحيانا الحياة البدائية البسيطة الساذجة أفضل من حياة التقدم التكنيكي الهائل الذي يفتقر إلى الأمن والراحة والاستقرار وإلى الجاهزية الحضارية.
كنت أدرس في الثانويات الخاصة التقيت بطالب قد قدّم إلى الثانوية العامة الفرع العلمي ثلاث سنوات ورسب في مادة اللغة العربية فقابلني في الإدارة المدرسية، ودمعت عيناه وتوّسل بي أن أقويه في مادة اللغة العربية (وكنت في ذاك الوقت قد أجريت عملية جراحية لعيني اليسرى ومنعني الطبيب من القراءة)
فبدأت معه في الصف ..اسأله النحو والأدب .. وارفع من معنوياته بأن العربية هي لغة الأزاهير والورود .. لغة الرازي وابن سينا وابن الأثير فأحب الطالب العربية فحصل في الثانوية العامة الفرع العلمي لمادة اللغة العربية 39 / 40 فدرس الأدب العربي في جامعة حلب .. وحصل على دكتوراه وهو الآن يدرّس في (قطر)..
نستخلص من ذلك أن دور التوجيه الصحيح والسليم كبير ونافع في بناء الإنسان وتقدّمه.. فالوقوف مع الطالب ، وتقبّل عذره ومساعدته في محنته بتفان وإخلاص هو الطريق الواضح لدفع الطالب إلى الارتقاء والصعود إلى أعلى درجات المعرفة .. التدريس فن من الفنون الجميلة وأسلوب في تعبئة قلب الطالب ودماغه ,وتخزين المعلومات في خزانة معارفه بأسلوب مشوّق، وقراءة ذكية.. تجعل الطالب يستعد دائما وهو متلهف لتلقي المعلومات .. وهو فرح مسرور أثناء شرح الدرس .. ومزّهو ومفتخر بأستاذه .. ومحب له .. فالعنصر الجوهري أن تجعل الطالب يحبك ويكرمك ويحترم علمك ومادتك .. فإذا رسّخ المدّرس هذه الصلة بينه وبين طالبه فقد أسس علاقة قوية متينة وسوف تنضج ثمارها وتؤتى أكلها والمدّرس عليه أن يتجرد من انفعالاته النفسية وأن ينسى همومه الشخصية المادية والمعنوية وأن يدخل إلى الصف وهو على أتم الاستعداد للإلقاء وأن يعامل طلابه معاملة الأب لأولاده بعيدا عن الحسب والنسب والطائفية والعرق والمذهب .. فكلهم متساوون إلا الأجدر خلقا وعلما .. وأن يتماشى تماشيا صارما عن إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وأن يوجههم وطنيا وقوميا بأن هذه الأمة تنتظر الأدمغة الكبيرة والمدرس الناجح يعرّف الأمة أنها (وهي العائلة الكبرى) فكلنا إخوة ولكل منا دوره في الحفاظ وحماية الوطن والمجتمع فلا امتياز ولا تمايز .. لكل فرد منا حصته في هذا الوطن .. والمدرّس المتميز صاحب الشخصية القوية يفرض احترامه على طلابه بأسلوبه وذكائه وعلمه والأسلوب هو الرجل نفسه كما قال أرسطو,يداري طلابه ويدرك مواطن الضعف ويشخص النقص فيهيمن على الصف بجدارته لأنه متى اكتشف المدرس نقاط الضعف في طلابه يستطيع التأثير عليهم وتوجيههم توجيها صحيحا وتقديم المعارف لهم ..
أما إذا غضب المدّرس في الصف ولم يستطع أن يكبح انفعالاته أصبح دمية مسلوبة الإرادة وعرضة لسخرية طلابه فالأحسن أن يتحلى المدّرس بلباقته الهادئة الرصينة وحسن هندامه والتعامل الحضاري والهدوء والرزانة والتروي متخذا قرارات عقلانية بعيدة عن العاطفة الذاتية ,والمزاج الشخصي والانفعال الآني .. فالمدّرس الناضج يدرك بأنه يتعامل مع طلابه المراهقين ويفهم عاليا بأنّ هؤلاء هم مراهقون فيستخدم معهم أسلوب العقل والمنطق بدلا من أسلوب الشدة ويعرف نقاط الضعف فيهم فيداوي عللهم بأسلوب الحكمة والدهاء وليس بأسلوب اللكمة والبطش والهيجان .. فيحنّ عليهم ويغذيهم بشراب الفكر والتعقل والرعاية الأبوية الصادقة ذلك هو الترياق والبلسم الشافي..أما إذا غضب وشتم المدّرس تحوّل إلى مهرج يستحق الازدراء..
مرّ معي طلاب مشاكسون ..عالجت عللهم ..وهيأتهم للتلقي وحوّلتهم إلى طلاب هادئين متزنين..
فأصبحوا في نهاية المطاف أصدقاء مخلصين لي بعد أن أكملوا دراساتهم وتوظفوا في دوائر الدولة..
بعد تجربتي الطويلة أقترح على المدرسين الشباب أن يدّرسوا كل يوم ثلاث حصص ..فالمدّرس الذي يعطي أكثر من ثلاث حصص لا يستطيع أن يضبط أعصابه وسيكون عرضة للأخطاء ..هذا ما مرّ معي فمهما كان المدّرس قويا إرادته وصابرا صلبا لا يقدر أن يدّرس أكثر من ثلاث حصص كل يوم ..لأن التدريس مهنة شاقة ..فإذا زاد على هذا النصاب حام حول الحمى وأوشك أن يقع في تهافت وأخطاء لا تحمد عقباها.. ولا يشترط أن يكون المدّرس وعاء ملئ علما أو حفظ طوفانا من العلوم فحسب ..التدريس فن وأسلوب وعلم قبل كل شيء والمدّرس الحكيم من أخلص في حكمه وملأ النقص بدراية ودهاء وأذاق طلابه عصير المحبة والتقدير والتآلف ونخب الإنصات والاستماع الوقور وليدرك المدّرس بأنه يتعامل مع العقول الهائجة وأنه سوف يزيح سحب العواصف والأعاصير عنها وأن تاريخه محفوظ بتاريخ هؤلاء الطلبة .. وأنهم سوف يخلدونه في سجلات ناصعة بيضاء.. والقضية الكبرى تكمن في إدارة المدرسة ..أن تتصف بالحكمة مع المدرسين والطلبة تظللها هالات من الإشراق الروحي والألفة تتباهى فيها أجواء الحرية والتسامح والعدل .. ونذير الخطر يقرع أبوابه حينما تكون إدارة المدرسة منقسمة ومفككة الأوصال تعكس سلبا على المدرسين والطلبة فيفشل التدريس فيها ويظهر مناخ من المهاترات والترهات والتصرف غير المسؤول.. والتسيّب المستشري في أوحال العبث والفوضى والهمجية.. فالطلبة هم أبناؤنا ..أمانة في أعناقنا فلنحسن الأداء ولنحمل الأمانة بصدق وإخلاص لأنهم رجال الغد وعمالقة المستقبل الزاهر وأعزّر منهجي مستشهدا بقول أحد حكماء الغرب (إذا كان التعليم في المدارس سليما والقضاء سليما وفي خير فبشّر الأمة بمستقبل آمن).
وأنهي بحثي بالبيان الإلهي ( ن. والقلم وما يسطرون ) صدق الله العظيم .
المشاعر الأساسية بالكفاءة والمقدرة يبدأ تكونها قبل سن الخامسة. إن غرس شعور الكفاءة لدى الطفل يحميه من الحاجة لتطوير الشعور بالإشباع من خلال أحلام اليقظة ولذلك على الآباء أن يوجدوا التوازن بين تقديم الحماية المناسبة للطفل والسماح له بالاستقلالية، وتظهر الاستقلالية المناسبة من خلال قدرة الطفل على انجاز المهمات التي تحقق له الحصول على ثناء الآخرين والشعور الشخصي بالانجاز. وتعتبر الأعمال اليومية الروتينية أفضل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك خلال مرحلة الطفولة المبكّرة. إن حماية الأبوين الزائدة تؤخر إحساس الأطفال بالجدارة والكفاءة،وهؤلاء الأطفال غالبا ما يطورون مزيجا محزنا من الشعور بالقوة والتفوق وفي الوقت نفسه بالعجز....ويجب أن يزداد إحساس الطفل بالكفاءة مع تزايد نضجه،وإن إحدى الطرق الممتازة من قبل الأبوين تهيئة الأطفال عقليا للمواقف الكثيرة التي تعترض مستقبل حياتهم....والمواقف غير المتوقعة والتي يمكن التكيف معها بالإضافة إلى ذلك يمكن للأبوين أن يقوما بتمثيل المواقف الصعبة من خلال(لعب الدور)فيمكن أن يتظاهر الأب مثلا بأنه طفل يحاول إغاظة الابن في حين يتعامل الطفل مع الموقف بهدوء وعندما لا يعرف كيف يتصرف على الأب أن يغير الدور ويوضح للطفل كيفية السلوك الهادئ الفعال مثلا(أنا لا أحبُّ أن أستثار ذلك.عندما تتوقف عن إغاظتي سوف ألعب معك.)
ويعتبر دخول المدرسة لأول مرة اختبارا حقيقيا لقدرة الطفل على التكييف مع المطالب التربوية والاجتماعية النظامية... فالأطفال الذين لديهم مفهوم عن الذات غير واقعي أو مهزوز غالبا ما يقدمون بالصعوبات التي تواجههم في المدرسة وهؤلاء الأطفال عرضةٌ للهرب من أحلام اليقظة بحثاً عن مصدر للإشباع......لذلك يجب عليك القيام بكل ما يمكن لإعداد الطفل للمدرسة بما في ذلك التحدث مع المعلم قبل أن تبدأ الدراسة وقد يأخذ الإعداد شكل مناقشة جوانب القوة وجوانب الضعف لدى الطفل مع المعلم كي يقوم المعلم بمساعدة الطفل.
إن النقد المستمر وخبرات الفشل تؤدي إلى عدم استمرار الطفل في المهمات ويؤدي تركيز الأهل المستمر على الخطأ المستمر...ولكي تجنب الطفل هذا النوع من قلة الانتباه(اختر له مهمات فرص النجاح فيها تكون عالية جداً ثم امتدح إتمامه للعمل)فالطفل الذي لا يشعر بالكفاءة سوف يتوقف عن الانتباه بسرعة عند أول موقف فيه إحباط بسيط والشعور بالكفاءة ينمو عن طريق مزيج من ثناء الأهل وتشجيعهم والنجاح في إتمام المهمات... وجدير بالذكر هنا أن الكثيرين من علماء النفس يتفقون على أهمية الخمس السنوات الأولى من عمر الإنسان في تكوين شخصيته وعندما يكون لدى الأفراد شعور أساسي بالجدارة والقوة تظهر لديهم حساسية عالية لأي شكل من أشكال النقد فيفسرون أكثر التعليقات بساطة كأنه هجوم شخصي ضدهم. وتتم تنمية الشعور بالكفاءة بامتداح على انجازاتهم لينجزوا باستقلالية مهمات في مستواهم وليواجهوا التحديات وأن تكرار أداء المهمات نيابة عن الطفل يقلل ثقته بنفسه ومع مرور الوقت يتعلم الأطفال أن يقولوا لأنفسهم (هذا رائع) لقد فعلت ذلك بنفسي فالكفاءة تعني:أن الأطفال قادرون على الاستجابة بشكل مناسب على مواجهة المشكلات وحلها...وعلينا أن نعلّم الطفل بشكل مباشر في مواقف الحياة الواقعية.. فعندما يقول الطفل: لا أشعر بأنني أرغب في عمل ذلك الآن. علينا أن نجيب (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد)
هناك نوعان من التعزيز: (الايجابي والتعزيز السلبي)الايجابي يقوي ويثبت السلوك ويكون في أغلب الأحوال في صورة مكافأة أو تشجيع أو إطراء...... أما التعزيز السلبي فيتمثل عادة في العقاب كالزجر والتوبيخ فغالبا ما يؤدي إلى ضعف الاستجابة وتلاشيها. ويتضح مما سبق أن تقنية استخدام التعزيز في تعديل السلوك يمكن تطبيقه من قبل أولياء الأمور(الوالدين) وكذلك في المجال التربوي بين المعلم والمتعلم على حدّ سواء....... فالشخصية هي ذلك التنظيم المتكامل الديناميكي الذي يتميز به الفرد وتتكون من التفاعل المستمر المتبادل بين المنظومات النفسية والجسمية ومؤثرات البيئة المادية والاجتماعية.
حيث تبدأ هذه العملية بالأسرة وتنتهي بالمؤسسات القانونية والدينية في الدولة مروراً بالمدرسة كمؤسسة اجتماعية وما يصاحبها من جماعات الأقران وكذلك المؤسسات الترفيهية.....وهذه المؤسسات تختلف من مجتمع لآخر ومن بيئة لأخرى ولا يعني هذا أن أبناء المجتمع الواحد تكون شخصياتهم نسخ متطابقة وذلك للتباين الواضح في الثقافات الفرعية حيث إن أية ثقافة تتحدد وبمستويات ثلاث:
العموميات هي اللغة ونوع الملابس المميزة،وطراز المباني وأنواع الأطعمة والخصوصيات تعد بمثابة ثقافات فرعية مختلفة في داخل الثقافة العامة وتجددها الطبقات الاجتماعية والظروف الاقتصادية ومستوى التعليم ونوعية المهن وكذلك طبيعة السكن(ريف-حضر). وحين تنمو الشخصية نرى أن الإنسان يمر عبر مراحل النمو المختلفة ولكل مرحلة متطلباتها الخاصة بها. وبهذا يمكن القول:لكل فرد شخصيته الخاصة به والتي تتضح من خلال ممارساته عن طريق ملاحظته كما يمكن أيضا قياس هذه الأداءت أو السلوك من خلال مجموعة مقاييس للشخصية.
المصادر: دافيد وف لندال 1982 مدخل علم النفس ط3 ترجمة سيد الطواب و آخرون مركز العجلي وناجي خليل 1996 نظريات التعليم منشورات جامعة قان يونس بنغازي الزبيدي علي حسين1989 الثقة بالنفس عند الأطفال والمراهقين كلية التربية جامعة بغداد.
جوارد سندني م وتيد لندز من 1988 الشخصية السليمة ترجمة حمدولي الكربولي وموفق الحمدان.
في مراجع وأدبيات علم النفس الاجتماعي عادة يرتبط اسم العدوان بالعنف ومنذ أن بدأت البشرية بتدوين تاريخها قبل حوالي 5600عاماً وقعت أكثر من(14600)حربا بين الإنسان وأخيه الإنسان أي بمعدل ثلاث حروب في السنة حتى 1967. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقف ضد بني جنسه بهذه الصورة مقارنة ببقية الكائنات.وما للحروب من نتائج مأساوية على حياة الإنسان فإنها جديرة تستحق الدراسة والتفكير.والعدوان هو إيذاء الناس وإيقاع الألم بفرد أو مجموعة من الناس سواء أكان هذا السلوك لفظيا أو بدنيا وأحيانا بوجه العدوان نحو الذات كما في حالة الانتحار.
إلا أنَّ هناك اتجاهين بارزين في هذا السياق وهما: *الاتجاه الأول يمثله فرويد ولورنز وأردري الذين يعتقدون بأن العدوان جزء من الكيان الغريزي للإنسان يولد مع الطفل وهو في رحم أمه بقدرٍ كبير من الرغبة في العدوان ذلك من مكونات اللاشعور.
أما لورنز فيرى أن كل الحيوانات ومنها الإنسان تولد بغرائز عدوانية تساعدها على البقاء أو هو سلوك غريزي يقوم به الكائن الحي لحماية نفسه من مخاطر البيئة والحفاظ على الوجود.
ويرى[أردري]: أن غريزة العدوان نمت وترعرعت في سياق التطور كوظيفة للمناقشة من أجل البقاء.
أما الاتجاه الثاني الذي يمثله مجموعة من علماء النفس الاجتماعي أمثال هوراني وسويلفات و فروم....
يرون بأن العدوان سلوك مكتسي يتعلمه الطفل عن طريق البيئة المتمثلة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية،وملاحظة سلوك الآخرين وتقليدهم.فالاتجاه الغريزي كونها مشكلة حتمية لامناص منها مفروضة على الإنسان شاء أم أبي إلا أنه يمكن التخفيف من وطأتها بوساطة مزاولة نشاطات التفريغ وهي عملية التخلص من التوتر بطرق اجتماعية مقبولة كالجدال والمناقشة الجادّة ونشاطات الترفيه والرياضة.
أما الاتجاه الثاني في تفسير العدوان فإنه طالما يعد العدوان سلوكا متعلما مكتسبا من البيئة لذا يمكن معالجته عن طريق التعلم وتحسين بيئة الإنسان كاقتلاع جذور الفقر والاستغلال والأمراض والجهل وهي عوامل ومقومات تدفع على تحفيز البشر على تلبية واستجابات العدوان،ويولد الإحباط عندما تتدخل الظروف الخارجية لتعيق الإنسان على تحقيق هدف أو انجاز عمل وكل حادث محبط يقود الطفل بالضرورة إلى شكل من أشكال العدوان بعد تعرضهم لسوء معاملة الوالدين، ويعد بعض التربويين أن العدوان لدى الأطفال مسألة طبيعية طالما إنه تعبير بدائي عن بعض الشحنات الانفعالية إلا أن هذه المسألة تؤخذ بجدية لدى المربين طالما أن عدوان الأطفال يؤدي إلى ما يأتي:
v إلحاق الأذى بالأطفال عبر الخصام والمشاحنات
v تفاقم العلاقة السيئة بين الطفل ووالديه من خلال استمرار الطفل في سلوكه العدواني مما يسبب التوتر والقلق والإزعاج لدى الوالدين.
v سوء التفاهم والشجارات بين الأسر التي يلجأ أطفالها فيما بينهم إلى السلوك العدواني كجزء من العلاقة الاجتماعية وقد يتطور هذا إلى الأحقاد والتهديد والوعيد بين الأسر من الاستجابات فما هي الأسباب التي تؤدي بالأطفال إلى هذا العدوان؟
v عمر الطفل في السنين الأولى وهو عبارة عن ردود أفعال غاضبة تسمى بنوبات الغضب،ويتحول العدوان إلى عدوان مباشر كلما كبر الطفل فطفل السنتين يغضب ويصرخ أما طفل الخامسة فيوجه عدوانه بشكل محدد إلى إنسان معين.
v جنس الطفل:يشجع المجتمع الأولاد على العدوان أكثر من البنات ويتفوق الأولاد الذكور على العدوان الجسمي بينما تتفوق البنات على الأولاد بالعدوان اللفظي كالتوبيخ والتهكم إلا أن كلا النوعين من العدوان يلحقان الألم والأذى سواء على الصعيد الجسمي والنفسي فنرى الكثير من العراك والمشاحنات الجسمية تحصل بين الأولاد أنفسهم أكثر من البنات اللواتي يلجأن إلى أساليب غير مباشرة في العدوان.
v الوضع الاجتماعي:أحيانا نهيئ أطفالنا للعدوان مسبقا دون حصول أي هجوم أو استفزاز عليهم عندما نقول لهم من ضربك اضربه.....لا تجعل أن يعتدي عليك أحد....وفي الكثير من الأحيان يكون عدوان الأطفال حالة طبيعية ناتجة عن التواصل الاجتماعي فيما بينهم أو نتيجة للعبة أو موقف معين وترجع العلاقات طبيعية إلى وضع ما قبل الشجار. إلا أن ما يزيد المشكلة تعقيدا هو تطرف والد الأطفال في اتخاذهم موقفا منتجاً من العدوان الحاصل لأي سبب كان مما يعد ذلك الموقف عدائيا أكثر من حجم العدوان الحاصل فيما بين الأطفال.
v الإحباط: وهو حالة يمنع الطفل من الحصول على شيء معين أو يمنع من اللعب أو من انجاز عمل معين.
v دور التعلم:يتعلم الأطفال أعلب أنماط العدوان من الوالدين والإخوة والأقران وشخصيات الأفلام فإذا كان الأب يغضب بسرعة عندما يواجه موقفا محبطا فإنه دون شك سيكون نموذجا سيئا لطفله الذي ينظر إليه.
v استخدام العقاب:الأب الذي يعاقب طفله ليمنع اعتداءه على الآخرين يكون في الوقت ذاته قد نصب من نفسه نموذجا عدوانيا سرعان ما يقلده الطفل في مواقف لاحقة.
v التهاون نحو العدوان: فيكونون متهاونين إزاءه في بعض المواقف لكنهم يعاقبون العدوان بقسوة شديدة في مواقف أخرى....إذن فكيف يمكن مواجهة السلوك العدواني لدى الأطفال تربوياً والتخفيف من وطأته من قبل الأسرة؟
v يجب أن يلتفت الوالدان إلى توجهاتهم في الحياة وإلى تصرفاتهم وإلى أقوالهم وأفعالهم.
v إبعاد الأطفال عن كل أجواء ومظاهر العدوان ومن جانب آخر علينا كمربين أن نقلل من عرض أشكال العدوان عبر تصرفاتهم وبالأخص في حالات الغضب لنعلم أطفالنا على أساليب أكثر تطورا وحضارية كالتأني والهدوء،وضبط النفس.
v العلاقة الودية بين الوالدين إذا تعرضت للبرود والجفاء يجب الاحتكام إلى العقل والمنطق والحوار الهادئ لمعالجة الإشكالات وعرض سلوكيات راقية في التفاهم والتفاعل فيتأثر الطفل بهذا التفاهم ويقلده في مواقف حياته اليومية.
v التخلخل في العلاقة الزوجية يفرز نماذج من السلوك العدواني للأطفال وبحسب الفروق الجنسية فإذا كانت كفتي ميزان السيطرة بين الزوجين غير متوازنة،فعلى الزوجين مراجعة وتوزيع الأدوار وعالجتها بما يتلاءم مع واقعنا الاجتماعي والتوجهات الحضارية والتربوية ورفض مبدأ الاستغلال مهما كانت ذرائعه ومبرراته.
v استخدام الوالدين لمبدأ الثواب والعقاب لمعالجة السلوك العدواني للطفل بصورة متكررة وملائمة تربويا ومكافأته أو تشجيعه على ما يقوم به من سلوكيات غير عدوانية أي عدم التهاون والتسامح معه عندما يكون عدوانيا.
v توظيف الطفل وزجه في الألعاب الرياضية والترفيهية واستثمار قدراته العقلية ضمن النشاطات الفكرية كحل الألغاز وتعلم الشطرنج وألعاب الفيديو التي ترفع من آلية قدرات الطفل العقلية دونما الإفراط.
v يكون الأمر طبيعيا إذا دافع الطفل عن نفسه ولكن عندما يبادر بالعدوان مراراً دون أسباب موجبة ومع أكثر من طفل ويصبح مصدر إيذاء للآخرين ولنفسه ولأسرته....وعندئذ يتطلب الأمر عرضةٌ على مختصين في علم النفس أو أطباء نفسانيين لمعالجته.
v لا تقل مسؤولية المدرسة عن مسؤولية البت في معالجة الحد من السلوكيات العدوانية سيّما لدى أطفال المدارس الابتدائية...المعلم يجب أن يكون نموذجا رائعا للتصرفات التربوية الهادفة أمام تلاميذه وأخذ شكاوي التلاميذ بنظر الاعتبار والاتصال بأولياء أمور التلاميذ الذين يصعب السيطرة عليهم.
لكي نبني الإنسان من الداخل ليكون مؤهلا لمواجهة متطلبات وتحديات القرن الجديد القرن الحادي والعشرين ويلحق بالركب الحضاري للدول التي سبقتنا أشواطاً في هذا المجال علينا كمربين ومثقفين وسياسيين استثمار كل طاقات الإنسان في البناء والإبداع والتطور والرفاهية بعيدا عن كل ما يمت به من صلة بالعنف والعدوان والتطرف والتعصب. علينا أن نبدأ بأطفالنا لنضمن جيلاً متسلحاً بالعلم والمعرفة يستحق العيش بأمان وسعادة واستقرار..
المعنى الاشتقاقي لكلمة ثقافة يوحي إلى الامتحان والتجربة والعمل فتثقيف الرمحِ هو صقله وشحذه وتقويمه بالنار.وتشير كلمة الثقافة في اللغات الأوربية من الناحية الاشتقاقية إلى الزراعة والنماء والخصب أما القواميس الموجودة بين أيدينا لا تذكر هذه إلا في لسان العرب في المجلد العاشر: يقال: ثقف الشيء وهو سرعة التعلم.
ابن دريد :ثقفتُ الشيء حذقته وفي حديث الهجرة: ثقف أي ذو فطنه وذكاء والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه الثقيف: الحاذق الفطن.. والقواميس الحديثة ثقف ثقافة: صار حاذقاً خفيفاً لم نجد أثر الكلمة عند ابن خلدون وهو المؤسس الأول لعلم الاجتماع وردت الكلمة مرتين بصورة أدبية مفردة لغوية في مقدمة ابن خلدون دون الوقوف عند كلمة ثقافة. فروما كانت لها ثقافة (إمبراطورية) (أثينا) (ثقافة حضارة)
فكرة الثقافة حديثة جاءتنا من أوربا ثقف أصل لغتي يتصل تاريخه بلغة قبل الإسلام قد ورد في القرآن الكريم (واقتلوهم حيث ثقفتموهم۩ ) فالذي اشتق الكلمة كان صانعاً ماهرا في علم العربية ,وجدت الكلمة عن طريق التوليد فالكلمة جديدة.
جاءتنا من أوربا صورة حقيقية للعبقرية الأوربية ثمار عصر النهضة فالثقافة : مجموع ثمرات الفكر في ميادين الفن والفلسفة والعلم والقانون ....
الثقافة نوعان المادية والمعنوية والأفكار المادية التقدم التكنولوجي والمعنوي: العقائد يجب أن يساير التعليم تقدم التقانة. فكل ثقافة انعكاس لمفاهيم المجتمع. تاريخ ألمانيا شهد انهيارا كاملا لعالم أشيائه ثقافة النازية هي التي قوضت أركان الدولة ليس المهم أن نأخذ بثقافة الغرب ولكن نقتبس روح الوسط الاجتماعي الإيديولوجي.
عالم الأشياء –البنية التحتية وعالم الأفكار هو الذي يقوم على أنقاض عالم المادة. ومن هنا ينبثق التجديد والخلق والإبداع.
فنرى في هذه الظروف مجتمعا معينا يفقد السيطرة على عالم أشيائه وبرغم هذا فهو يحتفظ بالقدرة على إنشائه مرة أخرى كما حدث في ألمانيا واليابان عام1945 فالشيء والفكرة الثقافة الحضارية....عندما يكون المجتمع ديناميكيا...
إذا عرفنا تاريخ مجتمع معين فسنجد أنه كما أنَّ لديه مقبرة يستودعه أفكاره الميتة الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي.....
إن الشيء نفسه بفقد أيضاً مقدرته على إنتاج الأفكار وخذ مثلا على ذلك تفاحة نيوتن الشهيرة وتخيل ما كان يمكن أن تؤديه لو أنها بدلا من أن تقع على رأس ذلك الرياضي الكبير وقعت على رأس جده الذي عاصر عهد جيوم الفاتح من المؤكد لم تكن لتخلق فكرة الجاذبية.
فالفكرة والشيء لا تكسبان قيمة ثقافية إلا في ظل بعض الشروط.
والأفكار تموت إذا كانت ليس لديها أدنى فاعلية اجتماعية...... إن المجتمع الإسلامي في عهد الفارابي كان يخلق أفكارا وفي عهد ابن رشد تصدر فلسفته إلى أوربا وأنه بعد ابن خلدون لم يعد قادرا على الخلق ولا على التبليغ.
فالفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي قررنا أنه مات موتاً ماديا وكذلك الأمر ما فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتا ثقافياً...فالثقافة الحضارية هي حياة المجتمع بدونها يصبح مجتمعا ميتاً.....
قول سيدنا عمرة: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومه.) وكان الرد على هذه المقولة ما نطق به أحد أولئك البسطاء من البدو(والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) اتحد فيه شكل السلوك لدى الخليفة والبدوي البسيط... دمج الجانب الروحي والوسط الاجتماعي والمقاييس الذاتية والموضوعية في جوانب شتى والخليفة والبدوي كلاهما ينتميان إلى تربية الثقافة الإسلامية. والأخلاق والفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة وعن الصلة القومية بين الأفراد والقرآن الكريم يعطينا فكرة عن قيمة الصلة الرابطة الخلفية فيقول مخاطبا النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم)
فالأخلاق أو الفلسفة الخلافية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة..فأركان الثقافة هي الخلاق والجمال والمنطق العلمي والصناعة والإبداع. فهناك ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية.
قد يحدث أن المسرح مقاول ماهر في الدجل السياسي يكتشف طيبة البسطاء وسرعة انقيادهم فهو يريد أن يحتفظ بهذا المنجم الثمين بأي ثمن. بينما يعلم أنه لن يحتفظ به إلا بنشر الظلام ويؤيده في ذلك خفية الاستعمار الذي يقدر بداهة ثمن ذلك الظلام.
يصاب النشاط بالملل عندما يدير ظهره للفكرة كما تصاب الفكرة بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط.
ريح الإصلاح التي هبت على العالم الإسلامي منذ محمد عبده وتلامذته كابن بادبس الذي حاول تحطيم عوامل انحطاطنا فالثقافة هي الفلسفة الإنسان أو فلسفة المجتمع نحو الأفضل فالثقافة هي مجموعة الصفات الأخلاقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لاشعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه فهي على هذا المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته وتطلقه الشرارة الروحية عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات.
فنحن منذ خمسين عاما نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه هو الجهل والأمية ولكننا اليوم أصبحتا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو (التعالم)
حامل المرقعات ذا الأطمار البالية وحامل اللافتات ذات الألقاب العلمية. فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه تكونت الحضارة من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي وعقلية ديكارت وروحانية جان دارك. هذا هو معنى الثقافة في التاريخ.
هذه الروح الخلقية منحةٌ من السماء(وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيزٌ حكيم)
الروابط الدينية في أوربا هي صفت هذه الحضارة المادية وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة منذ عهد شارلمان فكان اختراع الراديو نتيجة لهذه الجهود جميعاً لهرتز الألماني وبوبوف الروسي وبرانلي الفرنسي وماركوني الايطالي وفليمن الأمريكي إن روح الإسلام هي التي خلقت عناصر متفرقة في وحدة متماسكة لا تنفصم عراها.
تلك تجربة ٌ عمرها أكثر من ألف وخمسمائة عام وحضارة ولدت على أرض قاحلة وسط البدو رجال الفطرة والصحراء.
وليس من شك في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباساً وطنيا للشعب إنما أراد بذلك تغيير نفس لا تغيير ملبس إذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد من خلال تصرفات الفرد أو المجتمع تحكم عليه من خلال الموسيقى والملابس والعادات وأساليب الضحك والعطاس وطريقة تنظيم بيوتنا وتمشيط أولادنا ومسح أحذيتنا وتنظيف أرجلنا.
عقل المنطق متوفر في بلادنا غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فهو شيءٌ يكاد يكون معدوماً.
وما نرى في حياتنا اليومية جانباً اليومية جانباً كبيراً من اللافاعلية في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي المجالات الهازلة.
من هنا يأتي عقمنا الاجتماعي فنحن ينقصنا المنطق العملي فلننظر إلى الأم إما أن تلّد ولدها بالمعاملة المتوحشة ويدرك الطفل بتفاهة إرادتها فلم يعبأ بها نتيجة إرخاء العنان له وتتميّع معه إذ أن الوهن والسخف يطبعان منطقها.
الأزمة الثقافية في النقد في حديث الرسول الكريم: (من رأى منكم منكراً فليغيره.........)
ثقافات متنوعة في العالم ,الثقافة الهندية والصينية –إنشاء منظمة اليونسكو كان يهدف على السيطرة من نوع آخر –هي إحداث تكامل بين العناصر الثقافية لتحقيق تركيب ثقافة إنسانية على مدى أبعد فالذين ذهبوا إلى (باوندونغ) في نيسان عام 1955 , وذلك لتحقيق برنامج ثقافي معين في إطار الاجتماعات الإفريقية والآسيوية.....
ضرورة تعايش الثقافات كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة وإن أي تفكير في مشكلة الحضارة هو في جوهره تفكير في مشكلة الثقافة تكون الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثقافية المحققة فمصير الإنسان رهن بثقافته.
حينما فرض(ماوتستونغ) اللباس الأزرق فالنملة الزرقاء إذن ليست هدفا وإنما هي دليل على أن الغرض من الدودة الصغيرة قد ولى.
بهذا اللقب يرسم (ماو) وجه الصين الجديدة على تلك اللوحة العتيقة المهيبة وهو الأوربيُّ المغرم بغرائب المشاهدات أن يرى الملامح النبيلة على وجه الصين القديمة.......
فأركان الثقافة هي:المنهج الأخلاقي الذوق الجمالي الصناعة (الإبداع) فمؤتمر(باوندونغ) من بين هذه الطاقات قد استمد من مبدأ فكري مشترك يكمن أساساً في النزعة المعادية للاستعمار لدى الشعوب الإفروأسيوية..
فلا نزعة الحقد في الثقافة وهي نزعة عمياء ..
البطل الأسطوري محرر الهند غاندي ذلك الوجه المحاط بهالة من نور الشهداء الوجه الذي يتجلى في أروع صفحة من تاريخنا المعاصر نرى فيه المهاتما يدخل الميدان السياسي لأول مرة في صحبة رجل مسلم
حاجي حبيب الذي أيده ماديا وأدبيا منذ المؤتمر الأول الذي أعلن فيه المهاتما خطته طريق الحقيقة في 11 سبتمبر بمسح امبريال بجوها نسبرج بجنوب إفريقيا.
وكم كان غاندي يميل إلى أن يغذي فكره من جميع منابع الغذاء الروحي كالقرآن والإنجيل والتهافادجيتا كتاب الديانة الهندوسية. وغاندي لاريب هو احد الأبهاء الفخمة التي تحتوي صور الرجال العظماء.
ومن المؤكد أن تغيير الدودة الصينية الحرباء ذات الأطمار إلى نملة زرقاء ذلك التغيير الخارجي البسيط قد زود الحياة في الصين و أبدع ذوقا رفيعا وحركة جديدة خلاقة للقيم الاجتماعية.
ليست الثقافة هي الثرثرة تكثر الثرثرة كلما قل النشاط والحركة ومن أجل هذا وجدنا أن منظمي مؤتمر (باوندونغ) قد حددوا زمن الكلام بخمس عشرة دقيقة لكل متكلم كان هذا ولاشك كيلا يحولوا بينه وبين أن يغرق في لجة من الجعجعة وثرثرة اللسان (التعايش الثقافي) وبهذا أنقذت الثقافة من طوفان الكلام وجدير بالذكر أن (شواين لاي ) قد برهن على تقديره لهذا المبدأ حين صاغ كلمة في أقل من ربع ساعة وهو يتحدث باسم أكثر من ستمائة مليون من البشر ..
حقا إن الكلمة من روح القدس ولكن من الضروري في أذهاننا التمييز بين الكلمة المقدسة الفعالة وبين الثرثرة والهذر فهناك أناس ليست الكلمة بالنسبة إليهم سوى أداة تؤدي العدم فهي عندهم مجرد صورة بيانية خلابة ترف في الهواء أو مجرد كمية من المداد على صفحة من التاريخ.
نفهم التاريخ واقعا جليا وجوهريا هو أن ميزانية التاريخ ليست رصيدا من الكلام بل كتلا من النشاط المادي ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه.
فهيبة الأمة قد تكفلها لها أحيانا الأفكار إذا ما تناغمت هذه الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الإنسانية ..
فلكي نتغلب على تأخرنا علينا أن نكتشف طريق الأمة المرشدة .
إن الهند قد بلغت اليوم مرتبة الأمة المرشدة لا بفضل كونها تملك القنابل الهيدروجينية أو الصواريخ عابرة القارات وإنما بفضل روح غاندي ..فعلى المربين في البلاد العربية والإسلامية أن يعلموا الشبيبة كيف تستطيع أن تكتشف طريقا تتصدر فيه موكب الإنسانية لا أن نقلد الغرب من الأمريكان والروس وغيرهما نحو تقدير مصائر الإنسانية وذلك في صورة معجزة إغريقية أو إمبراطورية رومانية وقد حدثنا التاريخ كيف طردت أثينا اسبرطة حينما أرادت أن تجعل من نفسها عاصمة لإمبراطورية عسكرية.
فإذا ما أراد الضمير الأوربي أن يحدد بناءه فان عليه أن يبدأ فترة من التدريب المؤلم القاسي شأنه في ذلك شأن أي عضو فقد صلاحيته .
ففكرة السلام لم تحقق حتى الآن استقلالها وشخصيتها الخاصة وهي تدين في خضوعها هذا للثقافة .. الإمبراطورية التي لا ترى السلام إلا حيثما يكون مؤيدا للسلاح ..فإذا ما أدرك المثقف المسلم مشكلة الثقافة من هذه الزاوية فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في حضارة القرن الحادي والعشرين.
فالثقافة مرتبط بالعمل الإنساني والخبرة الحية. وهذا يميز الثقافة من التعليم.فالتعليم هو تلقين معلومات منظمة بطريقة مخططة لصياغة الفكر وتوجيه الوجدان وتحديد المسلك الأخلاقي على نحو معين.
أما الثقافة فهي ثمرة المعايشة الحية التلقائية في أغلب الأحيان. وهي ثمرة التمرس بالحياة والتفاعل مع تجاربها وخبراتها المختلفة وقد يكون التعليم مصادرها.
الثقافة هي موقف في العقيدة أو تعبير فني أو مذهب فكري أو مبادئ تشريعية أو مسلك أخلاقي عملي.. فهي البناء العلوي للمجتمع الذي يتألف من الفلسفة والدين و الأدب والفن والتشريع والقيم العامة السائدة في المجتمع وهي تعد جميعها انعكاسا للبناء الاقتصادي للمجتمع.. ولهذا تختلف الثقافة بطبيعتها باختلاف التجارب والخبرات والمواقف والطبقات والمصالح الاجتماعية..ولهذا فان للثقافة بالضرورة طابعا اجتماعيا طبقيا.. وإذا كنا نجد في المجتمعات الإنسانية سيادة لروح الالتزام الجماعي في الأدب والفن والأخلاق و السياسة جميعا فان ذلك انعكاس لعلاقات المجتمع الإنتاجية والملكية العامة ..إن الثقافة تعبير عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة.. إذ يدخل في تشكيل الثقافة عامل إرادة الشخصية والأخلاق والثقافة ليست مجرد تعبير عن الواقع بل هي وسيلة فعالة لتغييره ,والصراع الثقافي في المجتمع هو دائما صراع اجتماعي اقتصادي صراع بين أوضاع اجتماعية متناقضة يتخذ مظهرا فكريا أو أدبيا أو فنيا والصراع الثقافي هو التمهيد لتغيير الواقع الاجتماعي من اجل تحرير الإنسان من مظاهر التخلف والفساد الاجتماعي والاستغلال المقيت وتغدو الثقافة غذاء لملايين البشر بل تصبح غاية من غايات التقدم البشري و هدفا من أهدافه الأصيلة.
إن الثقافة تدعو إلى الإصلاح وترميم البناء الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والفكري والثقافة الإصلاحية نابع عن المنطق التقليدي القائم على الحلول الوسط.
إن المثقف هو المصلح الاجتماعي الذي يعالج مواقع الخطأ والنقص معتمدا على الأيدلوجية التي تخدم الفرد والأسرة والمجتمع على أساس منهج علمي دائم التطور مع تطور آلية التحصيل والإنتاج ووسائل المعرفة الجدلية و العلمية وتزايد قدرة الإنسان باستمرار توسيع آفاق المعرفة وتعميقها.
المثقف يبني العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وهو البناء التحتي على أسس متينة وقوية راسخة ويبني البناء الفوقي في المستوى السياسي والفكري للمجتمع سواء من ناحية شكل الدولة ومؤسستها و أجهزتها أو من ناحية نوعية الأفكار و الأيدلوجيات المتحركة في المجتمع والمحركة له.
غير أن البناء التحتي هو الذي يقرر في النهاية شكل البناء الفوقي الهرمي,وان هناك تأثيرا متبادلا مستمرا بين البنائين التحتي والفوقي, والمثقف يربط الماضي بالحاضر وان الحاضر استمرا للماضي مستخلصا العبر والدروس من الماضي..ويدرك أن التاريخ عرض منظم للأحداث المتعاقبة ويحاول الكشف عن أسباب وبيان للقرون الماضية من ترابط وتداخل بحيث تشكل قصة واحدة ..وهل هذه النظم وليدة الصدفة أو أنها نتيجة مترتبة على أسباب خفية ولكنها قوية. والمثقف يطرح السؤال التالي :هل يصنع الناس تاريخهم أو انه مفروض عليهم فرضا ..الجواب هل هو القدر ..أم البطل التراجيدي ..!! والجواب الساطع لهذا السؤال أم ذاك إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم طبقا للعلاقات الاجتماعية السائدة وهذه العلاقات الاجتماعية تشكل البنيان الاقتصادي للمجتمع والذي يقام فوقه بنيان علوي من الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية ومن الفكر والتناقض القائم في العلاقات الاجتماعية هو السبب في حدوث التغيير الاجتماعي.
يسعى المثقف في اختيار المشروعات التي تحقق الأهداف في الرخاء والنماء ضمن حدود الإمكانات المتاحة من طبيعية ومالية وفنية وقوى عاملة في التخطيط الشامل لجميع قطاعات الاقتصاد القومي لتحقيق التوازن الاقتصادي القومي الأهلي وذلك لتحقيق السلام الاجتماعي بتعيين حد أدنى لمستوى المعيشة وتوفير العمالة الكاملة التي تقضي على البطالة ومراعيا التبسيط في الإجراءات التي لا تنشا التعقيدات المعوّقة. ويحاول المثقف تذويب الفوارق بين طبقات المجتمع سواء كانت فوارق اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ذلك هو ميثاق المثقف الناضج و إلغاء الامتيازات الطبقية القائمة على الاستغلال و المخاطرة وفتح مجال واسع وفرص عمل للجميع .. وإفساح المجال للمبدعين والأدمغة العلمية الكبيرة للرسوخ في العلم والتقريب بين المستوى الحضاري للقرية والمدينة وتوزيع الكفاية والعدل بفرص متساوية ..
يرسخ المثقف مفهوم وحدة الأمة في التعايش السلمي بين أطياف المجتمع في الفرد والأسرة والأمة ويحافظ على وحدتها محاربا التكتلات الطائفية والعرقية حفاظا على وحدة المجتمع وتماسكه. يعتقد المثقف بان المجتمع تحكمه قوانين تدفعه إلى التغيير والتقدم الشامل في كل منحى من مناحي الحياة .فهو يعمل لتطوير الفرد والأسرة والمجتمع.
المثقف يؤمن بحق الإنسان في الحياة في المأكل والملبس والسكن وحرية الرأي والفكر يقول أرسطو في كتابه السياسة :( إن العبد يسيطر جسده على روحه بينما تسيطر روح الإنسان الحر على جسده) ولذلك فمن العدل والخير أن يخضع الجسد للروح كما كان الفيلسوف الروماني (سينكا) ينظر للعبد كمجرد أداة لا يميزها عن الحيوان والجماد إلا أنها تنطق . يعتقد المثقف أن كل شيء متداخل متشابك مؤثر ومتأثر بكل شيء آخر وذلك على خلاف النظرة السكونية الثبوتية .. والتغيرات الكيفية نتيجة لتغيرات كمية.
والتناقض هو نسيج الأشياء فكل شيء يحتوي داخله على جانب ايجابي وآخر سلبي وهناك في كل شيء جانب ينمو وآخر يموت,ويعتقد جازما بمبدأ نفي النفي يتجاوز ويتخطى الانتقال إلى مستوى أرقى مع الاحتفاظ بكل ما هو متقدم وايجابي والتطور به على الاختيار والتوقيت والتقدير .. ويدحض المثقف تعريف السياسة قديما أنها فن المراوغة والكذب والاحتيال , يفهم المثقف أن الفرد أولا والأسرة ثانيا والمجتمع ثالثا يضع واقعه ويبدله بواقع أفضل نحو تطوير الثروات المادية والروحية..يأمل المثقف بالمجتمع المدني الذي يسوده العدل الاجتماعي وبأنه المثل الأعلى للمحبة والارتباط الاجتماعي اللذين يخلقان انسجاما بين قدرات الفرد وقدرات غيره من أعضاء المجتمع.
ويدرك المثقف أن التقدم في مجرى التاريخ يتم عن طريق النشاط العقلي وان مهمة الفرد في الأسرة والمجتمع أن يرتفع بمزيد من المعرفة وبأخلاقيات أكثر سموا وارتقاء إلى درجة من الكمال يمتزج فيها الفرد مع الأسرة والمجتمع تمازجا حضاريا ومدنيا لائقا ,وهناك جدلية قائمة وعلاقة وثيقة متبادلة بين التطور الروحي والتصور الاقتصادي والاجتماعي نحو ميلاد مجتمع سعيد ومزدهر .. وكما ذهب ملفستيوس في كتابه عن الروح ص1758 إلى إن البشر لم يولدوا صالحين أو أشرارا وإنما يولدون وهم على استعداد لان يتجهوا هذا الاتجاه أو ذاك تبعا لما إذا كانت المصلحة الاجتماعية يوحد أو يفصل بينهم فلن يكون هناك أشرار سوى المعاقين (المجانين).. المثقف المحترس لا يقتصر على جانب من العلم الفيزيائي أو الكيميائي أو الفلكي أو الرياضي أو الاقتصادي فحسب بل يمتد إلى الحياة الاجتماعية والقوانين والدساتير الوضعية والأعمال الأدبية والفنية والجمالية عامة..
إن العلم في نظر المثقف الثاقب ليس مجرد معلومات متراكمة بل هو المنهج الدقيق والنظرة الموضوعية ..فليس العلم في الشطحات التجريبية البعيدة عن عالم التجربة والواقع وليس العلم في النظرة الوضعية الوصفية التي تقف عند حدود المحسوسات و الجزئيات .. وهو الامتحان الدائم لهذه القوانين العامة المجردة على ارض الواقع المحسوس انه القدرة على استخلاص العام من الخاص و الكلي من الجزئي والربط بين العام والخاص ربطا تجريبيا موضوعيا حيا .. وتغنى الفلسفة بنتائج العلوم وتغنى العلوم بتعميمات الفلسفة وبالعلم وحده يستطيع الفرد السيطرة على واقعه المادي والاجتماعي ثم تتنور الأسرة ثم المجتمع فاعلم ليس ترفا عقليا إنما هو التزام بمعركة الحياة الإنسانية والتقدم الاجتماعي ولكن ما أكثر ما يستغل العلم لغير صالح الحياة ويصبح وسيلة للربح والاستغلال والقهر وما أكثر ما يجمد الإبداع والبحث العلمي نفسه بسبب ذلك فالعدل الاجتماعي يدعو إلى تحرير العلم وجعله خالصا لوجه المعرفة والتقدم والحرية وإتاحة الفرصة له لكي ينطلق ويزدهر إلى غير حد. والمثقف يترك بصماته الأخيرة في الأسرة والمجتمع من حيث العلم والأخلاق والتوازن الاجتماعي والاقتصادي إلى جانب التنشئة التربوية الجيدة يخلق في أسرته أفرادا يؤمنون بالقيم المادية والروحية ويؤثرون في محيطهم فيصبحون مضرب المثل في القيمتين المادية والروحية.. فإذا لم يترك أثرا من آثار العلم والتربية المتوازنة يبقى انتهازيا يرفضه المجتمع أجلا أو عاجلا..ويرميه إلى بؤر الإهمال والنسيان .. والخطر الذي يهدد المثقف الغر هو المراهقة الفكرية التي تنتاب المثقف السطحي الضحل يردد كلمات محفوظة عالية الرنين .. ذلك المسلك لا يرتبط بتاريخ الشعوب ولا يرتبط بالطبيعة البشرية ولا يرتبط بالتطورات السائدة أو المؤثرة في العالم الذي يعيش قيه.. انه طريق يبدأ تقدمه في فراغ وينتهي تقدمه إلى الفراغ ذاته,وخطر المراهقة الفكرية يكمن في خلق نوع من الإرهاب المعنوي يعرقل التجربة والخطأ, ونحن إذا سألنا أنفسنا متى نصف إنسانا بالمراهقة في حياتنا اليومية فإننا نجد انه الحدث الغرير الناقص التجربة مع الناس والحياة والضحل الخبرة والمعرفة.
إن المراهق في حياتنا اليومية هو الذي صريع حب أول فتاة يقابلها وهو الذي يعلو ضجيجه حبا في الظهور ولفت الأنظار وهو الذي يظن انه معصوم من الخطأ والخطيئة وهو الذي يمضغ الكلمات دون أن يفهم مدلولاتها.
انه الإنسان الذي لايزال بلا تاريخ وبلا آفاق واسعة في الزمان والمكان..فالمثقف الحق يمارس الثقافة عمليا فردا أو أسرة أو جماعة فالافتراضات النظرية امتحانها الواقع الراهن والممارسة هي المقياس السليم لما هو ممكن ولما هم مستحيل وهي الأداة الحقيقية لتحويل المستحيل إلى ممكن والشرط الأساسي للمثقف الحر أن يمتلك الحرية والإرادة الحرة واستقلالية العقل .. وتوافر المسؤولية أمام الفرد والأسرة والمجتمع وإذا أردنا أن نحمل المثقف مسؤولية فعله فلا بد لنا من أن نوفر له حرية العقل فلا ممارسة لأرض الواقع بدون حرية وبدون مسؤولية..ويمارس المثقف الجاد النقد الايجابي والسلبي وهو أساس من أسس الديمقراطية الحقيقية وأولا يبدأ بتقويم ذاته تقويما نزيها,ويقوم الفرد والأسرة والمجتمع تقويما بعيدا عن الأهواء والرغبات حينما يقبل المثقف النقد لنفسه و يعترف بنواقصه وسلبياته وأخطائه ذلك هو قمة العمل الثقافي النير وهو أرقى أشكال محاسبة النفس على الخطأ قبل محاسبة الغير فالنقد صورة من صور الاعتراف بالخطايا وليس المهم أن نكشف الخطايا والاهم من هذه الدوافع التي أدت إلى الوقوع في هذا الخطأ أو ذاك وحينئذ نحدد بدقة الأسباب التي دفعت الناقد إلى الوقوع في ذلك الخطأ وتعهدا صادقا بعدم الوقوع فيه مرة أخرى.. حتى نمتلك نظرية النقد لابد أن نكون واقعيين مرة أخرى .. ولا يجوز للواقعية أن تكون ستارا أو مبررا لخنق النقد والتحليل بل على العكس أن تكون الواقعية متشحة بالوعي الإنساني الشامل المتقدم ذلك الوعي هو تلك الأفكار ووجهات النظر والمفاهيم التي تضع مصلحة كل إنسان فوق كل اعتبار آخر لا يحدها في ذلك تعصب مذهبي جامد أو مصلحة مادية عابرة وينشا الوعي نتيجة لتأثير العوامل المادية والمعنوية في الحياة عبر فترات الانتقال التاريخية نتيجة لانعكاس أفكار ووجهات نظر ومفاهيم تاريخية على الإنسان وكما يسهم التعليم بنصيب ملموس في تكوين الوعي الإنساني وتطويره وتغييره من حسن إلى أحسن ليست الثقافة حكرا على فئة دون أخرى فالثقافة للجميع للفرد والأسرة والمجتمع .. والمثقف هو البستاني الحاذق الماهر في تشذيب وتقريظ بستانه إلى الازدهار والجمال يغرس المثقف في أفئدة الأسرة والمجتمع بذور المعرفة والمحبة والتسامح والإيثار ليبني مجتمعا يسوده العدل والإخاء .. والثقافة تتجاوز حدود العرق والمذهب والطائفية تبذر أغراسا أكثر إنسانية وأرحب نقاء وصفاء.. وتنشر رسالة سامية رسالة الإنسان في حدود أسرته ومجتمعه وخارج حدود أمته.. نتذكر جيدا الرسالة التي وجهها المعلم الأول أرسطو إلى الاسكندر المقدوني إبان غزوته بلاد الشرق :
إذا دخلت بلدا عاملهم بالتسامح والمحبة وول عليهم من وجهائهم ولا تفرض الضرائب عليهم .. واجعلهم يحترموك ويقروك واعف عنهم وسامحهم وعاملهم بالحسنى ولا تجعل الشعوب يكرهوك فإنهم سوف يثورون عليك ويتمردون .. وينتقمون.. احترم أعرافهم وتقاليدهم وتراثهم فإنهم يفضلونك على ذويهم وأصحابهم فانك تكسب مودتهم ومحبتهم وديمومة حكمك عليهم ..احترم شيوخهم وأطفالهم ونساءهم تفز بمحبة شبابهم .. اغرق عليهم الأموال فإنهم يثنون عليك واجعل بلادهم في رخاء وازدهار اقتصادي فإنهم يقدمون لكم الطاعة والامتثال.. مصيبتنا أننا لا نقرأ وإذا قرأنا نقرأ القراءات الرخيصة كالجنس والخلاعة والسفور وننحدر بها إدمانا والتي تهدم الفرد والأسرة والمجتمع .. وتلك ثقافة يصدرها العدو علينا ليمحقنا من الوجود ويطمس فينا معالم الأصالة والنخوة والشهامة .. والتي تروي ظمأ الشهوة فينا ولا تخدم مطلقا واقعنا الحياتي والفكري والإنساني ..إن مجتمعنا يتدهور نحو البلى والاندثار ما لم نعالجه بتراثنا الفكري الحضاري .. كنا أساتذة الدنيا وقادة الحضارة.
في العصر العباسي حيث تمازجت روافد الثقافات مع الثقافة العربية الإسلامية كنا نخرج قوافل العلماء .. من علم الفلك والرياضيات والفلسفة والأدب والفن.. مشكلتنا نترك الجوهر ونبحث عن القشور.
فالمثقف العلمي يشخص الداء ويبحث عن العلاج نحن في أسرتنا يجب أن نكون كالسراج نربيها على المحبة والمعرفة والأصالة التاريخية لمبادئنا السامية وشرقنا العربي مهد الديانات السماوية.. نحن نملك أعظم المآثر والقيم النبيلة في تغذية شبابنا على ثقافتنا العريقة .. ونوجه طلابنا في مدارسنا وجامعتنا على الصدق والمحبة وحب الوطن والمجتمع .. لنستعيد مجدنا التليد الحضاري ونأخذ موقعنا في هذا الموقع من كوكبنا الأرضي ..
إن الثقافة تعني أن نهدر طاقاتنا الفكرية والذهنية والتجارب الحياتية لخدمة أسرنا ومجتمعنا وان نضحي بمكاسبنا الشخصية ونزواتنا الفردية من اجل بناء الفرد والأسرة والمجتمع.. ذلك هو السبيل لإنقاذنا من أوحال التخلف والجمود والجهل .
إن الثقافة هي الطريق الأساس للتنمية في حقولها المختلفة في عصر التقانة المتقدمة وقنوات الاتصال المتنوعة والثورة المعلوماتية والتفجر المعرفي الهائل,والثقافة فعل مستمر لا ينقطع في عالم يموج بالمتغيرات المتلاحقة والتطورات المتصاعدة أبدا والتحولات الدائمة ..والثقافة هي التي ترتقي بالوعي العام إلى مستوى مستجدات العصر وتحدياته والثقافة هي قبل ذلك وذاك حاجة بشرية عليا لا تنتهي ولا تقف عند حد ,فكلما اتسعت مساحات الجهل والأمية ضاقت مساحات الثقافة والعكس صحيح .
إن صناعة الثقافة لا تقل أهمية عن صناعة السلاح فكلما اتسع نطاق التسلط والقمع كلما ضاق الفعل الثقافي وقلّ العمل الإبداعي عموما والعكس صحيح الثقافة لا تنمو وتزدهر وتعطي أكلها إلا في مناخات الحرية والتسامح والتعددية.. الثقافة تحمل هموم الأمة وتنهض بقضاياها وتنبض بروحها الوثابة وتبحث عن سبل خلاصها يخضر المكان والزمان بها.. الغزو الثقافي عبر شاشة التلفاز فإذا كانت الرصاصة تقتل رجلا فان الثقافة الغازية قد تقتل جيلا كاملا وقد تفتت أمة بأسرها .
الفضائيات الغربية وانتشار نمط الحياة الغربية في الفنادق الكبرى ذات الخمس نجوم وتسويق هذا النمط في المأكل والمشرب والرقص والغناء والتقاليد الأخرى بدلا من التقاليد الوطنية والتراث المحلي الأصيل .. الحملة المركزة التي تشنها وسائط الإعلام الغربية بغرض تفتيت وتقويض الأسرة من خلال ترويج المخدرات وإفساد الأخلاق وترويج الرذيلة والدعاية عبر ما يسمونه ممارسة الحريات الشخصية في إباحية فاضحة تأنف عن مثلها البهائم.
الثقافة والترويج الإعلامي والحماية من طوفان وطغيان الغزو الثقافي الغربي عموما والصهيوني خصوصا وأهمية التمسك بأصالتنا ونبذ ما هو غريب عنا فالهيمنة الاستعمارية ليست بالضرورة أن تكون هيمنة سلاح وعتاد فحسب بل هي هيمنة ثقافية عبر وسائل كثيرة متطورة تسيطر من خلالها على عقول وأفكار شريحة من ضعيفي النفوس في مجتمعاتنا .. يجب أن لا نتخلى عن هويتنا ولا نستبدل بها القشور الغربية مهما بدت باهرة لنا... تشويه الصورة الحقيقية الصادقة للشخصية ذات الأهداف المشبوهة بأنها شخصية متخلفة بقيمها ومقاييسها وعناصر ثقافتها لا يمكن أن تقود المجتمع لأنها تعاني من عقد الازدواجية والاستلاب والضياع . . نحن نجد على صفحات الكتاب مبتغانا ورقينا وتقدمنا غير ما نجده على شاشة التلفاز والانترنيت وخير ما نفعله أن نترجم ما قرأناه إلى عمل جاد وملموس ذلك هو خلاصة حديثنا اليوم.. وتأكيدا لقول الله تعالى في التنزيل الحكيم :*(اقرأ باسم ربك الذي خلق )*صدق الله العظيم.
تربية الأولاد مسؤولية اجتماعية وطنية قومية إنسانية.. وأطفالنا هم أكبادنا،رجال الغد ومعقد الآمال للآمة والوطن.. ولمعالجة هذا الوضع أعلن صراحة: لست باحثا اجتماعيا ولا طبيبا نفسيا بل أنا أب ومرب منذ أكثر من عشرين عاما... تخمرت في مكنونات الفكر والنفس جملة من عصارة الخيرات التربوية المستخلصة من التجارب والملاحظات التي خضتها أنا بنفسي.. وعجنتها بشعاع قلبي، وضياء فكري .. في المجتمع القديم كان الطفل ينشأ نشأة فطرية لأن طبيعة الحياة كانت بسيطة،والمناخ العام كان عاملا مساعدا في عملية النمو الجسدي والسلوكي،ولكن التقدم السريع (الغير طبيعي) في تكنولوجيا العصر في غزو الفضاء الخارجي،واختراع (ستاليت)،(وانترنيت) جعل الخيال مكان الحقيقة وحام حول الأسرة من غربان القلق والأرق فأمام هذا البرق الخاطف بهت المرء واندهش حيال هذه السرعة(الغير الموزونة) لأن الخلل قد أصاب كفة المعادلة..فكل تقدم آلي لابد أن يرافقه القبس الروحي فكلاهما جسم واحد لا ينفصلان..وهذا الجانب قد تشرد في جزائر التواني والكسل مما جعل حياة الأسرة كهفا يسكنه غيلان الوساوس،ويحرسه أوهام من الظنون والهواجس..في الأسرة المتخلفة عنصر الديمقراطية يكاد عاملا هداما لها فتفقد الأسرة السيطرة على الأولاد،وتتشتت الأسرة ويتمخض عنها ضياع الأولاد..فالديمقراطية ترف ونعيم الأسرة الواعية الأصيلة التي نبتت وترعرعت في رياض مأهولة بالنماء والعطاء والتي ورثت أبا عن جد قيما موروثة ذات جذور عريقة في الخلق الكريم والعلم والبيان..فالديمقراطية تلك تمور علما ونشاطا معرفيا وسلوكا قيما إذا كان بناؤها قائما على السلوك العمالي التطبيقي..وأهم ركن متين صلب للأسرة هو علاقة الأب والأم(القيادة)فالأولاد يعقدون تحالفا مقدسا من المودة ومواثيق من التلاحم الروحي والاندماج الكلي بينهم عندما يلمسون الوحدة والتفاهم التقي المدني في القيادة فهم خير رعية ينفذون واجباتهم فالاندماج الجسدي والروحي الأب والأم يربي أولادا سعداء أصحاء ناجحين في حياتهم...وهكذا تتوافر للأولاد قاعدة متينة يبنون عليها احترام الذات وتوطيد أواصر المحبة والألفة... فالعلاقة الزوجية القائمة على المحبة والتوادد والتراحم تجعل الأسرة تنعم في ظلال العافية الجسدية والروحية..وعامل الوراثة له دوره البارز في سلوك الأطفال وتربية أجسامهم..فالأرض الوعرة لا تنبت غير الزوان والأشواك،والأرض الخصبة الطيبة تنبت الرياحين والأزاهير.. وثمة أخطاء ترتكب ينبغي الانتباه إليها كأن يكذب الأب أمام وله فإنه يخلق بشكل غير مباشر صفة الكذب للطفل، أو عدم تكليف الطفل بعمل ما حرصا على سلامته وإشفاقا على حاله فإنه يغرس في نفسية الطفل مرض الأنانية وحب الذات..وقد يتوهم الأب أنه يسبب ضعفا فيعمل على حمايته من هذا السوط المخيف أو من هذا الأسلوب الإرهابي..فلنكن محبين لهم عندما يقدمون على عمل نبيل،وصارمين معهم عند ارتكابهم الأخطاء... فالعقوبة البريئة تولد لدى الطفل سلوكا بريئا نظيفا...والردع يجب أن يكون هادفا يراد منه الإصلاح والتقويم..والغلاظة أحيانا تقوي شخصية الطفل والشدة البريئة يراد منها الخير فالأولى لقيادة الأسرة أن تكلف ولدها بعمل ما كالمحافظة على نظافة غرفته أو ترتيب سريره أو الاهتمام بملابسه.. ومحاسبة الطفل لها مردودها الإيجابي وكل تراكم في الأخطاء قد تفلت من يد الأسرة عوامل الإصلاح.. نحن نعلمهم أمثلة من واقعهم أنه في إمكانهم الحصول على المكاسب مقابل تقديم عمل ما،وأنه لا يمكن الوصول إلى شيء بلاشيء.. إن إغداق الألعاب الكثيرة على الطفل يجعله حائرا متذمرا فيتعذر عليه ماذا يفعل لأنه أمام خيارات كثيرة.. وسلوك الطفل له علاقته بالألعاب،يجب أن يجلب له ألعابا تستثير الإبداع، وتدغدغ خيال الطفل، وتشجعه على استعمال شيء ما لصنع شيء آخر فلنطلق عنان الاجتهاد والإبداع للطفل ليصنع ما يريد من الأشياء فذلك هو جوهر الخيال الذي هو بدوره جوهر اللعب.. وثمة أدلة وافرة على أن جيل التلفاز اليوم أقل كفاية من الأجيال السابقة مشاهدة التلفاز تكبح روح المبادرة،وحب الاستطلاع..وبرامج التلفاز تعيق التفكير المنطقي المتتابع مما يسبب نتائج غير مرجوة.. وإني لأقترح وأرى وجوب إبعاد الأولاد عن التلفاز ما أمكن حتى وصولهم الصف الثالث الابتدائي عندما يصبحون قادرين على القراءة،وبعد ذلك لا يضر أن يسمحوا لأولادهم بمشاهدة البرامج التربوية والرياضية، وأنصح الأهل بألا يسمحوا لأولادهم مشاهدة التلفاز أكثر من عشر ساعات في الأسبوع.. فالتوجيه السليم والتربية الصحيحة تخلق أطفالا أصحاء سعداء أشداء..أكفاء... تتطور الحياة الزوجية وسط جملة من الظروف في غاية التعقيد والتشابك... تتعرض لرجات عنيفة من طغيان المادة على الجانب الروحي،والقانون الحياتي المبني على التوازن يدعو إلى الجانبين..فإن طفح الكيل بينهما شرع دود البلى في جسد الأسرة،وعشش أمراضا وأوبئة تنذر بالخطر الماحق.. فلسفة الاختيار للزوج قد تكون مقهورة تحت ضغط اقتصادي أو اجتماعي أو معوق نفسي أو عضلي..ويختار شريكة حياته تحت وطأة جانب من هذه الجوانب..ويتحول القفص الزوجي المزركش بألوان زاهية بريش الطيور إلى سجن مظلم قد فر منه الجمال والدفء والحنان...قد تجمعهما وسادة مشتركة،ويبعدهما قلبان متنافران كتناقض الخير والشر،والليل والنهار فيزول التفاهم الزوجي. ويبقى الشقاء قائما لأتفه الأسباب..طاغيا...مستبدا...وهكذا يمضيان عمرا شقيا..وتصبح العلاقة الزوجية حبرا على ورق تربط بينهما وثيقة الزواج في المحكمة فقط فبصبح كل واحد على الآخر حملا ثقيلا فتحمل شجرة الأسرة الخل والعلقم (فالأولاد)هم ضحايا شقائهما...وتضيع الأسرة في متاهات من الغربة والعزلة الموحشة وتسقط في غور واد سحيق من الجهالة والضياع... خلقت المرأة، وولدت معها أنوثتها.. فتركيبتها الديموغرافي والبيولوجي منذ النشأة الأولى تميل إلى الرشاقة والانبهار..واللفظ الجميل والكلمة المعسولة.. والدستور السماوي عوضها بالزواج حفاظا لقانون التوازن في الخلق والتكوين..(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) فالمرأة هي ريحانة القلب.. وهي قيثارة حب إن أحسن الرجل العزف والحنان ترعرعت بقامة هيفاء... ورأس يتسامى سنابلا وزنجبيلا... فالتمازج الروحي قبل التلاحم الجسدي.. فالمرأة نسمات دافئة من العواطف إن تدارك الرجل الدخول إلى محراب عالمها الرومانسي فقد ظفر بها وكون أسرة سعيدة.. تملأ السعادة عش الزوجية مسكا ممزوجا بنكهة البهجة والحبور.. ويحبو الأولاد نحو طلائع الضياء.. فالسعادة موطنها الأول عرش القلوب.. في عصرنا الراهن وما رافقه من تقدم ملحوظ في المجال المادي فأضحى المال هدفا تشد الرحال إليه، فوقعت الزوجة في شباكه.. وبدأت تنظر إلى زوجها بمنظار مادي صرف..تريد المزيد غير مكترثة بطاقات زوجها المسكين..فغدت الحياة الزوجية جحيما لا يطاق.. يعصف بها إعصار الجفاء والهجران والفرقان ويليه الطلاق الغاضب الذي لامناص منه وتتمزق الأسرة وتتهاوى في أزقة التشرد والحرمان.. مشكلة مستعصية غير قابلة للحل تترك خلفها غابة من عوسج الجراح والآلام.
إن النظرة الضيقة، والمتعة الآنية المؤقتة، والتقوقع في الملذات الذاتية والرؤية السطحية المبتذلة تنذر بنذير الشؤم والتصدع في هيكل أركان الأسرة..والمراجعة الدقيقة لأخطاء الماضي.. والتداوي بدمع الطيور وأفراخها تطهيرا وتكفيرا للتجاوزات الخاطئة..تعيد للأسرة كيانها وسعادتها ومجدها المثل..!ما أسعد الزوج الذي يستقبل بالبسمة البريئة..!
وما أروع الزوجة التي تنهال عليها بريق ألفاظ ذهبية عذبة..كقطرات الندى تنسكب على ثغور الورود عند طلائع تباشير الصباح..!!
ما أسعد الأسرة التي تستحمم بماء الورد والياسمين عندما تدغم الروحان،ويمتزج الجسدان عبر التفاهم المدني الحضاري الراقي في أسلوبه..والمعطر بشذى الاندماج الزوجي، والعابق بندى الأمل والإشراق الروحي تحت ظلال وراف من نسمات السعادة الرخية..تطلق الأسرة من عشها-كل حين-بابل الغد،وعصافير الأمل.. إن التطابق الروحي والتمازج الجسدي في جوانبه المتعددة من نفسية وثقافية واقتصادية اجتماعية هو المستقيم الموصل إلى العش الزوجي الناجح...
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى روح أبي : الشمس الغاربة إلى ما وراء الأفق الأزرق.
ولدكم : جعدان جعدان
يوم أن وجدت الحياة على وجه الأرض تكون جنين الصراع في رحمها فأصبحت الحياة حبلى به، وكانت ساعة المخاض هائلة بمراراتها وعظيمة بأهوالها فقد أنجبت الحياة ((صراعا)) فانفصل الصراع عن الحياة فكان أول ثائر على بطحاء الأرض، إذ نفخ في بوق الثورة والتمرد وواجه الناموس الكلي، بحربٍ ضروسة قاسية فخلق الاستمرارية على الأرض ودفع بموكب التطور إلى مرافئ التقدم، من هنا يرجع له الفضل في تفجير المتناقضات فهو يمثل طرف النزاع تمثيلاً واقعياً فهو لسانه البليغ ووجهه الباسم الطلق وصوته الجهوري، فكان له الجرأة والإقدام عندما أعلن حربه على الأزلية، خلق من أضلاعها، وولد من جوارحها،وانبثق من أوارها فقدم العزم،وأبرم عهداً ليخوض غمار حرب طويلة الأمد تبدأ من فجر قدوم أوائل الحياة إلى ليل نهاية الحياة.. فانقسمت الحياة إلى عملاقين عظيمين ودارت رحى الحرب بينهما .. وبتوقف الحرب تتوقف مسيرة التاريخ إلى الأمام ،وبإشعال أوارها تزدهر حضارة الأمم على نيرانها،وتضحك الحياة على مرابعها وتخضر الأبدية على مطاحناتها.. هكذا بدأت مسيرة الحياة تحيك خيوطها وتنسج نسيجها من ديناميكية الصراع وانقسم المجتمع بفعل أحداث الصراع إلى شقين،الشق الأول يمثله الفئة المهيمنة المسيطرة والشق الثاني يمثله طبقة البروليتاريا العريقة وهي الفئة العظمى المسحوقة تحت كوابيس وإيثار الطبقة الأولى.. من هنا تبدأ حكاية القدر ومسرحية التنازح والبقاء...
في منطقة جبلية وعرة تكتظ بجماعات من أشجار الصنوبر والحور والزيتون حيث القامات ممشوقة والرؤوس شامخة إلى العلو فكأنها تقرأ في أعالي السماء آيات المجد والسمو وفي صدر الجبل الأشم حيث الينابيع الدفاقة تمد الطبيعة بنسغ الحياة ومدد البقاء،والشلالات التي تهدر كأنها جيوش غازية تنزل إلى مواطن النزال،والرياح تنشد أغاني الغزل والفخار وترتل أنشودة الصراع والأنين تارة وتنغم الصياح والتأويل تارة أخرى وعازفة على قيثارة دقيقة في الصنع والتركيب تئن أنين المحتضر،وتزأر زئير الأسد وتعصف الريح الصرر العاتية تشن هجوما مضادا على الشجيرات الفقيرات فتقلع من جذورها وترقد على الأرض صرعى من الضربات القاصمة التي تلقتها في صدرها وجباهها فأصبح الجبل حلبةً للصراعات،ومسرحا للمطاحنات فالشمس والريح، والرعد والبرق والثلوج والأمطار كل طرف في النزاع يناضل في احتلاله فالشمس حين تهيمن عليه يغدو الجبل مبتسما ضاحكا وأما الثلوج فتجعل الثلج رجلا فقيها طاهر القلب والبدن صادق المضمون والشكل ناصع الفكر والبيان ,والأمطار تغسل جراثيم العلل في الجبل، وتطهر من الأوساخ والأدران ..أما الضباب هو آهاتٌ وزفرات من هول العاصفة،والدخان هو نفخة الجبل من شدة الكارثة وهيبة النازلة،وأما الوديان فهي جراحٌ عميقة وأخاديد رهيبة وذلك نتيجة العراك مع ظواهر الطبيعة من فيضانات،وسيول عارمة والسهول في الجبل هي موقعه الهام واسترتيجيته الواضحة في التصدي لعناصر الطبيعة والسهل يمثل صدره البارز، ومركزه الأشم وأما القمم هي الكبرياء والشموخ تتضاءل عناصر الطبيعة أمام جلاله تسقط أمام قمته جيوش الأمطار وفيلق الثلوج، وكتائب السيول، وتنكمش تجاه علوه جميع الأخطار، ولا أحد يقدر أن ينكس رأسه،ويخفض هيبته فيبقى على الأبد متوجا بالنصر، مكللاً بالسيادة.....إن قمم الجبال هي ذروة عالية من الكرامة والمجد..هي المثل العليا في العز والإباء ورفض قاطع طحالب الخنوع وعناكب الذل... الجبل وما أدراك ما الجبل! إنه منبع العطاء والكبرياء فالصخور والهضاب والوديان والسهول هي جسدها والريح والأمطار والهواء والثلوج هي كفنها وروحها فالجبل هو جسد وروح، ومادة ومعنى،وتربة وفكر،وجسد وكفن... وعندما ندخل في رحاب الجبل نسمع أعذب الأنغام، وأحلى الأناشيد من الطيور والعصافير فهي قاعة كبرى لأمسياتهم الشعرية يعقد البلبل والهزار والسنونو مؤتمرهم السنوي في آذار الربيع من كل عام فكأن الجبل سوق عكاظ يتباهى فيه الشعراء ويلقون فيه قصائدهم التي طالما تفننوا في صنعها وأهرقوا لياليهم في صنعها..
إنك لتسمع أنغاما مختلفة وألحانا متباينة،وأصواتا متغايرة.. وعلى هذا الغصن يغرد البلبل وعلى تلك الرابية الهزار يصدح بأغانٍ حزينة شجية يوعز إلى أن الحياة فصول، وللحياة مراحل، والسعادة للقوي والشقاء للضعيف... وعلى تلك الشجرة الباسقة العندليب يخطب بصوته الجهوري أمام ملأ من حشود الطيور أن الفراق داء علقم وللفراق قصص و حكايات، ويوم للقاء هو يوم البهجة والسرور.. تلكم تلك الطيور قد حولوا سكينة الجبل إلى ألوان من الأنغام فبدا الطرب يرقص فيه جذلا،والابتهاج يتحرك فيه فرحا والسرور يقطن في كل جارحة من جوارحه.. وتتربع الغبطة على وجهه والأمل في عينيه وأضحى الجبل قيثارة حساسة تعزف عليها أنملة حبلى بالأنغام وأصابع ملأى بالألحان...
كما أنَّ للجبال أسرار وللجبال أكنان يتنفس الجبل عبر الكهوف السحيقة فالمغاور هي جهاز التنفس أو جهاز الرئة للجبل والضباب والسحاب هما نتيجة عمليتي الشهيق والزفير فبحركة الجبل ونشاطه تدوم الحياة، ويزخر الخير ويستمر الرخاء وتتفاعل عوامل الصراع لتتشكل ولادة التطور وصانعاً مجد التقدم والأشجار حراس حقيقيون يخفرون حدوده، ويحفظون موانئه وشواطئه... فالأشجار هي عمالقة الجبل وجبابرته اللواتي يقفن بالمرصاد لكل قادم خطير ويفتحن صدورهن لكل نسيم عليل، فالأشجار هي أرواح خفية في جسد الجبل الأشمَّ تمنح العمر المديد وتوقظ فيه صرخة النشاط ونداء الحيوية.. وتحيا فيه فاعلية اليقظة، ودوافع النهضة. ذلك الجبل قلاع حصينة للثائرين وملاذ للأحرار، وأصل أصيل للفن والروعة والجمال هو كبرياء الأرض وعنفوانه وموطنٌّ أبدي للشعر والشعراء..
فهو مخبأ للفارين من وجه العدالة، وقاعدة انطلاق للثوار الذين يعلنون الحرب على العبودية والاستعباد..
هو مكان ومسند للجبان والشجاع يعيش فيه الأرنب والثعلب يزأر فيه الأسد...
تسمع فيه نعيب الغربان وتغريد البلابل وهمس الأشجار المحتبكة الأغصان، ونعيق البوم.. وفحيح الأفاعي فهو متحف من متاحف الأرض تجد فيه ألوانا مختلفة متناقضة من عناصر الحياة من هذا التنوع والاختلاف تستمد الاستمرارية مادتها والبقاء وجوده والتطور كيانه...
تتناثر القرى منتشرة بين ضلوع الجبل،كما تتفرق أحجار الشطرنج على خشبة الملعب ..
ففي كل تل قرية وعلى كل منعطف ضيعة،وفوق كل قمة جماعة من بيوتات الفلاحين..
أولئك القرويون الذين اعتصموا بالجبال فرارا من الحروب الأليمة الموجعة ومن تلك الغزوات البشرية الهائلة وجعلوا من الجبل قلعة حصينة للتصدي والدفاع عن مكتسباتهم المادية والمعنوية، والتجاءهم إلى الجبال كان ذلك من أجل الهروب من السيول والطوفان الذي كان يغرق كميات كبيرة من البشر، ويسحقهم سحقا...
لم يسكن أولئك القرويون في تلك المنّاطق الجبلية المستعصية من باب الصدفة وإنما نتيجة ظروف قاسية أليمة، ظروف تتمثل في ظلم الطبيعة وقسوتها، وظروف بشرية تتمثل في العتاة والظالمين الذين اضطهدوا الإنسانية عبر أحقاب طويلة...
هكذا اكتظ الجبل بالفلاحين الذين هربوا من بطش الطبيعة،وظلم السفاحين وآووا إلى الجبل ليصونوا كرامتهم، ويحفظوا أرواحهم وعندما يحتضر النهار ويأتي الليل ويلقي بأثوابه السوداء على جسد الجبل تتراءى من بعيد بيوت القرويين كأنها نجوم معلقة في السماء،تتزين المنطقة الجبلية بفوانيس الفلاحين الذين أشعلوا سراجهم في بيوتهم بوقود من الزيت..
تتلألأ هذه الأنوار الباهتة الضعيفة من أخمص قدمي الجبل إلى قمة رأسه وتتوزع منازل القرويين في قامته وبين أخاديده والتواءاته، ويسكن معظمهم في الكهوف والمغاور مع مواشيهم.
وعندما يعلن الفجر بزوغه ويحيك الصباح خيوطه من أشعة الشمس الذهبية، ويرسل النهار إشراقه الهادئ الساكن إلى ذرى الجبال في تلك اللحظة الدقيقة من جلاء الفجر ينزل الفلاحون مع بغالهم إلى فلاحة الأرض والرعاة مع أغنامهم إلى المروج الخضراء والسهول الغنية بقامات الأعشاب، والبساط السندسي الجميل....
ذلك الراعي الذي يسير مع أغنامه من رابية إلى رابية ومن منطقة معشوشبة إلى مكان أكثر خضرة ونضارة والمزمار لايفا رق وسطه وجعبة الزاد والطعام معلقة على كتفه، والعصا الغليظة سلاحه في الكر والفر وحنجرته بين الآونة والأخرى تصدح بأغان قديمة تتعلق بالعشق والغرام، والتضحية والإيثار فيملأ الراعي بأغانيه فيحاء الجبل وتتردد الأودية صدى كلماته ويملأ الجو حزنا واكتئابا والأغنام تسمع الأناشيد العذبة من فم الراعي فتجدد نشاطها وتلتهم الأعشاب الخضراء بشوق وحماس...
فهي تطرب لمزمار الراعي وترقص لأغانيه وتبتهج لألحانه وترتفع معنوياتها، والمعنويات هي قصور شاهقة ذات قاعدة راسخة لا تعرف التردد والتحيز..
ويجتمع الرعيان تحت جنح الظلام في منزل أحد أصدقائهم،وقد علت البسمة وجوههم والفرحة تغمر قلوبهم أنهم عادوا من الطبيعة وقد امتلأت بطون مواشيهم ولسوف تدرُّ حليباً صافياً لذيذاً...
وتجتمع الرعاة في ذلك البيت المنفرد يتحدث كل واحد عن قصصه في تصديه للوحوش الضارية من ذئاب وضباع وأنمار والضحكات تعلوا على مجلسهم، والمحبة تجلس في جوار قلوبهم،والأنسة تقطن في أعماق أفئدتهم...
بينما هم يتحدثون عن أيامهم المنقرضة في بيت ينام فيه الإنسان والحيوان بين حشرجة أنفاس البغال جالسين بجانب المواقد متأففين من زمهرير الشتاء القارس، وألسنة النيران تعبر عن عواطفهم المكبوتة التي اشتاقت إلى أيام الدفء وأغاني الصيف الجميل...
عشرات القرى الجبلية التي انتشرت بين الهضاب والسهول،وعلى حوافي الأودية، ومنازلها تمثل الفقر الأسود والبؤس المتردي،حيث بنيت بيوتها من طين وسقفها من أعواد،ويتوسط في وسط الدار موقد للنار يوضع عليه القدر لطبخ الطعام، ويجلس بجانبه عندما يكون الشتاء في طغيانه، تاليين على المسامع قصص الأيام الغابرة من أساير ورثوها من أجدادهم العظماء على ألسنة الآباء...
في المغامرة والمبارزة ، والخيول الأصيلة واللعب بالسيف والسخاء والسماحة...
واقتضت سنة الحياة أن يناضل كل كائن في سبيل الملكية فللرعية راع ، وللدابة صاحب،وللبستان مالك وللكرم ناطور، وللجند قائد،وللشعب رئيس..
وشاءت الظروف و الأقدار أن يكون لهذه القرية الجبلية أمير يتحكم بهم ويحركهم كيفما تشاء مصلحته ويديرهم حسب المنافع ويدعى الأمير((غدار بك الشهواني))كان يفرض الضرائب على الفلاحين البسطاء ويثقل رقابهم تحت كابوس الأتاوات والخراج، يعمل الفلاح في حقله سنة كاملة ولا يأكل غير خبز الشعير، وبقايا البرغل، وفضلات الثمار المجففة،يجعل الفلاح من الحقل جنة يأكل من ثمارها غدار الشهواني والفلاح يعيش في جحيم بيت مقفر يرضى بفضلات الأطعمة ، وببقايا ما تركتها حاشية الأمير الشهواني...
والأمير بنى قصراً لنفسه في صدر الجبل الأشم ، ويتألف القصر من خمسة طوابق وأحجاره من الماس والمرمريت واللآلئ ، على شكل هندسة عجيبة في الفن والعمران،تشعشع فيها المسارج عندما يقبل الليل ويحيط بالقصر سور شاهق طويل ويتوسط فناء الباحة البساتين الوارفة الظلال،والينابيع التي تجري أنهاراً كوثرية مفعمة باللذة والمياه السلسبيلية الصافية...
وللأمير خيول مطهمة ، وفرسان يعتبرون أنفسهم من جبابرة الدهور،يخفرون في هدوء الليل الأمير ومقره وحينما يخلون إلى الأمير يركعون أمامه ، مقبلين الأرض ممرغين كرامتهم على قدميه ، وإطاعة الأمير من جزء لا يتجزأ من إطاعة الخالق..
وأنه لولا الأمير ما كانوا في الحياة.. وأن الرزاق وواجب الخيرات لهم هو الأمير نفسه والخروج عن إطاعة الأمير يعتبر عاصياً لذنب لا يغتفر ومجرما يلقى قصاصه العادل..
وكانوا يستشهدون بأقوال الأمير في مجالسهم ما تتردده ألسنتهم عن أقواله: ( الناس درجات ، والرزق محدود ، مهما كدح المرء وعمل فإنه لا ينال إلا رزقه ومن ولد فقيرا سيحيى فقيرا ، ومن خلق في بيئة غنية فإنه سيبقى غنيا وابن الشرف الموروث وابن العائلة الكبيرة لا يخطئ أبداً يجب تقديس آرائه والانصياع لأوامره ، والامتثال لأقواله).
ويتمتع الأمير بثلة من المشرعين الذين يسنون القوانين بمشيئته فيحكمون على هذا بالإعدام وعلى ذلك بالسجن وعلى الآخر بالنفي ، كل واحد حسب جرمه وما اقترفت يداه...
وقد اوجد الأمير في القصر سجنا مخيفا وهو بئر عميق يزيد عمقه عن خمسة أمتار ففي كل صباح ومساء يلقي السجان رغيفا من خبز الشعير المعفن إلى السجين ولا يخرج السجين من السجن إلا وقد انهكت قواه،وهزل جسمه وضعف حوله ، وقد أشبع جسده من سياط الفيلة لا يقدر الوقوف على قدميه ومن ثم يذهب به إلى الأمير وهو معصوب العينين،ومكبل اليدين ، ويركع أمامه ثم يقف أمام الأمير ويتوب توبة أبدية لا عودة للذنب أبداً فيطلق عندئذ سراحه ويرسله إلى رعي العجول..
أما ساحة المشنقة فتحيطها لفيف من الحراس وهم مدججون بالسيوف القاطعة ، والرماح السمهرية ، والخناجر السنينة كل واحد واقفٌ كالهيكل لا يتحرك ولا يتزحزح من مكانه عيونه إلى رئيس الحرس لتلقي الأوامر،وتنفيذ الإيعازات وعود المشنقة غليظ وطويل يترنح الحبل فيه يمينا وشمالا إنه مشهد مخيفـ،ومنظر رهيب يسطر الموت فيه الفاجعة الأليمة والشقاء المروع ويخط الفناء فيه صوراً كالحة من صور الظلم والفتك بالطبقة المسحوقة من المجتمع...
وقد كتبت على باب السجن، وعلى عود الإعدام ((حوض الموت)) إن الجبان الذليل الذي يدخل مرة إلى ذلك المشهد يفقد رجولته،ترتجف فرائصه من هول ما رأى وتتحطم معنوياته ، ولن يعود إلى حالته الطبيعية إلا بعد وقت ليس بقصير ويرى الأشباح المخيفة في يقظته والأحلام المزعجة في نومه من جن وغيلان وعفاريت أما الجريء والذي باع روحه وجسده للكرامة يتحول حوض الموت أمام عينيه إلى جنات معطرة بالرياحين والسجن إلى قصر يناطح السحاب في علوه ينكمش الموت أمام وقفته ويتشبث بأذيال الهزيمة أمام إقدامه وينظر إلى الأمير باحتقار وازدراء يتحول الأمير أمام نظره إلى قزم ضئيل وعجوز عقيم..
والحراس إلى قطط،وأرانب جبناء،ويزمجر في وجههم كالرعد الذي يهز جنبات الأرض،فتتضايق الروح في قفص الجسد يريد الانطلاق والفرار من سجن الجسد والالتحاق بالرفيق الأعلى...
يرى أنوار العدالة تشعشع في السماء ونجوم الحق في صفحات الشهادة يسلم نفسه للرحيل وختم جواز سفره بدمه القرمزي ليسافر إلى رياض مأهولة إلى سدرة المنتهى وعندها جنة المأوى..
في سبيل تشييد فردوس لأولئك المساكين المقهورين..ويترك الأمير الحبل على غاربه لخدامه ووزرائه في نهب أموال الفلاحين،وسلب ممتلكاتهم المادية...
يسوقونهم إلى حقل الفلاحة مع محراثهم الخشبي القديم كسوق النعاج والعجول المسكينة التي لم تشبع من بقايا التبن المخزون في أغوار الكهوف تقود المحراث وتشق الأرض طوال النهار فالاضطهاد والغبن لم يلاحق الفلاح فحسب بل بقطعان عجوله وأسرته وأطفاله الصغار.
لم يجدوا في مساء من أمسياتهم مائدة تثير الشهية،وتحرك النفس طعام يعيد نفسه كل يوم ، لا جديد في الطبخ لديهم ، لا يتعدى طعامهم خبز الشعير،وبعض الأعشاب البرية وفضلات من الثمار المجففة من التين اليابس،وقليلا من الزبيب والدبس المصنوع من العنب...
وكمية قليلة من السمن والعسل وضعوها في جرة مصنوعة من الطين تركوها لأيام الشتاء الباردة عندما يهاجم مرض الزمهرير إلى جسومهم ليتناولوا منها الدواء لمرضهم وشفاء لعللهم...
والفقر إخطبوط شرس،يعشش في أعماق الأسرة منازلا للديدان، وبيوتا للأورام الخبيثة فينخر جذورها ويتغذى بدمها فتغدو حياة الأسرة جحيما لا يطاق.
هكذا يختصر الفلاحون بالموت البطيء وعند سكرات النزع الأخير، يتجاهلون عدوهم ومن هو قاتلهم؟ وما السبيل؟ وما الخلاص؟ لا أحد يوقظهم من سباتهم ومن ذا الذي ينفخ في روعهم آية الانبعاث وسورة الاستيقاظ؟في كل ليلة يجتمع الفلاحون في قصر الأمير يتحدثون عن نتاجهم في الحقل والمرعى وما أدوّه من خدمات لأميرهم المبجل،والأمير جالس على كرسي من زبرجد وقد امتشق سيفا من ذهب،وعيونه تتلظى بالشرر وأحاط به حراس مسلحون،والقوم في ذهول ووجوم ينظرون إلى الأرض أمامهم كأنهم يبحثون عن ملجأ ينشلهم من حياة الذل إلى الغفلة الأبدية...
ثم تأتي جوقة الموسيقى تمجد الأمير وسلالته يعزفون على قيثارة خفيفة الأوتار تغزو الحماسة والأبهة في روع الأمير فيستشاط عظمة وافتخارا من الحان الموسيقيين وبعدئذ يغني المطربون بأغان تقدس الأمير مشيدا بأعماله البطولية الخالدة،وانتصاراته الباهرة،وفي نهاية الحفل يقدمون عربون صدق ووفاء ويهتفون بخلود الأمير.ثم يأتي دور القصاصين والمنجمين يحكون عن أساطير موغلة في القدم من صور خيالية تشبه الخرافة وبعيدة عن واقع المنطق فيندهش السامعون من حكاياتهم ويرتلون قصائد المجد مؤمنين بقصصهم معتقدين بحكاياتهم..قصصهم تحوي غرائب الأمور التي تتعلق بأيام السلاطين والأمراء وعن قلاعهم المنيعة،وأبراجهم العظيمة...
والأمير صاغٍ إلى حديثهم وتأويلاتهم وقد دخل النعاس بين جفونه وأوشك إلى النوم ثم يأمر ممثل الأمير القوم بالانصراف بعد أن ولى ثلثي الليل وبقي من الظلام الهزيع الأخير من عمره....
وكثيرا ما يجتمع الفلاحون بعد انجاز أعمالهم في الحقل أو في المرعى أو أي عمل آخر ويتنفسون الصعداء ما غشيهم من أكرار واتكال منهم بحريته معبرا عن آرائه موضحا مقاصده..
هذا يضحك بحرية تامة مع جليسه وذاك يحكي قصة غرامية مع فتاة ريفه وهناك همسات تعبر بالعيون والأصابع ويحذرون بعضهم بعضا بعدم إفشاء السر ذلك السر الخفي الكامن وراء الأيام والليالي أخفته يد العداة والظالمين وأظهره الحق المبين..
إن التاريخ يتمثل بأولئك المعترفين بهم والتاريخ لاينظر إلى الكم إنما هم معيار حقيقي صادق لأهل الثقة والحجة والانضباط ..
في وسط الظلام يرتكب المجرمون جرائمهم متسترين بالليل ومعتصمين بالسواد وتطمئن قلوبهم بأنهم لم تكتشف جرائمهم وتظهر وحشيتهم ولكن جندي الفجر، ومغاوير الشمس،وحراس النهار لا يملون عن التنقيب في أصل الجريمة عن القاتل والمقتول ما يزالون يبحثون عنها حتى يكتشف جلاء الفجر الجريمة بتفصيلاتها ويساق المجرم إلى ساحة الاعتراف متلقيا جزاءه ، ومنفذا عقوبته.
ما لا يفتأ الحق ملاحقة الانحراف حتى يكشف النقاب عن وجهه ويفضحه أمام الملأ،وسحب الاعتراف الشرعي منه ثم يدمغه فإذا هو زاهق..
ذلك السر الذي كان تتردده ألسنة الفلاحين في الليالي الظلماء والأماكن المنفردة والخالية من المراقبة وموقع الأنظار السرُّ هو شخصية((خالد القرمطي)) الذي قتل في ظروف غامضة، وتكتنفها الإبهام ولكن الفلاحين عندما يذكرون اسم القرمطي تهطل الدموع من أعينهم خاشعين، متأوهين ومزمجرين( الموت للظالمين) ذكرى استشهاد (خالد القرمطي) يحج الفلاحون إلى ضريحه خفية من أعين الرقباء، ويضعون باقة من ورود النرجس والسوسن على قبره،ويقسمون العهد على الاستمرار على خطه ، والبقاء على نهجه ثم يعودون ونار الثأر تتأجج في سويداء قلوبهم..
وعاطفة الإقدام تتلظى في خلجان نفوسهم..ولكن هيهات...!!
لا يستطيع السيف مجابهة البندقية،والخيل محاربة الدبابة،والخنجر مبارزة المسدس والإيمان بالمبدأ هو الذي يصنع من الحجر قنبلة ومن العصا بندقية ومن الصخور مدافعا..
(خالد القرمطي) هو واحد من الفلاحين الذين يلمسون واقعهم ويدركون مأساتهم ثم يخططون للخلاص شخصية بارزة بين الفلاحين يأبى الذل مهما كان نوعه،ويكره التقرب والتزلف للحكام والأمراء، ملماً بكتب التاريخ دارساً ثورة الزنج، والعباسيين ومقتل ((أبي مسلم الخراساني)) ونكبة البرامكة ، وشخصية الحاكم العادل ((عمر بن عبد العزيز)).
الأمير ((غدار الشهواني)) حاول لإغرائه بالمال والمناصب فرفض،عرض له أن يستلم منصب قاضي القضاة في قصره فأبى فأجاب خالد القرمطي: أنا لا أبيع نفسي بالمناصب والمال ولا أجعل من نفسي بضاعة للبيع والشراء،خلقت للكرامة وسأموت للكرامة وسأبعث لها،وكان يبث تعاليمه في نفوس الفلاحين في أغوار الكهوف وأعماق المغاور تحت جناح الظلام الدامس...
يثير في معاقل نفوسهم جذوة الثورة،ويهيئ في داخل أفئدتهم بؤر التمرد والعصيان يتهم الأمير بأنه السارق الكبير والعدو الأول للعدالة, والرفاهية التي تتململ في رواق القصر شيدت على أنقاض الكادحين وعمرت على أكتاف الفلاحين.
سبب فقركم أيها الفلاحون هم الأمير وقصره وحاشيته.
لم يأت الأمير بأمواله وقصره من السماء ولا من نتيجة كدحه وجهده..
إنما هو نتيجة كدحكم ونضالكم فيجني ثمار أتعابكم ولا يبق لكم غير الزوان والأشواك ..
والأمير لص واللص ليس فيه صفات الشجاعة إنما يتصف بالجبن والإحجام فلا تخافوا منه ومن أسلحته ورجاله الذين هم أرانب الرحال وليس برجال ...
إن الله خلقكم أغنياء فلماذا تمنحون للأمير رزقكم،لم يستلم الأمير هذه الرتبة رتبة الإمارة من السماء وإنما وضعها على ظهوركم ورقابكم إن حياتكم جحيم حّولوا واقعكم إلى فردوس، اجمعوا أمركم وقوموا قيام رجل واحد واقتلوا هذا المجرم الذي يجثم على صدوركم، ويجوس في دياركم، ويسفك دماء الأبرياء ويفرض داء التجويع على الشيوخ والأطفال والنساء، ويهدد شرف الفلاحين وكرامتهم محللاً حرماتهم ومدنساً سيادتهم وعزتهم على شقائكم يشيد سعادته وعلى فقركم يحيك خيوط الذهب والجواهر واليواقيت وعلى تعاستكم يبني قصوره، وعلى مأساتكم يقيم أفراحه وحفلاته...
إن ثوب الحرير قد صنع من أجلك فلماذا تسخر نفسك للأمير؟
لا فرق بينك وبين الأمير،لم يخلق الأمير من أمه بلباس الدمقس وتاج الإمارة على رأسه،وكتب على جبينه الإمارة, بأساليب الحيل والاستغلال والمراوغة والاحتيال نصب نفسه أميرا على قبائل من المساكين والجهلاء..
هو الأمير الذي أوهن جسومكم، وسلب عافيتكم،وفتك بجمالكم هو الأمير الذي يتناول ما طاب من المآكل والمشارب ، ويلبس أحسن اللباس،ويرقد على أسرة لينة مريحة ، ويمشي على طنافس حريرية وبساط مخملية , من نتاج جهودكم يصنع سيفا يقطع رقابكم ومن ذخر كدحكم يضع سمّاً زعافا لقتلكم..
إن أئمة الزمان، وجبابرة الدهور كعلي ، وسقراط كانوا فقراء قد نصبوا من أجسامهم صراطا لشعبهم ومن نضالهم صنعوا ثمارا يانعة لقومهم فكانت أرواحهم البريئة ضمادا للجراح وبلسما للوباء إن أميركم يا سادة هو سبب شقائكم وتعاستكم هو الحوت الكبير يبلع ما تختزن خزائنكم من قمح وثمار فحطموا سلاسل العبودية وكسروا صليل الصمت الذليل، والإطاعة العمياء، طهروا أرواحكم من طواغيت الشرور و الآفاق، روضوا نفوسكم بأسلوب الثورة على واقعكم المهين وكونوا كالزلزال في وجه سيدكم الأمير بالتلاحم الفكري والروحي وبالتفاعل المطلق على النهج الثوري القويم تضمحل أمام جبروتكم قلاع الشر وأبراج الظلم والظلام بتقاعسكم عن أداء المهمة وبتوانيكم عن الجهاد والمثابرة سيعشش الجحيم منازلا في بيوتكم وفرخ الظلم ثعابين في دياركم فإن لليل والظلام مصابيح وللصحارى واحات فابحثوا عن حدائقكم جناتكم لتعيشوا في ظلالها وتتمتعوا بجمالها وخيراتها....
إن السكوت على الظلم هو اعتراف به،والصمت المطبق أمام دياجير الاستعباد وهو إقرار به..
ولا تصنعوا لأطفالكم أقفاص العبودية، و لا تورثوا لأولادكم سجون العوز والفاقة...
فلتشمخ رؤوسكم إلى العلا مثل هذه الجبال التي لا ترضع من ثدي العبودية أبدا إن جبالكم باتت يتيمة بلا أصحاب فكافحوا من أجل أن تسترد عزتها وتتجلى هيبتها...
جبالكم يا سادة فرّ منها الأسود والأنمار والصقور وتعيش فيها البوم والأرانب والثعالب وبنات آوى والغربان...
إنَّ هيبة الجبال بأسودها وأنمارها...
والثعلب قد لبس جلد الأسد،وكلل رأسه بتاجه وسمى نفسه بأجلّ الألقاب، وأرفع الأسماء...
قوموا واذهبوا إلى ذاك الليث المنافق الملون والمزور واسحبوا جلد الأسد من جسمه ليبقى عاريا وافضحوه أمام الناس إن الثعلب قد لبس جلد الأسد.. متنكرا لأصله..
إن الأصالة هي البنية الصحيحة في كتاب الحياة والتلفيق والتزوير حدث مصطنع، وتلوين مؤقت سرعان ما يتلاشى ويضمحل أمام عناصر الطبيعة وتقلبات الأيام والليالي..
إنّ أميركم قد هزمكم من القصور إلى الكهوف، وسلب منكم عافيتكم ووهبكم العلل الخبيثة.. وحرمكم من ملذات الحياة ودفعكم إلى مغاور الفقر، ونار الإفلاس..
هيا بكم أيها المظلومون إلى حمل السلاح في وجه الطاغية لتصنعوا فردوسا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم...
قد وهبتكم السماء كل ما تريدون ولكنكم لا تعرفون تصريفها،وتجهلون ترتيبها وتصنيفها.
إنّ طاقاتكم العضلية والنفسية والفكرية يستغلها الأمير ويصرفها في شؤونه الخاصة وإن مهنتكم وأعمالكم تعود بربح كبير على الأمير وحاشيته.إنكم لستم أصحاب أنفسكم ولستم أسياد شخصياتكم، إنكم عبيد الأمير وخدامه حرروا أنفسكم من جبروته وأطلقوا العنان لحرياتكم واهتفوا بالثورة على واقعكم الذليل....)
يعتبر خالد القرمطي دماغا كبيرا من بين أدمغة الفلاحين ورأسا كبيرا من رؤوسهم..
توقف الدماغ فجأة وسكت القلب عن الخفقان....
وعندما أدرك الأمير((غدار بك الشهواني))ما يبثه خالد القرمطي من تعاليم وأفكار ثورية بين صفوف الفلاحين ويهتز عرشه يوما بعد يوم نتيجة الأفكار المضادة لملكه وقصره والنضال الفكري هو المقدمة الأولى للجهاد المسلح إشعال النار في أقحاف الرؤوس ثم إشعال الثورة في صفوف الجماهير فأبلغ أعوانه بأن ((خالد القرمطي)) ينشر أفكارا مسمومة بين الشعب فهو يحرض القوم إلى التجرد من طاعة الأمير والتبرؤ من حكمه والانقضاض عليه كالصقر المهماز...
أرسل الأمير رجاله لإلقاء القبض عليه وتسليمه إلى عدالة الأمير ليلقى جزاء ما اقترفت يداه..
ولما جاءوا إليه وكبلوا يديه وقدميه بالأغلال وتعذيب جسده بالسياط فأجابهم ورأسه مرفوع إلى السماء،وصدره بارز إلى الأعلى وما أنتم إلا أداة في يد سيدكم يدير بكم ما يشاء وأنتم لا تفقهون قصده ولغزه...
لو فعلت فعلتكم لكنت اليوم رائدا من رواد القصر ولكن الذل بالرفاهية علقم مرير،والغر بالجوع بلسم للروح،وعزة في الكيان....
سوف يأتي يوم ستجرون إلى ساحات الموت كما تسحبونني إلى روض الحرية... وتندمون وعندئذ لا ينفع الندم...
فكرّ جنود الأمير بكلماته غير أنهم سرعان ما غيروا رأيهم وأصروا على جره إلى محكمة القصر ..
وعندما مثّلوه أمام الأمير كانت عيناه تحدق بالنار والنور تخط على جبينه ملحمة الكبرياء فأوعز الأمير إلى جنده بقطع يديه ورجليه أمام الفلاحين ثم بقطع رأسه ليكون عبرة للمعتبرين ,ودرسا للدارسين ..
وهكذا نفذت الجريمة بأبشع صورة مأساوية والناس متفرقون في رأيهم منهم من يشمئز من فعل الأمير ولكن بصورة سرية ومنهم من يفرح بقتله منددا به يهز الرأس لهؤلاء وهؤلاء من الفريقين ..
ووضع جثة خالد القرمطي في كيس عتيق مهترئ ودفنوه في وادٍ قريب من قريته ولم يسمح الأمير بدفنه في القبور العامة , وهكذا أضحى قبره منارا للمناضلين ,وقبلة للمظلومين ينهلون منه عزمهم وإصرارهم على مواصلة الكفاح طاردا فيهم ضباب اليأس وأشباح الملل..
وقد غدا اسم خالد القرمطي ناقوسا يدق الأدمغة النائمة واقترن اسمه بألفاظ ثورية يرمز إلى العز والكبرياء يردده الفلاحون في عقر ديارهم عندما ينفردون..
ففي مناسبات الشجاعة ومقارعة الظلم يكون اسمه فاتحة المناسبة لجلسة الاستفتاح ويختم الحفل بخلود اسمه وقراءة تحية إكبار لموقفه المشرف ..
بات اسمه جرسا يوقظ الغافلين ,ويحيي الموتى كالنافخ في الصور ,وتتوالى الأيام فبدا يرسخ في ذاكرة الفلاحين حتى أصبح أسطورة باقية ,وعنوانا بارزا لكل المضطهدين ..
الشهداء مشاعل وضاءة تضيء طريق الحرية أمام شعوبهم فهم كالشمس المضيء
تستمد سراجها من ذاتها وتضيء ما حولها ولا تعرف الانطفاء والظلام..
أولئك الذين يحضرون تربة قلوب شعوبهم ويغرسون فيها بذور الحرية ويرونها بالدماء حتى تغدو شجرة باسقة لا تعرف الانحناء والخضوع ..
هل تستطيع العين الباصرة نكران وهج الشمس ؟
هل يقدر أحد أن ينكر دم الشهيد؟
يستمد الشهيد عظمته من ذاته ,إذ جعل من جسده شاهدا واضحا لمعاني التضحية ومنتهى نكران الذات ,ولم يترك مجالا لأولئك المتهافتين والمتشدقين وإزالة أوكار الالتباس و مظان الشك والريب ..
ينقش الشهيد بدمه تاريخ شعبه ,راسما ظله في حوض أمته ,وفرض نفسه فرضا في أحلك الظروف ظلمة رافضا رغبات النفس ,وشهوات الجسد ..
فالشهيد هو النافخ في جسد الأمة روحا جديدة ويسلك طريقا مرصوفا بالعظام والجماجم ,يعيش ثائرا ويموت جبارا عزيزا مهيمنا ينزع الشوق بهارج الحياة عن بصره فيشاهد تحت ظلال الفردوس وقد حمل لواء الحرية مكللا بنشوة الانتصار ويرى الحياة خيالا والجسد سجنا ضيقا , ويزهق روحه زارعا جسده في تربة الوطن في سبيل الانعتاق من العبودية والانضمام إلى مسارح الملأ الأعلى ,ذلك الفارس المغوار يمتطي صهوة الشهادة ,يخفر في هدوء الليل مذبح الحرية ويهمس في أذني الدجى أنشودة النصر ينبئ بقرب الفجر واندحار الظلام , تعجز الألسنة عن وصفه ,تخرس الحياة أمام هوله ويتحير القلم ,ويضج القرطاس أمام مشهده , هو الجرس والمنبه في ذاكرة الشعوب كلما طفح الكيل , يعيش في ضمير أمته ويكتب التاريخ عنه شعاعاً من نور ,تقف الأمة على قدميها بصلابة شهدائها ,ويخوض الشهيد بحرا من الدماء مشيدا صرحا عاليا من صروح النور وسط شفق أحمر قارئا وسط اللهيب قصيدة الحرية مزمجرا في وجه الجلادين , هو ذلك النموذج الذي خلقه النضال ويبني عالما حرا يرفرف عليه علم السيادة وراية الحرية وقد ذاب في أمته كشأن الشمعة تحرق روحها لتكون منارا هاديا تضيء ما حولها ,فهو فاتحة صامتة الثورة عنيفة وعلى شفتيه ابتسامة محزنة تنطق عن شرارة وهاجة فهو خلاصة الحياة وعصارة النضال , تحية إلى الشهداء البررة الذين كتبوا بدمائهم قدسية الحرية .
(خالد القرمطي) شهيد الكلمة الخالدة ,والصرخة العاتية في وجه سفاح دماء الشعوب فتبرع بجسمه إلى تربة الوطن ليكون قرصنة تسحق أعداء الشعوب . آثر نفسه أن يكون فتيل قنبلة يحرق سماسرة الشعوب وديدان الأمم..
لم يكن خالد القرمطي التشهيد الأول والأخير في سياسة الأمير الظالمة بل مئات من الشهداء لاقوا حتفهم في غياهب السجون وقطعت رؤوسهم بسيوف جلاديه وذلك بصورة سرية ثم يتهمهم الأمير بالسرقة تارة وعدم تنفيذ الأوامر تارة أخرى فغدا حياة الفلاحين سعيرا لا يطاق لا يدرون متى تختطفهم المنايا وتفترسهم الموت الزؤام فباتوا على مضض من القلق المستمر والهيجان النفسي ..
يثقل الأمير كاهل الفلاحين بالضرائب الثقيلة ويكسر أكتافهم تحت وطأتها وتعوجّ ظهورهم تحت كابوسها فإذا أكدح الفقير في آناء الليل وأطراف النهار وطيلة أيام السنة لا يقدر أن يستوفي قيمة الضرائب التي فرضت عليه فأصبح يعاني الجهد العضلي والنفسي فخارت قواه الجسدية والفكرية لا يتحمل مشاق الحكم الجائر إلى أين يذهب ؟ الأرض ملأى بالأمراء ..!!
وكلهم في الجور سواء فليست الهزيمة هي الخلاص ومجابهة الحكم الدكتاتوري أمر عسير لا أحد يشد أزره ويسند ظهره فأهلك نفسه بدون نفع ولا جدوى والارتماء في أحضانه ذل وانكسار فبات في حيرة من أمره يترقب وميض العاصفة منتظرا مشيئة القدر..
فيما إذا دخل غريب في قرية ,من قرى الجبل ينبغي إعلام الأمير به ,والضيف الذي ينزل إلى صديق من أصدقائه لا يستطيع الفلاح أن يستقبل ضيفه ما لم يُعلم الأمير به ,وإذا شاء فلاح أن يعقد القران لابنته لابدّ أن يكون للأمير حصة في المهر واتخاذ القرار الشرعي من جانب الأمير وهذا ينطبق على الابن أيضا يجب تخصيص مبلغا مناسبا يمنح للأمير واستشارته وأخذ رأيه في النصيحة والبلاغ المبين ..
وإن أراد الفلاح أن يسافر إلى قرية أخرى يجب تبليغ الأمير بسفره فإن أذن له سافر وإن رفض نكص على عقبه ونفذ الأمر من دون تذمر أو تردد..
وكثيرا ما يطلق الأمير لنفسه الحريات التامة فله الحق أن يخرج في ظلام الليل ويزور البيوت بحجة تفقد شؤون الرعية والسهر على طلبات المواطنين , والعناية بشؤونهم المادية , وفي المناسبات الروحية والاجتماعية فقصر الأمير هو الكعبة العظمى لجميع الفلاحين ,ففي الأعياد الدينية يأتي الناس ذارفات ووحدانا ومن لم يحضر إلى القصر يعتبر عيده لاغيا ويحاسب على غيابه ولذلك يكون القصر مليئا بالناس كل واحد من الفلاحين يدخل على الأمير ورأسه منكس إلى الأرض ثم يذهب إليه مقبّلا يديه ويدعو له بطول العمر والحياة السعيدة ويعود بأدراجه إلى عتبة الباب ويجلس خاشعا متضرعا وتضرب دقات قلبه بسرعة ,ويتنفس الصعداء تارة وينظر إلى الوجوه باحتراس وحذر شديدين وينتظر سيجارة غليظة من أفخر أنواع التبغ من أعوان الأمير وعندما يتلقى السيجارة راح يتمتع بها كأنها فرصة العمر ولحظات ذهبية من حياته ثم يخرج من القصر واضعا يدي الأمير على رأسه داعيا له بتاج الصحة والرفاهية وعند وصوله إلى البيت يتحدث لأبنائه ولزوجته عن القصر وجماله والخيرات الموفورة فيها فتسيل المياه من لعاب الأسرة عند الحديث عن الملذات من المآكل والمشارب وأن الأمير هو بمثابة أبيهم فهو الذي يرعاهم ويحرسهم ولولا الأمير لأصبحت المنطقة هذه تحت حوافر وسنابك خيول الأعداء وتحولت هذه القرى إلى قاع صفصف تبكي فيها معالم حضارتها وتحولت هذه البساتين إلى قفراء ,وصحراء قاحلة فالأمير يصون لنا كرامتنا وكرومنا وحقولنا أمدّ الله بعمره وسدد خطاه ثم يهتف الجميع ((آمين)) يا رب..
وفي الحفلات الاجتماعية كالاحتفال بعيد ميلاد الأمير أو إقامة الأعراس لأبناء الأمير وذويه فتخرج النساء بأزيائهن الفولكلورية الكلاسيكية , وقد وضعن ريش طير النعامة على رؤوسهن ولبسن الإزار الذي يمسح الأرض ,والكوفية التي تملأ رؤوسهن إذ يشكلن رتلا دائريا أثناء الرقص في ساح القرية وأمام قصر الأمير ويتوسط الحفل الموسيقيون أصحاب الطرب والمزامير فتضرب الحماسة في رؤوسهم فلا يملون من المتابعة من متابعة النفخ في مزاميرهم وقرع الطبول ,والعيون محدقة إلى الغيد الحسان ..
ثم يختلط الفلاحون بالنساء في مهرجان كبير كرنفال واسع جميل وقد لبسوا الأحذية الحمراء والطرابيش البيضاء على رؤوسهم والسراويل السمراء تغط قاماتهم فإذا هم يرقصون ويبتهجون بهذا اليوم الأغر الذي هو يوم العمر ..
هناك شاب يغمز لفتاة أحبها , يتبادلان لغة الغزل والعيون تتغزل والبسمات ترتسم على الوجوه ثم يأتي دور المبارزة فينزل أحدهم إلى ساحة الحفل ويطلب المبارزة فيخرج شاب قوي البنية ,مفتول الساعدين مبارزا خصمه في الكر والفرّ ثم يطلق الفرسان خيولهم الأصيلة في مباراة السباق ..
وعندما يدخل الأمير إلى حلقة الرقص يهلل الجميع بخلوده وديمومة حكمه ويصل الحفل إلى قمة الطرب والفرح ويتحمس الراقصون فيضعون فنونا مختلفة في غاية البهلوانية والخفة في الرقص الشعبي فيتخدر الحفل بوجود الأمير فكل محتفل قد نسي نفسه والتحمت روحه إلى مسارح الفرحة والابتهاج.
إن الجسد يتلذذ بالعذاب عند سمو الروح وضعف الجسد يعني تغذية الروح ومهما تعذب الجسد فالروح يتقوى ويتحصن ويتأصل ..
ومن سمن جسمه بالشحم واللحم وغلظت رقبته فقد ضعفت روحه ومن هزلت روحه فقد التحق بركب البهائم والغرائز الحيوانية ..
إن المهم في الإنسان حركة الروح فالروح إشعاع توجيهي يوجه الجسد إلى سبر أغوار الحقيقة وإذا تجرد الروح عن الجسد بات الجسد جثة منهارة لا ربح وراءه ولا نفع..
فكانت أرواح الراقصين توعز إلى أجسامهم بالحركة الدءوبة والتفنن البارع في صنع ملاحم الرقص فتحولت الساحة إلى ميدان للتسابق والمبارزة في منتهى الرقص التصوفي ..
في هذا العرض الشعبي الذي ينطبع بطبائع الفرح يترك بصماته المأساوية فالفرح يورث حزنا والابتهاج يولد أسى.
التجمع السكاني هذا نساء ورجالا كأنه هو سوق بهيج لعرض الأزياء وافتراس الجمال في هذا السوق المثير فينتهز الأمير هذه المناسبات ليصيد الغادة الحسناء من بين قطيع الغزلان فتقع عين الأمير عليها فتفترسها تحت جنح الظلام ..
كما أن الذئب يفترس النعجة في ظلمة الليل فالاحتفالات هذه هي تجارة رابحة للأمير وخسارة كبيرة للفلاحين الذين يفقدون فيها شرف الكرامة ..
في هذا الحفل الكبير يختار الأمير أحسن الفتيات ليفرغ فيها شهوته الهمجية ثم يتركها لوحش الجوع والفاقة ويصب فيها غرائزه الدفينة في التسلط وانتهاك الحرمات ..
وما الاحتفال هذا إلا تحقيق لإرواء نار الشهوة للأمير وتنفيذ مآربه الجنسية..
وسرعان ما يتحول العرس إلى مأتم فيقلق الفلاح الذي يملك زوجة بارعة في الجمال فيخاف من اختطاف الذئب لها عندما ينشر الليل ثوبه الأسود على جسد الأرض ..
بينما كانت ((خنساء المشرفية )) تقود دائرة الرقص الشعبي بحماس وإقدام نادرين وكأنها زنبقة بيضاء وسط جحفل جماهيري ولها عينان كجزيرة الأحلام وصدر كالسجنجل ,وفم قرمزي مكلل بقطر الندى وشفتان رقيقتان حمراوتان ووجه يكتب الجمال عليه منتهى الروعة والبهاء وشعر مسترسل فاحم اللون كظلمة الليل وسط شفق من نور وعنق كعمود العاج ..
وقد لبست أزهى الأثواب التي تدهش المتفرجين وتأخذ بألبابهم ,والناس مختلفون في النظر إليها فمنهم من يتمنى أن تكون خنساء أخته ومنهم من يأمل أن تكون زوجته ,ومنهم من يقول إنها غادة من بين الغيد الحسان ,وغزال من بين قطيع الغزلان.
كانت ترقص والنفوس تبتهج لرقصها وتضطرب لحركاتها ,إن كل ما في الوجود تتحرك لفنها وتترجرج لبراعتها كأنها مليكة جان من عرائس الجانّ قد هبطت على الأرض تريد أن تعلم البشر فنا جديدا من فنون الإبداع والاختراع عندما تهز بدنها فكأن الجسم كتلة واحدة خالية من العظام والمفاصل فيرتبك الطبّالون والزمّارون أمام رائعة الفن، وفتنة السحر والجمال..
((خنساء)) هي زوجة ((يوسف الجبلي )) الذي اشتهر بين الفلاحين برباطة الجأش والشجاعة النادرة والمهابة الشخصية وتحليل الأمور بروية وصبر ويكره التملق مع الأمراء وذوي الجاه والسلطان.. إنه يعيش على كسب يديه قانعا معتزا بكرامته ويتميز بين الفلاحين بأنه شخصية قوية لا أحد يقدر مناقشته ،وإذا أصدر قرارا من الصعب جدا الرجوع عن القرار،غير أنه لا يحب الكلام الرخيص، وإذا تكلم كان حديثه موجزا شاملا مستفيضا، وفي أصعب الظروف لم يكشف سره لأحد، ولم يطلب النجدة لأعز الأصدقاء ولا يظهر نفسه بمظهر الضعيف اليائس ولم يتورع عن خطأ يصدر من جانب الفلاحين وتتجلى شخصيته في الكرم ونصرة المظلوم والأخذ بأيدي المعوزين والدهماء يرحب بالفلاحين في بيته ويقدم لهم ما يملك من أحسن المأكولات من حسن الضيافة.
وينحدر ((يوسف)) من سلالة عريقة كان أبوه يحظى بشعبية واسعة بين الفلاحين وكان بيته مزارا يزوره الناس من كل فج عميق لكنه قتل في ظروف غامضة ولا يعرف قبره حتى الآن ويقال بأنه قاد ثورة ضد الأمير لكنها فشلت مما دفع ثمن الفشل عنقه ..
وهكذا كانت العلاقة بين يوسف والأمير علاقة متوترة وحاول الأمير التقرب إليه وإغرائه بالمناصب وتولي شؤون الإمارة فرفض وكان يقول للأمير أن أعمل حطابا في الجبل أفضل أن أكون وزيرا لديك فكان لا يكترث بوعيد الأمير وسلطته يناجي نفسه قائلا ((الأرنب قد أصبح أسدا,والقطة قد باتت نمرا ,واللص قد أصبح حاكما عادلا ,والغراب أضحى بلبلا والفأر قد أصبح غواصا يغزو قاع البحر ))
فقد كان العداء بينهما هادئا مبطنا بغلاف الكراهية والحقد الدفين والانتقام المثير وكل واحد يراقب الآخر بحنكة ودهاء منتهزا الفرصة المناسبة للانقضاض على خصمه..
وعندما كانت (خنساء ) امرأة يوسف تتصدر مركز الصدارة في موكب الحفل المهيب وتبتكر أحدث أنواع فنون الرقص الشعبي نافخة في هيكل الحفل روحا جديدة من البهجة والسرور غارسة في نفوس الشباب أنشودة الأمل والحياة راسخة في أذهانهم نشيد الحرية المعطر بهالة المجد. في تلك اللحظات الدقيقة من عمر الزمن كان الأمير ((غدار بك الشهواني ))
يختلس نظرات الخبث والمكر لخنساء يرنو إليها بازدراء وتحقير ويقول في نفسه سأنتهز فرصة غياب يوسف في ليلة من ليالي الشتاء الباردة ، وسأكون ضيفا ثقيلا عليك حينئذ سأضاجعك على قدم وساق وسأعلمك الرقص كيف يكون ولسوف أجعلك ذليلة صاغرة بين الناس ستلوذين بالفرار كلما واجهت حشدامن الملأ وعندما تقفين أمامي ،عيونك إلى الأرض ولسانك مبتور ورأسك منكس إلى الأسفل ,سأقتل منك هذا الحماس الشجي وهذا الفن الفتي هذا آخر احتفال تتباهين فيه وتفتخرين بنفسك ,ولسوف أعمل على قتل يوسف( والله لأصلبنه ولأمزقنه إربا إربا وأفتح في عيونك سيلا من الدموع وأختطفك وأجعلك خادمة لي في رواق قصري). بينما كانت خنساء منهمكة في الرقص بين الفتيات والفتيان والنساء يحمسن خنساء بمتابعة الفن الشعبي، هذه الساعات التي هي أسعد لحظات تختطفها الفتيات من عمر الزمن وإذ تلمح خنساء عين الأمير ترصدها بخبث واحتيال ..
وأدركت خنساء ما وراء النظرة الخائنة التي كانت ملؤها الشهوة البهيمية والحقد الأسود .. لقد تغيرت ملامحها ،وتبدلت قسمات وجهها وتحولت الفرحة إلى الأسى والضحك إلى بكاء ..
لقد عرفت أن هذا الوغد المحتال سينصب لها الفخاخ ليصيدها ,ويهرق الأموال والأنفس على قدميها للظفر بها وتركت خنساء الاحتفال تاركة وراءها حشدا من الفتيات اللواتي في ربيع العمر وخلّفت في الاحتفال أثرا باقيا لا تمحوها الأيام والليالي ثم توجهت إلى بيتها واللوعة لا تفارقها،
والحسرة تؤلم فؤادها ..
جاء الخريف وملّت الأشجار من ثيابها القديمة البالية فأصبحت يتيمة عارية جرداء تواجه العواصف والزوابع واكفهرت الأرض عابسة فاتحة صدرها البارز لهيجان الطبيعة بعد أن جردتها الرياح من أثوابها المبرقعة ..
ولوحت السماء بواسطة غيومها السوداء بأن الزمهرير سيهاجمكم في عقر دياركم وأن الثلوج والسيول والأمطار ستسجنكم في منازلكم فاستعدّوا للآتي وخذوا حاجاتكم قبل فوات الأوان .
بدأ الفلاحون يعصرون العنب ليستخرجوا منه الدبس والخمر المعتق وجلب الزيتون إلى المعاصر لاستخراج الزيت ..
لقد حانت ساعة العصر وآنت لحظة الغلال وجني الثمار .. والخريف هو فصل جني الأتعاب فصل الحساب للفلاح إذ يدرك الفلاح هل ربح في عمله هذا أم خسر فهو الميزان الدقيق والاختيار الصحيح لجهد سنة كاملة مليئة بالجهد الجهيد والكدح الطويل .. وفي هذا الفصل يملأ الفلاحون مخازنهم من القمح والشعير والعلف لأن القادم الجديد لا يرحم الجوع والحرمان ..
ولهذا نلمس فيهم النشاط والسرعة في تحقيق احتياجاتهم الضرورية من الخبز والعلف للحيوانات ليستعدوا مجابهة غضب الشتاء بسلاح قوي وعزيمة ماضية..
يتمثل دكتاتورية الطبيعة بالشتاء فتجن الطبيعة وتفقد قواها العقلية وتشن هجوما طارئا على الأرض وتصل الطبيعة إلى أقصى الهيجان ومنتهى الطيش الجنوني إذ يختبئ الإنسان في منزله، وتلتجئ الوحوش إلى أوكارها ،والبغال إلى مرابضها، والطيور إلى أعشاشها ثم يخطب الريح أمام أبواب الكهوف والمغاور ترتل قصيدة القوة والبقاء تجرد الأشجار من أثوابها وتقتلع الأشجار الضعيفة من جذورها فتخرّ صرعى على الأرض وهي تحتضر كأنها جندي قد مزقته الهيجاء ، وجرّحته العناصر..
في هذا الفصل يبدأ الفلاحون بتقسيم فصل الشتاء إلى قسمين دور القوة ودور الضعف ويعتبر أطول فصل لديهم وذلك دليل المعاناة من طول الشتاء القارس، وتمر الأيام والليالي ثقيلة وطويلة فهم جالسون أمام المواقد متأففين متأوهين ، زنابل الشعير قد نفذت ، ومخازن القمح قد شحّت ومستودع العلف قد انتهى ..
ففي وضح النهار يذهب الفلاح إلى الجبل راكبا بغله لقطع الحطب ليضعه وقودا في الموقد في ليل الشتاء الطويل، والنهار فاكهة الشتاء الشهية فالفقير هو الذي يذوق الأمرّين فيدخل سموم البرد في جسمه ويحدث أمراضا وعللا مزمنة في صحته، فالجسم الضعيف ليس لديه مقاومة في التصدي للعلل والأمراض وهكذا لم يبق للفقير حلا سوى الصبر وانتظار الربيع على مضض والجسم الضعيف بحاجة إلى مقويات وهذا العنصر قد هجر كوخ الفقير وانزوى في قصر الغني والغني هو المتلذذ الحقيقي بهذا الفصل يستهزأ بعاديات البرد وعوارض الزمهرير وأشهى المأكولات موفورة من عسل النحل ,ولحم الخراف والخمر المعتق، ولفائف التبغ الثمينة والمدافىء التي تملأ بطونها الحطب والأخشاب والقهوة الطافحة بالرغوة وإبريق الشاي الذي لا يفارق سطح المدفأة أبدا إلى جانب الألبسة الصوفية من صوف الأغنام والأرانب والثعالب ..
وهكذا الغني يرحب ترحيبا حارا بقدوم الشتاء ولا يعبأ بأيامه ولياليه ويعتبره فصل الراحة والتسلية .. وعندما تطلع الشمس وتهزم الغيوم يعتبر ذلك اليوم فرصة ذهبية للفلاح المسكين لفلاحة الأرض ولجمع الحطب من أجل دفء أفلاذ كبده إذ يهلل الفلاح مبشرا بالخير ويشكر الله على نعائمه متضرعا إليه خوفا من عقابه طالبا العفو والمغفرة له ..
يختار الأمير نساء الفلاحين اللواتي يشعشع الجمال فيهن وذلك بواسطة أذنابه الذين ينفذون رغبات الأمير الجنسية . هؤلاء العملاء يراقبون الفلاحين عن كثب يستغلون فرصة غياب الفلاحين الذين يتركون بيوتهم إما لجلب الحطب أو فلاحة الأرض أو لتأمين حاجياتهم الضرورية ثم يخبرون الأمير بغيابه فيتوجه توا إلى بيت الفلاح ليصب غرائزه الشهوانية في رحم المرأة المسكينة منتهكا شرفها وكرامتها وذلك بأساليب الضغط والقسر والتهديد فتخضع المرأة لأوامره خوفا من عقوبة يفرضها الأمير على زوجها إما بطرده من القرية أو سجنه في زنزانة مظلمة أو محاربته اقتصاديا بفرض الضرائب الباهظة عليه مختلقا أعذارا واهية لإنزال العقوبة به ..
من هنا تسكت المرأة الفقيرة أمام ويلاته وتكتم سرها حتى لزوجها خشية من نتائج وخيمة وعواقب مأساوية فاجعة .. يستفحل البلاء وتتعاظم البلية بالإضافة إلى داء الفقر ,وهناك كابوس أشد منه هو انتهاك الأعراض ..في ليلة ظلماء من ليالي الشتاء الباردة رقدت الحياة فيها ونام السكان والأهلون ولم يبق غير زمهرير هائج ,وبرد قارس يهز أركان بيوت الفقراء يهددهم بالدمار والخراب ويرمز إلى أن الحياة للقوي وأن العزة والمجد للجبار ..
وريح تئن أنين المحتضر ممثلا واقع المساكين الذين يرتجفون أمام عزم الطبيعة وقساوتها ,وثلج يكفن الأرض بأكفانها ثم تأتي العواصف لتتلو آيات التلقين على رأس الأرض والرعد والبرق من أخطر الأسلحة السماوية التي تحارب الأرض إذ يتصاعد جو الحرب ,ويستعر رحى المعارك وسط حمم يتلظى بألسنة اللهيب ,وفيضانات تحفر أخاديد الأرض وتشق الطريق لنفسها لتستقر في مساكن وملاجئ لها ..
هكذا صبّت السماء غضبتها على الفلاحين الفقراء بما أوتيت من أسلحة الفتك والدمار وفرّغت جعبتها من أقوى أسلحتها .. ففي هذا الوقت العصيب واللحظة الحرجة تصل الأخبار إلى الأمير ((غدار بك الشهواني )) بأن يوسف الجبلي غائب عن بيته فهو يقطع الحطب في الجبل ومازال معتصما في كهف الجبل ينتظر فيلق الصباح ,وبزوغ الفجر..
وأن زوجته ((خنساء المشرفية)) هي وحدها في البيت تنتظر مجيء زوجها فاستعدّ الأمير ليكون ضيفا عليها في هذه الليلة الباردة فلبس أحسن اللباس ,وعطّر نفسه بشذى العطور ذوات الروائح النرجسية ..وشدّ الرحال متوجها إلى منزل يوسف الجبلي ..
كانت خنساء تنتظر مجيء يوسف ,وتسمع تارة ولولة الرياح وزمجرة الرعد والبرق ,ونباح الكلاب وعويل الذئاب تارة أخرى ,وقد ضَعْفَ النار وترك رمادا في الموقد وتحرِّك خنساء بآلة حديدية جمر النار وتنفخ في الموقد لاشتعاله وإحياء النار من جديد ,وكلما عصفت الرياح ارتجف باب البيت من بأسها واهتز عمود البيت من أساسه ,بيت يوسف مسقوف بالتراب وبابه من خشب ضعيف يقدر أي امرئ كسر الباب عنوة وانتهاك حرم البيت ..
وصل الأمير إلى منزل يوسف وهو متحمس إلى أقصى درجات الحماسة, والحياة كلها تافهة أمامه وأظلمت الدنيا أمام عينيه فوجد سعادة الحياة تكمن في أحضان خنساء وكان سعيدا في منتهى السعادة , ومندفعا في غاية الاندفاع , لا يطيق صبرا ولا انتظارا فكان يمشي بسرعة الرصاص في سبيل تحقيق الهدف بالسرعة الممكنة..
طرق الأمير الباب وقامت خنساء وقالت : من الطارق ؟ وتغيرت ملامحها ,وتقلصت سرائر وجهها من هول ما سمعت فقد عرفت صوت الأمير ,وكان ليوسف سيف بتار قد أخفاه عن الأعين وراء عتبة الباب وأجاب الأمير : أنا أميرك المبجل صاحب الجمال المطلق ,والأيدي الناعمة ,واللباس الحريري والعطور المتنوعة بالروائح الطيبة وابن العائلة المقدسة ,وصاحب الحول والطول في هذا البلد الأمين فأجابت خنساء وبجرأة نادرة : لست أميرا أيها اللص الجبان إنما أميري هو يوسف الجبلي وإن الشرف حياتنا وسعادتنا ,نحن فقراء ولكننا شرفاء وإن الحذاء الذي ينتعله يوسف هو أفضل منك ومن قصورك فعدْ إلى قصرك أيها الأحمق الغبي نحن لسنا مثل أذنابك الذين يقدمون لك الغالي والرخيص في سبيل إسعادك , إن الخبز المعفن الذي نأكله أفضل من جواهرك ولآلئك الثمينة فارجع إلى حيث ما جئت أيها الخسيس فالموت رخيص أمام الشرف ((المنية ولا الدنية !!) ..
ولما علم الأمير أن السيل قد بلغ الزبى ,وطفح الكيل !!..
وباللين والملاطفة لا يمكن فتح الباب ,التجأ إلى قوته الجسدية سحب الخنجر الذهبي من غمده ,ووجه ضربته القوية إلى الباب فانكسر الباب وضرب بقدمه على قاعدة الباب ودخل إلى حجرة البيت ..
ماذا تفعل المسكينة خنساء بالقوة العضلية لا تستطيع الدفاع عن نفسها لأن الأمير وحش كاسر يتغذى بأشهى المأكولات وهو متمرس على الفروسية ومهما يكن فالمرأة ضعيفة أمام قوة الرجل فوقف الأمير في وسط الدار وقوف الجبار المنتصر وسط معركة لم تنتهي بعد عندئذ لجأت خنساء إلى الانصياع والطاعة وقالت : يمكن للأمير أن يجلس أمام الموقد وينتظرني بضع لحظات لكي أهيأ نفسي وأزين جسمي وأعطر بدني ثم أقدم جمالي للأمير ..
اطمأنّ الأمير من كلامها وفرح من بشراها السارّة وجلس أمام الموقد وهو مطمئن البال ,قرير العين ينتظر انتهاء خنساء من الزينة وتسريح الشعر ,ونشر العطور في جسمها ..
في تلك اللحظات المتوترة راودتها أفكار وهواجس وناجت نفسها قائلة :رباه!! ماذا أفعل؟! لقد وقعت الغزال بين مخالب ذئب أغبر يريد افتراسه هل تستسلم الغزال أم تقاوم إلى الرمق الأخير فكان الجواب الموت خير طبيب لهذا البلاء العظيم ..
لقد دخل في بستانك يا يوسف خنزير بري يلعب ويمرح فيه وجعله مرتعا لصولاته وجولاته تعال وعجل أوشك البستان إلى الاندثار والضياع..!
ها قد هجم الغراب على كرمة العنب فأسرع يا يوسف وخلص كرمتك من هجمته الشرسة ..
إن حقلك مهدد بالفناء فأنقذ ورودك وزهورك من بين مخالب هذا الإخطبوط الأسود ..
لقد تفشى الطاعون في بيتك فهلمّ إلى إنقاذ اهلك من شره وبلائه ..
فقد استشرى الوباء في منزلك فعجّل قد اقترب الموت وأوشكت الكارثة أن تقع ..
إن شجرتك الصنوبرية قد دخل الدود فيها وبدأ ينخر جسدها فأناديك من الأعماق وفؤادي يستنجد بك لقطع دابر الدود اللدود..
إن أسرارك يعبث بها يد جاهلة ونفس أمّارة بالسوء ..
لقد هجم المغول على ملاحمك البطولية ,وتاريخك المشرق ليستعمرها ويزيلها من أصل الوجود ويشوه نضالكم الزاخر بالكبرياء والعفة ..
إن الإناء الذي تشربه قد دخل فيه جرثوم مسموم فتعال وامحقه محقا ..
ها قد دخل اللص إلى محرابك ليسرق كرامتك وشرفك وما قيمة الإنسان إذا جردناه من هذه المادة الهامة في كيان المجتمع الأصيل ؟..
ثم فكرتْ وأوجدت حلا لها ثم قالت : أنا اليوم !! أمثلُ يوسف الجبلي ..
لقد علّمني البطولة والفداء ولقنني فنون القتال لمجابهة اللص المارق ..
سوف احمي بستان يوسف وسأكون خير حارس وخير أمين له ولن اسمح لأيد قذرة أن تدنسه أو أن تمسه وتستولي عليه ..
بينما كانت تناجي نفسها والأمير جالس أمام الموقد ينتظر متى يتم العناق والجماع وسيف يوسف كان معلقا وراء الباب لم ينتبه الأمير إليه ..
وبسرعة البرق وإقدام لا مثيل له بما تملك من قوة وجرأة امتشقت السيف وضربت به عنق الأمير وطفق جسم الأمير يرقص من الذبح فقطع رأسه ولطخ جسمه بالدماء الملوث وامتلأ الموقد بدمائه ..وانطفأ بصيص الجمر بين الرماد ..
وانتهت المعركة بانتصار خنساء على المعتدي الغادر ..
فكرت خنساء وقالت :ماذا أفعل بهذه الجثة فإن بقيت حتى الصباح فالجريمة تشهد علي بالحجة الدامغة فلا بدّ من ترحيل الجثة وإلقائها في كهف قديم جدا لم يجرأ أحد من الناس حتى الآن دخول ذلك الكهف وكان يلقب (بكهف الجن والغيلان) ووضعت الجثة والرأس في كيس كبير وحملت الكيس قاصدة (كهف الجن) الكائن على سفح الجبل وحملت سيف يوسف للدفاع عن نفسها من الوحوش الضواري , كان الليل يحتضر في بقية حياته الأخيرة والفجر يلوح للظلام بالرحيل ,والأمطار تتساقط بهدوء والعاصفة قد خلدت إلى السكينة ..
امرأة تقتل رئيس القوم وتضع جثته في كيس وتحمل الكيس في ظلمة الليل إلى كهف لا يدخله الناس في رابعة النهار !من أية مدرسة تخرجت هذه المرأة الجريئة؟
ومن أية جامعة نالت شهادتها ؟! نعم إنها شهادة الكرامة ,لقد حملت الأمانة وأخلصت لها وانتصرت على الخيانة إنها امرأة قادت لواء الحرية بسيف يوسف الجبلي لقد تشوقت إلى الشرف حتى التحمت به فأصبح الشرف جزءا لا يتجزأ من هيكلها العام ..
إنها امرأة تستحق التقديس والتعظيم وأخذت تسير من رابية إلى منحدر ومن سهول إلى هضاب حتى اقتربت من كهف الجن ..
كان يوسف الجبلي قد انتهى من قطع الحطب من بين غابات السنديان وآوى إلى كهف الجن فرارا من البرد والزمهرير وقد أشعل في داخل الكهف نارا للدفء والحرارة ريثما يبزغ الفجر ويعود بالحطب إلى داره ..
وما أن وصلت خنساء إلى باب الكهف فأخرجت رأس الجثة من الكيس ورمته إلى قاع الكهف وتشاء الأقدار والصدف أن يضرب الرأس بالرأس ,جمجمة الأمير قد ناطحت رأس يوسف وما أن حدث هذا الحدث الطارئ الغريب , قفز يوسف من مكانه بسرعة فائقة وسحب سيفه من غمده
ونادى : هل من مبارز ؟ لن أخاف من الجماجم ولا من أصحابها وإن كنت بطلا فادخل إلى الكهف لأتعرف عليك وأعلمك الرجولة وكيف نرعب الرجال ؟ عندئذ تنفست خنساء الصعداء وقالت :
ياألله !! ,يا أيها الناموس الأزلي المطلق شكرا لرحمتك التي شملت كل شيء ولمعجزاتك الباهرة التي تنير ظلمات القلوب ..نعم الرفيق أنت ! ونعم المساند والمؤازر للضعفاء والمساكين أنت الرقيب علينا وأنت الشاهد في هذه الدقائق المعدودات !..
لم تستجب خنساء لصرخة يوسف من فرحتها وسرورها بلقائه غير أن يوسف قد هدأ قليلا وفكر مليا متفحصا الجمجمة فعلم أن الجمجمة هي رأس الأمير ..
ثم نادى قائلا : هل قتلتِ الأمير يا خنساء ؟ أجابت خنساء :نعم يا يوسف ,تعال وهلّم إلي لنجلس في الكهف ثم أردف قائلا :
شكرا لك يا ملكة الدروب
بوركت سواعدك القوية
طوبى لك يا أم الأسود والسباع ..
شكرا لكِ يا ابنة الشرف والكرامة
تحية لكِ يا أسد الجبل ,ويا جنية الكهف !!
سلاما لك يا غزالتي التي حفظت كرامتي ..
المجد لك يا ابنة الجبل الأشم ..
وعندما انتهى يوسف من تلاوة المديح والثناء على خنساء المشرفية المظفرة
طرح سؤالا للبحث والنقاش ماذا تفعل؟ ,وما هو الحل ,وكيف الخلاص ؟ قال يوسف سنترك الجثة في أعماق هذا الكهف ونعود إلى البيت ,وبالتأكيد تعرف حاشية الأمير بأنه قتل بيدك لأن جماعته تعرف تحركات الأمير كلها من صغيرة وكبيرة وهي التي استغلت فرصة غيابي عن البيت للاعتداء عليك ..
وفي الصباح سوف يتم إلقاء القبض علينا من قبل أعوانه وتقديمنا إلى المحكمة أمام جماهير غفيرة من الناس وفي أثناء ذلك يجب أن نجابه الموقف بجرأة وإقدام لا نهاب الموت ولا نخشى من أولئك المأجورين الذين باعوا أنفسهم بقليل من الخبز الأبيض , ودريهمات معدودات ..
وأما بشأن هزيمتنا أي أن نخرج من قريتنا فهذا شيء مستحيل لأنها مسقط رأسنا وأرض آبائنا وأجدادنا والمنطقة لا تخلو من الأمراء ,وكلهم في الجور سواء الأمير الذي نذهب إليه هو أسوأ من أميرنا المقتول ليس هناك أمير جيد ..
هؤلاء هم قياصرة الشعب وأعدائه يستنزفون دماء الحياة من جسد الشعوب ..
ثم تركا الجثة في غور الكهف وتوجها إلى الدار وما أن وطئا أرض الدار حتى فوجئا بالهجوم المسلح من كل الأطراف ,كبل يديهما بالأصفاد وقال رئيس الحرس ليوسف الجبلي كيف تخلص نفسك اليوم من وجه العدالة , زوجتك تقتل أميرنا والله سنقتص منكما القصاص العادل .
تشكلت المحكمة الميدانية في وسط القرية وأمام قصر الأمير وسط جماهير محتشدة من الناس ليعتبروا بأبصارهم ما ارتكبته خنساء ويوسف من جريمة لا تغتفر , ونصب عود المشنقة ووضع الحبل فيه لتحكم المحكمة عليهما بالإعدام وذلك لغرس الخوف في قلوب الجماهير وتثبيت أقدام الإمارة على الحكم ,ودرء الأخطار عن القصر ..
كان يوسف الجبلي محبوبا بين الفلاحين وزوجته خنساء ريحانة نفوس نساء البلد ,بكت الجماهير أمام هول هذا المشهد المخيف ,بعد قليل سيعدمان في هذه الساحة .. يا ويلتاه !ماذا اقترفا؟
وكان ليوسف في البلد أصدقاء من جبابرة الدهور يلاحقون الموت,ويستهزئون بالقدر ومنهم أمثال (عمر الكاظمي),(خليل النهاوندي ) , (سامي الأسدي) و (درويش القروي) , وهؤلاء ينظرون لجنة المحكمة بازدراء وانتقام وقد شهروا سيوفهم استعدادا للوثبة ..
وشكلت المحكمة من خمسة أشخاص من مرتزقي الأمير وكانت خنساء المشرفية مكبلة بالأغلال وبجانبها يوسف الجبلي مقيد بالسلاسل ووجهت إليهما الأسئلة التالية :
لماذا قتلتِ يا خنساء الأمير (غدار بك الشهواني ) ؟
خنساء : لأنه اعتدى على شرفي ومن أهان شرفي قتلته ..
رئيس المحكمة : ماذا ينقصك إذا جامعك الأمير ؟
خنساء : ينقصني الكبرياء والحياة العزيزة وإذا كان برأيك شيئا حسنا فلماذا لم تقدم زوجتك له ,والحق يقال أنه كان يراود زوجتك وأنت ساكت أخرس أمام اختراق جدار الشرف يا عديم الشرف ..
عندما نطقت خنساء المشرفية بهذه الجمل الحارة والساخنة توجه يوسف الجبلي إلى الجماهير وصرخ بأعلى صوته :أيها الفلاحون إن الأمير الذي أراد أن يعتدي على شرفي سوف يفعل فعلته النكراء بكم وكانت البارحة مصيبتي واليوم مصيبتكم فهو لا يفرق بين فلاح وآخر ينتهك حرمات الفقراء ما تمليه عليه الغريزة البهيمية.
إنّ أعوانه أشد خبثا منه فانفروا خفافا وثقالا لإنهاء هذه الشرذمة الخائنة في منطقتنا واستئصال جذورها من بلدتنا ,إنه اعتدى على شرفنا وفوق هذا يحكم علينا بالإعدام لا لخطأ ارتكبتاه بل لمثل عليا ودفاعنا عن أنفسنا ,والمعتدي الآثم هو الذي نحر نفسه بنفسه ..
هل كل من دافع عن شرفه يعرض لعقوبة الإعدام ؟
في أي دستور سُنّ هذا القانون؟
وأية شريعة نصت على هذا ؟
وفي أي عصر أقرّ هذا البند؟
فتشوا كتب التاريخ وابحثوا في علم الاجتماع واسألوا أهل المعارف (امرأة دافعت عن شرفها فاستحقت المشنقة!!) هل هذه المرأة نكافئها ونقدسها أم نعدمها شنقا ؟!
في شريعة ابن آوى نعدمها شنقا وفي شرعة البؤساء والمساكين نجلّها ونحترمها ..
ما هي جريرتنا وما هو انحرافنا ؟
وجد الإنسان في هذه الحياة ليعيش سيدا عزيزا مكرما لا أن يحيا ذليلا مستعبدا ,لا عبودية إنسان لآخر خلق الناس متساوون , ولا فرق بين إنسان وآخر إلا بما يقدم من عمل جليل ونافع ..
هذه الفئة الحاكمة قد احتلت حقولكم وبساتينكم وعلى ظهوركم وسواعدكم شادت القصور وبنت الدور .
واليوم تسحق بأقدامها شرفكم وعرضكم وتساق به إلى ساحات الإعدام ..
ما قيمة الإنسان إذا جردناه من كرامته ؟
وما معنى للحياة إذا كانت الحياة ذليلة صاغرة ؟
حتى إن البهائم تتحرك فيها نخوة الشرف إبان الاعتداء فلماذا السكوت ولماذا الرضوخ إلى هذا المستوى ؟ إذا سلبت حرية الإنسان ,وجرد من ذاته , وأصبح آلة عمياء بيد إنسان أقوى منه ..
أليس هذا هو الموت نفسه ؟
أو ليس الموت الحقيقي أشرف منه ..؟
إن الجوع مع الكرامة أفضل من الذل مع الرفاهية ..!
والفقر مدرسة يتخرج منها مواكب المناضلين الأشداء , والشرف شعار تلك المدرسة المهذبة ..
إن الموت تحت قعقعة الرماح وظلال السيوف أشرف من حياة الذل والعيش على أبواب الأمراء والملوك ..
لقد حررت خنساء المشرفية بستانها من جراثيم العلل الخبيثة ..إذ أظهرت حديقتها الخضراء من الأمراض والعلل الجهنمية ..,..,
لقد توجت نضالها الزاخر بإكليل العز والفخار فهي بنت الشجاعة وأخت الشهامة وأم الليث والغضنفر , نعم هي سيرة المناضلات ومربية الأجيال , ومعلمة البؤساء والفقراء..
كل امرأة في هذا الجبل هي خنساء المشرفية ,وكل رجل في جبالنا الشماء هو يوسف الجبلي ,إن الطغمة الحاكمة لا تفرق بين فلاح وآخر فالكارثة شاملة والمصيبة عامة ولا مفر من سيف السفاحين إلا بتعاونكم وتلاحم صفوفكم في وجه الجلادين فاتحدوا لاقتلاع جذور الشر واجتثاث جذور الظلم ..
إن الذي أهانكم وأذلكم هو جهلكم بأنفسكم وبواقعكم إن وعي الذات هو وعي الحياة هو النضال في سبيل الحرية وإسعاد الإنسانية ..
إن وقوفنا هنا في هذه الساحة أمام المجرمين الذين لبسوا لبوس العدالة ولكن ما وراء هذا الستار نفسية حقيرة وظالمة يتلظى فيها جحيم الظلم ,وسعير الاستغلال ..
وما وقوفنا هنا إلا صورة كالحة من صور طغيان لهذه الشرذمة الضالة ..
وسيأتي أدواركم جميعا واحدا تلو الآخر في تقديمكم لهذه المحكمة ووقوفكم مكان وقوفنا ,والحكم عليكم بالإعدام ..
فهبوا إلى الجهاد ,وتلبية نداء الواجب الطبقي لتحرروا أنفسكم من أوضار الجهل والتشبث بأسباب العلم لتحطيم هذا الشبح المخيف أمام أبصاركم ..
والشعب ينتصر بنضاله العملي عندما يترجم نظرياته إلى محك تجريبي وواقع مادي ملموس ..والشعب يحل مشكلاته الداخلية بنفسه من نزاعات جانبية وخلافات مذهبية ,ومهاترات جوفاء ..
فاقتلوا هذه الأمراض لتتحسن صحتكم وتتقدم عقولكم ..وانظروا بمنظار واحد وبرؤية علمانية واضحة نحو عدو مشترك عدو الكادحين والعمال .
والشعوب لاتؤمن بالكلمات البراقة اللماعة بل يترسخ إيمانها بالتضحيات ويتعمق مبدؤها بالنضال العملي الذي ينطوي على الإيثار ,ونكران الذات ..
إن الشعوب تقلد قادتها في النضال الفكري والعملي فالقادة ينبغي أن يتصفوا بتضحية الذات في سبيل العام والتحلي بالتواضع والإخلاص والتسلح بالنظرية العلمية والنقد التجريبي وغرس النظرة المادية الجدلية في عقول الشغيلة هي أداة جبارة للسلام والتقدم الاجتماعي , يستمد الشعب المناضل مادة علمه من انتكاساته الماضية ,وخلفياته السحيقة ,يستلهم دروس النضال من تجاربه وفشله ..
إن القاعدة الأساسية للمجتمع هي الجماهير الكادحة من المساكين والبؤساء أولئك الفقراء الذين دانت لهم رقاب الأثرياء ,وانتكست أمام جبروتهم رايات الأمراء أمثال : بابلو نيرودا ,الغفاري ..
إنكم يا أخوتي تضعون تاريخكم بأنفسكم وترسمون قدركم بأيديكم والإهمال يجلب لكم الشقاء ,والنضال يحقق لكم السعادة والحياة الرغيدة ..
إن أولى المهمات الموكلة على كواهلكم بأن تشيدوا فردوسا في هذا الجبل قبل أن تبنوا جنة في السماء ..
حرروا جبلكم هذا من أبالسة الأمراء وشياطين الأغنياء ..
إن الجبل يناديكم مستنجدا بكم لتطهروه من غدر الذئاب ومراوغة الثعالب , وفحيح الأفاعي لقد دقت ساعة الصفر , وشرع الانتصار يلوح بيديه الفولاذيتين ببشائر الفرحة بيوم عرس الحرية ..))
بينما كان يوسف الجبلي يخطب في جماهير الفلاحين والآذان صاغية إليه والقلوب معه ,وعلى وجوههم الشهامة والإقدام فكان بكلماته يضمد جراحا قديما قد استنزف الدم منه ,فئة تقول يا له من شاب شجاع لا يهاب الصعاب والمخاطر !!, وجماعة تقول: إن كلماته تأخذ بألباب النفوس وبناصية العقول وفئة ثالثة تقول : إنه شاب وسيم يقتحم المخاطر في سبيل إسعادنا وتحريرنا من ظلم الأمير !!..
هكذا كانت الجماهير الكادحة تسمع إلى خطبة يوسف الجبلي بكل ملكاتها العقلية والنفسية ولا تحسب حسابا للنتائج والخواتم ..
في ذلك الظرف العصيب من غليان القلوب واضطراب الأفئدة ,هجم رئيس المحكمة بسيفه على يوسف وامرأته خنساء وبسرعة البرق يسحب (عمر الكاظمي ) و(خليل النهاوندي ) و( سامي الأسدي ) و( درويش القروي ) سيوفهم من أغمدتها ويهجمون على رئيس المحكمة وهتفت الجماهير بصوت واحد (عاشت الحرية ) و( ليسقط حكم الأمير ) ثم اقتحمت بسيوفها المحكمة وألقت القبض على رئيس المحكمة وأعضائها وكبلت أيديهم وأقدامهم بالسلاسل ,وحطموا قيود يوسف الجبلي وخنساء المشرفية , وقد تمّ تقديم أعضاء المحكمة ورئيسها إلى محكمة الفلاحين والكادحين بقيادة يوسف الجبلي رئيسا لها وحكمت محكمة الشعب عليهم بالإعدام ودفنهم في (كهف الجن والغيلان ) بجانب أميرهم المجرم ..
عندئذ كتبت الحرية بدمها القرمزي ((المجد للفلاحين للمعلم والبروليتاري الأمين يوسف الجبلي ,وسطرت العدالة الاجتماعية بأحرف من نور ثورة الجبل وخلدت إلى الأبد شعارا خالدا ترتله الأيام وتنغمها الليالي ,وتلحنها العصور تقديسا وتمجيدا لانتفاضة الجبل ..
وهكذا ذهب الفلاحون إلى حقولهم ولا احد يفرض عليهم الضرائب وليس هناك سيد وخادم ,كلهم سادة ولا امتياز بينهم ,وحولوا قصر الأمير إلى مؤتمرات عامة لمناقشة أمور وأوضاع منطقتهم فأصبح الفلاح سيدا في حياته كلها ,ولا سلطة إلا سلطة العدالة الاجتماعية ..
في صباحٍ ربيعيٍّ جميلٍ، وفي الحادي عشر من آذار التاريخي استيقظت الدّيكة، فأذّنَ مؤذّنٌ بدعوةٍ إلى اجتماع موسّع تحضر فيه نخبةٌ من المُشرّعين والفقهاء والوجهاء، فتوافد إلى الكونفرائس كبارُ العقول من الحكماء والنوابغ والدّهاة من السّاسة المحترفين وانعقد الاجتماع بروحٍ وطنيّةٍ وقوميّةٍ، وحمل المسؤولية التاريخية الملقاة على كواهلهم ورُفِعَ العلمُ...
ووقفوا دقيقة صمت لأرواح الشهداء وعُزِفَ النشيد الوطني.. فقام أكبرهم سناً وخطبَ فيهم بصوتٍ مبحوحٍ وقد خاضَ مخاض الحياة وعجن بمرارتها واستخلص منها الدروس الحياتية.. الشاقة العسيرة..
فقال: يُعقد كونفرائسنا الوطني في ظروف غاية التعقيد نحن منذ آلاف السنين أنشأنا إمبراطورية عظيمة.. نحن نحلم في يومنا هذا بإحياء ذلك المجد العريق .. لنأخذ دورنا الريادي في الحياة الكريمة.. كفانا ذلاً وهواناً.. نحن نفتقر إلى وطنٍ يحتضننا وإلى علمٍ يرفع من شأننا..
إنَّ أعلام العالم ترفرف في هيئة الأمم ما عدا علمنا فإنه عارٌ علينا.. وَعَلَمنَا محكومٌ بالانتكاس والحرمان.. فلا وزن لنا بين الأمم..
وأصبحنا من فئة " تكملة العدد " وليس إلا..!!! فأصبحنا عبيداً لغيرنا وليس لأهلنا.. وكنا سادة الدنيا، واليوم أصبحنا خدماً لفضلات الدول والمجتمعات.. ثمّ دعا الحضور إلى الصحوة المباركة التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية..
وختم كلامه بقوله: احذروا الزلات فإنه انتحار.. فصفق الجمهور مردّدين النشيد القومي والهتاف الوطني.. وأعطى المجال لغيره من سلالة العقول ليدلوا بدلوهم نحو بناء وطن لهم يحميهم من الغزاة والمحتلين.. وانتفش أحدهم بريشه، ونفخ في جناحيه فبدا ضخماً مرعباً وهو ما يزال فيه حيوية الشباب وتَحمّسَ باندفاع شديد وصعد المنبر قائلاً:
نحن معشر " الدِّيكَة " جُبلنا على الشّجاعة والإقدام فلا نخشى أحداً.. ولا ترهبنا النازلات الماحقات.. ولا نبخل بالدّماء الطّاهرات.. وكلّنا نارٌ على رؤوس الأشهاد..
سنفدي بأنفسنا في دفاعنا المُقدّس عن وطننا الغني اليافع .. وسننصّب الأفخاخ لأعدائنا نحن قوّة لا يُستهان بها.. وإننا شعبٌ غزير الإنجاب.. فكلما قدّمنا قافلةً من الشّهداء جّهَّزت أخرى نفسها للبذل والعطاء..
إنّ زوجاتنا وأمهاتنا وشقيقاتنا وإخوتنا مستعدات للتضحية في كلّ جولةٍ فنحنُ فُطِرْنَا على الشّهادة.. وستكون شعاراً لنا في بناء وطن شامخ عزيز علينا يا إخوتي وأخواتي أن نعقد ميثاق المحبة والتعاون مع العوالم الأخرى من الغربان والحمامات والعصافير..
فادعوهم ممثلين عنهم وأبلغوهم بالحضور وفي الحال أرسلوا بطاقة دعوة لاستضافتهم كمراقبين للمؤتمر المزعوم.. فحضر مندوبٌ فحوَّلَ من الحمام والعصافير الصّغار والغربان.. فصفّقوا تصفيقاً حاداً ترحيباً بالضيوف الكرام..
وأنشد العصفور قصيدة رائعة مشيداً بإعلان الدولة الوليدة.. وأعلن الحمام روح المراسلة وإذاعة الأنباء ونشرها في المحافل الدولية.. وأبلغ الغراب أنه يصلّي من أجل الاستقرار والديمومة للدولة الفتية..
وخرج من بين الحضور كهلٌ هادئٌ متزنٌ تحدَّثَ بنبرةٍ شجيّةٍ بليغةٍ.. إنَّ حاضرنا اليوم هو حكاية لماضٍ سحيق، وحلمٍ ورديّ بنفسجيّ وفردوسٍ مفقودٍ.. طالما تحدّينا المستحيل، وقدّمنا أنهاراً من دماء لانبعاث مجدنا المجيد على أقحاف وجماجم شهدائنا الثوار..
سنمضي قُدُماً جحفلاً وحشوداً ذوداً لدولتنا الحضارية المتنوّرة.. وسننشر مبادئنا المُثلى لشعوب الأرض.. وسنقف مع المظلومين والتائهين..
ثمّ خُتم الكونفرائس بجملةٍ من التوصيات والقرارات تخدم بناء الدولة الراقية وحمايتها من كلّ غازٍ ودخيل..
ولمّا انصرف الغراب قَصَدَ جمهورية البزاة فأخبر أحد الباز وهو وزير الخارجية بأنّ الدّيكة في هرجٍ ومرجٍ في دراماتيكية مطلع القرن الواحد والعشرين..
إنَّ وجود كيانهم يهدّد أمنكم الوطني والقومي والاقتصادي.. وأنهم خطرٌ على الحدود الإقليمية والدولية.. وإنذارٌ مُبكّرٌ لجغرافية منطقة الشرق الأوسطية .. فاحذروا الأخطار إنه انتحار.. فانعقد الباز على الفور اجتماعاً طارئاً..
لهذا النبأ الفجائي والحدث الخطير فاتفق القادة على إيفاد مبعوث لهم إلى " الدّيكة " والحوار معهم قبل أن يغزوهم في عقر دارهم.. فخفق بجناحيه مبعوث الباز وطار إليهم.. وهبط في رواقهم.. فاجتمعوا عليه وأحاطوه إحاطة دائرية.. فانهالوا عليه بالضرب والشتائم.. من أنت ؟ ومن أين أتيت ؟ ولماذا جئت ؟؟
فقال الباز: اتركوني لشأني لأتحدث إليكم.. أقدمت إليكم ضيفاً وأبارككم لميلاد عهدكم الجديد.. وأنا حاملٌ راية السلام إليكم.. وهنيئاً لكم كيانكم الميمون المبارك ..
وأبلغكم تحيات قادتي لكم وأمدُّ إليكم ورود المحبة والسلام..
اختاروا واحداً من زعمائكم لأتحاور معه حفاظاً للسلم الإقليمي والعالمي فأسكرتهم تلك الكلمات عندئذٍ هبّ أحد الدّيكة وهو أعور مغرور رثّ الهيئة أشعث أغبر الشّكل.. ونفخ بذاته ونادى بصوته الأجشّ..
أنا الزعيم الكبير من بين هذا القوم.. وأنا ملكهم المُبجّل فلا تُفَاوِض أحداً غيري.. وقام آخرٌ وهو أعرج منفوش قال: هؤلاء أغبياءٌ وأنا السياسيّ المخضرم فيهم.. ونهضَ آخر أبله سفيه منفور..
أنا أعظم مَنْ أوجدته الخليقة فوق هذه الأرض.. أنا نظيرك في المباحثات.. وأسرع إليه آخر وهو أجربٌ مكروه.. أنا سيّدُ هؤلاء جميعاً وهم عبيدٌ لي فهم حمقى العقول والقلوب.. لا أحد سواي وسواك في حديث السلم والحرب..
فاختلط الحابل بالنابل في هذه الفوضى العارمة من الهرج والمرج والتّسيب السافر العارم.. بدأ الاقتتال والاحتراب فيما بينهم.. كلّ واحدٍ يدّعي أنه الآمر والناهي والقائد الأوحد.. فانطلق الباز من بينهم محلّقاً بجناحيه إلى الفضاء مزهوّاً بأوسمة النّصر بدبلوماسيته الرّصينة الذّكية..
وأخبر قادته بأنه لا حاجة لشنّ الحرب المكلفة والمثقلة عليهم.. اتركوهم يبيدون بعضهم بعضاً.. انقراضهم أفضل من وجودهم..!!! وتحت الأرض لهم أحسن من فوقها.. وأخذ البوم يطوف بين الخرائب الخاوية وينوح بمواويل الحزن النّاعي...!!!
خليل العابد رجل يبلغ الستين من العمر ، عاش في كنف الورع والزهد والتقى، كان طوال حياته يتحلى بالتسامح والإيثار ، عفيف النَّفس قانعاً ، مخلصاً مع النّاس إلى حد التصوف ، صادقاً مع نفسه ومع الآخرين ، ناصراً للحق ما أمكن ، قليل الكلام ، كثير التَّفكير ، محباً للخير والفضيلة ، كارهاً للشر والرذيلة ، شديد الثقة بنفسه ، معتمداً على الله في سعيه ، لا يتخاذل في المواقف ، يثور على الذُّ ل والهوان ، يرفض المساومة والإذلال ، يهزأ بظواهر الحياة وزخارفها .
كان عائداً من مسجد القرية ، وقد أدَّى صلاة العصر مع ثلَّةٍ من المصلين ، وشعر برعشة تسري في بدنه ، وقد أوعز إلى أهله بأنه راحلٌ في هذا اليوم ، وبينما هو يسبح اسم الله بصوتٍ خفي أغشاه الموت بظله الأسود فخرَّ صعقاً ، فأسرع الأهل والأولاد إليه ، وصبُّوا الماء على وجهه ، وحركوه يميناً وشمالاً فوجدوه جثةً باردة لا روح فيها ، وبدا وجهه أبيضاً كالثلج ، وعيونه شاخصة لا ترف ، وهمدت جوارحه ، وغدا الموت يسجل على جسده شبح الفناء وأسطراً من حزنٍ صامت ، احتشد حول جنازته الأهلون ينحون عليه نواحاً عنيفاً ، وأحضروا طبيباً لتشخيصه ، فأفاد الطبيب بأنَّ قلبه قد توقف عن الخفقان ، وقد فارق جسده عنصر الحياة ..! وانطفأ فيه شعاع الأمل .
انتشر نعيه في كل أطراف المنطقة ، وتسارع الناس إليه من كل جهة ، ليشاركوا في تشييعه إلى مثواه الأخير وقد هيؤوا له السُّدر والأكفان ، واستدعوا أئمَّة المساجد للغسل والصلاة وتطبيق مراسم الدفن .
وفي الصباح أخرجوه من غرفته حيث كان نحيب النِّساء يبكي القلوب، ويمهد لفراق أبدي ..!
وحينما بدأت مراسم الغسل ، أخذ الشيخ يتلو آيات الذكر الحكيم ، ويصب الماء الساخن عليه ورغوة السدر والصابون تملأ زوايا جسده ، وعملية الغسل قائمة على قدمٍ وساق ،يقلب الشيخ ومساعدوه الميِّت يميناً وشمالاً
بهدف استكمال شروط الغسل والطهارة والوضوء، وبغتةً حرَّك الميت \"خليل العابد \"ذراعه الأيمن ، ورفع رأسه
ونظر حوله ، فاندهش الجميع وارتعدوا من هول مارأوا، فمنهم من لاذ بالفرار ،ومنهم من تشبث بالثبات ، فغطوه بالشر اشف واللحاف فاقتادوه إلى سرير غرفته وتحول البكاء إلى فرح غامر بين الأهل والأقرباء والوافدين ، وانقلب المأتم إلى عرس وعيد ..! طلب خليل العابد ماءً بارداً فاسقوه ..، وبدا على محياه الإرهاق من رحلته الطويلة التي أمضاها في عالم الغيب ، وعلى صفحة أسارير وجهه تتزاحم الأسئلة ..!
ثم تحدث عن سفره وما لاقاه من مشاهد لا يمكن أن ينساها أبداً ، وتحدث بنبرة خطابية حماسية شجية وقال : جئتكم برسالة عاجلة من دار الآخرة ياأخوتي وأخواتي ..!
الموت رحمة للإنسان الآخرة ملاذ أمين ،اقتادني رجل من خيرة الرجال جمالاً وأ خلاقاً ومعاملة ً إلى سدرة المنتهى حيث مالا عين رأت ، سمعت مذيعاً يرتل اليوم مرسوم البيان الإلهي الصادر من عرش الله سبحانه بأجمل
صوت وأروع أداء ويقول : لم يحن موعد حضورك ياعبد الله ..إنك متلهف لملاقاتنا ولكن تريّث قليلاً وسنحضرك قبل وقوع القارعة ..!
إنَّ كارثةً ستحل بأمم الأرض جزاء نفاقهم وتورطهم في شهواتهم الجسدية الترابية ، تركوا الرَّحمة والمحبة وساروا في طريق الزَّيغ والضلال ، يعبدون أجسادهم العفنة ، واتَّخذوا المال والمراوغة هدفاً ومأرباً لهم ، يقدِّسون الذباب بكل أجناسه وينبشون بأعشاش البلابل والعنادل ، ويلوذون بالكذب وينبذون الصدق والفضيلة ، وكم سفيهاً تسلَم ذروة المجد ..!وكم عظيما ً ونابغاً قُتل شرَّ قتلة ..! وكم من برئ ٍ نال أشد العقوبات ..!
وكم من باغٍ نال أرفع الدرجات !!!!!!!!
نذير الواقعة يخيِّم شبحه على وجه الأرض ، سفكوا وبغوا وعتوا عتواً كبيراً ، لطخوا وجه الأرض بأحقادهم
ولسوف تزلزل الأرض وتخرج أثقالها ، والشياطين قد صفدت تنوي الهروب من مملكة الأرض ، لأنَّ أحفاد
الطواغيت والأبالسة قد استلموا خلافة الأرض ، إنَّها تنوء تحت حملٍ ثقيل من براكين الشرور ، وأضحت الأرض غابةً \" الحياة للأقوى ، والاندحار للأضعف \" ثمَّ تأوَّه وأطلق زفرةً طويلة محرقة تفصح عن هم كبير
وقلقٍ طاغٍ وألمٍ مستبد ، وأشرق وجهه بنور الله وأسلم الرُّ وح إلى عالم الغيب والشهادة ....!
( شقيّة الشَّقلاوي ) وُلدتْ في يوم عجاج ٍ أسود، وزُفتْ إلى زوجها في يوم ٍ قائظ: فكأنَّ باباً من أبواب الجحيم قد أطلَّ بناره على أهل الأرض. ومات زوجها وهو في سنِّ النضوج والاكتمال في يوم ريحٍ ٍ عاتية .........
وترك ولدين يتيمين صغيرين..... وتسارع أهل الخيرات إلى تقديم الهبات لها ولولديها ...فأَبَتْ وفضَّلتْ العمل الشاقّ على خيرات أصحاب البرِّ والإحسان ِ فآثرت أن تلبس لباس الفلاحين ، وتكدح في الحقل حرثاً وزرعاً وحصادا فَغَدَتْ تحيا حياةً عزيزةً بعيداً عن التوسّل ، وانتظار الصدقات من الأثرياء فمن طباعها أنها لا تكترث بالشكليات ... وقليلا ً جداً تتحدث...وكثيراً تعمل عقيدتها:العمل والثبات على المبدأ...وإذا أنجزت شيئا لا تتباهى بما صَنَعَتْ وتتمتَّع بقدرة أخلاقية عالية ... تحارب الكذب والغشّ والنّميمة. أما علاقاتها الاجتماعية محدودة ٌجداً ومحصورةٌ في نطاق ٍضيّق ... فهو تربّي ولديها، ولها صلة مع نخبة مختارة من محيطها.....
غير أنَّها تكره من يُسمُّوْنَ أدعياء الله في الأرض ... ومرَّة ًبعث أحد الوجهاء شيخ الجامع إليها ليوعظها عسى أن تعود إلى رشدها في الصّلاة والصّيام وقيام الليل ....فجاء إليها الشيخ ونصحها : بأنَّ الله قد منحكِ عافية ًجيدة،ً وسلَّمك بالعقل والنّهى والأعضاء السليمة فتغيّرتْ لونها وأبرقت عيناها فتوجَّهت إلى الشيخ وقالت :انصرف ذلك أحسن لك فإني أحفظ إرشاداتك ظهرا عن قلب وإلا وقعتُكَ في ضيق ٍوحرج .
أريد أن أسألك سؤالاً : الجنين في بطن أمه هل يرتكب ذنباً؟! فقال الشيخ لا...!!
وهل يولد المولود من بطن أمِّه وقد اقترف إثماً ؟؟؟
فأجاب الشيخ بالنفي ...!!
لقد وُلدتُ من بطن أمي ...
فلا توجد خرقة ٌباليةٌ فاستعاروا عند الجيران أكياساً مهترئة فلفوني بأقماط ٍمنها .!!!أمّا بنت أحد وجهاء القرية قد ولدت فلفّوها بأقماط ٍمن حرير وديباج ٍغال ٍثمين، ومهد ٍلؤلؤيّ ٍذهبيّ ولحافٍ من الطّراز الممتاز وَجَاْءَتْها الهدايا الثمينة من ذهبٍ وفضة من كلِّ حد وصوب وقدَّموا لها آيات التبرك ،والدّعاء لها بالصحّة،والمستقبل الورديّ ....!!
أما أنا فكما خبَّرتني أمي .. فلم يبارك بقدومي أحدٌ ... وهمس الجيران خلسة ًفي آذانِ بعضهم بعضاً وقالوا: ( لو كان صبيّاً أفضل ...ولو أنَّ أمَّها عقيم لكانت حالتُهم أحسن ......!! هذه العائلة منحوسة فلا خير يرتجى منها ومن أولادها ... يجب استئصال شأفتها وانقراضها إلى الأبد ... لأنها بذرة ٌفاسدة تفسد الأهل و العشير ...)
اذهب يا شيخ الحمقى إلى الأثرياء والوجهاء ...كفاك تضحك على هؤلاء السذّج توعدهم بجنات تجري من تحتها الأنهار... وعلى حساب أتعابهم تتغذى لحوم الخراف ، والفواكه الطّازجة وشراب الزّنجبيل والعسل ، والصدر العالي في المجالس ...!!...
لقد قلتَ لي أيها الشيخ الماكر بأنَّ الله وهبك صحة ًبدنية ًفمنح لكلبنا قوتين ثاقبتين ، وجسدٍ قويٍّ يفوق قوّتي وصحَّتي ...فهيّا سأضايقك أكثر من هذا ...
فانصرف إلى هولاء البسطاء لتمتص خيراتهم باسم الدين والحق والإخاء .... أو اذهب إلى الأغنياء أصحاب الحول والطول أولئك الذين تمرّغ كرامتهم على غبار أقدامِهم ، وتفتي فتاوى باطلة إرضاءً لمصالحهم. أو انصرف إلى أولياء الأمور تعزف على قيثارتهم لقاء مال ٍدنيء...
فحاشا لله أن ينزل إلى مستواك فالله لغز ٌلم يحلّ بعد ، وطلسمٌ حَيّر الألباب ...!!!
عندئذٍ انسحب الشيخ من حَلْبَةِ الجدال خائفاً يترقّب وهو يتمتم بكلماتٍ مبهمة محيّرة ... ما أصعب إقناع هذه المرأة...!!! وما أشدَّ محاورتها !!!
لماذا أنت أعمى ؟!...
(خميرة الرملاوي) إحدى الفتيات العازبات تتباهى بجمالها الساحر وسلالتها الأرستقراطية .. تجد نفسها ملكة الجمال وذات قامة هيفاء وجاه وشهرة تتجاوز الآفاق .. وتتمتع بالجسد البض، وبشرتها البيضاء وسلالتها الأصيلة ..
طلبها الموظفون من النخبة المتعلمة من ذوي الجمال والأناقة فرفضت وأبت إلا أن تتزوج أحد الأغنياء لأن السعادة تقيم في ديارهم ولأن الكنوز والقصور والمراكب الفاخرة هي تيجان سعادتها ..
وكان أحد التجار الكبار قد تناهى إلى مسمعه اسمها وشهرتها الواسعة فبادر إلى خطبتها وهو الملقب (خرفان خريباتي) يملك شركات كبيرة .. لكنه أعور وبشع المظهر وقصير وأحدب وله عينان صغيرتان وأنف مفلطح وفم واسع وأسنان مكشرة وشفتان غليظتان ..
غير أن جيوبه مليئة بالعملات الوطنية والأجنبية .. ويملك قصراً فخماً ومركباً كبيراً فتوجه (خرفان) إليها لخطبتها بنفسه .. فنظرت إليه (خميرة الرملاوي) بعيون ثاقبة وفاحصة وبكل شوق وإعجاب قالت: تحقق مبتغاي وهذا هو طلبي وحظي في هذه الحياة وشرعت تمدحه بألفاظ منتقاة مزخرفة وتكيل له كل أنواع المديح واسترسلت في حديثها وقالت: أنت لست أعوراً .. الأعور هو ذلك الفقير المتسكع الذي لا يستطيع الحصول على قوت يومه، ليس الجمال بالشكل إنما الجمال جمال المال..
الناجح هو الذكي الألمعي الذي يملك الشركات والبيوت الفخمة والمركب العصري الحديث.. المال يمنح الجمال والمقام العالي والبهاء النفسي والجسدي فأنت أجمل الشباب وأنا أوافق على الزواج وسنحيا حياة سعيدة تحت ظلال القصور وبيارق العز والفخار ..
سنختار أشهى المآكل والمشارب وأجمل المنتزهات السياحية الرائعة والمطاعم الفاخرة ..فتزوج خرفان بخميرة الرملاوي وأقاما حفلة نادرة قل نظيرها ودعيا إلى حفلة عرسهما كبار التجار من أهل بلدتها .. وباركوا لهما بالحياة السعيدة والعيش الرغيد والمستقبل الزاهر .. فاشترى (خرفان) لها سيارة حديثة وعاشا في قصر فخم من أروع القصور ..
فأصبحا مضرب المثل في العيش الرغيد كأنهما عاشقان يعيشان في النعيم والترف والرخاء فكل ملذات الحياة تأتي إليهما مسرعة .. ومصادر السعادة تغدق عليهما المال، فالمال يجلب السعادة والبذخ والترف لهما. وهكذا مرت الأيام والليالي المزينة بالراحة والهناء ..
وظل أهل البلدة يحسدونهما على النعيم المقيم في ديارهما .. ولكن الحياة الرغيدة لا تدوم دائماً وأيام العز معدودات والزمن دول يوم لك ويوم عليك .. فخسر (خرفان) صفقاته التجارية وأصبح خاوي الجيوب، يعتكف في منزله ولا يملك قوت يومه ..
فقالت له زوجته بلهجتها العابسة الهائجة لأول مرة: إن أصدقاءك التجار أذكى منك، نهبوا أموالك ونبذوك فاخرج من البيت وابحث عن عمل لتأمين قوتنا وكفاف يومنا.. مالي أراك مهموماً متشائماً منطوياً منعزلاً؟! لقد غدوت عالة علينا .. اذهب وابحث عن عمل ..
فخرج من البيت مذعوراً خائفاً من أعين الشامتين لخساراته الكبيرة الفاضحة وعاد (خرفان) بعد غروب الشمس إلى منزله صاغراً ذليلاً وطرق الباب ففتحت زوجته الباب بوجه عابس كالح وقالت بلهجة شديدة: لماذا أنت أعمى يا خرفان؟ أجاب خرفان ببرودة أعصاب: عندما تزوجتك كنت الفارس المقدام الذي لا يشق له غبار..
يوم كان لدي مال كنت جميلاً ولست أعوراً واليوم أستحق كل النعوت السلبية الشائنة وهذا فراق بيني وبينك ..
وخرج من البيت حزيناً حائراً تائهاً ولم يعد ..!!
الراعي: (عربيد المهراني)يقود قطعانه إلى المراعي الخصبة في سفح جبل مكتظ بأشجار السنديان والبلوط والصنوبر.. يذهب في الصباح الباكر باحثاً عن طعام لأغنامه تصلّب قوة من خشونة الجبل العتيد.. واتخذ من قمته رمزا للشموخ والكبرياء، فكان يتمتع بشخصيته المستقلة ويرى نفسه حرا طليقا بين أدغال الغابات وقامات الأشجار العالية...
وقد وهبته الطبيعة جمالا جذابا،وصوتا حنونا وفكرا طليقاً من بيئته الجبلية الحرة فهو لم يذهب إلى مدرسة فتلقّى معارفه في مجالس قريته ومن كبار السن الذين جرّبوا الحياة وخاضوا غمراتها..وقد حفظ من المواويل القديمة في الكرّ والفرّ والحب العذري،ومناصرة الضعفاء...
فكان يغني هذه الملاحم البطولية بصوته الشَّجي ،ويلحنها بمزماره الحزين أثناء رعيه للأغنام وكان يتقن من القنص ببندقيته ذات الخمس طلقات فلا يخطئ تسديد الهدف مطلقا يصطاد بها الطرائد من الغزلان والطيور أمثال (الحجل) واتخذ من لدنه أقوالا وشعارات يريد العمل بها في منهج حياته...
فمن أقواله:( قائل الحق يُطرد من سبع قرى...)، ( الدماء البريئة تترك بصماتها على حصباء الوادي..) (الفقر أمرُّ من الموت..).. (مواعظ السعداء شوكة دامية في قلوب التعساء..) (ومن لم يشارك الفجر في بزوغه كان من أبناء الليل) (وتلك العصا من العصيّة) (ولم تلد الحية إلا الحيّة)(وابن الشرف الموروث يبقى أصيلا وبعض البهائم أخلص من بني آدم متملّق...!!!).
كان للعربيد المهراني كلبٌ نشيط وشجاع يطعمه مما يأكل وقد سمّاه(الحارس) واتخذه خليلاً لأنه وجد منه منافع جمّة... فكم من مرّات أنقذ الأغنام من بين مخالب وأنياب الذئاب المفترسة والوحوش الكاسرة،وأنقذ صاحبه من أعدائه.. فبنى له بيتا من طين وأعواد الأشجار يركن إليه (الحارس) أثناء استراحته وأراد أن يجعله شريكا في أغنامه مشيرا إليه بأنَّ نصف القطعان من حصته فازدادت وكَُثرتْ أغنامه..
فأصبح (عربيد المهراني) مع شريكه (الحارس) مضرباً للمثل في تلك الناحية من الغنى والترف والنعيم..والحيوانات تهرم بسرعة فأعمارهم قصيرةٌ وخاصّةً الكلاب،ولما هرم الهزبر أدرك عربيد بأن موت شريكه قد دنا... فرآه نائما على ظهره وأنفاسه تتصاعد بسرعة وصدره يرتفع علّوّا وهبوطا وعيناه تدمعان لا تفارق صاحبه وخرجت الروح تاركا الجسد لتلك الغابات التي كانت مسرحا لجولاته وصولاته..
فوقف عربيد أمام جنازته مهيبا واحتراما وعقد العزم والتصميم أن يشيّع جنازته كما يدفن الميت في الغسل وتكفينه والصلاة عليه وَدفنهِ في مقبرة القرية.
فشرع(عربيد) يقيم مراسم الدفن.....وصلّى عليه مع لفيف من خلاّنه ووري الثرى ثم ودّع قبره بدموعٍ حارّة... ولمَّا كان عمل عربيد مخالفا للأعراف الدينية والاجتماعية... رفع مختار القرية دعوى على عربيد بأن عمله هذا يخالف الدين والعرف الاجتماعي.. والمنطق السليم فكان في تلك الناحية قاضٍ يفقد توازنه أمام الإغراءات المادية..
فأمرت السلطة القضائية بإلقاء القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة فَسِيقَ إلى القضاء ليتلقى جزاءه على ما سوّلته له نفسه. فسأله القاضي لماذا أقدمتَ على فعلك الشاذّ والطائش والجنوني..؟؟؟ فأجاب (عربيد):إنّ (الحارس) أوصى قبل أن يقضي نحبه بعشرة رؤوس أغنام إلى حضرة القاضي والوصية في القانون يُعمل بها... فهدأ القاضي واستبشر خيرا وقال: الفاتحة على روح المرحوم،وطيّب الله ثراه وأسكنه فسيح جنّاته، إنا لله وإنّا إليه راجعون وكل نفسٍ ذائقة الموت...
في شمال وطننا العزيز في الستينات من القرن الماضي حيث تنتشر جناتٌ من بساتين كروم الأعناب والزيتون والجوز واللوز والرمان والكرز العسلي وغيرها من الثمار اليانعة والفواكه الناضجة والمزروعات المكللة بتيجان ذهبية لسنابل القمح والشعير وبكلّ أنواع المزروعات والمحصولات المنتجة... والفلاحون النشيطون يذهبون إلى الحصاد بهمةٍ عاليةٍ وبهجةٍ عاريةٍ يقطفون ثمار جهودهم بشوقٍ لاهبٍ لا يتعبون ولا يملّون...!!!
في إحدى تلك القرى الجبلية كان يسكن فيها رجلٌ قصيرٌ نحيفٌ هزيلٌ مع زوجته وأولاده الصغار ويُدعى كوشكار... وهؤلاء القصار والنحاف وأصحاب الرؤوس الصغيرة المستديرة أحياناً يتّصفون بروحٍ باطنيّةٍ خفيّةٍ تعجز عنها ذوو الهياكل العظيمة الضّخمة والسّواعد المشدودة... كان لكوشكار زوجة متناقضة لصفاته الشكليّة والداخليّة والنّفسية، وكأنَّ الزّواج قدر للحفاظ على التّوازن في حرم الأسرة الصغيرة...
كوشكار حينما يكون مسروراً فزوجته تكون حزينةً باكيةً... وحينما يكون مريضاً زوجته تكون في صحّةٍ وعافيةٍ... وإذا تحدّث كوشكار بالحكم وتجارب الحياة غضبت وتعكّر مزاجها... وإذا تكلم عن مشارق الأرض ردّت بالعكس عن مغاربها... فالأمزجة متنافرة ومتباعدة وحتى في المآكل والموائد لا يتفقان في اختيار الطّبخ...
ذات يوم دخل من الشبّاك طيرٌ مزركشُ الألوان جميلُ المنظر... قالت امرأته: إنه نحسٌ وشؤمٌ... وقال كوشكار: إنه حظٌّ عظيمٌ ورمزٌ للخير وانقلابٌ لحياتنا سوف نعيش عيشاً سعيداً لهذا الزّائر الطارئ الذي طاف كلّ البيوت فاختار بيتنا... أهلاً وسهلاً سنطعمه ونسقيه ونحميه إنه ضيفٌ كريمٌ مُسلّي وآيةٌ في الجمال والبهاء...
كان كوشكار صاحب مهنة... كان إسكافيّاً متقناً يصلّح الأحذية... يخرج من البيت صباحاً قاصداً دكانه... وفي ذلك الصباح عندما خرج كانت امرأته تدعو له بعدم الرّجوع والدّعاء له بالويل والثّبور تكرهه ولا معنى لكرهها له... وهذا الطائر المقيم في بيتها يردّد قولها أي يقلّدها بدعائها... فكّرت المرأة بهذا الطائر العجيب المقلّد حيث يبوح بسرِّ كرهها لكوشكار حينئذٍ ستتعرّض حياتها للخطر إذا علم كوشكار بأدعيتها الحُبلى بالكره والحقد... فحارت في أمر هذا الطائر ماذا تفعل به فسألت عن طير آخر تستبدله فقيل لها إنّ لشيخ القرية طيراً مثله، فأخذت الطّير وتوجّهت إلى بيت الشّيخ فطلبت منه استبدال الطّير فرضي الشّيخ وقال لا مانع لدي... فأتَتْ بطير الشّيخ... ولمَّا جاء الصّباح تهيأ كوشكار بالخروج والتوجّه إلى دكانه وعند مغادرة منزله وابتعاده مسافة قصيرة، وإذا بامرأته تدعو له بالهلاك وإذا بالطائر يغرّد ويقول: آمين.. آمين.. آمين... ففي اللحظة نفسها فرحت وخافت... فَرِحَتْ بتلبية دعائها آمين وحزنها على نفسها إذا سمع كوشكار... فأدركَتْ كأنَّ جاسوساً مقيماً في بيتها يراقبها، وكان كوشكار بين فترة وأخرى يُسافر إلى مدينة حلب ليشتري ما يلزم لدكانه من مستلزمات وكان السفر طويلاً ومتعباً بالباصات القديمة يذهب المسافرون في الصّباح الباكر ويعودون مساءً... الركّاب في الباص يدخّنون ويأكلون ويشربون ويتحدّثون عن أساطير وخزعبلات وهمية ما هبَّ ودبّ... وعند العودة وفي منتصف الطريق حان وقت العصر فخاطب أحد الركاب السائق: قف هنا في هذا المرج المخملي الجميل لنؤدي صلاة العصر جماعياً... فوقف الباص ونزلوا واتّجهوا إلى البساط السندسيّ الأخضر فقال أحدهم وهو سمين وله رأس كبير ويلبس طربوشاً أحمر: مَنْ يكون إماماً لنا ؟؟؟ لأنّ صلاة الجماعة لها ثواب كبير ومضاعف، فاختاروا كوشكار إماماً لهم وقالوا بأنه يحفظ شيئاً من القرآن الكريم... وقدّموا كوشكار إماماً لهم... وقال صاحب الطربوش لا يجوز للإمام أن يكون حاسر الرّأس... هاك طربوشي هذا وضعه في رأسك ولمّا كان رأس كوشكار صغيراً فغطّى الطربوش كلّ رأسه ووصل إلى عنقه وتقدّم إلى الإمامة والمصلّون خلفه وعند السّجود يخرج الطربوش من رأسه يتقدّم كوشكار بركبتيه ليدخل رأسه في الطربوش وكلّما تقدّم كوشكار أثناء السّجدة يفعل المصلّون مثله ولا يفهمون لماذا يفعل كوشكار، فأنهى كوشكار الصّلاة بالشهادتين والصلوات الإبراهيميّة فارتاح من مصيبة الطربوش الأحمر الذي ابتلع رأسه كلّه... وذات مساء كان كوشكار نائماً ورأى حلماً بأنَّ عفريتاً من الجن يدقُّ باب داره فاستيقظ فجأةً خائفاً فزعاً ممّا رأى وعاد إلى النّوم وعند بزوغ الخيوط الأولى من الفجر سمع بقوّةٍ بطارق يطرق الباب كاد أن يكسر الباب فاستيقظ بسرعةٍ مضطربةٍ من الطّارق ؟؟؟ قال: افتح الباب وإلا قتلناك... فأدرك كوشكار بأنهم زبانية الفجر" المكتب الثاني " رجال الأمن... فارتعب كوشكار هلعاً وجزعاً وفتح الباب ووجّهوا على رأسه مسدساتهم وبواريدهم وقيّدوه بالأغلال وساقوه بلباس النوم إلى سيّارة الجيب وقالوا له إنّك مطلوب لدى رئيس المكتب الثاني للتحقيق معك في حلب فخاطَبَتهُ امرأتهُ وهي فرحة بأنَّ كوشكار سيذهب إلى حلب بسيارة حكوميّة جديدة وخصوصية بدون دفع الأجرة وأَوْصَتْهُ بأن يأتي لها عند العودة بمشط جديد لتسريح شعرها ومرآة جميلة وزيت شعر معطر وعلبة حلاوة لا تنسى يا كوشكار وعند التّحقيق لدى رئيس الأمن في حلب... كوشكار لا يعرف اللغة العربيّة فقال: أنا لا أعرف العربيّة فأتى رئيس الأمن بترجمان ليترجم أقواله فقال رئيس التّحقيق: يا كوشكار أنت متّهم بالخيانة الوطنيّة باقتطاع جزء من الأراضي السوريّة لصالح الأعداء وأنت تعمل لتقويض أركان الدولة السورية فإننا نحكم عليك بالموت فبماذا تجيب ؟ فقال كوشكار: أنت تراني جيداً، أنا صغير الحجم وصغير الرّأس ونحيف وهزيل وكبير السن وأنا في حياتي لم أتعلّم ولم أدخل إلى المدرسة، لم أرتكب ذنباً في حياتي، أسعى في سبيل معيشتي لكي لا أسأل الناس يا سيادة المحقق إنَّ عقل امرأتي وعقل من رفع التّقرير إليك وعقلك أنت واحد لا فرق بين عقولكم مثلي أنا لا أستطيع أن أزحزح نملةً وليست دولةً...!!! اقطعوا رأسي بدلاً من الانحناء إليكم... فأدرك رئيس التّحقيق بأنَّ الذي اتّهمه هو متملّق كذّاب فاهتزّت نخوته لصراحته وصدقه وشجاعته وأمر رجاله بإعادته إلى بيته سالماً...
*****
سرخوش أحد العجائز الكبار، وهو ابن الثّمانين عاماً، فَقَدَ شريكته في الحياة طوال أعوام، وأولاده هاجروا الوطن منذ سنين عجاف، فبقي يعاني غربة الغربة، سجيناً في منزله يخدم نفسه بنفسه.. فهو هرمٌ قلقٌ مهمومٌ لا يجدُ خليلاً ليبثَّ شكواه له، يتذكّر أيام طفولته حينما كان في حضن أبويه وأسرته ولمَّا بلغ أشدّه كان يرعى الأغنام ويعمل بفلاحة أرضه وغرس أشجار الزّيتون وكروم العنب والرّمان والجوز واللوز.. ويرجع بذاكرته إلى الماضي البعيد يستعيد يوم عرسه واقترانه بقرينته وانجاب الأولاد ورعايتهم حتى كبروا ثمَّ اضطرتهم الظّروف البربريّة إلى المغادرة إلى ما وراء حدود الوطن.. ويتذكر مرض زوجته ورعايته لها وكيف فارقت الحياة ودفنها في مقابر الأقرباء ؟!! كلّ هذه الأيام الأليمة لا تفارق خياله في اليقظة وأحلام الليل.. فأدركَ أنَّ البكاء على الماضي لا نفع فيه يجعله كئيباً حزيناً هزيلاً يفقد توازنه الصحّي النّفسي، فالأحسن أن يقصد أحد المقاهي ليريح باله من الكوابيس التي تلاحقه ليلاً ونهاراً، وسرّاً وجهاراً فذهب إلى مقهى يزوره الزّائرون من كبار السنّ والمشرّدين والمتسكّعين.. ونخبة من الأدباء والشعراء ذوي أمزجة متباينة..
سرخوش بدأ يحضر في المقهى كلّ يوم يتّخذ لنفسه طاولةً.. ويجلس وحيداً يراقب الحضور عن قرب.. ينظر إلى جمهور المقهى بعيونٍ فاحصةٍ ويرى أُناساً مثلهُ تعاسةً وشقاءً.. هناك الأبله.. والمريض نفسيّاً.. والمعوقين نفسياً وجسديّاً.. ولفيف من الشباب الذين يتبادلون الأحاديث الغراميّة عن العشق والهيام.. تفرّس سرخوش بهذه النّماذج المتنوّعة فأتتهُ أخيلةٌ بأنَّ الحياة لا تموت وتبلع الضعفاء بلا رحمةٍ، وفكّر بأن يتزوّج ليتسلّى مع امرأته ويمضي ما تبقّى من عمره معها للأنس والمؤانسة والخدمة الذّاتيّة.. وبينما هو في زحمة هذه الهواجس كان يراقبه شابٌّ في ربيع الشّباب وهو أحد النّدلاء في المقهى يقدّم للحاضرين الضّيافة على حسب طلباتهم..
فذهب إلى سرخوش وسلّم عليه بلطفٍ وهدوءٍ يا عمّ.. أنتَ تحضر إلى هذا المقهى كلّ يوم.. يبدو عليك الهموم والأحزان.. هل لي أنْ أساعدك إذا أفصحتَ لي عن معاناتك وآلامك.. فابتهجَ سرخوش لكلامه وقال في نفسه: إنّ هذا الشّاب فحصني جيداً وشاركني في همّي يا له من شابٍّ لطيفٍ !!!
فقال سرخوش.. إنني أعيش وحيداً، ماتت زوجتي منذ سنوات، أعيش منفرداً تائهاً ولا أطيق العزلة فأنا أحيا في جحيم الوحدة، فأبحث عن امرأةٍ لتكون زوجةً لي.. فقال الشاب.. طلبك مُستجاب ومشكلتك محلولة.. سآتيكَ بزوجةٍ شابّةٍ جميلةٍ تدفع كلّ آلامك وهمومك.. سآتيكَ الآن بها وتأخذها معك إلى دياركَ.. وتابع الشاب قائلاً: يا عم هناك شرطٌ واحدٌ عليكَ أن تدفع مئة ألف ليرة سورية ثمناً لمهرها.. فقبل سرخوش بذلك وقال: المبلغ جاهز في جيبي.. احضرْ لي العروس سأدفع لك المبلغ الذي تريده.. فغادر الشاب المقهى مسرعاً فرحاً مسروراً وتوجّه إلى بيته فقال لامرأته:
أبشري بعث الله لنا رزقاً كريماً مئة ألف..
هناك في المقهى شيخٌ كبيرٌ أحمقٌ يدفع لي مئة ألف مقابل أن تذهبي إليه.. تزيّني والبسي أحسن اللباس فاجلسي معه فإنه يناولني مئة ألف وسيأخذكِ إلى مركز انطلاق الصّالونات في المنطقة الفلانيّة.. وأنتظركِ في الموعد المذكور القريب من تواليت النّساء.. وعند وصولكِ هناك احتجّي بقضاء حاجة.. فأنا أكون في سيارة خصوصية بالجانب الشمالي من التواليت.. فتأتي إليَّ سنظفر بحيلتنا وربحنا مئة ألف ليرة.. فجهّزت نفسها بأحسن الألبسة.. وعطّرت وجهها بأروع أنواع العطور.. وتوجّها إلى المقهى وقال الشّاب: هذه هي امرأتك فهات مئة ألف.. فرح سرخوش فرحاً سعيداَ فغدا شابّاً في ريعان الشّباب.. نسي ماضيه وأيّامه السّود.. فتحوّلت هذه اللحظات إلى أيّام عرسه في قريته النائية فباركه الشّاب بعروسه البهيّة وودّعهُ.. وذهب إلى موعده ينتظر مجيئهما.. فأخذ سرخوش المرأة وقال في نفسه: لا أريد أن أذهب إلى مركز انطلاق الصّالونات ظفرتُ بهذه الحسناء أستأجر سيارة خصوصيّة بعشرة آلاف لأصل مسرعاً إلى قريتي التي تقع على سفح جبل بين بساتين الزّيتون وكروم العنب.. فأتّخذ طريقه صوب قريته.. والشّاب لم يطق صبراً في مكان موعده.. !!! فأصبح قلقاً مرتبكاً.. يراقب كلّ سيارة تأتي إلى مركز الانطلاق.. فظلّ ينتظر ساعات حتى حلول المساء فقطع أمله بأنَّ امرأته اُختطفت إلى مكانٍ مجهولٍ فعاد إلى بيته يائساً مخذولاً خجولاً.. سأله أولاده أين ماما يا بابا ؟؟!!! فبكى الشّاب بكاءً شديداً وأخذ يلطم وجهه فأحسَّ به جيرانه وأهله فأباح بسرّه وبما فعله.. فسألوه ما اسمه واسم قريته.. أجاب بإذلالٍ: لا أعرف، فذهب الأهل إلى أحد المحامين الشّرفاء وأفشوا سرّه وملف الواقعة من أوّله إلى آخره.. فقال المحامي: لا جدوى من العثور عليه.. هذا ثمن جشع وخداع ابنكم عديم الشّرف.. والمحتال يموت همّاً وغمّاً قبل أجله بالاحتيال... !!!
الراعي: (عربيد المهراني ) يقود قطعانه إلى المراعي الخصبة في سفح جبلٍ مكتظٍّ بأشجار السنديان والبلوط والصنوبر.. يذهب في الصباح الباكر باحثاً عن طعام لأغنامه، تصلّب قوّة من خشونة الجبل العتيد.. واتخذ من قمته رمزاً للشموخ والكبرياء، فكان يتمتع بشخصيته المستقلة ويرى نفسه حراً طليقاً بين أدغال الغابات وقامات الأشجار العالية.. وقد وهبته الطبيعة جمالاً جذاباً، وصوتاً حنوناً وفكراً طليقاً من بيئته الجبلية الحرة فهو لم يذهب إلى مدرسة فتلقى معارفه في مجالس قريته ومن كبار السن الذين جرّبوا الحياة وخاضوا غمراتها.. وقد حفظ من المواويل القديمة في الكرّ والفرّ والحب العذري.. ومناصرة الضعفاء.. فكان يغنّي هذه الملاحم البطولية بصوته الشجي ويلحّنها بمزماره الحزين أثناء رعيه للأغنام وكان يتقن فنّ القنص ببندقيته ذات الطلقات الخمس فلا يخطئ تسديد الهدف مطلقاً يصطاد بها الطرائد من الغزلان والطيور أمثال " الحجل " واتخذ من لدنه أقوالاً وشعارات يريد العمل بها في منهج حياته.. فمن أقواله:(قائل الحق يُطرد من سبع قرى)،(الدماء البريئة تترك بصماتها على حصباء الوادي)،( الفقر أمرُّ من الموت ) ( مواعظ السعداء شوكة دامية في قلوب التعساء )،( ومن لم يشارك الفجر في بزوغه كان من أبناء الليل )،( وتلك العصا من العصيّة )،( لا تلد الحيّة إلا الحيّة )،( وابن الشّرف الموروث يبقى أصيلاً )، ( وبعض البهائم أخلص من بني آدم متملّق )..!!!
كان للعربيد المهراني كلبٌ نشيط وشجاع يطعمه مما يأكل وقد سمّاه " الحارس " واتخذه خليلاً لأنه وجد منه منافع جمّة.. فكم من مرات أنقذ الأغنام من بين مخالب وأنياب الذئاب المفترسة والوحوش الكاسرة، وأنقذ صاحبه من أعدائه!! فبنى له بيتاً من طين وأعواد الأشجار يركن إليه " الحارس " أثناء استراحته، وأراد أن يجعله شريكاً في أغنامه مشيراً إليه بأنَّ نصف القطعان من حصّته وَكَثُرَتْ أغنامه.. فأصبح (عربيد المهراني ) مع شريكه " الحارس " مضرباً للمثل في تلك الناحية من الرّخاء والترف ..!!! والحيوانات تهرم بسرعة فأعمارها قصيرة وخاصّة الكلاب، ولما هرم الحارس أدرك عربيد بأن موت شريكه قد دنا.. فرآه نائماً على ظهره وأنفاسه تتصاعد بسرعة وصدره يرتفع علواً وهبوطاً وعيناه تدمعان لا تفارق صاحبه، وخرجت الروح تاركةً الجسد لتلك الغابات التي كانت مسرحاً لجولاته وصولاته.. فوقف عربيد أمام جنازته متهيباً وعقد العزم أن يشيّع جنازته كما يدفن الميت في الفسل وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه في مقبرة القرية. فشرع (عربيد ) يقيم مراسيم الدفن.. وصلى عليه مع لفيف من خلاّنه ووري الثَّرى، ثمّ ودّع قبره بعيون دامعة.. ولمّا كان عمل عربيد مخالفاً للأعراف الدينية والاجتماعية.. رفع مختار القرية دعوى على عربيد بأن عمله هذا يخالف الدين والعرف الاجتماعي فكان في تلك الناحية قاضٍ يفقد توازنه أمام الإغراءات الدنيوية.. فأمرت السلطة القضائية بإلقاء القبض عليه وتقديمه إلى المحاكمة.. سِيقَ إلى القضاء ليتلقّى جزاءه على ما سوّلته له نفسه.
فسأله القاضي: لماذا أقْدَمتَ على فعلك الشّاذ والطّائش؟؟؟
فأجاب عربيد: إنّ حارسي أوصى- قبل أن يقضي نحبه – بعشرة رؤوس أغنام إلى حضرة القاضي، والوصية في القانون يُعمل بها.. فهدأ القاضي واستبشر خيراً وقال: الفاتحة على روح المرحوم، إنا لله وإنا إليه راجعون ...!!!
عظّم الله أجركم
تتطور الحياة الزوجية وسط جملة من الظروف في غاية التعقيد والتشابك .. تتعرض لرجات عنيفـة مـن طغيان المادة على الجانب الروحي، والقانون الحيـاتي المبني على التوازن يدعو إلى الجانبين.. فإن طفح الكيل بينهما شرع دود البلى في جسد الأسرة، وعـشـش أمراضـاً وأوبئـة تنـذر بالخطر الماحق.
فلسفة الاختيار للزوج قد تكون مقهورة تحت ضغط اقتصادي أو اجتماعي أو معوق نفسي أو عضلي.. ويختـار شريكة حياته تحت وطأة جانب من هذه الجوانب.. ويتحول القفص الزوجي المزركش بألوان زاهيـة بـريش الطيـور إلى سجن مظلم قد فر منه الجمال والدفء والحنان..
قد تجمعهما وسادة مشتركة ، ويبعدهما قلبـان متنافران كتناقض الخير والشر، والليل والنهار فيزول التفاهم الزوجي. ويبقى الشقاء قائمـاً لأتفه الأسباب طاغياً.. مستبداً.. وهكـذا يمضيان عمـرا شـقيا.. وتصبح العلاقة الزوجية حبراً على ورق تربط بينهما وثيقـة الـزواج في المحكمة فقط فيصبح كل واحد على الآخر حملا ثقيلاً فتحمل شجرة الأسرة الخل والعلقم (فالأولاد) هم ضحايا شقائهما.. وتضيع الأسرة في متاهـات مـن الغربة والعزلة الموحشة وتسقط في غور واد سحيق من الجهالة والضياع..
خلقت المرأة ، وولدت معهـا أنوثتها .. فتركيبها الديموغرافي والبيولوجي منـذ النشأة الأولى تميـل إلى العاطفة والهوى إلى الجمال والمظهر الخارجي إلى الرشاقة والانبهار.. واللفظ الجميل والكلمة المعسولة.. والدستور السماوي عوضها بالزواج حفاظاً لقانون التوازن في الخلـق والتكوين . . (هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن) فالمرأة ريحانة القلب.. وهي قيثارة حب إن أحسن الرجـل العـزف عليها تمالكها.. وإن سقاها بماء الدفء والعطف والحنـان ترعرعت بقامة هيفاء.. ورأس يتسامى سنابلاً وزنجبيلاً.. فالتمازج الروحي قبل التلاحم الجسدي.. فالمرأة نسمات دافئة من العواطف إن تـدارك الرجـل الـدخول إلى محراب عالمها الرومانسي فقد ظفر بها وكون أسرة سعيدة.. تملأ السعادة عش الزوجيـة مـسكاً ممزوجاً بنكهـة البهجة والحبور.. ويحبـو الأولاد نحـو طلائع الضياء.. فالسعادة موطنها الأول عرش القلوب..
في عصرنا الراهن وما رافقه مـن تقـدم ملحوظ في المجال المادي فأضحى المـال هـدفاً تشد الرحال إليـه ، فوقعت الزوجة في شباكه.. وبدأت تنظر إلى زوجها بمنظـار مادي صرف.. تريد المزيد غير مكترثة بطاقات زوجها المسكين.. فغدت الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق.. يعصف بها إعصار الجفاء والهجران والفرقان ويليه الطلاق الغاضب الذي لا مناص منه وتتمزق الأسرة وتتهاوى في أزقة التشرد والحرمان.. مشكلة مستعصية غير قابلة للحل تترك خلفهـا غـابـةً من عوسج الجراح والآلام...
إن النظرة الضيقة ، والمتعة الآنية المؤقتة، والتقوقع الملذات الذاتية والرؤية السطحية المبتذلـة تنـذر بنـذير الشؤم والتصدع في هيكـل أركـان الأسـرة.. والمراجعـة الدقيقة لأخطاء الماضي.. والتداوي بدمع الطيور وأفراخهـا تطهيراً وتكفيراً للتجاوزات الخاطئة.. تعيـد للأسـرة كيانهـا وسعادتها ومجدها المؤثل ..! ما أسعد الزوج الذي يستقبل بالبسمة البريئة النقية..!!
وما أروع الزوجة التي تنهال عليها بريق ألفاظ ذهبية عذبة.. كقطرات الندى تنسكب على ثغـور الـورود عنـد طلائع تباشير الصباح..!!
ما أسعد الأسرة التي تتحمم بماء الورد والياسمين عندما تنـدغم الروحان، ويمتزج الجسدان عبر التفاهم المدني الحضاري الراقي في أسلوبه.. والمعطـر بـشذى
الاندماج الزوجي، والعابق بندي الأمل والإشراق الروحي تحت ظلال وارفٍ مـن نسمات السعادة الرخيّة.. تطلـق الأسرة مـن عـشها ـ كـل حـينٍ ـ بلابـل الغـد ، وعصافير الأمل..
إن التطابق الروحي والتمازج الجسدي في جوانبـه المتعـددة مـن نفـسيةٍ وثقافيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيـة هـو المستقيم الموصل إلى العش الزوجي الناجح..
كانت الحرب مشبوبة اللظى، مندلعة الأوار بين قبيلتين متخاصمتين "عبس" و "ذبيـان" والقبائـل تتـصايح بالوعيد والثأر وتسخر آلات الحرب الضروسة وتقذف بهـا في أتون الوغى ورؤساء القبائـل وقـادة جحافلها يرفعـون عقائرهم مهددين بأنهم سوف يسحقون أعـداءهم سحقاً ،
ويجعلونهم غثاء أحوى..
ويتمنون أن يستحيلوا أديمهـا إلى خـراب بلقـع ، ويتلفتون حولهم في واحـداً يـدعوا
ثيرة فلا يجدون -إلى السلم والتـواد والتراحم.. في غضون تلك الحقبـة التاريخية الهامة واليأس يخترم النفوس ويستل عوامل الأمل المشرق في حيـاة وادعـة.. في وسـط ذلـك الاضطراب والضجيج والعراك انطلق صوت يجلجل في الآفـاق يـدوي أصقاع العروبة بنداء مألوف رخيم قد اشرأبت نفسه حـب السلم وكره الحرب والشر فـاده مـا كـان بين قبيلتين مـن سروات القبائل العربية آنذاك من حرب مستمرة متصلة لا تنقطع أوارها هي حرب داحس والغبراء كادت القبيلتان أن تتفانيا فرفع شاعر السلم (زهير) صـوته مـدوياً في جنبات الجزيرة العربيـة يـدعو الناس إلى نبـذ القتال والاعتصام بالسلم وتلبية نداء العقل والمنطق :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقـتم وما هو عنها بالحديث المـرجم
متى تبعثوهـا تبعثوهـا ذميمـة وتـضر إذا ضـريتموها فتـضرم
فتعـركـهـم عـراك الرحى بثقالهـا وتلقـح كـشافاً ثم تحمـل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشـكام كلهم كأحمر عـاد ثم ترضـع فـتفطم
ثم ينتقـل زهـير إلى الغـرض الأصـيـل وهـو مـدح السيدين فيشكر لهما جميل سعيهما ذاكـراً مـا ترتب على عملهما من حقن للدماء، وقدماه من تضحية مادية مشكورة لم يدفعهما إلى تقديمهما سـوى حبهما للخير وإيثارهما للسلم..
سعى ساعياً غيظ بـن مـرة بعـدما تبذل مـا بـيـن العـشيرة بالـدم
أقسمت بالبيت الذي طاف حولـه رجال بنوه مـن قـريش وجـرهم
يمينـاُ لـنعم السيدان وجـدتما على كل حال من سحيل ومبرم
ندار كتما عبـساً وذبيـان بعـدما تفانوا ودقوا بينهم عطـر منـشم
ثم ينتقل زهير إلى إطلاق الحكم والحكمة هي بنـت التجربة تدل على خبرة طويلـة بـأحوال الناس وشـؤونهم وابتغى من ورائها دستوراً يعمل به من شاء أن يعيش موفور الكرامة، عزيز الجانب.
ومـن لـم يـصانع في أمـور كـثيرة يضرس بأنيـاب ويوطـأ بمنـسم
ومـن يـك ذا فـضـل فيبخـل بفـضله على قومـه يـستغن عنـه ويـذمم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفـره ومـن لا يـتـق الـشتـم يـشتم
ومـن لا يـزد عـن حوضـه بـسلاحه يهـدم ومـن لا يظلـم النـاس يظلـم
ومـن يعـص أطـراف الزجـاج فإنـه يطيـع العـوالي ركبـت كـل لـهـذم
ومن يغترب يحـسـب عـدواً صـديقه ومـن لا يـكـــرم نـفــسه لا يكـــرم
فزهير على حصافة عقله الكبير وثقوب فكـره الـنير يرسم للناس المثل الأعلى للخلق الكريم ، وحسن المعاملة فهو الرجل المثالي والأسـوة الحسنة فهـو بيت الحكمة ، وأروع شعر ينضح بالحكمة قوله :
وهل ينبت الخطي إلى وشيجه وتغـــرس إلا في منابتـها النخل
وسيدنا عمر الفاروق كان يعجبه البيت التالي لزهير :
فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء.
فهو حكيم بأوسع معانيه، وظهر ذلك في تصرفه في كل ما يصدر من عقله.. والحكمة البليغة في آرائه الصائبة. ويذكر الموت، ويتحدث عن اغتياله للنفوس، وإنه يخبط كالناقة العشواء:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطى يعمر فيهرم
وإذا أمعنا النظر في حكمه فقـد نـشأ في بيئة هيأتـه هذه التهيئـة وكـان لأستاذيه العظيمين أوس بن حجر ، وبشهامة بن الغدير أثر عظيم في تنميـة هـذه الناحيـة عنـده وهما اللذان عركا الدهر، وجلبا أشطره فإنه يود من صميم قلبـه لـو حـل التـراحم والتـواد والتآخي محـل التناقض والتناحر، ولذلك نراه حكيماً معلمـاً يـريهـم فضيلة الجـود وعزة النفس، وعمل الخير.
إن الشعراء في الأمم المتمدنة يقومون بما يقـوم بـه الفلاسفة والحكماء في الأمم المتحضرة يرسمون المثـل الأعلى، ويفتحون أعين الناس لإدراك ما حولهم من شؤون الحياة ونقدها وكذلك فعل الشعراء الجاهليون وكأن إمامهم وفارس حلبتهم في هذا المضمار شـاعرنا (زهـيـر بـن أبي سلمی) مما يدل على صـفاء أذهانهم، وصـدق نوايـاهـم ونظرهم وما أروع ما يقوله في مزج المدح بالحكمة :
لو كان يقعد فوق النجـم مـن كـرم قـوم بـأولهم أو مجـدهم قعـدوا
قوم أبـوهـم سـنـان حـيـن تنـسبهم طابوا وطـاب مـن الأولاد مـا ولـدوا
إنــس إذا أمنـوا جـن إذا فزعـوا لا ينزع الله عنهم مالـه حـسدوا
فالغرض من الأبيات يريد زهير أن يصرفهم عما هم فيه من ضروب الشنآن التي لا تنقضي، والدماء التي لا تريد أن تجف.
{{منها خلقناكم وفيهـا نعيدكم ومنـهـا نـخـرجكـم تـارة أخرى}}.
أيها الموت الباسط جناحيه مشرق الكون ومغربه.. ، والمتجاوز حدود الدول والأقاليم إلى دار القرار .. تنحني هامات القادة والأحرار أمام هيبتك وجبروتك تنقذ كل كائن آدمي من عذاب الجسم والنفس..، ومن بين مخالب الداء ،ووحش العوز والمسكنة يهابك الأغنياء والموسرون، وأولو القصور، ويرحب بك القانعون الراضون..
أنت أيها الحكيم سيف العدل في عاصمة الكـون ، وأنت الميزان الدقيق الثابت للحفاظ على التوازن البشري..
تمنح تأشيرة السفر لمن تشاء إلى وطـن مجهـول محفوف بالأخطار أو مبـشـر بـالنعيم والحبـور.. أنـت أيهـا المرسـل (جلاد الله) في هذه البطحـاء تـذيق الإنسان علقـم الفنـاء وتطوي صفحة البقاء فأنت المنجز لنواميس التغيير تطـارد السأم والضجر واليأس، وتفتح صفحة جديدة في حياة الإنسان كلما وجدت التبرم جاثماً على صدره.. أنت الزائر المرعب، والمداهم المخيف في غسق الليـل تتسلل في زحمة الظلام، وترفرف بجناحيـك فـوق مـضاجع النـاس.. وبنفختك القاضية تطفئ سراج الحيـاة في عيـون الـصغار والكبار.. أنـت أنـت أيهـا القـرن والنـد المخاصـم تتـصف بالعدل الرصين، والناس في شرعك سيل إلى عنصر التراب عائدون إلى العجينة الأولى.. أيها القادم من أرشيف الأسرار من عرش المهيمن الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر سبحانه.. أنت أيها المبعوث تنزع الأرواح، وترسلها إلى ما وراء الأفلاك والمجرات إلى مملكة الشمس الغاربة.. كنتُ على علم بزيارتك يا حضرة الموت العتيد زرت أبي في ليلة ثلجية ثائرة هائجة حيث كان الظلام يحتضر والعاصفة تـدك أركـان البيـت دكـا دكـاً.. والسماء تطلـق زمجـرة الرعـود والبروق والكائنات قد اختبأت في مرابضها فراراً من غضب الطبيعة وعناصرها وبحثاً للدفء، والملاذ .. في الهزيع الأخير من الليل في العشرين من رمضان المبارك ١٤١٨هـ المصادف ليلة الاثنين في الثامن عشر من شهر كانون الثـاني ١٩٩٨ حيث كان والدي المعذب يجأر ويستغيث طالباً مـن السماء توقيع بطاقـة الرحيل، ومضض الانتظار لرسـول المنايا.. ووقف العقل البشري تائهـا حـائراً أمـام مرضـه العضال فكان صدره حلبـة صـراع بين الحياة والموت...
والجولة الأخيرة كانت للمـوت.. فانطفأ المصباح وخـيم الموت بجناحيه السوداوين على كل ركن من أركان البيت..
فوقفت مذهولاً مرتبكاً أمام جثمانه المسجى أسقط دموعاً حارة وراء غبش بلور النظارة، وارتعشت جـوارحي أمـام عاصفة الموت الزؤام...
وتوافد الناس من كل حدب ينسلون للمشاركة في مراسيم التشييع إلى مثواه الأخير.. وبعيون دامعة، وقلـوب خاشعة حزينـة رفـع الـنعش على الأكتاف وسـط نحيـب الباكين، وتوجه الموكب الجنائزي إلى مدينـة المـوتى إلى المدافن الخرساء.. وسارت أمـام الـنعش ثلـة مـن الـشيوخ ينقرون الدفوف ، ويذكرون اسـم الله، والعلـم الأخضر رفرف في مقدمة النعش.. وكـان ذلك في منتصف النهار والشمس قد شقت طريقها وسط الغيوم الرمادية مثلما يشق المحراث تلمـاً في الأرض وقذفت حزمـة دفء في ساحة القرية الحزينة كان نحيب البكاء يصرخ في قلبي كالرعـد في سقف السماء بدموع الوجد ، والغضب المهيض الجناح بدموع الاشتياق والحب والتوسل والاستعطاف لقـد نزلـت الدموع مثلما تتفجر الأرض بالينبوع المنتظـر مثلمـا تـستل السيف من غمده الصامت تفجر البكاء من عظام جوارحي..
سبحت في طوفان من الدموع.. وما أن وصـل المركـب إلى مملكة الزوال، إلى برزخ الموت وقضقضة العظام ، وقلقلة الرفات ثم بدأ مراسيم الدفن الأخير في هوة قاع قبر عميق، ووضعت الشاهدتان فانقلب "أبي" إلى تراب لازب وعظـام
بالية مكلسة فخيل إلي انبعاث الموتى من أجداثهم لاستقبال زائر طارئ مرحبين بالضيف الوقور، والمسافر المحبـوب.. لقد رقد أبي رقدة نهائيـة فـلا الدموع توقظـه ولا التوسـل والدعاء يرجعه.. بات صامتاً صمت الدهور، وساكناً سكون
البحار في هدأة الليل العميق..
أيها الزمن الغادر كيف ابتلعت أبي ورميته في قعـر مرقد عظيم؟؟ ! كيف غصبت مني عزيـز فـؤادي ، وكيف سولت لـك نفسك أن تنزع مـنـي صـديقاً وفياً ، وأخـاً مخلصاً، وأباً حنوناً ، ومربياً ناجحاً؟؟! آه لك أيهـا الـزمن الخائن المتلون بلون الحربـاء كـيـف سـرقت مـنـي سـيدي وروحي وريحاني وظلي وظـلالي ، وشمسي ونهاري ، وحبيبي الذي أحببته يوم مولدي إلى يوم اللقاء يـوم الحـشر والميزان..؟؟! لماذا سرقت مـن الروضـات سوسنها ومـن الغابة ملكها، ومن مهد الشموع نورها وخطفـت مـن هـرم الجسد قلبـاً رحيمـاً مؤمناً ومـن الأرواح الطافحـة بـالخير والنماء أعزها وأعلاها؟! فلست الواثق والموثوق.. شيمتك الغدر والطعن من الخلف فـلا مهـذ ولا ميثـاق لـك.. مـن مشى معك أهنتَه، ومن رافقك غـدرت بـه فـأنـت والـذئب شقيقان خلقتما من صلب أب واحد وترائب أم واحدة..
أيها الدود القابع في لحد أبي تنح قليلاً من فضلك ، وامنحني فرصة الكلام والخطاب لأعزي نفسي ، وأشـرح لك مناقب الفقيد.. دعني أناجي روح أبي..!
أذكرك يا أبي كلما التقيت بمحبيك .. أذكرك حينما تضيق بي السبل وتغلق أمامي منافذ الحياة، ويخيم على شيح اليأس ولهيب الأوجاع والآلام...
أذكـرك يـا أبـي يـوم كـنـت طـفـلاً وتزور أساتذتي وتوصيني بهم خيراً.. ويوم كنت في دمشق وحلب والرقة ومحطات المعالجة.. أذكرك يـا شـرايين فـؤادي يـا ريحانة قلبي عندما كنت أزورك في ليالي الشتاء ونسهر حتى طلـوع البدر نتبادل أحاديث الحياة حلوها ومرها.. أذكرك يا سيدي أيام الأفراح وزمن الأحـزان.. يـوم كـنـت قـوي الشكيمة ، شديد البأس في الملمات.. تخوض غمرات الحياة غير آبه بالخواتم، أعداؤك يهابونك تتصاغر أكتافهم أمامـك كنـت تمثالاً خالداً للصدق والإخلاص.. والوفاء.. أذكـرك يـا أبي يـوم كنـت تـجـوب الجبـال والأدغـال بحثـاً عـن الـرزق والكرامة.. ولا تعرف الكـلـل والملـل والكـدح والشقاء..
أذكرك كلما زرت حقل الزيتـون الـذي هـو نتـاج غرسـاتك الأولى وثمـار جهـودك.. أذكـرك جيـداً يـوم طفـح الـكـيـل وادلهمت المصائب وجدتك تنذر الأعداء بالثبور والهلاك..
أذكرك وقلبي يقطر دماً ، وعيني تدمع ماءً ساخنة ممزوجة بنار الاغتراب والفراق الأبدي أذكرك عبر نبضة كل قلـبٍ ، وخفقة كل فؤاد..!!
أذكرك يوم كنت تمدني بالمال وتقول لي: يا بني،،إنك بحاجة إلى العون والمساعدة تمد لي يد العطـاء حـلالاً نظيفاً لذيذاً طيباً.. أذكرك يوم أمـرض أرى هامتك المهيبـة تستظلني وتفعل المستحيل لإنقاذ حياتي.. أذكـرك عاليـاً
شامخاً في منازلة الشجعان ومقارعـة الأقـران.. في محفـل الكرم في حدائق الخير والعطاء في مشهد الصدق ونكـران الذات في بيوت العز والإباء والكرامة..!
تركتني وحيداً في بيداء الحياة.
تركتني يتيما في صحراء البلاد.
إلى من أشكو بعدك؟؟!
إلى من أبث أحزاني بعد رحيلك؟؟!
إلى من أذهب عندما تتكالب علـي مـصائب الـدهر
وأزماته؟؟
إلى من أركن ، وإلى أي ملاذ ألوذ به؟؟!
عندما تحاصرني الأنكاث والنكبات؟؟!
أذكرك كلما أحضرت مقالاً لأنني كنت أتلوه على مسامعك وأسهب في الشرح والبيان..
أذكرك يا نور فضاء روحي يوم أذهب إلى كل غرفة في بيتك وتظل روحك ماثلاً شاخصاً أمام ناظري مزحزحاً صمام قلبي فيهطل سيل من الدموع يفصح عـن ذكريات خالدة..
كل دمعة عالمٌ من سجل ذكريات الماضي التليـد ، ودنيا من المآسي والأحزان، وجنـات مـن الـهـوى والحـب والوئام، وكفاني دمعاً كدمع الطير والنرجس نقـاء وصـفاء وطهراً وحسبي كلاماً وآثاماً وأخطاءً وإلى اللقاء في جنـات الله مثواك أيها العزيز المحتل صدارة قلبي !
شكراً لك أيها الدود المفترس لحوم الموتى.. ! !
(وإنا لله وإنا إليه راجعون) صدق الله العظيم.
النمل مخلوق ترابيٌ يسكن في باطن الأرض ويتخذ له منازل قريبة من سنابل الزرع والثمر..
إن النمـل كـائـن يـكـاد يـكـون مـجـرداً مـن الـصـوف والوبر، ويكاد يكون عارياً من كل ثوب.. إن الجمال ليس في شكله وإنما يكمن في عمله ونشاطه.. والنمل يعمـل
تسعة أشهر بدأب واستمرار يدخر رزقه، ويملأ مخازنـه بالطعام ليأكله في الشتاء وهو قرير العين، مطمئن الفـؤاد .وإن النمل عنيد في سعيه ، ومقاتل صبور، ويدفع الخطـر عن ذويه من بني قومه.. إن النمل حيوان اجتماعي في طبعه
ويتخلق بالإيثار والتضحية لأهل ملته فإذا ما تعرضت مملكة النمل لخطر داهم يستنفر النمل لمواجهة هذا الغزو فهم في الحياة والممات سواء..
يتميز النَّمل بنشاطه الدؤوب حفاظاً على كرامتـه وخوفاً من المجاعة ولصون ماء وجهـه لكـي يبقـى مرفوع الهامة ولذلك رتله القـرآن الكـريم ومنحه مقامـاً عالياً في الرفعة والعلو وارتقاء المجـد.. وقد قال تعالى في سـورة النمل : « أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده فتبسم ضاحكاً مـن قولهـا . . » ، وروي عـن قـائـد عسكري قد خسر المعارك وكاد الفشل واليأس يصيبه فوجد (نملاً) يصعد جداراً وكلما وصل إلى القمـة سـقط منها ثم يعيد الكرة ثانية ولا ييئس فـأدرك ذلك القائـد أن موطن الجهاد يتطلب صبراً وعناداً ومثابرة فبدأ هجومه مـن جديد وانتزع النصر وولى الأعداء واندحروا..
فالنمـل كـائن متطـور في سلوكه الأخلاقـي والاجتماعي فعلى الشعوب المتشتتة التي مزقتـهـا الـنزوات الفردية، والأهواء الشخصية أن يعتبروا مـن النمـل، وأن يتمثلوا بأخلاقه، والشعوب الخاملة عليهـا أن تقتبس مـن النمل شعلة النشاط ، وجذوة العمل، وصيرورة البقـاء.. فلنعمل كدحاً وجهداً في سبيل وحدتنا ، وبناء اقتصادنا ، ونعزز سلطاننا، ونرسخ وجودنا في الأرض..
الحرية شجرة غضة فتية.. وارفة الظلال .. نتفيأ تحت ظلالها.. ونقطف من ثمارها.. والحرية الإنسانية هـي إحدى المشكلات المستعصية التي تركـت بعـدها هرماً ضخماً.. وتراثاً مكدساً من الأعمال والنظريات.. ومنذ أن شرع الإنسان في صنع ملحمـة التـاريخ وهـو يبحـث عـن الجوهر المفقود في أروقة المحافل عبر قرون طويلة وخلال مسيرة مرصوفة بعناوين الدماء والدموع ولا نعني الحرية بمعناها الميتافيزيقي الطوباوي.. التي تحلق في فضاء الخيال والسراب.. ولكـن الـذي يهمنـا الحريـة بحـدودها الـدنيا.. الحرية الحياتية الواقعة التي نتعايش معها ونغازلها بين الفينة والأخرى.. مـن خـلال جوانب وزوايا مختلفة.. الحرية الأخلاقية.. والفلسفية والاجتماعية والنفسية.. وكلما ارتقى الإنسان إلى رياض الحرية وجد نفسه تواقـاً إلى حرية أكثـر تطوراً وبحثاً عن معايير جديدة.. من معايير جديدة.. من هنا أن قاعدة الإطلاق والشمولية متناقضة مع قضية الحرية لأن دولاب التطـور الاجتماعي والاقتصادي يتقدم إلى الأمام فمن الضروري أن
نواكب المسيرة التاريخية التي تندفع نحو الصعود.. فالإنسان الـذي عـايش الحرية وذاق طعمهـا في المجتمع الروماني واليوناني القديم ولو قسنا بين معايير كلتا الحريتين القديمة والجديدة لوجدنا أن الإنسان القديم كـان محروماً من الحرية بالقياس بمعاييرهـا الحالية.. وعندما نتكلم عن الحرية بمعناها المطلق نكون قد جاوزنا واقعنـا وضعنا في متاهات الاستبداد الفكري والتطرف الشذوذي..
فالحرية المطلقة هي الحمل الثقيل وعبء إضـافي يزيد في معاناة الإنسان ولا يتحمله الإنسان فرداً أو عائلـة.. فحتمية حرية الإنسان النسبية المتفاوتة تؤكد إنسانيته وخيره وسعادته وهي النتيجة الباقيـة الـتي نحظى بهـا مـن خـلال دراستنا للتاريخ البشري.. فتاريخ الإنسان هو تاريخ الحرية رغـم المحـن والمسافات التي حاقـت بالإنسانية خلال مسيرتها الطويلة.. فالحيوان يتكيف مع الطبيعة وهو في أدنى درجات سلم التخلف.. فكلما انحدر نحو الهبوط ازداد تكيفه مع الطبيعة.. في حين أن الإنسان يتطلع إلى الارتقاء دوماً لتسخير الطبيعة لمتطلباته. والهيمنة عليها بما وهبـه الله له مـن حكمـة ودرايـة.. فالحرية إذا هي ثمـرة العقـل.. والإنسان منذ أن أدرك ذاته اعتمد على نفسه واتخـذ جملة من القرارات المسؤولة وابتعد شيئاً فشيئاً عـن الخـزعبلات المضللة بفضل عقله الذي اختار طريق الحرية في البحـث والتحصيل.. فحرية الإنسان بقدر ما أوتي من العلم والوعي المعرفي.. وهكذا فالحرية والمعرفة صنوان متلازمان.. ففـي المنعطفات التاريخية الهامة.. وعبر الجسور البارزة .. كلمـا انهار نظام تلاه نظام جديد.. وظهـر نشيد جديد للحرية ، ويمكن ملاحظة ذلك في الثورة الفرنسية (كومونـة بـاريس) فالجماهير التي هتفت للثورة الفرنسية وهزجت لها ما لبثـت أن وجدت نفسها قد زجت بها تحت مطارق مـدافع الطبقـة الأوروبية الجديدة في القرن التاسع عشر حين تسابقت لإذلال الأمم والشعوب ولإرواء نهم المهنيين والحرفيين في النظام الاقتصادي والاجتماعي الجديد.. فمـا زال الإنسان يعاني متاعب في مواقع متعـددة في هـذا العـالم المترامي الأطراف.. فعلى الرغم من التقدم الملحوظ في المجتمع الغربي نجد القلق والفراغ الروحي وشبح الحرب النووية التي تهدد الحياة على الأرض بالفناء والاندثار، وليس هـذا إلا بعضاً من أمثلة كثيرة على امتهان كرامة الإنسان.. إن الشعوب المتحضرة التي تملك تراثاً وتاريخاً مشرقاً يشجعان على كرامة الإنسان وحريته.. فتراثنـا غـني زاخـر بتكـريـم الإنسان والتنزيل الحكيم يشير إليه (ولقد كرمنـا بـني آدم)، (وجعلنا الإنسان خليفة في الأرض) لقـد أوقـد المفكـرون الأوائل مصابيح الدجى على طريق حرية الإنسان.. وسـقط على مذبح حرية الإنسان شهداء للحرية والفكر المستقل أصحاب العقل الطليق وليس أولي العقل المعتقل.. وعندما نلاحظ اليوم بعض المجتمعات تتمتع بحرية العمل والـرأي فإننا نقف متهيبين وجلين ونار الحسرة تكـوي قلوبنـا علـى تراثنا الذي تتجلى فيه الحرية بأبهى صورها وأبرز عناوينها..
فالمبتغى هو الإنسان أولاً وآخـراً وهـو المحصلة النهائيـة للحرية الإنسانية.. والحرية ليست عبـارة رنانة تستلذ بها الأفواه بل هي ترجمان وتطبيق وقانون حاكم.. في سبيل بناء غدٍ مشرق للإنسانية جمعاء وحياة أكثـر رخـاءً.. وسعادة..
وكرامة..
في هذه الأرض التي منها خلقنـا وإليهـا نعـود تـارةً أخرى.. نستخرج الجـواهر الثمينة.. وتتدفق منها الينابيع والماء الزلال.. تستنبت الأزاهير والأشواك..
ففي الأرض ضدان متناقضان الرياحين والأشـواك.. الـورود والطحالـب.. وفي الغابات الغزلان والأفاعي.. والإنسان هـو ابـن الأرض ففـي دمـه فيلقـان متخاصمان
يتقاتلان وكل واحد يحـرز النصر على الآخـر في ميادين السجال.. والصراع لا ينتهي، وإن وقف القتـال بينهما جمدت الحياة وهمدت.. وإن طغت كريات الحمـر على كريات البيض اختل التـوازن.. وتعرض الجسم لأمـراض خطيرة.. وفي جسم الإنسان مقاومة خارقة تفوق ما يصوره الإنسان.. فالعقل والقلب في صراع مستمر للحفاظ على التوازن.. فإن غلب العقـل على القلـب (العاطفـة) تجـرد الإنسان من الضمير والمعايير الخلقية وتجرد الإنسان مـن القيم الروحية وبدا عليه الشكوى من الأزمة الروحية وباتت الحياة بيروقراطية بحتة.. وإن ظفر القلب على العقـل تهور الإنسان ووقع في معارك خياليـة عقيمـة بعيـدا عـن واقعـه.. منسلخا عـن وجـوده.. ففـي الإنسان قوتـان متصارعتان لا تقبل الرجحان، فخلـق الشيطان منذ الأزل كان لحكمة إلهية أزلية.. حفاظاً على التوازن ودفعاً أكثـر ديناميكية وجدلية للحفاظ على البقاء.. وصـوناً لديمومة الحيـاة.. وجعـل الله لهـذه الأرض حياة خدمـة للإنسان.. وتتميز الأرض عن بقية المجرات من النجوم والكواكـب.. وهب للأرض حياة لأن الإنسان يسكن فيها.. فالتوازن منهج رباني أبدعه البارئ القدير في الكون والإنسان والحياة.. وما أصـدقه يقـول {{والشمس والقمـر بحسبان» سـورة الرحمن.. والفضيلة إذا زادت عـن حجمهـا تتحول إلى رذيلة والخير يتحول إلى شر إذا تجاوز حده.. ويبقى الخير والشر صنوان متلازمان في الصراع من أجل البقاء.. صـرح لي فلاح من ريفنا السوري بأنـه كـان يـزرع الذرة فتغزوهـا أسراب العصافير وتحولها إلى غثاء أحـوى فيخـرج الفـلاح
بخفي حنين في نهاية المحصول. ففكـر بـصيد العصافير وإبادتها وشرع بقتلها.. ولما حان موعـد الحصاد فحصد الديدان فكانت الخسارة أدهى وأمر..
أدرك الفلاح أن قتلـه للعصافير كـان خطيئـة كـبرى.. فالعصافير كانت تفتـرس الديدان في سنابل الذرة.. ولما طُردتْ العصافير وقتلتْ.. انتشرت الديدان وحظيت برزق عظيم لأن عدوها اندحر في معركة الصيد...
فالتوازن قانون إلهي أزلي أبدي فلنسمع قول الحـق سبحانه ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان} فالغـضـب الـذي يجاوز حدوده يعطي في المحصلة نتائج مدمرة.. والصبر الذي يتـرك لـه العنـان وتـرك الحبـل علـى غاربه يأتي بخاتمة سيئة.. فالغضب له أصوله وللصبر أبعـاده فهما نقيضان والضرورة تقضي وجودهما وبقائهما.. أفـادني مهندس زراعي بأن الأرض التي لا تنبت الأشواك هي أرض ضعيفة.. فالشوك ابن للأرض وضـار وشـقي ولكـنـه أحـد أشقاء الزهر والورد عاش معه في رحم واحد.. وخرج معـه إلى الحياة من مجرى واحد..
فلنسمع قول العزيز الحكيم {إنا كل شيء خلقنـاه بقـدر} سـورة الفرقان وقولـه جـل وعـلا في التنويع {فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى﴾ سورة طه.
وخلق الله الليل والنهار لحكمة اقتضتها إرادته سبحانه من أجل الميزان وذلك في التنزيل الحكيم (وجعلنا الليل والنهار آيتين وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب . . وكل شيء فصلناه
تفصيلا﴾ [سورة الإسراء.
سنة الحياة تقتضي بوجود الصحة والمرض فهما ضروريان للحفاظ على الحياة في هذا الكوكب الأرضي الذي نحن بحضرته.. وكما أن القلب وحده لا يحل أمراً
والعقل بمفرده لا يفك لغزاً.
فكلاهمـا عنـصران متلازمـان لـصيرورة الحيـاة .. وتذليل الصعاب التي تعترض طريق الإنسان.
فسبحان مـن أوجـد الميـزان في الكون والحيـاة والإنسان..!!
"سليم شكري" وجه بارز لقومه.. ورث من أبيه ثروة اقتصادية ضخمة من دور للسكن، وأراض زراعيـة خـصبة وبساتين الرمان والكروم والزيتون .. وفضلا عن ذلـك تـرك له أبوه هرماً شامخاً من الكرم والشجاعة والفضيلة وجوانب أخرى من الإرث الأخلاقي فقد كان ـ رحمه الله ـ مضرب المثل في الجرأة وقول الحق، والوقوف بجانب البؤساء من الناس، وتحلى بالتضحية ، ونكران الذات في المواقـف الصعبة والحرجة ، تربى "سليم شكري" على هذا الميراث المادي والمعنوي منذ نعومة أظفاره فأخذ نجمه يتألق لمعاناً، وبدأت شهرته تملأ الآفاق.. (فدار الضيافة) لا تخلو مـن الوافدين إليها تستقبل كل يوم نماذج جديدة من مختلف طبقات المجتمع فأضحت (دار الضيافة) مدرسة تربوية أخلاقية سامية تحسم الخصومات الاجتماعية، وتساعد الفقراء وتناقش أحـوال الفلاحين والمزارعين وتحسين أحوال القرية من مرافق وخدمات عامة وغرس الفضيلة أني وجدت تربتها والوقوف بصلابة أمام عناكـب الـشـر بكـل أنواعه.. ولكن دولاب الزمن يدور. "يوم لك ویوم عليك" فيفقـد سليم شكري ثروته الطائلة فيقع فريسة سهلة بين أنياب داء الفقراء فينقطع الناس عنه وأظلمت الحياة في "دار الضيافة" فبدت كوخاً مظلماً أو كهفاً دامساً وراحت العناكب تعشش بيوتاً أوهن مـن منـازل الفقراء. فمكث الرجل في بيته فأبت نفسه العزيزة النجدة من أحد، وبدا عليه الهزال والحزن الصامت الرزين.. والقـوم من حوله ينظرون إليه بعين السخرية لأنه قـدم جـل قدراتـه للفضيلة فحصد الإفلاس في النهاية.. وفي ليلة شتوية بـاردة والريح تئن أنين المحتضر وفي الهزيع الأخير منها سمع(سليم شكري) رنة عويل وبكاء من البيت المجاور لمنزلـه فخرج مسرعاً إلى مصدر الصوت فإذا بصاحب البيـت "درويش الفيلي" قد قضى نحبه وأسلم الروح..
فكان المأتم حزيناً والمشهد أليماً.. وطاف طير الحزن بجناحيه على كل بيت من بيوتات القرية.. وعندما أعلن الصبح إشراقه خـرج أهل القرية لتشييع جثمان (درويش الفيلي) إلى مثواه الأخير، وبين نحيب النساء وتهاليـل الـشيوخ رُفع النعش على الأكتاف، سير به إلى مقبرة القرية لتطبيق مراسم الدفن وتنفيذ الطقوس الدينية.. وحين هب الشيخ لتلقين الميت تقدم " سليم شكري" وطلب الاستئذان من الشيخ للتحـدث مع الميت " درويش الفيلي" فاندهش الناس من هذه اللفتة المذهلة وتلهفوا لسماع كلماته فقال : يا درويش الفيلي :
أهنئك على رحيلك وأحسدك علـى هـذا السفر الميمـون ، مبروك لك رحلتك الطويلة إلى ما وراء الأفـق الأزرق فـلاتندم على موتك، فإن كنت نادماً فدعني أرقد مكانك فقـد أصبح الحكيم أبلهاً واللص سيداً والفضيلة رذيلة، والمكـر
علماً وفقهاً ، والتهور شجاعة، والغنى كرامة، والرحمـة غباء والتواضع ضعفاً والشجاعة جبناً والثرثرة بلاغة..
فاليوم عيدك يا (درويش الفيلي) فاحمد الله الـذي أعلن رحيلك، وأنهـى بقـاءك وخـتـم علـى جـواز سفرك بالرحيل من بين حقول الأشواك ، نم قرير العين مستريحا فقد ساقك الحظ السعيد إلى تلك المحجـة الـتي يحجهـا الناس جميعاً ، وأنقذك مـن وكـر التعاسة والشقاء، وإلى اللقاء عند الملأ الأعلى.. ثم تقدم الشيخ إلى الميـت ولقنـه بألفاظ تقليدية محفوظة مرعبـة تـارة أخـرى، ثم انصرف الناس وكلمات (سليم شكري) تحفر في سـويداء قلوبهم مساحة من الداء الكابت..
إذا أطلقنـا عـنـان النظـر إلى الحـواس الخمـس.. وخصوصاً إلى حاسة البصر.. لاحظنـا مـشهداً غريباً في الإتقان العجيب والإحكام الدقيق تحير أصحاب العقول.. وتدهش أولي الألباب.. فقد ركبت العين في تجويف عميق وتتألف من طبقات ثلاث.. ورطوبات ثلاث مع أشرطة مـن الشرايين والأوردة والعضلات.. والأغشية.. فالطبقة الأولى هي الصلبة وهي غشاء ظليل لدن متين وفي المقدمة قطعـة شفافة محدبة من الخارج مقعرة من الداخل تسمى (القرنية) والطبقة الثانية هـي المشيمية : وهـي سـوداء اللون ناعمـة تتوسط بين الصلبة والشبكية.. والطبقة الثالثـة هـي الـشبكية: وهي مكون من انبساط العصبة البصرية التي تولدت مـن الدماغ.. أما الرطوبات فالمائية : فهي سائل صـاف موضـوع في غرفة وراء القزحية.. ومن ورائها حجاب مثقوب الوسط يسمى القزحية.. لونها أسود أو أزرق أو اشـهل.. والثقـب الذي في وسطها (البؤبؤ).. والبلورية : وهـي جـسم شفاف أملـس كالعدسـة المحدبـة مـن وجهيهـا ومتروكـة وراء القزحية..
والزجاجية: وهي جسم شفاف لزج أبيض كبياض البيض يملأ الفراغ الخالي ما وراء البلوريـة حـتى تصل إلى الشبكية واقتضت حكمة الخالق العظيم أن يخلق العين مـن تلك الطبقات والرطوبات المتنوعة فإذا سقط النـور على تلك المرئيات انعكـس عنـها.. ودخلـت خطوطـه العـين ورسمت على صفحة الشبكية صوراً وألوان المرئيات وهـي بدورها تفضي إلى الدماغ.. ولكـن النـور بانعكاسـه عـن المرئي تكون خطوطه مستقيمة ولو ظلت سائرة بدون تجمع لوصلت إلى الشبكية متفرقة متباعـدة ... فالحكمة الإلهية شاءت : بأن النور عندما يدخل على العين يلاقي القرنيـة وينفذ منها .. وترك غشاء القزحيـة وراء الرطوبة المائية وجعله مثقوباً من وسطه.. وسخر توسيعه وتضييقه للظروف التي تطرأ عليها تلقائياً.. ثم صبغ أطراف القزحية بلون يمنع نفوذ النور حفاظاً للتشويش ووقاية للصورة.. وجعل الحكيم الخبير تلك البلورية تحت تصرف مشيئة الناظر يزيـد مـن تحدبها أو ينقصها .. ثم تدخل الخطـوط في الرطوبة الزجاجية فتزداد تجمعاً حتى يكون التجمع كافياً لـرسـم الصورة رسماً واضحاً.. هذا في داخل العين أما في خارجها جعل الخالق سبحانه العين داخل الحجاج محفوظة من كل جانب ما عدا الجهة التي يدخلها النـور.. وجعـل الطبقـة الأولى صلبة وسترها بالأجفان لحمايتها وأنبت على أطراف الأجفان شعراً ثخيناً قائماً.. أما تلوين الشعر فليتشرب بعض النور الآتي على العين أما غلظه وانتصابه فلمقاومة الأجسام الصغيرة الغازية.. كالتراب والعرق والغبار.. أما ميله فليسهل افتراق الهدبين عند فتح الأجفـان.. فلـو كـانـا مـتـوازيين أو متقابلين لتشابكا وتلاصقا برطوبة العين وانتقلـت صـورتهما إلى الشبكية فشوشت صـور المرئيـات.. وجعـل الخـالق الحكيم : إفراز الدمع لجلائه .. وجعـل الأجفـان في حركة مستمرة بالانطباق والانفتاح حتى لا يتعطل الإبصار فيغسل الدمع الغبار الذي يقع على (المقلـة) فلـم يتركـه الـخـلاق الحكيم يجري من الأجفان على الخدين بل دبر أمر جريانـه إلى (الموق) ثم جعل هناك ثقباً صغيراً نافـذاً داخـل الأنـف يسمى القناة الدمعية.
فسبحان المبدع والمتقن في أقصى درجات البراعـة والإحكام وعلى صورة الإعجاز.. كل ذلك يزيدنا إيماناً بالواحد الأحد بديع السموات والأرض..
سألني صديق وهو يقرأ جريدة (الشرق الأوسط) وبدأ لماذا هذا الصراع الدموي في أفغانستان ، والجزائر.. وراوندا.. و...و... و هذه الدول قد استقلت فعليها أن تعمر وتتوجه على البناء وترميم القاعدة التحتية.. لكنه لم يتريث فأخذه الانفعال اللاحـق فأتبعـه بـسؤال آخـر.. ولمـاذا في أوروبا الغربية لا يتقاتلون؟؟ مع أنهم يختلفون فيما بينهم، وهنـاك عشرات الأحـزاب مـن أقـصى اليمين إلى أقصى اليسار.. فلا يركنون إلى لغة السلاح لحسم أمورهم؟؟
ما السر الغامض خلـف أسـتار هـذه المسرحيات
التراجيدية التي تقام هنا وهناك؟؟؟
قلت لصديقي خفف من روعك. أروي لك حكايـة تجيـب علـى كـل شـجونك واستفساراتك.. واصغ إلي جيداً..
منذ مئات السنين كان يحكم بقعة من الأرض ملـك عرف بالدهاء والحنكة ، فازدهرت المملكة في عهـده ، فارتفع شأنها ، وعلا مقامهـا بين جميع
ممالـك الأرض.. ولكن الممالك والامبراطوريات لا تخلو من العلل ، فإذا لم تعالج أمراضها ستستفحل وتهوي إلى السقوط.. وكثير من الممالك أصبحت أثراً بعـد عـين نتيجة إهمالها الوباء الذي لحق بها..
ففـي المملكـة الـتي نحـن بـصددها، انتشرت(الجرذان) في كل أرجائها وبشكل هائل لا يتصور، فأبادت الزروع والثمار وانتشرت الأمراض، وكثـر المـوت والفنـاء فكادت تستسلم أمـام هـذا الغـزو الهمجي.. فساد الفقـر والجوع.. وبدت المملكة عاجزة لدرء الخطر الملحق بها.
عقد الملك اجتماعاً موسعاً مـع كـبـار مستشاريه وأعوانه لدراسة الوضع الراهن.. فقـدم كـل واحـد اقتراحـاً بإبادة الجرذان عـن طريـق ملاحقتها في أوكارهـا.. عندئذ عبس الملك في وجه مجلسه وقال : يا للسذاجة .. مـن الضعف أن نقف وجهاً لوجـه أمـام الـجـرذان، وأن نعلـن حرب المواجهة ضدهم.. ومن الغباء أن نلاحقهـم في عقـر دارهم، فأصدر الملك مرسوماً بأن يصطاد كل مواطن جرذاً ويسلمه إلى السلطات المختصة، وتحتجز كلها في غرفة كبيرة محكمـة بالإسمنت والحديد، بحيث لا تستطيع الجرذان إيجاد أوكار لها ولا يمكن لها التسلل إلى الشقوق والأخاديد.. فاستنفر المواطنون خفافـاً وثقـالاً للصيد ،وأعلنوا ولاءهم للملك، فأودعوا الجرذان في تلك الغرفة المحصنة.. فاجتمعت الجرذان في هذه الغرفة من كل قبيلـة ومن كل دين ومذهب ـ في هذا الوطن الذي أقامه الملـك لهم ـ وحرم عليهم الماء والغذاء بعد أن أغلق أمامهم جميع منافذ الحياة، اللهم إلا حرية التنفس والشهيق والزفير.. بعد أن ألبسهم لباس الجوع والمسكنة.. وأمـر الملك أن يلقي عليهم كل أسبوع جثث سبعة مـن الجـرذان لإطفـاء شهوة الجـوع، وإرواء نهمهـم المـستيقظ، وذلك رأفـة بهـم وصدقة جارية عليهم.. ولما رميت عليهم أشـلاء الجرذان تهجموا عليها وبجنونيـة طائلة ، وبدافع الجـوع الكـافر ،فنسوا أنهـم أبنـاء وطـن واحـد وعـرق واحـد.. فتقاتلوا واشتبكوا وسالت دماء غزيرة.. وهكذا كل أسبوع تقام مأدبة وتتلوها معارك دموية.. وحاول الملك أن يزيد من حصتهم فضاعفها ، فازداد نهمهم إلى لحم أبنـاء قـومهم.. وبمرور الأيام اعتادوا لحم أبناء جلدتهم ، وفضلوه على غيره فظلوا لا يكترثون بلحوم أخـرى إلا لحـم ذوي القربى، فشرعوا يتزاورون ونار العداوة تكوي قلوبهم حقداً وكرهاً ، فأخـذ كل جرذ ينظر بعين العداوة إلى بني جنسه، وأضـحى كل جرذ سنوراً (العدو التقليدي المخضرم). عندما أدرك الملك أنـه وصـل إلى هدفه في نسج المؤامرة علـى الجـرذان ، أصـدر أمـراً بـإطلاق سـراح الجرذان.. وقدمت الجرذان الشكر والعرفان للملك الرحيم وأعلنت الحرب فيما بينها فأبيدت الجرذان عن بكرة أبيهـا وانقرضـت.. وتخلصت المملكـة مـن شـرورها.. ثم بـدا صاحبي كأنه ألقى حملاً ثقيلاً وأشرق وجهه جلياً.. وبـدت نظراته كنظرات ظامئ وجد نبعاً وارف الظلال بعد أن أزيـح عن وجهه ضباب الحيرة والشك.. فأطلق نفساً عميقاً وهـز رأسه وقال : نحن نفكر بقلوبنا وليس بعقولنا ثم أخذ يودعني بحرارة طالباً الاستئذان فانصرف ومضى.. وشيعته بنظـرات التأمل والاستغراب..
تربيـة الأولاد مسؤولية اجتماعيـة وطنية قوميـة إنسانية..
وأطفالنا هم أكبادنا، رجـال الغـد ومعقـد الآمـال للآمة والوطن..
ولمعالجة هذا الموضـوع أعلـن صـراحة :لست باحثاً اجتماعياً ولا طبيباً نفسياً بل أنا أب ومـرب منـذ أكثر من عشرين عاماً.. تخمرت في مكنونات الفكر والنفس جملـة مـن عـصارة الخبرات التربوية المستخلصة مـن التجارب والملاحظات التي خضتها أنـا بنفـسي.. وعجنتها بشعاع قلبي، وضياء فكـري.. في المجتمع القـديـم كـان الطفل ينشأ نشأة فطرية لأن طبيعة الحيـاة كـانـت بـسيطة ، والمناخ العام كان عاملاً مساعداً في عملية النمـو الجـسدي والسلوكي، ولكـن التقـدم الـسريع (الغير طبيعي) في تكنولوجيـا العـصر في غـزو الفضاء الخارجي، واختراع (ستالايت) ، (وانترنيت) جعل الخيال مكان الحقيقة وحـام حول الأسرة أسراب مـن غـربـان القلق والأرق فأمـام هـذا البرق الخاطف بهت المـرء واندهش حيـال هـذه السرعة (الغير الموزونة) لأن الخلل قد أصاب كفة المعادلة.. فكـل تقدم آلي لا بد أن يرافقه القبس الروحي فكلاهمـا جـسم واحـد لا ينفصلان.. وهـذا الجانـب قـد تشرد في جزائر الثواني والكسل مما جعل حياة الأسرة كهفاً يسكنه غيلان الوساوس، ويحرسه أوهـام مـن الظنـون والهـواجس.. في الأسرة المتخلفة عنصر الديمقراطية يكاد يكون عاملاً هداماً لها فتفقد الأسرة السيطرة على الأولاد، وتتشتت الأسـرة
ويتمخض عنها ضياع الأولاد.. فالديمقراطية الأبويـة يـجـب أن تخلق لها أرضية واعيـة، وأن تتهيأ لهـا دعـائم الرشـد المعرفي.. فالديمقراطية ترف ونعيم للأسرة الواعية الأصيلة التي نبتت وترعرعت في رياض مأهولة بالنماء والعطـاء والتي ورثت أبا عن جد قيماً موروثة ذات جذور عريقة في الخلق الكريم والعلم والبيان.. فالديمقراطية تلك تمور علماً ونشاطاً معرفياً وسلوكاً قيماً إذا كان بناؤهـا قائماً على السلوك العملي التطبيقي.. وأهم ركن متين صلب للأسـرة هو علاقة الأب والأم (القيـادة) فـالأولاد يعقـدون تحالفاً مقدساً من المودة ومواثيق من التلاحم الروحي والاندماج الكلي بينهم عندما يلامسون الوحدة والتفاهم النقي المـدني في القيادة فهـم خـير رعيـة ينفذون واجباتهم فالاندماج الجسدي والروحـي بين الأب والأم يـربي أولاداً سـعداء أصحاء ناجحين في حياتهم.. وهكذا تتوافر للأولاد قاعـدة متينة يبنون عليهـا احـتـرام الـذات وتوطيد أواصـر المحبـة والألفة.. فالعلاقة الزوجيـة القائمة على المحبـة والتـوادد والتراحم تجعل الأسـرة تـنعم في ظلال العافيـة الجسدية والروحية.. وعامل الوراثة له دوره البارز في سلوك الأطفال وتربية أجسامهم.. فالأرض الوعرة لا تنبـت غـيـر الـزوان والأشـواك، والأرض الخـصبة الطيبـة تنبـت الريـاحين والأزاهير.. وثمة أخطاء ترتكـب ينبغي الانتباه إليهـا كـأن يكذب الأب أمام ولده فإنه يخلق بشكل غير مباشـر صـفة الكذب للطفل، أو عدم تكليف الطفل بعمل ما حرصاً على سلامته وإشفاقاً على حالـه فإنـه يغرس في نفسية الطفـل مرض الأنانية وحب الذات.. وقد يتوهم الأب أنـه يـسبب ضغطاً فيعمل على حمايته من هذا السوط المخيـف أو مـن هذا الأسلوب الإرهابي.. فلنكن محبين لهم عندما يقدمون على عمل نبيل، وصارمين معهم عند ارتكابهم الأخطـاء.. فالعقوبة البريئة تولد لدى الطفل سلوكاً بريئاً نظيفاً.. والردع يجب أن يكون هادفاً يراد منه الإصلاح والتقويم.. والغلاظة أحياناً تقوي شخصية الطفل والشدة البريئة يراد منها الخير فالأولى لقيادة الأسرة أن تكلف ولدها بعمل ما كالمحافظة على نظافة غرفته أو ترتيـب سـريره أو الاهتمام بملابسه.. ومحاسبة الطفـل لـهـا مردودهـا الإيجابي وكـل تـراكم في الأخطاء قد تفلت من يد الأسرة عوامـل الإصـلاح.. نحـن نعلمهم أمثلة من واقعهـم أنـه في إمكانهم الحصول على المكاسب مقابل تقديم عمل ما، وأنه لا يمكن الوصول إلى شيء بلا شيء.. إن إغـداق الألعاب الكثيرة على الطفـل يجعله حائراً متذمراً فيتعذر عليه ماذا يفعل لأنه أمام خيارات كثيرة.. وسلوك الطفل له علاقته بالألعاب ، يجب أن يجلب له ألعاباً تستثير الإبداع، وتدغدغ خيـال الطفل، وتشجعه على استعمال شيء مـا لـصنع شيء آخـر فلنطلـق عـنـان الاجتهاد والإبداع للطفل ليصنع ما يريد من الأشياء فذلك هو جوهر الخيال الذي هو بدوره جوهر اللعب.. وثمة أدلة وافرة على أن جيل التلفاز اليوم أقل كفاية من الأجيال السابقة مشاهدة التلفاز تكـبـح روح المبادرة ، وحب الاستطلاع.. وبرامج التلفاز تعيـق التفكير المنطقي المتتابع مما يسبب نتائج غير مرجوة.. وإني لأقتـرح وأرى وجوب إبعاد الأولاد عن التلفاز ما أمكن حتى وصولهم إلى الصف الثالث الابتدائي عنـدما يصبحون قادرين على القراءة، وبعد ذلك لا يضير أن يسمح لهم بمشاهدة البرامج التربوية والرياضية، وأنصح الأهل بألا يسمحوا لأولادهم مشاهدة التلفاز أكثـر مـن عـشر ساعات في الأسبوع.. فالتوجيه السليم والتربية الصحيحة تخلق أطفالاً أصحاء سعداء أشداء.. أكفاء..
بينما كنت مع جماعـة مـن الـصيادين في سهول وهضاب بلدنا الغالي.. وكـان الـزمن خريفاً ونحـن نخوض معركة الصيد نصعد الربوة حينـاً وننزل إلى الوهـاد والمنحدرات حيناً آخر وندخل إلى الغابة بحثاً عن الغزلان .. والطيـور.. وينحدر من جباهنا عرق الصعود والهبوط .. ودافع الصيد يحملنا إلى الركض وراء الطرائد بشوق عارم.. هب إعصار شديد ثم تلاه مطر غزير.. ورحنا نبحث عن ملاذ نركن إليه وأخيراً وجدنا ضالتنا فعثرنا على خيمـة كبيرة واسعة.. قد غرست أوتادها وتتوسطها أعمـدة ثخينـة غليظة قد أحكمت أطرافها.. واستقبلنا شاب حاد النظرات.. شـديد البـأس مفتـول الـشاربين.. عظـيم المهابـة.. قـوي الشكيمة.. توصي ملامحه الباردة عن رجولة جبارة .. ونفس عزيزة أبية.. ثم قادنا الراعي الشاب إلى حرم الخيمة فقدم لنا طعاماً مستساغاً، ثم تلاه شاي وقهوة عربية أصيلة فانتعشنا بعد تعب .. ثم قادنا الراعي إلى حظيرة الأغنام ليباغتنـا بـأمر خطير أقدم عليه.. يا لهول ما رأيت.. رأيت كلباً معلقاً على غصن شجرة باسقة من فوق شجرة منيعة عالية.. وفتح فاه.. وشخصت عيناه.. وأخرج لسانه وقد أنزل الراعي فيه حكـم الإعدام شنقا ثم سألت الراعي عن جريمته فقال : لقد أمسكته بالجرم المشهود فقد تواطأ مـع الـذئب لاقتسام الغنيمة، لقد خـان العهـد والميثاق وأضـاع طعـم الخبز والملح.. فوجدته في موقـف مـبطـن بـشراكته مع الذئب .. رأيته وهو يهز ذنبه فرحاً.. ويرقص رقصة الصياد الذي ظفـر بـصيده.. وفي الحال وضعت حبلاً في عنقـه وسقته إلى ساحة الإعدام ثم شكلت لجنة مؤلفة من أعـضاء هيئة المحكمة وبعد مداولات جادة، أصدرت الهيئة العليـا للمحكمة عقوبة الإعدام مع التنفيذ فورا وجرى تنفيذ حكـم الإعدام على مرأى وأعين كلاب قطعـان الماشية وجمهـرة من الرعاة وقيل عن الكلب المجرم أثناء تنفيذ الحكم :رددت الجبال صدى صرخاته مقهقهـةً .. جـزاء مـا اقترفت يداه الآثمة، وقصاصاً عادلاً لكـل مـن سـولـت لـه نفسه الإقدام على الجريمة.
ثم عدنا إلى بيوتنا وعظمة الراعي لا تفارق خيـالي.. وظلُّه يمر كشريط سينمائي يجللّه اجتهاد الفقيه والمبادرة الجريئة .. ثم تكون عندي حكمة بالغة خلاصتها:
- الفكرة النبيلة لا تحتاج إلى الفهم ، بل تحتاج إلى الإحساس...
{إرم ذات العماد} هي مدينة أسطورية ميثولوجيه وما فيها من الرموز والمقاصد.. يصب جبران عصارة مـا توصل إليه من تخمر الفكر الفلسفي وتأملاته في الإنسان
والحياة والكـون <<إرم ذات العماد>> خلاصـة مـا بلغ به جبران مـن العمـق الفلسفي، والخوض في بؤر النفس الإنسانية وكشف مكنوناتهـا وأسرارها.. المدينة في نظـر جبران هي المدينة الفاضلة وهي:
مدينة الملأ الأعلى أو الجنة المأوى لا يدخلها إلا أهل الورع والتقوى والزهاد والحكماء والمتصوفة.. ابتغى جبران من وراء ذلك أن يبدل بؤس أعماق المجتمع بأغلفة الأصالة الروحانيـة بحثـاً عـن الغـذاء الروحـي الكـوني في الفضاء الأزلي السماوي..
يهرب جبران من عالم يسكنه الخـداع والنفـاق إلى الهجرة إلى متـاع الـروح الـذاتي وتـرف التأمـل الروحاني والميل الطاغي إلى الذات المعنوية بالروحانية الهائلة..
والتصورات الشمولية في الكون والإنسان والحياة..
في «إرم ذات العماد) تتجلى المعاناة الروحية والأزمات الفكرية والاعتقادية والهرب من كوابيس الاستبداد والموت العنيف ذلك التحالف الوثيق بينهما وأيدولوجيات ارتدادية طاغية..
هذه المدينة هي بعيدة المنال صعبة الوصول إليهـا إلا من أدرك كنه ذاتـه واستكشف أسرار مكنونات نفسه متخذاً بذلك فلسفة سقراط ((اعرف ذاتك)) والوصول إلى هـذه المدينـة لا يتـأتى إلا مـن طريـق التشوق والتقـرب
والتقرب إليها يمكن بلوغها .. يقول جبران :
" كل إنسان أن يتشوق ثم يتشوق حتى ينزع الشوق نقاب الظواهر عن بصره فيشاهد إذ ذاك ذاته ير جوهر الحياة المجردة...".
يرى جبران أن الإنسان جزءٌ من هذا الهيولي ، وهو عينة من عينات هذا الكون اللامحدود فالتعرف علـى هـذه العيّنة هو الإحاطة بكليات الحياة جميعها،، فالإنسان هو ذرة ضئيلة جداً من غبار الكون اللامتناهي ويدور في فلكـه في
اتقان وصنع عجيب.
يقول جبران : " كل ما في الوجود كائن في باطنك ، وكل ما في باطنك موجود في الوجود.. وليس هناك حـد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها.." ودعا جبران إلى التأمل والتفكر. إن من يسخر التأمل فإنه يكشف أسرار "إرم ذات العماد" وذلك في قوله (وقـل للنـاس : إن مـن لا يـشعل سراجه لا يرى في الظلام إلا الظلام..).
ويدرك جبران أن أقوى عنصر في الإنسان يتمثل في العقل الباطني أو الإرادة الباطنية وهـو القـوة الخفيـة الـتي تدرك كنه الذات ومكنونات الغوامض والطلاسم..
فالظواهر التي تتناولهـا الحـواس مبطنـة بقـوة كـليـة شاملة تحرك الظواهر من وراء الحجاب وذلك في قوله: "إنّ إرم ذات العماد موجودة في باطني".
كيف الوصول إلى «إرم ذات العماد ..)؟؟
إن الظمأ الروحي - عند جبران هـو الـسبيل الموصـل إلى «إرم ذات العماد ، ثم يظهـر لـنـا جبران أن ضعف الإنسان واستسلامه أمام الأسرار الربانية ويستكشف الغيـب عما وراء الحجاب وعجـز الإنسان أمـام (بـديع السموات والأرض)
فيقول: ((ومن من البشر يستطيع أن يجمع الأثير المحيط بهذا العالم في كؤوس وأكواب؟؟))
ثم يرتقي جبران في «إرم ذات العماد>> إلى سـلم البرهان العقلي الرياضي السليم في إثبات (الحق) متخذاً من النظرية السببية هادياً له في قوله: (عجبت لمن يثبـت أبديـة المسببات ولكنه يحتم باضمحلال الأسباب)، ويصل جبران
إلى نتيجة واحدة أن الإنسان راحـل في هذه الحياة مهما تمرد وتجبر، وتمادى فإن الفراق ملاقيه.
في قوله : (وأنا غريب في كل مكان..)؟
ومتى يصبح الإنسان معروفاً..؟
الموطن الأصلي للأرْواح المشتاقة والأنفس التواقـة إليهـا هـي مدينـة الأرْواح، مدينـة الراحـة والسكينة والاطمئنان.. في «إرم ذات العماد>> اكتملت عبقرية جبران ولكن قلَّ من قاله بأسلوب "مشع" كأسلوب جبران.. في (إرم ذات العماد) زبدة مستخلصة مـن تأملات جبران في الكـون والإنسان والحيـاة.. صـاغ قلـم جـبران «إرم ذات العماد>> في منتهى الدقة والبراعة والإبداع.
نظراً لاستخلاص الحكمة وارتقاء العقل في سلم الحضارة واستقصاء للحقائق العلمية أسرد قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل.. يصور ابن طفيل مولوداً رضيعاً ألقي به في مجاهل جزيرة خالية من البشر فحنتْ عليه ظبية فقدت ولدها فربته بحليبها وحنانها حتى أصبح شاباً يافعاً فتعلم جميع الأصوات، وقلد الحيوانات واتخذ من الأحجار سيفاً وسلاحاً ومن أوراق الشجر لباساً وستراً.. ثم ماتت الظبية فحزن عليها حزناً أليماً وهاله موتها فبحث عن سبب موتها فالشكل الجسدي لم يتغير لوجود العلة في داخل الجسد في قلبها الجهة اليسرى فوصل إلى قرار أن سبب الموت في قلبها المرتحل، فامتهن مهنة الجراح في تشريح الحيوانات ثم لاحظ أن الجسد ينتن فوجد غراباً يواري أخاه فقلده في عمله ودفن جسد الظبية في التراب.. ثم هداه عقله أن يبني بيتاً يأوي إليه ويتخذه قلعة حصينة للدفاع عن نفسه..
وبعدما بلغ الحادي والعشرين من عمره أخذ يتأمل في هذا الكون المتناسق البديع فوصل إلى أن في الكون كمية ونوع (الكم والكيف) وأشرق في قلبه لغز الروح وسره العجيب، ثم نظر إلى الأجسام فرأى صورها تتغير فالماء يصبح بخاراً ويعود ماء فعلم أن اختلاف الصور لا يعود إلى أصل الأشياء، وأدرك ببداهته الألمعية أن كل حادث لا بد له من محدث وأن المخلوقات لا بد لها من خالق فحدث له معرفة هذا الخالق ثم رأى أنه يتوجب عقلاً لهذا الخالق العظيم جميع صفات الكمال ولما نظر إلى داخله فوجده مظلماً كثيفاً فأدرك أنه لم يخلق عبيثاً.. وإذا وقع بصره على حيوان نشب به ناشب أو مسه ظلم أو جوع حاول إزالة العوائق.. فاستخلص أن الإنسان يجب أن يكون نافعاً للآخرين.. و حال يتجرد من أحاسيسه الجسدية، وطلب الفناء عن نفسه فاندغمت ذاته في الذات الإلهية فحدث له الإشراق الروحي ثم تحدث عن تلك المتعة واللذة الروحية وما رآه في العالم العلوي من شطحات روحية فائقة.. ثم ينتقل ابن طفيل إلى جزيرة مجاورة فيها قوم يدينون بدين السلف الصالح ومن أئمتهم فتيان أحدهما (أبسال) المختص بالعلوم الباطنية والثاني (سلمان) الداعي إلى العلوم التشريعية الظاهرية فانصرف (أبسال) إلى اعتزال الناس لأنهم لا يفهمون منه واجتمع (أبسال) بحي بن يقظان فآمن به أدرك أنه من الذوات العارفة وقيض الله لهما سفينة فأقلتهما إلى جزيرة (أبسال) وهناك حاول حي بن يقظان أن يبعث أسرار الحكمة في نفوسهم فلم يفقهوا شيئاً منه فاستخلص حكمة بالغة: إنه يجب مخاطبة الناس قدر عقولهم فأوصاهم بالالتزام ضمن حدود الشرع والاقتداء بالسابقين الأولين فإن ارتفعوا فوق ذلك فإن النكسة تلاحقهم، وساءت عاقبتهم ثم غادرهم وعاد مع صاحبه (أبسال) إلى جزيرته، وتفرغا للعبادة إلى أن أشرق الإيمان في قلبيهما، وأتاهما اليقين كبزوغ الفجرِ.. نستنتج مما سبق النقاط التالية:
أولاً: ارتقاء العقل في سلم المعرف من الجزئيات إلى الكليات.
ثانياً: قد يتعرى العقل الكلال والعجز عند تصور الأزلية المطلقة..
ثالثاً: العقل البشري قادر على إدراك وجود الله في مخلوقاته و آثاره..
رابعاً: إخضاع الجسد لضوابط الروح..
خامساً: الحكمة في مخاطبة الناس على قدر عقولهم..
سادساً: التفكير في ملكوت الكون يقود صاحبه إلى النكهة الروحية السامية التي تعلو على كل الملذات الجسدية..
من كتابي جولة حول أضرحة مضيئة جعدان جعدان.
في مرج مخصب جميل.. تتعالى قامات النرجس والسوسن، والقرنفل، والحبق... وبينما كانت الزهور تحتفل بعيد ميلادها.. وأوسمة الفرحة تعلو هنا وهناك...!
إذ خرجت (بذرة القرعة) من رحم أمها، وظهرت على مسرح الحياة، ففتحت عيناها وهي خائفة مذعورة..! فرأت أقواس النصر مرفوعة فوق تيجان الزهور.. وكانت بجانبها (شجرة الزيزفون) تبارك لحقل الزهور بالحياة الرغيدة..
فعاشت (بذرة القرعة) في هذا الطقس الرومانسي الذي يعبق بأريج الورود والرياحين...! ونمت، وطالت عرائشها حتى تسلقت غصناً من أغصان
( الزيزفون) وما زالت القرعة في علو وسمو حتى بلغت أعالي قمة من قمم (الزيزفون) فتمالكها الزهو والكبرياء فجردت لساناً أبيض كالحسام..
وراحت القرعة تقرع الزهور بنبرة عالية صاخبة.. فزلزلت كيان المرج بندائها الصارخ! واضطرب (المرج) من هول ما أوحي إليه من قول فاضح... فكأن ريحاً صرصراً قد عصفت به...! فقالت : ( يا معشر الزهور...! خلقت من شهر ونيف، وارتفعت إلى هذا القدر العالي..! وأنا في علو وارتفاع ارتقي سلم الفضاء.. فمنحني الله هذا المنبر منبر الزيزفون لأكون فوقكم.. وأنا مليككم وأنتم أشياعي.. وتفردت بصفات لا تليق بغيري.. تميزت بالمنصب الكبير والتقدم السريع في بلوغ المعالي، والارتقاء إلى سدة الخلافة... أنا يا معشر الأقزام سأحكم بشريعة السماء التي وهبتني تعالميها، والتي أتطاول في أعماقها إلى ما شاء الله..! أنتم أيها القصار الضعاف اقتنعوا بدرجتكم هذه.. فالكائنات خلقهن الله على درجات بعد اختبار معادنهن.. فامتحنني الله بعد تجربة طويلة فنلت هذا العرش الملكي المهيب.. إن تدني مستواكم هو قدركم الذي أوجدكم.. أنتم يا صغار الأرض خلقتم عبيداً هكذا يقول: ( العرش الملكي المهيب). إن تدني مستواكم هو قدركم الذي أوجدكم.. أنتم يا صغار الأرض خلقتم عبيداً هكذا شاءت إرادة السماء فيكم فاسمعوا وأطيعوا ، واملأوا الجو مسكاً وعطوراً.. وارفعوا بطاقات شكر وامتنان لي فأنا المليك المقتدر، وأنا خليفة الله لكم.. جعلني الله كروية ككروية الأرض، وحباني رأساً كبيراً لأنني الدماغ الأكبر فيكن أيها البؤساء...! فقدموا لي طقوس الطاعة والولاء..!)) فقهقهت الأزهار معلنة عن استهزائها لهذا الخطيب الأقرع.. فقال النرجس وقد تكلل ثغره بالندى.. ( يا صاحب الكرش الكبير لا يغرنك هذا المنبر العالي.. لماذا التكبر؟! يا أيها النافخ في جسمه، النفخ له عواقب لا تحمد..!! وكل من علا و تكبّر خسف به السقوط إلى الهاوية..) وتحدث السوسن قائلاً: ( إن كثيرين من قبلك قد غرهم العلو، وورطهم الكبر فأهلكهم الله، وأنزل فيهم عقاباً أليماً..)، ثم قال الحبق وقد أشرق وجهه بنور الجمال: (أيها المغرور.. إن النملة قبل أن تمُوُت تطير في الجو.. هذه إشارة إلى أن نهايتك قاب قوسين أو أدنى..) وصاح القرنفل: أيتها القرعة الجرداء: إن الخريف لآتٍ، سوف تهوين على الأرض وتسقطين.. وإن غداً لناظره لقريب.. ولسوف تتناثرين كما يتناثر الرماد في مهب الريح.. واهتز الزيزفون معلناً عن غضبه، وثورة بركانه.. ما هذا الجسم الذي وطأ بقدمه على ظهري؟! أنا منبر البلابل والطيور.. إنه من العار لي أن يسكن في أضلاعي مثل هذا الأقرع المغرور ،ذلك الأبله المعتوه..!!) وقالت الأزهار جمعاء: لا تحزني فإن أجله قريب ، ويوم السقوط قد دنا..) وعندما جاء الخريف اصفرَّتْ وذبلت جذور القرعة فهوت على الأرض ، وتناثرت أشلاؤها إرباً إرباً بفعل عاصفة الخريف، وتبعثرت ذراتها في بحر العدم والانمحاق..! فأنشدت الأزهار نشيد الخلود.. وقد تكللت تيجانها بنشوة النصر.. وهكذا مات الأقرع موتاً تراجيدياً نتيجة إصابته بداء العظمة أو بنفخة الذات..!
بينما كان النهر يتدفق من صدر الأرض.. ولا يهتم بما يقوله المراؤون من الناس عنه.. يغازل الأزهار والورود.. مانحاً لقبيلة الغابات الوعود الدافئة الرصينة الصادقة.. والنهر يزحف من بين السهول والهضاب.. إلى الممرات الجبلية.. بين قيعان الأدوية العميقة.. غارساً في طريقه نعيم الحياة.. وصانعاً في مسيرته الكبرى معجزة الإبداع والنماء.. وأضحى النهر أباً روحياً لكل نباتات الأرض .. والأسماك المسكينة تلوذ بأعماق النهر لتبني لها وطناً في أحضانه لتُخلدها إلى فردوس الحياة.. وتنعم بعد طول حرمان ويتم وتشرد.. كان النهر مزهواً بعطائه الرغيد.. فرحاً بنهجه الذي ارتضاه.. تهللت الأزاهير.. ورحبت الأشجار وصفقت الجبال بمقدمه.. وكلما قطع النهر مسافة ازداد نشاطاً وحيوية لا يكل ولا يمل.. بل يرتقي سلم السيادة تلقائياً.. وكان قد اقسم اليمين على أن يملأ الأرض بهجة وحبورا.. ويحييها زروعاً وثماراً.. معيداً للصحارى العطشى مجدها الغابر.. وعطاءها التالد المؤثل.. ولما كان النهر يمرُّ بجنات الأرض حالما تشكلت سحب دكنٌ في عرض السماء و طولها.. ثم رعدت فأبرقت فهطلت فهب إعصارٌ ساحق.. وفاض طوفان ماحق.. لا يبقي ولا يذر.. فأبرق النهر إلى السيل الجارف : هلم إلي أيها السيل النازل.. لقد وُجدت في ظروف غامضة.. وولدت ولادةٌ غير طبيعية.. ورغم الظروف السيئة التي أنجبتك.. أرجو أن تساعدني في العمل معاً في سقاية بساتين الحياة.. واستبشر النهر خيراً بقدوم السيل الهادر.. الذي ولد من مخاض السماء ليغزو الأرض ويبني له امبراطورية تتحدى كل ممالك الأرض.. تلقى السيل الطاغي برقية النهر بالهمز واللمز.. وسار في سبيله يهدم.. ويغرق دهاقين الزهور وممالك الورود.. واعتراه خيلاء النصر ولم يعد يكترث بابتهالات النهر وتوسلاته.. عبس السيل وتجهم واستشاط غضباً.. واحمرَّت عيناه.. فأطلق صراخ الموت.. راكباً رأسه معتقداً أنه البطل المتفرد في الميدان.. لا سلطان غيره، ولا جبار مثله.. ثم تدحرج من الأعالي محدثاً طوفاناً ماحقاً.. وخراباً بلقعاً.. يبيد الحرث والنسل.. رافعاً عقيرته منذراً بالويل والهلاك.. فاختبأت الكائنات في أعشاشها.. خوفاً من صراخ الموت الذي يخيم على سماء حياتهن فَارتدت الكائنات لباس الجوع و الخوف.. ، والمسكنة و تضرَّعت إلى ( الواحد القهار الجبار المتكبر سبحانه) اتقاءً لشره.. والانتقام لهذا المارد المتمرد.. فاستجابت السماء نداء الكائنات.. فتشرد السيل نحو الفيافي والبيداء.. وضلَّ الطريق .. وظلَّ يهوي ويهبط.. ويسقط في ظلمات بطونها كوجبةٍ شهية.. فاستحق لعنة الغدران والرياحين.. وظلَّ يهبط إلى جحيم الصحارى.. ويحترق في جهنم الرمال وبئس لمصير...!...!...!
كلما امتشقت بلجام القلم فارتد قائماً ثائراً هائجاً إلى أين تقودني أيها الفارس المغرور؟!
إلى الجزيرة العذراء التي لم يمسها دنس المارقين، ولوثة الملوثين ترغمني أيها الفارس المجلل بغيار الهيجاء أن ألطخ وجهها المريمي بآثام ذنوبك ، ولهاث أضغانك .. ودخان شهواتك اللاهثة..
ينتابني غمام رمادي من الهواجس والظنون.. هل أقدم نفعاً للناس في كتاباتي هذه؟! أم أنا أبلهٌ، أبكم، وقزم ضعيف أمام فن الكتابة.. لم أختمر بعد!
وينصحني بعض الناس بأن القلم سلاح الضعفاء فدعه فإنه يوصلك إلى أكواخ الفقر ودهاليز التعاسة والشقاء..
فابحث عن سبيل آخر يفضيك إلى قصور الثراء ورنة الفلس والدرهم..!
ويخاطبني القوم بأنك تحصد أدغال الرياح في تضاريس الشتاء..!!
وتركب أمواج الأحلام في هودج بلوري مصنوع من سراب ضبابي ولكن لا أكترث بأقاويل هؤلاء وهؤلاء، وأعتقد جازماً بأن الكلمة الطيبة تضرب جذورها في تربة الأرض وتتطاول أغصانها نحو أعالي السماء..والمطر المنهمر لا يحسب حساب المشردين في المخيمات أو المرضى الذين يرتعشون أمام البرد والمارّين في الشوارع والأزقة.. وأتذكر أن (نابليون) قال مرةً: لا أخاف من فوهات المدافع بل ترتعد فرائصي من فوهات الأقلام..!!
فبالكلمة الأولى رفعت السموات والأرض.. وبها زينت السماء بمصابيح وبالقلم كان القسم الإلهي ، وبه خلد الإنسان ، وبالكلمة ظهرت الأمة وولد التاريخ، وبرزت إمبراطوريات ودولٌ ومماليك..
وبالكلمة نشبت حروب وانتهت حروب... بالكلمة يستيقظ الخير وينام الشر.. نحن نكتب ليزدهر الحب في مساجد القلوب.. ويزهو النعيم في كنائس النفوس... نحن نكتب لتطهير الأفئدة من جراثيم العلة والمعلول لنبني مجتمعاً عقلانياً متحضراً يرقى صهوة المجد. وأخيراً وليس آخراً: نحن نكتب لسلاطين العقول وليس لسلاطين الجيوب والكروش..!
أيها الفارس في فلاة القرطاس.. ألم تكفّ عن صولاتك في الكر والفر؟
تهدم العروش، وتبني الصروح على آكام من الرمال.. أما آن لك أن تترجل وتنزل أيها الأغبر المسنون في بيداء الصفحات.. لقد لطخت نقاء القرطاس، وجماله البهي وصيرته إلى ملعب يثير الغبار والهياج، وخنقت ساحته بقتام من الغيوم، وظللته بسحابة سوداء داكنة.. حسبك ذنوباً وآثاماً، وأنت تلعب على شطرنج البياض ترتكب الخطايا.. وتتباهى بلغة الضاد بالباء والتاء.. وتسخّر الأبجدية العذراء لعنفوان غطرستك.. ومغامراتك الطائشة وحماقاتك البلهاء.. كفاك أيها العود الأجوف.. الهزيل كذباً ونفاقاً.. وبهتاناً تسوّد على مرآة وجهها الملائكي صوراً من أشواك التشاؤم، وبقعا سوداء من العنجهية والتمرد.. تسوّد طهرها بأشباح الغيلان وتغير فيحاءها بجيش عرمرم من طلاسم الأساطير.. قلبك أيها النحيف قد من ظلام مرعب ينفث أمراضاً جرثومية خطيرة.. وعذابا نفسياً هائلاً.. فعد إلى رشدك.. واسلك سبيل الحق والبهاء.. أيها التائه في الجزيرة البيضاء.. أيها التائه في الجزيرة البيضاء، كفاك تهافتاً وتلفيقاً.. فارحم هذه المسكينة اليتيمة التي لا حول لها ولا قوة.. وقد دخلت على محرابها دون استئذان، وخضت ملحمة جولاتك البهلوانية دون رادع من خجل أو وازع من ضمير.. وعليها تصب جحيم نفثاتك الجهنمية وترتكب قدسية طهارتها بسلطان سلوكك الأهوج وزوبعة تلطخ جمالها بشاعةً وعبوساً وتذيق مقامها إذلالا وضعفا..
أنت.. أنت أيها الهائم على وجهها.. أم يهدأ لك بال؟ وتقر لك عين؟ “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” فاهتز القلم اهتزازاً عنيفاً من هول ما أوحى إليه من قول ثقيل، فاستل لساناً كالسيف.. فقدحت عيناه شرراً وغضباً..
فانتصب قائماً كالحية الرقطاء.. وصفق يخطب بدون تحضير والزبد يعلو فمه. أيها الطاغي: كنت راقداً في رحم الغيب بين طوايا ذرات الأتربة فأنبتني الأقدار فأصبحت بين عالم الرياض والبساتين وبقامة سامقة باسقة.. فاقتلعتني من جذوري.. وجراحي ما تزال تنزف دماً قرمزياً قانياً..
أخرجتني من مهد الأجداد، وأذقتني داء الهجران والفراق.. واتخذتني إصبعاً سادساً من بين أصابعك ونفخت فيني سموم أحقادك.. ودخان تنهداتك الكاوية.. ولهاث أنانيتك الطافحة بالاختيال والتجبر، وعبادة الذات.. أنا عبد مأمور أيها العاتي، أتلقى لهاثك الملطخ بالآثام والذنوب، في سبيل إشباع أغراضك الشخصية الرخيصة.. رغماً عني.. تصب زفراتك على رئتي، فيخرج من فمي دخان كالح أسود.. تذيقني ألواناً من آلام نفسك.. تصب فيني داء الخبث واللئام، وأنا الأسير السجين بين يديك.
أيها المستبد.. جعلتني ترجماناً لنزواتك الكريهة وشهواتك التافهة.. يوم كنتُ لسان صدق للآخرين لفظني قيوم السموات و الأرض في محكم بيانه:
(ن. والقلم وما يسطرون..) كفاك كفراً وضلالاً أيها المارق.
كفاك تيهاً وضياعاً أيها الأبله، حسبك جهلاً وظلاماً أيها الغبي الأحمق.. ولسوف أسلمك- يا ملك الظلمات- لمشيئة الأقدار، يوم أطلق من سرداب الأسر، عندئذ تنقش الحرية أقواس النصر عبر جدار الآفاق .. فأتحرر من رهين أسرك، عندئذ أعلن مجد الكلمة..
فيردد الكون أصداء النشيد الخالد.. (( المجد للقلم)).
التقى الحقّ والباطل في محفلٍ, فأدّعى كلّ واحد أنه الأقوى والأعدل .فرفع الباطل عقيرته مستخدما ذراعيه أنا الحضارة والتقدم العلمي الهائل وهتف الحقّ قائلا : أنا اليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت وبعد هذا التهديد و الوعيد تواعدا على أن يلتقيا في موعد لاحق.
وحضر الاثنان في موعدهما فنظر الباطل إلى الحق فوجده هزيلا نحيلا أشعث أغبر مكسوف البال حافي القدمين مرّقع الثياب .. قال الباطل : أراك غير لائق للحوار والجدال والسّجال هيّا بنا إلى مطعم فخم لأطعمك أشهى المأكولات وأسقيك ألذ ّ شراب ..
فذهبا وقدم الباطل للحق الطعام المستطاب والشراب اللذيذ وخرج الباطل ينتظر مقدم الحق ريثما يشبع الحق وطلب محاسب المطعم من الباطل ثمن الطعام فرّد الباطل عليه وأقسم بالحق بأنه أعطاه وظلّ يقسم بالحق وصاحب المطعم ينكره وسُئل الحقّ لماذا لا تبدي رأيك على هذا الخصام ؟فأجاب الحقّ بخجل واضطراب لا أستطيع الرد لأنني آكل وأشرب وأكتسي على حساب الباطل..!!
يشهد عصرنا التطورات التكنولوجية التي تعتبر من أهم معايير التقدم نتيجة للتقدم العلمي والثورة التكنولوجية رأسيا وأفقيا وغير ذلك من تحديات طارئة تمثل تهديدا لجوانب عديدة من المسلمات الثقافية والوطنية القومية ومن المسلم به أن التقدم التكنولوجي يتحقق بمعدلات أكبر وأوسع من التطورات الثقافية والاجتماعية والبيولوجية على حد سواء .
حيث يحتاج التطور البيولوجي إلى حقبات زمنية طويلة وعلى الانتخاب الطبيعي بالرغم من النجاح الذي أحرزته علوم الطب قدراتها الفائقة على التأثير في حياة البشر . فالتكنولوجيا الجديدة والعولمة الخارقة لحصون ودروع الحدود الدولية تؤدي إلى تغييرات جذرية في العالم كلّه .
فالعولمة اليوم هي ما فوق الصناعة تمثل التكنولوجيا المتقدمة.. قوة هائلة في تشكيل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على مستوى العالم ككل وأدت إلى اختلال الموازين والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات وأن كثيرا من التحديات التي يواجهها العالم الآن له مخاطر يصعب على أية حكومة أو أية منظمة التغلب عليها بمفردها مما يستدعي تعاون المجتمع الإنساني بجميع مؤسساته الفاعلة ..
ومن تلك الأخطار ازدياد السكان الرهيب ارتفاع معدلات الاستهلاك والطاقة وانتشار الأمراض والأوبئة كالايدز مثلا.. والتوجه نحو استخدام أسلحة الدمار الشامل سواء النووية أو الكيماوية أو البيولوجية واحتمال وقوعها في أيدي بعض الأفراد أو المنظمات المارقة .. فكلّها تمثل تهديدات لمستقبل الجنس البشري.
في كتاب (صدمة المستقبل )للعالم الأمريكي (توفلر) عام 1970 يشير إلى الاضطراب والبلبلة في الحياة السيكولوجية للأفراد والجماعات نتيجة للتغيرات الواسعة العميقة فالصدمة المستقبلية هي ضياع وفقدان للتوجه تنجم عن هجوم تغيرات غير متوقعة بسرعة رهيبة تفرض أوضاعا جديدة على الواقع المألوف وهذا ما يواجهه المجتمع الإنساني الآن مما يثير البلبلة كما هو الشأن بالنسبة للطاقة والاحتباس الحراري وشؤون البيئة والثورة المعلوماتية .
العالم (يودكوفسكي) يميز بين عدة مستويات مستقبلية _المستوى الأول في التكنولوجيا الحديثة السائدة التي أصبحت مقبولة ومستخدمة في مختلف أنحاء العالم ثم المستوى الذي يليه الواقع الافتراضي وفي الاقتصاد القائم على التجارة الالكترونية والمستوى اللاحق المتمثل في السفر بين النجوم والكواكب ومحاولات تحقيق الأمل في تنفيذ فكرة استمرار الحياة أو خلودها عن طريق استخدام نتائج التقدم في مجال البحوث الطبية والهندسة الجينية والمستوى الأعلى هو المتمثل في النانو تكنولوجي والذكاء الاصطناعي الموازي للذكاء البشري فهذا التنبؤ العلمي المستقبلي يعطي للناس فرصة لتهيئة نفوسهم لما سوف يواجهونه في المستقبل من كدمات .
وأيا كان الأمر فإن الجنس البشري يتمتع بقدرات هائلة على التغيير الخلاق الذي كثيرا ما يتجاوز كل التوقعات وعلى أية حال أن الخمسين سنة المقبلة سوف تشهد التغلب على الكثير من التحديات من خلال الاعتماد على التطورات السريعة والمتلاحقة في مختلف مجالات التكنولوجيا وخاصة الكمبيوتر وكلها تطورات مستقبلية ما يسمى بالذكاء الاصطناعي الفائق الذي يطبق المعلومات والخبرات بأساليب مبتكرة لحل المشكلات التي تواجه الإنسانية وتحقيق الأفكار الجديدة التي تسبب صدمات مستقبلية تؤدي إلى خلق واقع جديد أكثر نضجا وتقدما وحرية ورخاء فالمشكلة التي تواجه العالم الثالث المتخلف اليوم هي ضرورة تطوير التعليم استعدادا لتقبل التغييرات العالمية التكنولوجية القادمة حتى تستطيع الاحتفاظ بشيء من التوازن أمام تلك الصدمات والالتحاق بالركب بالقطار السريع المذهل فإما أن نتخلف عن القطار ونبقى في العراء وإما أن نكون في عربة القطار فلا خيار ثالث أمامنا ، أما أزمة القيم وانحطاط الثقافة وتدهورها فقد وصف أبو حيان التوحيدي نفسه في القرن الرابع الهجري للقاضي أبي سهل بعد حادثة حرقه للكتب في نهاية حياته قائلا :
"إنني جمعت الكتب أكثرها للناس واضطررت بعد المعاشرة إلى أكل الخضر في الصحراء إلى بيع الدين والمروءة وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق " بينما يروى أنه لقي زيد بن رفاعة ذات مرة في الورّاقين فما هش له ولا اكترث به فقال التوحيدي معللا هذا وما رآني أهلا للجواب . وما أورده التوحيدي عن أبي بكر القومسي الفيلسوف الذي كان بحرا عميقا فقال لي يوما :
"ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغت مني إن قصدت دجلة أغتسل منها نضب ماؤها وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلدا أملس. ما يعانيه المثقف الكبير المطرود من فضاءات النخب الارستقراطية المستغلة ذلك المثقف الذي يتحمل قسوة العيش على سؤال اللئام الجهال الثقال.
تلك الفئة المتسلطة على أرباب الأقلام لا تخلو من حضور نرجسي متضخم للأنا المعرفية ,صراع المثقف المأساوي بين كرامة العلم ووطأة الحاجة إلى المال تطلعا للعيش الكريم ,يقول التوحيدي : "متى وجدت عالما وجدته خفيف المال ومتى وجدت موسرا وجدته خفيف البصيرة في الإمتاع والمؤانسة فيستشهد بأفلاطون إذ يقول :
(إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق) ويؤكد أفلاطون أن الحكومة المثلى حكومة الفلاسفة هي حكومة الأغنياء بحق لا أغنياء الذهب بل أغنياء الفضيلة والحكمة تستكن نصوص أفلاطون المثالية بتجربته الواقعية المعقدة والمريرة في ظل صراع المحتدم بين الحزبين الديمقراطي والارستقراطي.
بعد وفاة (بركليس ) أثينا العظيم ثمّ فترة الحكم الارستقراطي بعد هزيمة أثينا على يد أسبارطه وانهيار حلم أفلاطون الذي ظن الارستقراطية قادمة بحلم العدل والخلاص من غوغائية الجمهور ثم عودة الديمقراطيين ثانية وإعدام سقراط على يد الديمقراطية الأثينية . ما نعرضها تلك جذورنا ومشابهات تاريخية وعصور متقاربة الملامح ويقول التوحيدي عن واقع المثقفين في عصره واقع العوز والفاقة (إن جرعة الحرمان أمر من جرعة الثكل) .
غير أنه لا يستكين إلى الذلّ والانضواء تحت لواء النخبة المستغلة ,إنه اليائس اللامبالي للعواقب الذي يصل إلى حافة الوعي التراجيدي إلى الضياع وفقد الاتزان الوجودي والمعرفي والقيمي,إن هذا الوعي المحبط اليائس لم يعد يخشى من النهاية ويرسل التهديد والوعيد عبر مقولته (من جعل نفسه شاة دقّ عنقه الذئب).
ويستطرد التوحيدي في هوامله مؤمنا بقدرة الله وبالقدرة الخالقة للكلمة حيث فتق الله أسماع الكائنات بقوله كن فيكون وكانت معجزة بينة للكلمة أو النص القرآني فقد مارس التوحيدي محاولته الثأرية عبر فضاء الذكرى في كتابه (مثالب الوزيرين) وذلك ما أصاب التوحيدي من إحباط حاد سواء في بلاط الصاحب ابن عباد أو ابن العميد بعد أن خرج خالي الوفاض من حضرة كليهما . يقول التوحيدي أبو سليمان في الإمتاع : (إن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ) العلم نفسي والمال جسدي .
المال يصلح الجسد والعلم يصلح النفس الإنسانية ويرجح التوحيدي كرامة المثقف وشرف العلم على شهوة المال ويصف صاحب المال بأنه يخدم الجسد ويقارب البهائم والضواري ويفارق فضاء الإنسانية الحقة. ويصف العالم بأنه وارث النبوة محقق القصد الإلهي من الخلق ويمارس زكاة العلم وصدقته أما المال فقد يرثه المرء دون بذل جهد كما يرث الشرف والمكانة وقد يكون غير جدير به على عكس العلم الذي هو بالضرورة مسألة قدرة وجدارة واتهم التوحيدي عبّاد المال بالغش والمناورة والنفاق والأبيات التالية تعبّر عن واقع معاناتنا:
كل سعي ضائع ٍ في زمن كذب القائل من جدّ رزق
زمن قد ساد فيه سارق يسرق اللقمة منه من سرق
المال يستر كل عيب في الفتى والمال يرفع كلّ وغدٍ ساقط
فعليك بالأموال فاقصد جمعها واضرب بكتب العلم عرض الحائط
وفي العبرة
إنما العمر في الحساب ثوان ٍ تنتهي بعدها إلى الرحمن
وارشف الكأس من لعاب المنايا وأفق من غيبوبة الغفلان
ضلّ من ظنّ للزمان أمانا وتولى بغصة الخسران
وأنهي كلامي بهذين البيتين :
إني أنا الدولار جلاد الكرامة والضمير
ولكم بنيتُ ممالكاً وهدمتُ من بلدٍ قرير
من المعلوم أن الديمقراطية مفهوم مجرد تعني قيما ومبادئ كحرية التعبير, وحقوق الإنسان وإقرار منظمات حقوق الإنسان وهي في الوقت ذاته نشاط سياسي في الواقع الشعبي والقيادي تعتمد أولا على الانتخابات والمجالس النيابية.
ويعتبر التصويت أهم مقومات الديمقراطية ومقياساً لمدى التزام الشعب، ومؤشراً على شرعية الحكومة وإسهام المواطنين في توجيه سياسة الدولة ، وبناء الأسس التي ترتكز عليها أسلوب الحكم وعلامة دافعة على احترام الحكومة لرأي المجتمع إلى حدوده الدنيا، وكثيرا ما تغفل السلطات الإدارية في المجتمعات الديمقراطية حقوق الإنسان من أجل الوصول إلى سدة الحكم تكاد تختزل الديمقراطية الليبرالية ... وكثيراً ما تكون الانتخابات غطاءً وشعاراً لماعاً يتستر وراءه الفساد بأنواعه وقد يؤدي إلى قيام نظم أدنى طغياناً وأقلّ فساداً.
من الواضح بعد سقوط ما يسمى بالاتحاد السوفيتي أدّى انتشار الديمقراطية في العالم وسقوط بعض أنظمة الحكم الاستبدادي لتحل محل هذه الأنظمة الدكتاتورية حكومات منتخبة ومن المألوف أن تدّعي أنظمة هذا الحكم أو ذاك اعتزازها بالديمقراطية رغم نظام الحكم في كثير منها أقرب إلى الاستبداد مما جعل البعض يلفظ بتحفظ أن ّ للديمقراطية لها أشكال متعددة.
وانتهز الغرب في هذه الفرصة المواتية ليبسط هيمنته السياسية على مناطق شاسعة في العالم وأعلن الغرب الأمريكي والأوربي أن الديمقراطية الليبرالية هي النموذج الأفضل والمثالي ليسود الشرق الأوسط أولاً والعالم ثانياً . وقد تنبأ (فوكوياما) بأن الديمقراطية مرتبطة بانتهاء الأنظمة التسلطية واعتبر ذلك بانتهاء التاريخ (أو نهاية التاريخ) فيعتبر الديمقراطية آخر مراحل التطور الايديولوجي والصورة الأسمى للحكومات والأنظمة المقبلة ، فيرى (فوكوياما) أن الديمقراطية الليبرالية أفضل مسار سياسي اجتماعي لترسيخ الحرية في كل أنحاء المعمورة ولاقت نظرية (فوكوياما) من النقد والطعن لأن قبل انتصار الديمقراطية يجب أن يكون هناك فكر ووعي في الواقع المحسوس... وهذا لم يتحقق في أرض الواقع المادّي ...يقول (رودجر كيمبول) في مجلة (The New criterion) بأن الحكومات الديمقراطية قد فشلت ولم تفلح في تحقيق الديمقراطية للشعوب وقد ذكر (فيلي برانت) أنه لم يعد أمام العالم الغربي ردحاً من الزمن لتطبيق اليمقراطية قبل أن يسحقه المارد الذي خرج من قمقمه (الزحف الديكتاتوري) المثقل بتضخم الرأسمال ويذهب الروائي البرتغالي (خوزية ساراماجو) الذي حاز على جائزة نوبل عام 1998 أن الديمقراطية الغربية دخلت مرحلة تدهور وقد تؤدي إلى تلاشيها واندثارها لأن ديمقراطية الغرب باتت تتناقض مع المبادئ الأساسية والأمثلة كثيرة في هذا في تشيلي عام 1973 وانتخابات نيكاراغوا عام 1982 ....
فغدت الديمقراطية لعبةً بيد المدّعين بالديمقراطية والمتشدقين بها ويدّعي أصحاب هذا المفهوم الديمقراطي بأنهم يحافظون على أمن الشعوب بحجة حرية التعبير خلف أسباب واهية . وفي حديث مع (ناعوم تشوفسكي) في حوار أجراه معه (جون تيتلو) ونشر في dragon fre يونيو 2005 بأن السلطات الأمريكية وضعت يدها على المكتبات العامة وفرضت الرقابة الشديدة على الكتب . فتحديات المستقبل من نوع جديد تختلف ما عهدناه في الماضي فإن تحديات ديمقراطية المستقبل تحتاج إلى استقلال القرار القائم على الاختيار الذاتي ...
وتدّعي ديمقراطية الغد إلى تغيير نمط القيم الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي وإنشاء قيم جديدة ترفع من شأن الفرد وتنمية الشعور بالانتماء والتجاوب مع المتطلبات الروحية والجمالية والذهنية ، وتقضي على الشعور بالاغتراب وقدمت جهود كبيرة إلى توسيع رقعة المشاركة لإبداء الرأي بشأن المشكلات التي تواجه المجتمع والدولة وأن الشعوب تختار ممثليها في المجالس النيابية والمفروض في هؤلاء أن يتكلموا باسم شعوبهم واتخاذ القرارات التي تحقق المصلحة العليا للشعوب ولخير المجتمع ككل.
وهذا الأسلوب العلمي يؤكد مرة أخرى ارتباط المجتمعات المحلية بالمجتمع العالمي من خلال تصور ديمقراطي سليم يراعي احترام الفرد ويؤمن له حقوقه الإنسانية والسياسية والحق في حرية التعبير كمواطن وحق المشاركة في اتخاذ القرار الذي يتعلق بالمجتمع وأزماته . فالمشاركة لا تقتصر على التصويت فحسب في مواسم الانتخابات بل الاسهام العملي مع الآخرين بالرأي والبحث الفعلي عن الحلول للمشكلات المشتركة عامّةً كالبطالة والإسكان والفقر والتعليم وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والبيئة ... وقد يبدو ذلك مطلباً طوباوياً يصعب تحقيقه في المجتمعات والرأي الأسلم .هو أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الإلكترونية كالإنترنيت مثلاً سوف يساعد على تنفيذ هذا الهدف الذي يحاول تحديد توجهات السياسة للقرن الحادي والعشرين ، وتسخر مبادئ الديمقراطية لهذه الفئة المنتخبة عن طريق الإنترنيت لخدمة مصالحها الخاصّة .
كما يقول (سارا ماجو) في مقالٍ له في الملحق الدبلوماسي لجريدة اللموند الفرنسية أغسطس 2004 ما يلي: "يبدو أن ما نسميه بالديمقراطية يتحول شيئاً فشيئاً إلى حكومة الأغنياء " وليس ثمة شك في أن الإنترنيت يمكن أن يمسهم في إصلاح شأن الديمقراطية التمثيلية التي سوف تعرف باسم الديمقراطية الإلكترونية التي تصرف الناس عن الإنتخابات التقليدية والمواطن الإلكتروني في الغد القريب سوف يتمتع بقدر أكبر في اتخاذ القرار في كل أمور المجتمع ومشكلاته غير أنه سوف يؤدي إلى فقدان العرى والعلاقات المباشرة بين أعضاء المجتمع ..وهذا يثير التساؤل بشأن جدوى الانتخابات الحالي واختيار نواب بالنظام التقليدي من الصعب التنبؤ عما سيؤول إليه الوضع بصدد كيف تكون ومستقبل ديمقراطية الغد ؟؟؟ ولكن المهم كما يقول(ساراماجو ) : (إذا أخفقنا في العثور على وسيلة لاعادة اختراع الديمقراطية فسوف نفقد ليس الديمقراطية وحدها ولكن أيضاً كل أمل في احترام حقوق الإنسان في العالم وسيكون ذلك أكبر فشل لهذا العصر).
القرآن معجزة كبرى و الكون معجزة صغرى من الذرة إلى المجرة و القرآن كلام الله المنزل ]قد جاءكم برهان من الله[النساء174 نبتغي مناقشة الحقائق العلمية القرآنية في العلوم الكونية و الفلكية و دراستنا هذه تشكل الرد العلمي الرصين على كل مرتاب……وأهم القواعد القرآنية في التفسير الصحيح(وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) الأعراف33
قاعدة المثاني: هي كل آية من آيات الله تشبهها في المعاني أو الألفاظ يفسر بعضها بعضا أسماها الباري القدير بالمثاني (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) الزمر 23
قاعدة العلم: أول آية في التنزيل الحكيم أمر بالعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) العلق1 قاعدة التقوى:( واتقوا الله ويعلمكم الله )البقرة 282 ……..فالمولى سبحانه لا يعلِّم كتابه إلا لكل عالم تقي… قاعدة الحديث الصحيح : من خلال الأحاديث الصحيحة التزاماً بقوله تعالى:( وأنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم ) النحل 64 قاعدة عدم التعارض مع الآيات ……..فالقرآن هو الميزان (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) السجدة2
علم الفلك:
هو علم الأجرام السماوية…
دراسة الكواكب والنجوم و المجرات…
أما علم الكون دراسة نشأة وتركيب وتطور الكون ككل…
وهو علم ناشئٌ لم يتجاوز عمره عشرات السنين …
في القديم كان تطور الإنسان كان خاطئاً على الآراء السحرية و الأسطورية و النظريات العلمية الخاطئة…
( ولقد علمتم النشأة الأولى) الواقعة 62 من جبلة بدائية مؤلفة من جزيئات أولية (الكوارك) تتألف من النترون و البروتون و الإلكترون وهو جزئ خفيف ذو شحنة كهربائية سالبة
الفوتون النترينو ومع مرور ملايين السنين اتحدت الجزيئات الأولية ثم اتحدت ذرات الهدرجين و الجسيمات فتكونت بقية الذرات و عددها اثنان وتسعون عنصراً تبدأ بالهدروجين و تنتهي بالأورانيوم…
ومن هذه العناصر نشأت مليارات المخلوقات …
نقطة الصفر أو العدم مجهولة لدى علماء الفيزياء …
يقول ترن تيان عالم الفلك الفرنسي :
(إن المادة يمكن أن تظهر في الفراغ إذا حقنت فيها كمية كبيرة من الطاقة )
أما الذرة :(إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) النساء 40
(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض )سبأ3
فالذرة لغوياً جزء من الشيء يقال ذرر ذرَّ أي فرقه أجزاء …
كل شيء في الطبيعة بدأً من جزئيات الذرة و انتهاء بجميع المخلوقات الموجودة في الكون فالإلكترون هو جزء من الذرة له زوجه المختلف عنه بالشحنة الكهربائية
هي موجبة و تسمى باليوزيتون و البروتون وهو جزءٌ يدخل في تركيب نواة الذرة له زوجه المسمى بمضاد البروتون …….
وهناك أشياء أصغر من هذه العناصر وهي خافية …… (فلا أقسم بما تبصرون و ما لا تبصرون ) الحاقة 38….. فالكون المرئي هو جزءٌ ضئيل من الكون غير المرئي فالكتلة غير المرئية تشكل 90% وقد اكتشفها العالم (زويكي)……
والكوكب جرم سماوي كروي يستمد نوره من النجم كالأرض أما النجم هو كتلة غازية مشعة هائلة الحجم يستمد إشعاعه من ذاته و المجرة هي كل تجمع للنجوم من عشرة ملايين نجم للمجرة القزم إلى عشر ة آلاف مليار نجم للمجرة العملاقة
هناك قو ة حركة الكون تعتمد عل ى الجاذبية و القوة الكهرطيسية و القوة النووية وهي معادلة ومعاكسة لقوة جذب الشمس على الأرض …… فتبقى الأرض سابحة في الفضاء حول الشمس (الله الذي ر فع السموات بغير عمدٍ ترونها ) لرعد ولجاذبية قوة غير مرئية بالعين لمجردة وإن كان لعلم اكتشفها..
أما قوتها فمتعلقة بكتلة الأشياء فكلما ازدادت كتلة الأشياء زادت قوة جاذبيتها بالنسبة لغيرها والكون مؤلف من كتل متزايد ة في الوزن تمسك الكبيرة منها بالصغيرة بواسطة القوة لجاذبية الكونية ( إنَّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) بواسطة الجاذبية و قوة أخرى لم تكتشف بعد ……فالذي خلق ناموس الجاذبية قادر على إلغائها
هناك في عمق لسماء مائة مليار مجرة …تحوي أصغرها عشرة ملايين نجم وأكبرها آلاف المليارات من النجوم …. وكلها تسبح في هذا الكون الذي يتوسع كال ثانية إلى أن يطوي الله سبحانه ويرجعه كما بدأه ثم يبدله بكونٍ آخر …… يوم القيامة مصداقاً لقوله تعالى (يوم تبدّل الأرض غير الأرض و السموات وبرزوا لله الواحد القهار )
الكون في الأصل كتلة غازية عظيمة الكثافة واللمعان والحرارة …….ثم حصل في هذه الكتلة بتأثير الضغط الهائل المتأتي من شدة حرارتها انفجار هائل فتّتتها و قذف بأجزائها في كل اتّجاه فتكونت مع مرور الزمن و الأحقاب الكوكب و النجوم المجرات و اتفق علماء الفلك بأن نظرية الانفجار الكبير لم تعد نظرية بل حقيقة علمية ………فالعلم يثبت بداية الكون و نهايتها………. وأن الكون مخلوق كسائر المخلوقات وليس أزلياً(أولم ير الذين كفروا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما) الأنبياء 3
فكلمة رتق لغوياً تعني الضم و الجمع و كلمة فتق تعني فصل و هنا تظهر البلاغة العلمية الإعجازية في
كلمتي رتق فتق و كل فتق قابل للرتق أما الآية (والسماء نبنيها بأيدٍ و إنّا لموسعون ) الذاريات47 لغوياً الأيدي معناها القوة وفي عام 1916 جاءت النظرية النسبية تؤيد نظرية توسّع الكون وأكد العالمان عام 1929 (همسن) و (هوبل) نظرية توسع الكون و مع تقدم العلوم الفيزيائية الحديثة أمكن دراسة طيف ضوء النجوم و المجرات نحو اللون الأحمر RED SHIFT أن تحسب السرعة التي تبتعد بها المجرات عن بعضها البعض و بصورة عامة فإن تجمع المجرات هي أشبه ما تكون بكتل غازية هائلة من الدخان و ما تزال تتوسع منذ حصل الانفجار الهائل في الكتلة الغازية الأولى و الذي يؤيد هذا الكلام العالم الفلكي هيوبر ريفز والآية الكريمة التالية توضح اللغز ولمعنى قوله تعالى (رفع سمكها فسوّاها) النازعات27 ( وأعطش ليلها و أخرج ضحاها)النازعات 29
فالآية تشير إلى أن الكون في بدء نشأته شديد الظلمة ثم ظهر الضوء و لماذا الليل أسود؟ الجواب لأنه لا يوجد ما يكفي من النجوم لملء السماء بالضياء فكلما توسع الكون تشتّت أنوار النجوم ووصلت إلينا ضئيلاً……!!!
ولسوف تظهر حقائق علمية أخرى ( لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون)الأنعام67(إذا الشمس كّورت )التكوير1 (إذا السماء كشطت)التكوير11 فالكون سيعود كما بدأ كتلةً غازية ملتهبة ووجود الإنسان لا يشكّل إلاّ كلمحة بصر في تاريخ نشأة الكون و تطوّره ولو استلهم علماء اليوم إلى كتاب الله الكريم لاكتشفوا الظواهر لخفية في هذا الكون الرحيب……!! أمثال كوبرنيك…غاليل….نيوتن .وغامون …..لوميتر…..فون ألن…..مانديل…..بوفري….وغيرهم
وهكذا بدءاً من الكوارك فترة تصاعدية و انتهاءً بالإنسان بدأ تاريخ الكون من خمسة عشر مليار سنة تقريباً من الفراغ ثم من الجبلة الأولى للجزئيات لأولية وانتهاءً بجسم الإنسان المؤلف من 30 مليار مليار مليار جزيء من الذرة قال (انيشتاين) يوماً:أريد أن أعرف كيف خلق لله صاحب النظرية النسبية ….الله حاذقٌ بارعٌ لا يلعب بالنرد مع الكون
الكون مائة مليار مجرة تقريباً و كلها تدور و تجري بسرعة متفاوتة و أسرع المجرات التي تصل سرعتها 36% من سرعة الضوء أي 108 آلاف كلم في الثانية (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً) الفرقان 61 وقد ذكر سبحانه أن لكل نجم عمراً محدداً ولادة و نضوج واحتضار وفناء ( وإذا النجوم طمست ) المرسلات 8 ( والنجم إذا هوى )النجم 1 (وإذا النجوم انكدرت )التكوير2 (والسماء ذات لرجع)الطارق11 ولغوياً كلُّ سقف هو سماء ( والسقف المرفوع ) الطور 5 كلُّ ما علانا في الكون هو سماء أما الرجع فاسم صفة للسماء والكلمة مشتقة من رجع أي أعاد الشيء إلى ما كان عليه أما قوله تعالى (والسماء ذات الحبك ) الذاريات 7 الحبك جمع حبكة بمعنى طرائق تعني طرائق النجوم ففي الكون طرائق كثيرة منها مسارات الكواكب وذلك فوق الغلاف الأرضي الجوي يمنع عنا الأشعة الكونية القاتلة و ملايين الشهب و النيازك الخارقة و طرائق تنظف أر ضنا من الغازات الضّارة مسكينة هي الصدفة وأخواتها من النظريات الخرقاء الجوفاء كالتطور والطبيعة والضرورة……!!!
تبعد الشمس عنا ثماني دقائق ضوئية أي مسافة مائة وخمسين مليون كلم تقريباً فالكون في توسع دائم ومجموعة المجرات يصل تعدادها إلى ألفي مجرة فالكون أشبه ببالون هائل تنتشر على سطحه النجوم والكوكب و المجرات وهذا البالون ينتفخ تدريجيا مع مرور الوقت وسيظل يتوسع إلى أن يطويه الله سبحانه يوم ( تطوي السماء كيّ السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده و عداً علينا أنا كنا فاعلين) الأنبياء 104 ( وسخر الشمس و القمر كلٌّ يجري لأجل مسمّى )الرعد2
فكلما اتسق أفق العلم ازددنا معرفة ًبالله ذلك لأن العلم يزودنا ببراهين قطعية على وجود الخالق القدير الذي لا حدّ لقدرته وكل جرم يجري في النظام الكوني تأكيداً لقوله تعالى (وكلٌّ في فلك يسبحون ) ( والشمس تجري لمستقر لها ) مستقر هو أجلها والمقدر لها ووقع القول علمياً أن الشمس أتونٌ هائل تصل الحرارة في داخله إلى خمسة عشر مليون مليون درجة مئوية وهي شبيهة بمعمل حراري أي من انصهار نوى جمع نواة غاز الهيدروجين و تحولها إلى نوى غاز الهليوم والشمس تحول عند احتضارها إلى عملاق أحمر بعد خمسة مليارات سنة تقريباً وترتفع حرارتها إلى مائة مليون درجة مئوية وهنا تنفجر بثوان و تتحول إلى قزم أبيض وقبل الانفجار سيكبر حجمها مئات المرات وتبتلع جميع أجرام النظام الشمسي تصديقاً لقوله تعالى (فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر) القيامة7
ومنذ خمسة مليارات سنة تقريباً ولدت الشمس من وسط سحابة كونية هائلة لحجم سريعة الدوران حول نفسها تكثفت الجزئيات التي تألف منها بفعل الضغط الهائل الناتج عن دوران السحابة حول نفسها ثم ارتفعت الحرارة في وسط السحابة إلى عشرات الملايين فاتحدت جزئيات المادة وتحولت إلى نوى غاز الهيدروجين ثم اتحدت أربع نوى من غاز الهيدروجين فأعطت نواة غاز الهليوم ومن هذا التحول الاندماجي النووي نشأ ضوء الشمس وبقية النجوم التي تشبها(والأرض بعد ذلك دحاها)النازعات 30
والأرض تشبه الكرة فهي مسطحة قليلاً في اتجاه محور القطبين ومنتفخة قليلاً في اتجاه محور خط الاستواء بفعل دورانها حول نفسها ومعنى دحاها لغوياً الاسترسال والبسط ولتوسع و الانتفاخ ….رجل دحدح…… قصير وغليظ البطن…..!
والإعجاز اللغوي العلمي القرآني في كلمة (دحاها) التي تعني أنّ المولى سبحانه جعل الأرض مسطحة و بيضاوية الشكل يبدو للناظر الواقف على جزء منه كأنه مسطح المستوي (و إلى الأرض كيف سطحت )الغاشية(20)
(يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل ) الزمر (5) دليل على شكل الأرض البيضاوي … و من معاني كلمة كوّر لف يقال كوّر الرجل العمامة أي لفها حول رأسه (فلا أقسم بالشفق ، والليل و ما وسق و القمر إذا اتسق لتركبن طبق عن طبق )الانشقاق (16)
الطبق غطاء كل شيء.. طبق الأرض وجهها .. و السموات الطباق سميت بذلك لمطابقة بعضها بعضاً أي بعضها فوق بعض.. (لتركبن طبقاً عن طبق )لتركبن السماء حالاً بعد حال … وظل الإنسان يحلم بالطيران من طبق الأرض إلى أطباق السموات منذ القديم إلى أن تحقق حلمه …! و السموات الآن … هل للسماء أبواب ؟!(ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون )الحجر(13)
و الجدير بالذكر المسار الذي سلكه الإنسان وآلته في النفاد من الأرض إلى الفضاء هو طريق متعرج وليس مستقيماً وهنا نلاحظ الإعجاز العلمي القرآني . ففي كلمة يعرجون أي يصعدون بصورة متعرجة … ووصف نفسه بذي المعارج أي برب السماء ذات الطرقات المتعرجة (من الله ذي المعارج )المعارج (3) وفي يوم القيامة تفتح أبواب السماء (وفتحت السماء فكانت أبواباً)النبأ(19) في الفضاء الخارجي الكوني يحل الليل بصورة مفاجئة وليس بصورة تدريجية فليل الفضاء هو أشد سواداً (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها)النازعات(29) في الفضاء الخارجي تظهر الشمس فجأة و تلمع كأنها صاعقة … إذ لا وجود في الفضاء لشروقٍ أو غروبٍ تدريجي … هناك ليل مظلم من أحلك الظلمات أو نهار ساطع النور وهاجه… وفي قوله تعالى): وهو على جمعهم إذا يشاء قدير )الشورى (29)
حتى الآن لم يتأكد علماء الفلك من وجود أحياء إلا في الأرض فهي الكوكب الوحيد المأهول بالحياة دون بقية الكواكب التسعة التي تؤلف مع الشمس نظامنا الشمسي … وما مجرتنا اللبنية إلا واحدة من مائة مليار مجرة … ولا بد البحث عن أحياء خارج نظامنا الشمسي عبر رسائل لاسلكية من الأرض في جميع اتجاهات الكون أو عبر محطات التنصّت الأرضية نحو المجرات البعيدة والقريبة فإلى الآن لم يثبت العلم أن هناك أحياء في غير كوكب الأرض واستناداً إلى كتاب الله العظيم يمكننا القول أن هناك أحياءً. فستة أيام هي ستة أحقاب التي خلق الله الكون وقد تكون أكبر زمنياً من الأيام والسنين التي نحسبها وعلماء الفلك اليوم يقدرون عمر الكون التقريبي بستة عشر مليار سنة وعمر الأرض بأربعة مليارات سنة ونيف … فمعنى هذا أن عناصر التكوين خلقت قبل تعمير الأرض والسماء …
ففي الحقبة الأولى جزيئات النواة (الجبلة الأولى ) وفي الحقبة الثانية تكون نواة الذرات … وفي الثالثة تكون الذرات والعناصر و الغبار إلى سطح الأرض وبين النجوم …
وفي الحقبة الرابعة تكون العناصر العضوية في المحيط البدائي … وفي الخامسة تكون الخلايا… وفي السادسة تكون النبات والحيوان في المحيط البدائي والقارات …. أما نسبية الشعور بالزمن في قوله تعالى :(إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) المعارج(6)
مالكون ليس أزلياً فمنذ أكثر من خمسة عشر مليار سنة انفجر وتفتت وتناثرت … وهذه حقيقة علمية شبه مسلمة والكون يتوسع أيضاً مسلمة علمية … و القرآن أخبرنا بأن خلق عناصر التهيؤ والتحضير سابق على خلق الكون (رفع سمكها وسواها ،وأغطش ليلها وأخرج ضحاها و الأرض بعد ذلك دحاها )النازعات(27) وأن الكون يتجدد (يبدئ الله الخلق ثم يعيده )العنكبوت (19)
وأنبأنا القرآن الكريم بأن النجوم زائلة (و النجم إذا هوى )النجم(1) وأنبأنا التنزيل الحكيم بأن اختراق أقطار السموات والأرض بالعلم ولكن لا ينتصرون(لا تنفذون إلا يسلطان يرسل عليكما شواظ من نار ٍ ونحاس فلا تنتصران)
صدق الله العظيم
المصادر :
1- القرآن الكريم
2- القاموس المحيط
3- تفسير ابن كثبر
4- تفسير الجلالين
5- علم الفلك القرآني –د.عدنان شريف
6- نخبة التفاسير –محمد علي الصابوني
7- التفسير الواضح د.محمد محمود الحجازي-المجلد الثاني
الهجرات المتعاقبة ، والنزوح الجماعي للهند وأوربيين ابتداءً من جنوب سهل سيبيريا الروسية وتحديداً التي تقع بين بحيرة آرال ونهر الدانوب . واتجهت هذه القبائل إلى جبال زاغروس واستقرت على شواطئ بحيرة أورمية .
واختلطت بالميتانيين وهم الأجداد القدامى للأكراد وكونهم من العرق الهند وأوروبي وهاجرت قبائل أخرى من البدو الرحل إلى منطقة ( ميزوبوتاميا ) واندمجت هذه القبائل مع الهوريين وهم أجداد الأكراد الأصليين والسكان الأصليون لتلك المنطقة . (1)
وتحت وطأة ظروف التنقل والترحال , والنزوح الجماعي لهذه القبائل تغيّر الوضع الديموغرافي والاجتماعي لهؤلاء الناس والمنطقة برمتها . وبرزت إلى صفحات التاريخ هذه المجموعة البشرية المهاجرة وعُرفت هذه الجماعات ب ( آريان فاج ) . (2)
تاريخ هذه الهجرات المتتالية لهذه القبائل السالفة الذكر في الألف الرابع ق.م وحتى الألف الثاني ق.م ونتيجة لعوامل وظروف طبيعية قاسية كانت هذه الهجرات المتلاحقة تحدث بدافع اقتصادي بحثاً عن الماء والكلأ. وترك هؤلاء الأقوام أثراً كبيراً على هذه المنطقة خاصة والعالم عامة . والمصادر الآشورية (3) أشارت إلى ظهور مجموعتين من البشر حامت حول بحيرة أورمية.
المجموعة الأولى Prsua 844 ق.م و Media 836 ق.م وهاجر الفرس نحو الجنوب , وانتشر الميديون في غرب بحيرة أورمية فالميتانيون والهوريون هم الأصليون في هذه المنطقة وأكثر استقراراً من الميديين والبارس لأنهما أكثر ترحلاً وتنقلاً ويهاجمون القرى والفلاحين وينهبون أموال الفقراء . فالكاسيون احتلوا بابل عام 1518 ق.م والكوتيون استولوا على بلاد مابين النهرين وكذلك الميديون دخلوا منطقة الهوريين والميتانيين وأسسوا إمبراطورية عظيمة يشهد لها التاريخ بعد أن اتحدت القبائل جميعها . (4)
كان الميتانيون والهوريون يعبدون ظواهر الطبيعة التي تجلب لهم الحظ السعيد والميديون والبارس يعبدون قوى الطبيعة منها عبادة الشمس ( ميثرا ) وعبادة القمر ( ماه ) والنار ( أتار ) والماء ( أبام ) وغيرها (5) . هذا الامتزاج بين الميديين والبارس والميتانيين الهوريين في المعتقدات الدينية قد هيّأ للاندماج بدافع الميثولوجيا ولولادة عبقري الأمة ونبيها الملهم ( زرادشت ) . (6)
وشرع الآريون بترويض الفرس على العربات الخشبية لنقل الأمتعة وكذلك ترويض الحيوانات كالخيل والثور وذلك للفروسية وحراثة الأرض وزراعتها . وأدى ذلك إلى ازدهار الزراعة واستقرار هؤلاء الأقوام في هذه المنطقة . (7)
غير أن هذه القبائل التي تأتي من خلف الجبال طلباً للنهب والسلب والسطو على أموال الفقراء في الريف النائي (8) وفي هذا الجو المضطرب والمشحون بالكوارث المؤلمة ولد زرادشت 541 ق.م ولو لم تحدث هذه الأزمات الاجتماعية المستعصية (9) لما كنا نقرأ في الأفيستا (10) تاريخ هؤلاء الأقوام الآرية .
أدرك زرادشت أن القبائل غير المستقرة هي قبائل متخلفة متوحشة لأنها تعتمد على النهب والسلب . فالوطن رخيص عليها قبائل مرتحلة أما المستقرة كالميتانيين والهوريين هي التي تحب وطنها وتشارك في تطويره نحو الأحسن .
ويشخًص زرادشت مرض المجتمع أنه مرض داخلي فالفيروس في داخل جسد المجتمع وليس من خارجه , كان يدعو إلى ترك البطش والسلب والفوضى ويدعو إلى الإخاء والوئام, كان يفكر بمجتمعه أن يصنع منه شعباً قوياً متقدماً إنسانياً . وكان يسأل نفسه لماذا الميديون ينحدرون نحو الانحلال ؟؟ ويعزى ذلك إلى بطشه في السلب والنهب وسفك الدماء . هذا الشعب الذي كسر شوكة الأشوريين والأورارتيين .فابتعد زرادشت عن مجتمعه الذي يعاني التناقضات والقيم البالية العفنة فآوى إلى جبل ( سابلان ) (11)
للتأمل في الكون والطبيعة والمجتمع فوصل إلى نتيجة مفادها : لكل شيء وجهان متناقضان ومتلازمان الليل والنهار والحر والبرد الجبال والأودية يعطيان زخماً جديداً لاستمرارية الحياة وديمومتها ... وضرورة الاستفادة من الجوانب الخيرة للطبيعة والكون والمجتمع والوقوف بجانب الخير وتقويته , وإضعاف جانب الشر . وانتهى به هذا التأمل الصامت إلى الحكمة التالية : الفكر الطيب , والكلمة الطيبة , والعمل الطيب ... يلتجأ زرادشت إلى الإله الخالق الأوحد ( أهورا مزدا ) أن يمنحه القوة ليدفع مجتمعه نحو النماء والازدهار . (12)
حاول زرادشت أن يقوم بثورة زراعية لتحسين اقتصاد وطنه وثورة فكرية ضد العادات العفنة والظلم والكذب والغريزة البهيمية والعاطفة البايولوجية والحيوانية البدائية . ودعا إلى مجتمع متحضر وعمل منتج أكثر رخاءً وسعادةً .
جاهد زرادشت نحو إحلال العقل في قيادة المجتمعات محل العاطفة والأهواء الغريزية ... وكان يعتقد أن للمجتمع قوتين قوة التحضر وقوة التقهقر . ويسمي المنحازة للكذب KAVI أصبحت اليوم كيوى في اللغة الكردية . (13)
كان زرادشت من أعظم المثقفين في عصره عرفته الإنسانية عبر تاريخها الطويل وذلك حسب تعريف غرا مشي (14) للمثقفين ولكن القوى الشريرة لم تهادن زرادشت وهاجمته هجوماً عنيفاً فاضطرّ إلى الهجرة فاستقر في شرق وطنه في منطقة ( بلخ ) (15) عند ملك بارع في الذكاء والعبقرية وآزره الملك ودخل في دينه واستطاع أن ينشر مبادئه في بلاد الآريين .
دعا زرادشت الخالق ( أهورا مزدا ) أن يعاقب الذين اتخذوا العفاريت إلهاً فطلب منه أن تنزل بهؤلاء أشد العقوبات والعفاريت هي ( ديو يسنان ) تعني في اللغة الكردية عابدي العفاريت فهو يريد قتالهم ولكن المعركة غير متكافئة فالتجأ إلى الخالق ( أهورا مزدا ) الإله الأوحد أن يمده بالقوة للانتصار عليهم وكان النصر له لأنه كان واثقاً من نفسه معتمداً على القوة الخارقة ... وسلاح الفكر أمضى سلاح .
أراد زرادشت إصلاح الأسرة الخلية الأولى وإشراك النساء في العمل مع الرجال في الزراعة والبناء (16) واحترام الشمس والقمر والنجوم والرياح والمياه والأشجار والأعشاب لأنها تغذي البشر وتقوّيه وتنّميه وأنها أصل الحياة . وهكذا ينتقل زرادشت من بلد ناشراً مذهبه الروحي والمادي إلى أن حلّ ضيفاً عند ملك كشتاسب (17) في منطقة بلخ فأكرم مثواه وآمن به فقويت رسالته (18) وانتشر هذا الدين في كل أنحاء بلاد الآريين والدول المجاورة . وبذلك تحّول المجتمع الآري من حالة التخلف إلى عصر الازدهار الفكري والاجتماعي والاقتصادي. (19) وظهر في الآري ثلاث طبقات حسب ما جاء في كتاب ( بوندهيشن ) إحدى الكتب المقدسة بعد الأفيستا . (20)
الطبقة الأولى هي الحكماء : تلقن المجتمع بالمبادئ الروحانية وتسمى جماعة ( الموغ ) ويترأسها ابن زرادشت ( إزت فاسترا ) الطبقة الثانية : هي لتطوير العمل الزراعي وترفيه المجتمع ويمثلها ابن زرادشت (اورفتت نه ره ) والطبقة الثالثة هي طبقة المحاربين الأشداء للدفاع عن المجتمع والوطن وقائدهم ابن زرادشت ( خورشيد جاره ) وحسب ما جاء في كتاب ملخص العقائد الزرادشتية لكاتبه ( زيهز ) هناك طبقة أخرى هي الحرفيين الصناعيين الذين يصنعون السيوف والمحاريث والأبنية . (21) وختاماً لم يكن زرادشت نبياً إلهياً فحسب ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص ) (22) بل كان مصلحاً ثورياً ومناظراً استراتيجياً لمجتمعه ووطنه .
المصادر:
1- انظر د. جمال رشيد , دراسة لغوية عن تأريخ البلاد الكردية , ( بغداد , دار الحرية للطباعة ) , 1988 ص ( 108 – 109 ) ( باللغة الكردية ) .
2- د. سيد محمد جلالي نائيني , قاموس سنسكريت _ فارسي , وللاطلاع أكثر انظر أنداز حويزي , أفيستا , ( السويد الطبعة الأولى , 1992 ) ص 3 باللغة الكردية .
بالنسبة لانقسام الآريين تحصل على معلومات مفيدة أيضاً من ( إبراهيم عمر , الكورد والدين والتاريخ , السليمانية مطبعة رابه رين , 1972 ) ص 26 – 27 باللغة الكردية .
3- انظر البروفيسور فلاديمير مينورسكي ( الكورد أحفاد الميديين ) , ترجمة وتعليق د. كمال مظهر أحمد ( مجلة المجتمع العلمي الكردي ) المجلد الأول , 1973 , ص 555 .
4- مجلة كولان العربي العدد 46 ص99 آزاد حمه شريف
5- انظر هيرودوت, التاريخ: الكتاب الأول ( الفصل العاشر والحادي عشر ) ( عن د. جمال رشيد , المصدر السابق , ص 446 ) .
6- انظر إبراهيم عمر, المصدر السابق, ص108.
7- Geoffrey Barraclough , ( ed ) the Times Atlas of world history , third edition ( London : Times book LTD 1992 ) p.16
8- انظر جيمس هنري برستيد , انتصار الحضارة : تاريخ الشرق القديم , القاهرة , مكتبة الأنجلو المصرية , بلا تاريخ ) , ص240 .
9- Zoroasterin the Encyclopedia Americana , International Edition : American corporation 1978 . vol (29) .
10- انظر هاشم رضا : زرادشت ونصائحه , ترجمة عن الفارسية م . كومه يى ( السويد , الطبعة الأولى 1992) ص17-18 اللغة الكردية , أيضاً انظر جلال أمين بكر , الأفيستا , الطبعة الأولى 1999 , ص118 (سينا :44) باللغة الكردية .
11- سليمان مظهر : قصة الديانات , بيروت , الوطن العربي , الطبعة الأولى , 1984 , ص271
أيضا انظر : علي سيدو الكوراني (زرادشت والزرادشتية) مجلة المجمع العلمي الكردي , الطبعة الثالثة , الجزء الثاني 1975 , ص578 .
12- انظر هاشم رضا , المصدر السابق , ص29-31 .
13- انظر كتاب الفنديداد ,نقله من الفرنسية وعلق عليه الدكتور داوود الجلبي الموصلي .
14-جان مارك بيوتي , فكر غرامشي السياسي , ترجمة جورج طرابيشي (بيروت , دار الطليعة للطباعة والنشر 1975) ص9 .
15- حامد عبد القادر (زرادشت الحكيم) نبي قدامى الإيرانيين , (القاهرة , مكتبة نهضة مصر .
16- انظر هاشم رضا المصدر السابق ص33 .
17- Nietzsche, thusspoke zarathostra from the portable Nietzsche, (ed.) and (tr.) waiter Kaufmann (Middlesex: penguin books, 1978) pp.121.137.
18- See(Zoroaster) in chambers Encyclopedia , vol(14) new revised edition . London: international leering systems corporation limited, 1969.
19- See(Zoroaster) in Encyclopedia Britannica p.1169
20- انظر هاشم رضا المصدر السابق ص27 .
21- ر.س زيهنر , (ملخص العقائد الزرادشتية ), مخطوطة مترجمة .
22- القرآن الكريم سورة الأنبياء .
هو الإمام أبو حامد محمد أحمد الغزالي الطوسي، ولد في طوس عام 450 هجرية ولقب بحجة الإسلام من كتبه تهافت الفلاسفة – المنقذ من الضلال – إحياء علوم الدين. الإمام الغزالي أكبر مفكر في القرن الخامس الهجري ، فقد كان متخصصاً في أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتفسير والتصوف ، كان مديراً للمدرسة النّظامية أكبر إشعاع علمي في ذاك الوقت ،استطاع الغزالي بعقله الراسخ على صخرة الحق أن يصدر أحكاماً عقلانية بعيداً عن أخطاء الحواس ، دعا إلى استقلالية العقل والنَّقد لأن الفكر يتجدد بالنقد والنقد ينمي الوعي , والغزالي نموذج فذ لهذا التنوير، فكان درعاً واقياً لعالم القيم والقداسة، والتصوف كان ملاذه الأخير ، وهذا ما قاله الغزالي عن نفسه وسجله في سيرته الذاتية (المنقذ من الضَّلال) ، استوعب الثقافة العربية بروافدها الفارسية والهندية واليونانية.
ألَّف الغزالي كتاب( تهافت الفلاسفة ) وجّه أكبر ضربة للفلاسفة وكفر بعضهم ، فكان كتابه للمضطهدين عزاء وللدولة شرعة ومنهجاً ، ويعتبر كتاب( تهافت الفلاسفة ) قيمة في العقلانية. العقل عند الغزالي حاكم مستقل لا يتأثر بأحد ولا ينحاز إلى فئة ، استطاع العقل أن يكشف كذب الحواس ومنها العين ، فالعين ترى النجم صغيراً وهو أكبر وترى الظل ساكناً وهو متحرك ، فكشف حماقة العين وغباءها فأصدر العقل حكماً بعدم الاعتماد على الحواس لأنها فقدت مصداقيتها ، ثم أدرك الغزالي بأن الذي كشف كذب العين هو العقل ، ولعل وراء العقل حاكماً آخر إذا تجلَّى كذب العقل في قراره ، وتوقف عقله في التَّصدي للشبهات التي راودته فأصبح مشكوكاً في كل شئ بما يراه النَّائم من أحلام يعتقد أنّها حقيقة وعند الاستيقاظ أدرك أنها أضغاث أحلام ، واستمرت الحالة مدة شهرين ، فعاش مفلساً وتخبَّط في دخان الوهم والظنُّون فتعطل عقله وتوقف مستسلماً مذعناً لضباب الشكوك والظنون. ثم استمرَّ في تفكيره وتأملاته في الكون والإنسان والحياة حتى استطاع بالأفكار الفطريَّة والمسلمات الأولية الوصول إلى مرتبة اليقين ، فأدرك الغزالي أنَّ هذه المسلمات هي أسس راسخة في الذهن لا يمكن الاستغناء عنها عند كل عاقل يتصف بقوانين المنطق والرَّجحان.
برهن الغزالي على أن العقل يحكم حكماً ديمقراطيَّاً حراً يتخذ قراره بحريَّة الإرادة والاختيار بعيداً عن أوهام الحواس وأن العقل يتميَّز بمزية فريدة تليق به، القيادة فطرته التي فطر عليها يتمكن بقوتها من إصدار أحكام إنشائيَّة .
فاستطاع الغزالي بعقله الواقف على موازين الحق لا شأن الضَّعيف المتقلقل المتزحزح ، فأصدر قراراً مفاده : إنَّ تقدم الله على العالم هو كتقدم المقدمة على النتيجة ، وإنَّ صدور العالم عن الله كان صدوراً إرادياً حراً مختاراً واعتمد على النَّظرية السببية في الوصول إلى أقصى درجات اليقين ، مقتحماً بعقله المستنير ضباب الرَّيب والشك ويضرب المثال التَّالي : الأعمى الذي يصبح بصيراً بإزالة الغشاوة عن عينيه هي السبب الوحيد للإبصار , فالغزالي سبق ديكارت وكانت بستة عصور بإزالة غشاوة الشكوك في الوصول إلى أقصى درجات اليقين المطلق وأثبت الغزالي بفلسفته المتنوعة الجوانب احترام الذَّات والحفاظ على القيم المثلى فكان مثقفاً بارعاً متَّخذاً العقل مصباحاً له في الوصول إلى درجة الكمال المطلق.
كلما تقدمت التقنية الحديثة ازداد استغلال الإنسان، وانتشر الجوع واستهتر بالإنسان رغم كونه أغلى تحفةٍ في هذه الأرض.. فالحضارة لا تقاس بالعمران بل برفاهية الإنسان . فليست الحضارة ناطحات السحاب.... فالحضارة المادّية تحيَزَتْ لتزيين الحجر على حساب البشر، وخلقت ظاهرة من جنون الإستهلاك والرفاهية على حساب الإنسان.... نحن نولي أهتماماً بالغاً بالحجر قبل الإهتمام براحة الإنسان...قبل أن نبني القصور الحجرية علينا أن نبني الإنسان والعبرة لمن يسكن القصور وليست القصَور الصمّاء الخرساء.....
همُّنا الأول والآخر أن نبني البشر قبل الحجر... فالمباني الضخمة التي تقام على مساحات شاسعة وعدم إعداد الإنسان القاطن هناك فيها تصبح هذه المباني الضخمة المطرزة بالعمارة الحديثة معلماً من معالم الإستهلاك الشره.....فالليبرالية والحرية ليستا كلمات منمقة أو ألفاظ لامعة نستخدمها للترويج والدعاية لها... إنما هي فكر وممارسة ومفهوم اجتماعي تؤمن به النخب الواعية في أي مجتمع لإعلاء شأن الناس.....
ظلّت الليبرالية عبر التاريخ منذ فلاسفة الإغريق في القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى يومنا هذا نتيجة تطورات هائلة في تاريخ الفكر البشري مروراً بتطورات عرفتها أوربامنذ عصر النهضة وذلك بفعل الإندماج الكوني والتيار العالمي الشامل عبر تطور التقنية والمواصلات وتبادل الأفكار بين العالم ....
آمنت بالليبرلية النخب الواعية بمتطلبات عصرها والمؤمنة بدورها في صياغة مشروع تنظيم للمجتمع وبناء الدولة الحديثة ينطلق في خصوصية الفرد كمواطن وينتهي بضمان إرادة الشعب – صاحب السيادة الحقيقية ويمسُّ جوهر العلاقات الإجتماعية والنشاطات الاقتصادية والفكرية ..... فالليبرالية منهج عملي لمؤسسات الدولة ومحفز لقدرات الفرد تعمل لدفع طاقات المجتمع إلى الأمام وتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتدعو إلى حرية الفرد في حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه في الحياة وتدعو الليبرالية إلى استشراف المستقبل المنظور ، والإنفتاح نحو مستقبل باهر للمجتمع والوطن.....
وتدعو الليبرالية إلى المساواة واعتبارها أساساً للتعاون ومنطلقاً لاحترام الآخر فتحقيق المساواة وضمان حرية الفرد هي أسس الديمقراطية الليبرالية التي ترفض إقرار الامتيازات الوراثية خارج التفاوت الاجماعي والأخذ بالمنافسة الحرة بأداءٍ أحسن واحترام حرية المبادرة بحيث لا يكون للدولة أي دور في العلاقات الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية إلّافي حالة إلحاق الضرر و الإخلال بمصالح الفرد والمجتمع ....... والعمل على تكريس سيادة الشعب عن طريق الإقتراع العام لتخلبص المجتمع من الضغوط والفساد... وهذا ما عبرّ عنه المفكر الليبرالي والمؤسّس للمذهب الليبرالي الفرنسي ( ليون جومبيطه )عام 1869 في مخاطبته للبرلمان بهذه العبارة (أعتقد ألاّ سيادة لغير الشعب وأن الاقتراع العام الحر هو أداة هذه السيادة ) وتدعو الليبرالية إلى رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكون تلك المؤسسات هي المعبر عن إرادة الشعب.. وينبذ ( طوكفيل ) المبالغة الفردانية تؤدي إلى الانعزالية واستلام السلطة بفئة يحتكرونها فتصبح الفرداتية صدأ المجتمعات.... فيجب أن تكون الليبرالية تلبية َللقيم والممارسات واستجابة حيَّة لواقع المجتمع الذي يغدو نحو الازدهار الديمقراطي المتوازن المنبثق من تجارب تاريخية طويلة اعترتها انتكاسات وواجهتها مخاطر ، وهدَّدتها أفكار طوباوية... والزعامات الفردية والشعارات الشعبوية لتفرض نفسها كنموذج ناجح لممارسة الحكم وتنظيم المجتمع....وهذا ما عبر عنه الكسيس دوطوكفيل ثورة ديمقراطية كبيرة نعيشها اليوم( الكل يراها وهي ليست خاصَّةً بفرنسا وحدها.....) فالغرب حقَّق قوته وضمان سيادته ونظم مجتمعاته بفعل الممارسة الليبرالية وتطبيقها عملياً في نسختها الديمقراطية ومع ذلك كأن كلام طو كفيل موجّه إلى عالمنا فعسى أن ننفض غبار التواني ونعمل على رسم آفاق مستقبلنا المرئي...........!!!
أما الحرية التي نحن بصدد عنوانها السالف الذكر مفهوم الحرية يتأثر بأمرين أساسيين عبر تاريخها الإسلامي.. الأول: بالمذاهب الدينية ... الانتفاضات الاجتماعية التي تزعمتها طبقة العامة في تاريخينا الاسلامي مشرقاً ومغرباً... تلك كانت انتفاضات ذات محتوى اقتصادي واجتماعي يعبر عن شكل جنيني من أشكال الصراع الطبقي الثاني: ظاهرة العبودية ( العبيد ) التي تمثل قلب الدورة الاقتصادية العالمية آنذاك أصبح الرَّقيق قوة منتجة هائلة وبضاعة ثمينة ، ورأسمال كبير وقد حال هذا الوضع الاقتصادي دون قطع خطوة جديدة في تقليص ظاهرة الرقّ إن الأصل الإنساني في مفهوم الإسلام هو منح الحرية للإنسان وفي هذا السياق تتنزل المقولة الشهيرة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )
فالحر في لسان العرب لابن منظور نقيض العبد والجمع أحرار وفي الحديث الشريف ( لايقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ) تحاشياً للاستكبار عليهم . وقول سيدنا الرسول – عليه السلام – ( ثلاثة أنا خصمهم رجل اعتبد محررا.........) ولمّا تحولت الخلافة الراشدة إلى معاوية ... دشَّن معاوية مقولة الايديولوجيا الجبرية ...
وزعم معاوية أن الماضي خير من الحاضر و الحاضر خير من المستقبل خاطب سكان المدينة قائلاً : ( فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرٌّلكم وأن معروف زماننا هذا منكر زمانٍ قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ) في كلامه هذا يشير إلى تقهقر الحضارة المدنية الاسلامية ورسالة الإسلام التي بشّرت الإنسانية بالرفاهية ورغد العيش والأمن والأمان مقولةً تنذر بالشؤْم وأنَّ الآتي خطير ... ونسف قطار الحضارة الإنسانية التي قادها الرسول الكريم وأصحابه الغرّ الميامين ... فحاولت الايديولوجيا الجبرية الأموية توظيف الدين الاسلامي السمح توظيفاً سياسياً مكشوفاً لتجريد الإنسان من قدرته على الاختيار وفرض الطاعة لأصحاب السلطان وإعفاء الخلفاء من العقاب فقد جاء في إحدى الروايات الملفقة كذباً أن جبريل أتى إلى الرسول (ص) فقال : يا محمد اقرئ معاوية السلام واستوحي به خيراً فإنه أمين الله على كتابه . وجاء في نصّ آخر أنَّ النبي قال : الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية . وفي نص آخر (إنَّ من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار ) واستفحلت ظاهرة الجبر في زمن السلاجقة والعثمانيين وطغيان ظاهرة الاقطاع العسكري وسلطة الجند والتحام مدرسة النقل الأشعرية مع السلطة السياسية ذات الطابع العسكري ثم ظهر عصر الحداثة وأهم سمات هذا العصر... حيث حاول الرواد اقتفاء آثار الحداثة وتلخيصها في أربع مقولات مقولة : (لاسلطان على العقل إلا العقل نفسه).
دمج العقل في ثالوث : ( العقل الحرية العدل السياسي والاجتماعي وتحرير الانسان والتاريخ من أسطورة الحتمية وتنصيب شرعية السلطة وإقرارها بالعدل . فالسلطة شان إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء فروّاد حركات التحرر دعوا إلى أهمية الحرية في رحلاتهم وما شاهدوه من تقدم في المجتمعات الأخرى الغربية وفي طليعة هؤلاء الروّاد رفاعة الطهطاوي في كتابه : تخليص الابريز في تلخيص باريز مشيراً إلى الحرية والدستور الفرنسي.
تحدَّث فيه عن الحقوق الطبيعية وعن العدل والحريات العامة وعن مناخ الحريات العامة وحرية الصحافة والنشر ...وكان الطهطاوي محذراً في وقته إثارة غضب ( ولي النعم ) أسياده وشيوخ الأزهر ضد مشروعه التنويري ....
فأدرك الطهطاوي أهمية العدل السياسي لتحقيق العدل الاجتماعي للشعب والوطن معاً لكنه لم يفصح صراحةً مكتفياً بالحديث عن العدل مؤكداًأنه أساس العمران المعنوي والمادّي والتمدن القيمي والدّوري ... وتحدث عن علاقة الحرية بالاقتصاد مستنجداً بابن خلدون في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران. وقد سخر جمال الدين الأفغاني 1838 – 1897 كل حياته مدافعاً عن استقلال البلدان العربية الاسلامية وذائداً عن مبادئ الحرية ....
كتب عنه المصلح المصري الشيخ مصطفى عبد الرزاق قال : حسب جمال الدين من عظمة ومجد إنه في تاريخ الشرق الحديث أول داعٍ إلى الحرية وأول شهيد في سبيل الحرية . وبلغ الأمر بشيخ زيتوني معمم أن يعتبر أن الوطن الحقيقي ليس الوطن الجغرافي بل الوطن الذي يستنشق فيه الإنسان نسائم الحرية.
وكما قال الشاعر:
ولاعيب فيهم غير أن نزيلهم يعاب بنسيان الأهل والأحبة
فقد تجاوز الزيتوني المستنير الشعور بالحرية والأمان من الظلم وهو يتجوّل في باريس قبل ما يربو عن قرنٍ ونصف حدود الوطن وما ارتبط به من هوية منغلقة متمنياً أن تمتزج الأنا الذاتية بهوية الآخر ليتنفس هواء الحرية في وطنه، وأصبح مفهوم الحرية موضوعاً بارزاً في جلَّ نصوص التنويريين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ونجد ذلك في كتابات الشيخ محمد عبده وأديب اسحق وولي الدين يكن وسليم سركيس وأحمد لطفي السيد وسلامه موسى وطه حسين . ويعدُّ عبد الرحمن الكواكبي 1854-1902 في أوائل التنويريين النشطاء الذين أعطوا مفهوم الحرية حيّزاً هاماً في كتاباتهم الذي كتب يقول في كتابه : (أم القرى ) لاشك أن الحرية أغلى وأعزّ شيئ على الإنسان بعد حياته وأن بفقدانها تفقد الآمال ، وتبطل الأعمال ، وتموت النفوس ، وتتعطّل الشرائع ، وتختل القوانين......)
شاء القدر أن تنكمش أمتنا انكماشا شديدا لمدة تزيد على عشرة قرون بعد أن كانت قوة سياسية وفكرية كبرى انبسط سلطانها من الصين إلى فرنسا ، وكانت عاصمتها بغداد قبلة ٌ يحجُّ إليها الناس على اختلافهم من علماء وفقهاء ومفكرين وشعراء وكانت لغتها لغة العالم المتحضر وازدهرت فيها الحضارة بكل نواحيها ولطالما اهتم الإنسان بالمستقبل منذ بدء الخليقة وحاول أن يرسم صورة للحياة المستقبلية وذلك محاولة فيلسوف الإغريق الشهير أفلاطون بناء المدينة الفاضلة في عمله الخالد: جمهورية أفلاطون التي ستحقق للناس السعادة والرفاهية وأدرك أن الماضي والحاضر يؤثران إلى حد كبير في شكل المستقبل المنظور وأن العقل والمنطق أثرهما الأقوى على الأمم المتمدنة .
المدخل الرئيسي هو ترسيخ الفكر العلمي بمعناه العام في قاعدة الهرم وفي قمته على سواء، ونتذكر تاريخ الشعوب في آسيا التي كانت موطن الحضارات في الفن واللغة والفلسفة والفلك والرياضيات والاختراع، في الوقت الذي كان الأوربيون يصطادون حيواناتهم بالفؤوس. فالعلم نتاج فكري والتقنية نتاج عملي وكلا النتاجين يحتاجان إلى بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية مواتية وبدونها يصبح العلم مقعدا والتقنية مكمّلة ..
الاكتشافات الجديدة التي فجرها العلم من أجل حاجات الإنسان ورفاهيته ولا نملك إلا أن نقف أمامه مبهورين إنها ثورة العلم إنها التقنية فالإبداع والقدرة على استيعاب التقنية صنوان متكاملان.. فالتقنية سبقت العلم وتطوير البحث العلمي في الجامعات فالإنسان عرف التقنية عندما بدأ يشبع حاجاته البسيطة والإنسان البدائي مثلا اخترع النار عندما اكتشف أن أكل اللحم الطازج ألذ ّ مذاقا، فعلى الرغم من أن الإنسان في الماضي كان يكد ويشقى من أجل لقمة العيش وتوفير أسباب الراحة لنفسه و لأسرته إلا أنه كان سعيدا بحياة البساطة التي كان يحياها..
ومن دواعي الأسف أن تتحول التقنية إلى سلاح للشر، لقد تفنن الإنسان في هذا الزمان الغامض في صنع مختلف الأسلحة الفتاكة وهو في كل يوم يبتكر المزيد من وسائل الحرب والهلاك ما يكفي لتدبير العالم عشرات المرات إنها حرب فناء الأرض وما فيها ومن عليها فالمآخذ على الحضارة الكونية المعاصرة أنها تؤمن بالمادة أعمق الإيمان بدليل ما تنفقه تفوق الخيال على أسلحة الدمار أما قوانينها التي تتعلق بالقيم الإنسانية فإنها تعتبر زخرفة من القول لا تقدم ولا تؤخر إزاء هذا الطغيان المادي الخطير يضمحل الجانب الثقافي والفكري ويختل التوازن ، وتضجر القيم، ويشعر الإنسان بالضياع ويتلوه الاكتئاب, ويصاحبه شعور قوي بتفاهة الحياة . وقد يؤدي مثل هذا الشعور إلى شيوع ظاهرة الانتحار مللا من الحياة وتشاؤما من المستقبل، فالسويد مثلا تحتل المرتبة العالمية الأولى في قائمة ضحايا الانتحار. القلق سمة عصرنا هذا والخشية من المستقبل من علاماته البارزة وسماته المميزة قابلْ أي إنسان مهما كان شأنه ومركزه في المجتمع لشكا لك من حاضره ولأطلعك على ورى القلق الذي يساوره وهو يستشف المستقبل الذي هو مقدم عليه.
إن خلايا أدمغتنا ليست قاحلة في استنبات العلم والتقنية في أرضنا فإن حزمة العناصر المؤثرة في تعويق استيعابنا لتقنية العصر متعددة وكثيرة.. فعقبات الاستنبات والتطوير كثيرة ولكنها ليست بالضرورة مستحيلة التنفيذ واستنباتها يستلزم قاعدة اقتصادية موحدة واجتماعية متقدمة وسياسية صائبة وفي مقدمتها احترام العلم والمبدعين. إن إصلاح الخلل في الهياكل الثلاثة الاقتصادية الاجتماعية السياسية مهمة وطنية نحن في مسيس الحاجة إليها ، والتقنية التي نتباهى بها تزول بمجرد غضب الغرباء علينا من هنا يجب علينا أن نبدأ بالتفكير والتخطيط لمستقبل أمتنا بالسباق العلمي والتقني واستنباته في أرضنا المعطاء – مهد الحضارات- والتركيز على قيمنا الأصيلة وفضائلنا الكريمة السمحة. عِلتنا الاستنزاف الأكاديمي, ونزيف الأدمغة, نحترم العلم ولكننا لا نقف بجانب العلماء والمبدعين .
الأمم المتقدمة تبتعد عن العاطفة في معاملتها لجماهيرها إلى حد كبير إذ أنها لا توكل الأعمال المهمة إلا لمن هو قادر على القيام بها وهذا لا يعني أن أفراد الأمم الراقية ملائكة أو أنهم معصومون من الأخطاء ..لا يصدر عنهم خطأ أو لا تزلّ بهم قدم والأمثلة على ذلك كثيرة أكثر من أن تحصى كقصة وفضيحة ووترجيت فقد اكتشفت الصحافة الأمريكية أنّ رئيسها نيكسون سلك نهجا غير أخلاقي لينجح في الوصول إلى رئاسة الجمهورية وما أن نشرت ذلك على الناس حتى جرى تحقيق دقيق أدى في آخر الأمر إلى عزلة عن رئاسة الجمهورية .. طائرتان تصادمتا في الجو في اليابان فما كان من وزير المواصلات أن قدّم استقالته .
في الأنظمة المتقدمة الثروات هي ملك الشعب لا يجوز أن تستخدم إلا في طريقها الصحيح أما في النظم الشمولية فإنّ ثروات الشعب هي في الواقع ملك للمهيمنين على الأمر لهذا تجد خطب رؤساء الأنظمة الديمقراطية وبياناتهم تؤكد عليهم أنهم يؤدون واجبا وطنيا يقومون به ولا يسهبون في ذلك أما بالمقابل (الأنظمة المتخلفة) فإن خطبهم وبياناتهم مطولة مليئة بالمنن على الشعب وأنهم يصدّقون على شعوبهم صدقات وعلى الشعب أن يكون ممتنا وأن يقدر ما يقوم به المسؤولون من أعمال جليلة .
في الأنظمة المتخلفة أصحاب المناصب العالية في مكانة مرموقة تجعل الناس لا يجرأون على تصحيح أخطائهم أما أنظمة الحكم في الأمم الراقية تعتمد على إرادة الشعب عن طريق الانتخابات الحرة بواسطة صناديق الاقتراع. أما في معظم أنظمة الدول المتخلفة فان أنظمة الحكم تعتمد على قوة السلاح وانتخاب صوري شكلي هزلي مضحك ومبكي في آن واحد .. إذ لا حياة مع اليأس ستلد أمهات أمتنا عظماء كما ولدت في الماضي التليد ونعود من جديد نغرس آفاق العلم والمعرفة والتقنية في أرضنا الخصبة ونصدّرها إلى غيرنا كما كنا في غابر الأزمان والبقاء للأقوى..
في الآونة الأخيرة ومنذ سنوات ظهرتْ إلى ساحة البحث والتحضير دعوةٌ إلى بناء مجتمع مدني حضاري معاصر وقد تمّ تداوله بمعان مختلفة وآراء متباينة لدى الباحثين والكتّاب، ورجال الفكر ..ظهر المجتمع المدني لأول مرة عند الإغريق وتطور بعد ذلك في أحضان الرأسمالية في أوربا وذلك لانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متعارضة من خلال آليتين: آلية السيطرة المباشرة من قبل أجهزة الدولة ومؤسساتها، وآلة الهيمنة الأيديولوجية والثقافية من خلال منظمات اجتماعية غير حكومية .. ولكن من أين أتانا المجتمع المدني؟؟ ..قد طُبِخ ونضج هذا النموذج من سياق المجتمع الغربي الذي يختلف تماما عن مجتمعنا من حيث الجوانب كافّة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ..وحجة الذين يؤيدون المجتمع المدني من أن التطور العالمي الذي أعقب الثورة العلمية التكنولوجية وسقوط الأنظمة الشمولية في المعسكر الاشتراكي الأوربي وتصاعد الديمقراطية في ظل الارتقاء المتباين للعولمة ممّا استلزم إنشاء تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطا إنسانيا ومكملة دور الدولة في نشر وتعميم الديمقراطية في مفاصل المجتمع وتجاوز مرحلة الاعتماد على الدولة لتصفية موروثات ثقافية لم تعد تلائم طبيعة المرحلة الراهنة من التاريخ الإنساني.
أما في مجتمعاتنا يعود جذوره التاريخية إلى المجتمع القبلي الذي ساد فيه الجانب الإنساني المشرق (انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً ) (العفو عند المقدرة) و(إغاثة المستغيث). ثم تطور مفهوم المجتمع المدني في القرن التاسع عشر حيث شهد تأسيس الجمعيات الأهلية ونشوء النقابات العمالية والمهنية في بدايات القرن العشرين، وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي تمّ تأسيس جمعيات خيرية ومنظمات أهلية تعبّر عن مصالح فئوية مثل المنظمات النسوية والاتحادات الطلابية وأندية ثقافية غير حكومية وأندية فنية رياضية وحقوق أقليات دينية وعرقية .. وبحكم قوانين العولمة التي تستهدف تقليص دور الدولة في مواجهة هذه المشكلات فقد سارع نشطاء المجتمع المدني لمواجهة هذه المشكلات والتخفيف من حدتها والتي ترجع في الأصول إلى العولمة الرأسمالية وسياساتها. وقد نتج عن هذا الانتقال إلى ظهور نموذجين من المجتمع أولهما : جماهيري وثانيهما : نخبوي غايتهما التخفيف من عبء المشاكل الحاصلة عن سياسات التكيف الهيكلي والتحولي إلى الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي غير أن التحول الديمقراطي يتعثر في مساره وذلك بمرحلة انتقالية بالغة الصعوبة والتعقيد تتتشابك فيها التحويلات العالمية والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية والتيارات الفكرية والثقافية وتتفاوت أوضح المؤسسات الأهلية من بلدٍ لآخر باختلاف الأنظمة السياسية في كل بلد. ويتجه جزء كبير من هذه الجمعيات إلى العمل الخيري الذي يرتبط بالوازع الديني كما في السعودية والبحرين والكويت والإمارات.. وتختلف درجات التعاون أو التوتر عندما تتجاوز هذه المنظمات الخطوط الحمراء لأنّ بعض الحكومات تدير تفاعلات المجتمع بعقلية أحادية لا تحتمل التعددية الديمقراطية ..فالمشهد الثقافي في بلداننا يتمثل في ثلاثة أوجه: الأول ثقافة الخضوع االناتجة من التربية الأولى (الأبوي السلطوي) التي نمت في إطار التعاليم الدينية والسياسية حيث تغلب الطاعة والامتثال ولا يسمح باستغلال الفرد وبروز فكر نقدي وابداعي .
أما الثاني : ثقافة التبعية التي تكرس التقليد للثقافة الغربية دون مشاورة ويتكرس ذلك من خلال وسائل الاعلام العربية والأجنبية ويتمثل الوجه الثالث في ظل هيمنة البنى السياسية السلطوية وهذا يعني أن نمط الثقافة في بلداننا يسير في الاتجاه السائد الذي يعوق ظهور مؤسسات المجتمع المدني بالشكل الصحيح : فلن تنمو مؤسسات المجتمع المدني إلا إذا رفعت الأنظمة السياسية الحكومية قبضتها عنها وسمحت لها بأن تمارس مهامها في إعداد وتربية المواطنين من خلال إشاعة ثقافة مدنية ترسي قيم العمل التطوعي وقبول الاختلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتنافس النقي والصراع السلمي مع الالتزام بالمحاسبة وما يترتب على هذا كله من تأكيد قيم المبادرة الذاتية . وثقافة بناء المؤسسات هناك امثلة كثيرة : إذ يهيمن على اقتصادنا البدوي الزراعي الريفي بتقاليده وسلوكياته وعلى اقتصادنا الريفي الذي يأتي من عائدات النفط والعمال والقروض والهبات ويقع عليه تصريف الدولة التي تنفق منه في حماية نفسها وتعزيز سلطتها إلى جانب هروب الأموال الوطنية إلى الخارج واقتصار ما يبقى منها على المشروعات الصغيرة . فالوضع الاقتصادي العام لا يعزز من خلال آلياته الذاتية ما يكفي من البنى والمؤسسات التي تمنح المجتمع الطالع المدني الحديث . فالكفاءة الإعلامية والاتصالية في نشر قيم المشاركة والتنمية الثقافية وتفعيل المبادرات الشعبية والمستقلة وتنظيمها وتجاوز الأدوات التقليدية للإحترام مع صياغة أولويات وطنية تنبثق من الضرورات الاقتصادية والثقافية والتحديات السياسية .
نكون قادرين على مواجهة أنماط الثقافة المغتربة ولا نتورط في الانسياق لأولويات الأجندة الغربية وهذه هي رسالتنا في الثقافة الأساسية لمنظمات المجتمع المدني المثقلة بمضامين التبديل والتغيير والمقرونة للمشاركة الشعبية من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة في كل قطرٍ من أقطار وطننا الكبير.
لماذا الناس يتزاحمون في طوابير من الحزن الصامت والكآبة المزمنة؟؟ يتهامسون في ريب و ظنون؟ يتبادلون الهمسات في خوف وانفراد ويتناقلون الأكاذيب ويتعاطون الأقراص المنومة ولا يعرفون للنوم مذاقاً ولا طعماً والوجوه التي غطتها المساحيق والأظافر التي كساها الطلاء والشفاه التي احتجبت خلف بسمات باردة تقليدية لا تدل على شيء وإن دلت على معنى عقيم ولغتنا المتداولة أصبحت رخيصةً مبتذلةً مهلهلةً لكثرة ما دخلها من النفاق و التظرف و الصنعة و الصداقة تحولت إلى مهنة و حرفة و تملق و تجارة و العاطفة عطفت إلى الوصولية و تحقيق المآرب و النزوات الشخصية أما الانتهازيون انتشروا في كل مكانٍ يطنون طنين الذباب و البراءة قد أُجهِضت في رحم الولادة تعرض الناس لأمراضٍ مزمنةٍ مختلفةٍ كالقرحة و القولون و الضغط و السكر و الأملاح و الذبحة و الأرق و الكبد و السبب: هو غياب الأخلاق و القيم الاجتماعية و هي ثوابت أركان المجتمع مصيبتنا: اصطناع الكلام و اصطناع السلوك اصطناع التهذيب المزيف إنه داءٌ عُضالٌ إدمانٌ لا شفاء منه على اصطناع كل شيء!!!
إنّ عندنا كل أدوات السعادة و المرح عندنا أفخر أنواع الفرح و السرور و المتعة لماذا كل أغانينا حزينةٌ؟؟ لماذا وجوهنا شاحبة؟؟ لماذا قلوبنا مريضةٌ؟؟ لماذا أرواحنا متعبةٌ؟؟ لماذا نشعر بأننا مذنبون؟؟ هل هي المعرفة التي جلبت لنا الحزن؟؟ هل هي القوة التي وضعها العلم في أيدينا؟ أم هي هموم المسؤولية؟ أم هو التصوف الذي صبغ أمامنا كل شيءٍ بصبغة الأشياء الزائلة؟ و جعل من المسرات و الأفراح باطل الأباطيل أهو الدِّين أم الفن أم العلم أم الثلاثة؟ لماذا حضارة القرن الحادي و العشرين حزينةٌ؟؟؟ لماذا نعيش مهمومين قلقين معذبين؟؟؟
إنّ الحضارة المادية مهما تقدّمت و لم تقترن بضوابط التهذيب و عناصر الحق و الخير و الجمال هي حضارةٌ مفلسةٌ محطمةٌ عواقبها وخيمةٌ!! عندما نشخّص الداء ندرك الدواء ذلك هو سبيل الطبابة و الشفاء!!! عندئذٍ تسري في أوصالنا تلك الروح المرحة الطليقة و ذلك الفرح الذي يحصّن نفوسنا و يداوي أحزاننا و يضيء الطريق كمسارج الزيت في عتمة الليل.
أول سؤال نوجهه هل انتهى عصر الأصنام؟؟ هل يوجد هنا و هناك من يعبد اللات و هبل و هل يوجد من يسجد لبعل...؟ و هل انتهى الشرك إلى غير رجعة؟؟ و الحقيقة نحن عبدة أوثان نسجد و نركع ونحرق البخور، ونرتل التسابيح والابتهالات... نحن في الجاهلية ولو تكلمنا بلغة الالكترونات...و لو مشينا على تراب القمر..!!انما اختلفت أسماء الأصنام... ماذا يكون جسد المرأة العاري؟ وهل هو صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود و المعشوق المرتجى؟! و المال هو صنم نقدم له القرابين من دم الجميع... الابن يقتل أباه.. والأخ يسرق أخاه و الموظف يختلس.. الكل يتهجدون، ويسهرون الليل ويصلون في حيّ المال والتجارة... والتعصب لفئة دون الأخرى هو الصنم ذاته... والعابد يعيش بفكر مقلوب ومنطق معكوس وهذا الصنم هو الحاكم المطلق والطاغية المستبد ومن حوله المنافقون وقارعوا الطبول و حملة المباخر و نافخوا الأبواق...وصنم أخر هو صنم الذات ((عبادة النفس)) و إتباع الهوى و الرجل الذي يعبد ذاته و المرأة التي تعبد جمالها البطل المبهور ببطولته، و صاحب الملايين الفرحان بملايينه...ولو صارحنا أنفسنا في إحدى خانات الأصنام التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس...
الصحة السعيدة هي فن و المعاشرة الحلوة هي موهبة واقتدار... ولكل واحد حظ فيه.. ويخطئ من يظنّ أنّ السعادة في بطون الكتب و المناهج... وإنما هي منحة الطبائع النقية، والبصائر النيرة...وهي ثمرة أخلاق... وليست ثمرة علم...!!..ولله خلق كلا منا فردا فردا فريدا منفردا وكل منا يولد وحده.. ويشيخ وحده ويمرض وحده، ويتألم وحده...ويموت وحده... ويلقي الله سبحانه وحده ويحاسب وحده... ((ذرني ومن خلقت وحيدا ))المدثر... ولكن خريطة الواقع واستقراء الشواهد مردّها الأخلاق وليس الثقافة..فالطبع السمح الكريم هو الذي يشبع السعادة والاطمئنان في القلب...!!والجزافية في التعبير يدمي قلوبا و يفصم روابط... ويزلزل نفوسا... وحينئذ ننظر إلى غيرنا كأننا غربا، فافتقدنا الألفة... وإذا بصديق الأمس قد أصبح خصيم اليوم... وفي هذا الجو المشحون والغريب الطقس والمناخ يتحول الإنسان المهلهل السيرة إلى عظيم... فالسعادة تكمن في الكلمة الأولى عند إطلاقها... فالكلمة الساحرة تغرس رياض المحبة... فالكلمة الطيبة هي محطة استراحة من لهاث الحياة العقيم... والله خلق الدنيا بكلمة: (كن فيكون) وتقوم الحروب بكلمة.. وتضع أوزارها بكلمة فالكلمة شيء كالسحر كالطلسم و هي إذا انفصمت عن الفعل أصبحت عبثا وإذا تناقضت مع الفعل أصبحت نفاقا... فيبرز الصمت وما أحلاه! و ما أحسنه!!...فالجبل صامت رغم أنه يحمل في أحشائه البراكين، ويحمل في باطنه الزلزال وهو هادئ.. ويخزن في جوفه الذهب والإبريز ويبدو متواضعا يفرش نفسه للفقراء والبسطاء من الناس... السعادة عنوانها الصمت فأين هي تلك البيوت السعيدة لا صوت لها... سر من أسرار السعادة هو انسجام الظاهر والباطن في وحدة متناسقة متناغمة..... إن صورة غروب الشمس، وانسدال الظلام في هدوء...والنظام المحكم في ملكوت السماء... وإطلالة القمر خلف السحب كوشاح من حرير... ونسمات بساتين الكروم والرمان.. هذا المشهد المثير والمبهج يعزف في داخل النفس السكينة والمحبة والرضا فهي السعادة بعينها.. وإذا اقترنت هذه الصورة من الجمال الخارجي بالغل والتوتر تعشش فيها الكراهية و تنفجر في داخلها قنابل الثأر والحسد وبراكين الانتقام فنحن أمام مشهد دموي مضطرب!!!..نحن أمام شقاء لن يهدأ.. قوله تعالى((ونزعنا ما في صدورهم من غل)) لأن الغل هو السر في الجحيم الذي نعيشه... حتى الغل في الضحك هو عنوان تعاسة... الضحك المغلول والتهريج المجلجل.. والمرح الوحشي هو الآخر عنوان افتعال ومحاولة مصطنعة لتغطية أصوات القلق،والحزن الدفين واليأس الأكّال في داخل القلب بأجراس الضحك... فالسعادة الحقة هي حالة داخلية مبتهجة فرحة... فالسلام مع النفس قبول الجميع الآلام في رضا وابتسام... فالسعادة في معناها الوحيد هي حالة الصلح و الوئام بين الظاهر والباطن... أما الصورة الدارجة التي تتداولها الألسن عن شلة الأنس التي تكرع الخمر وحولها باقة من النساء العاريات الباهرات وشفاه تتلاثم في شهوة مشتعلة وأفواه تتنفس الحشيش في خدر وتلذذ.. فنحن مع نفوس تركت قيادها للحيوان الذي يسكنها وكرست حياتها لإرضاء شهوة خنزير(كل همه أن يأكل ويضاجع.... هي حالة غرق للإنسانية في مخاط الحيوانية اللزج ومثلها الذين يتسلقون على بعضهم جريا وراء المناصب والآخرين الذين يكدسون المال والطين والعقار... ويلتمسون السلطة والقوة بكل السبل... فالسعادة الحقة ماذا تفعل بالمال والقوة والسلطة؟!! فالسعادة ليست في البيت المفروش بالسجاجيد العجمي... ولكنه في النفس التي تسكنه الخارج لا يستطيع أن يقدم لنا شيئا إذا كنا نحن من الداخل لم نكن في صلح مع هذا الخارج... بقمع الشهوات تسترد الروح هويتها كأميرة حاكمة و ميراثها مقعد الصدق في حوار الله...وإذا حكم الطين (الجبلّة الأولى) فقد هبط إلى هاوية التعاسة والشقاق والشتات...فالإنسان في لحظة ميلاده يتأرجح بين قطبي جسده وروحه في قلق لا يهدأ يصعد ثم يسقط...وكل منّا له معراجه إلى الكمال... ولا صعود دون ربط الأحزمة على البطون.. وكبح الشهوات.. والمعراج النفسي هو الخروج من أقفاص الشهوات البشرية إلى فيحاء الصفات الإلهية.. فنحن لا ندعو أن تفقد حيوانيتك و عقلك بل ندعو إلى الاعتدال بين الإفراط والتفريط ...لا رهبانية وصيام الدهر ولا إطلاق عنان الشهوات وهو منهج يؤدي إلى العروج الروحي.... انسجام الظاهر والباطن في وحدة متناسقة متناغمة... حالة الصلح بين الإنسان و نفسه وبينه وبين الناس وبينه وبين الله وسبحانه..
تقاس حضارة الأمم والشعوب بعظمائها من عمالقة الفكر والقادة وانعكاسها على الإنسانية. كتب العقاد مرة على صفحات كتبه يتساءل عن المقياس الذي يقاس به تقدم المال أهو المال؟ أم العلم أم هي القوة العسكرية فجحد أن يكون المال والعلم والقوة العسكرية لأنه قد تفنى الأمم الشائخة كما تشيخ الأمم الغنية وأنكر العلم لأنه قد يوجد العلم في الأمم المترهلة المستضعفة وأنكر القوة العسكرية لأنّ القوة بغير وازع من الحكمة ترتدّ بربرية ليس لها من ضابط وأخيرا وصل إلى رأي مفاده: أن المقياس الأوحد الذي يقاس به تقدم الأمم هو القدرة على تحمل المسؤولية.
في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أسفرت عن تكون صورة شديدة السلبية في الذهنية الغربية على مستوى النخب والجماهير الأمر الذي أدى إلى اختزال في صورة واحدة عنوانها (الإرهاب) وعناصرها التطرف ولكننا عن طريق الحوار الحضاري البناء أن نستجلي الحقائق ونرفع اللثام عن إنسانيتنا عبر حقب التاريخ... كما أنه من الضروري أن يأخذ الحوار مستويات عديدة ابتداء من المؤسسات الدينية ومرورا من النخب الفكرية والثقافية وانتهاءً إلى حوار المصالح الاقتصادية. وقد لا يتحقق مثل هذا الحوار لأنه من الضروري أن نفهم من بعضنا بعضاً ثم ندخل إلى حوار الند والخصم، نحن في داخلنا نفتقد أدنى قواعد و أسس الحوار.
إن نظرة شاملة إلى واقعنا المتأزم يكشف لنا مدى تناقضات عبر ارتفاع نعرات طائفية وعرقية في كل موقع من بلداننا في العراق وفلسطين ولبنان ومصر وبلاد الخليج... فذهنيتنا تفتقد في مجملها القيم التي تقوم عليها فكرة الحوار والتفاهم والتسامح والتعايش وخوفا من تفجر هذه المتناقضات الهمجية.... قد يؤدي إلى كوارث كبيرة في منطقتنا إذا لم يتم تداركها ومواجهة أسبابها. واليوم نسمع دعاوى التفريق بين الطوائف والأعراف في منابر إعلامية يبدو مريبا ومخيبا للآمال ومن دعاة ورجال دين من الثقات.
كما تتبارى مواقع الانترنيت في إذكاء هذه الروح التي تتمثل العقلية التحريضية، وتتبنى الذهنية التي تنفى الآخر وتعاديه والمشكلة أن هذه الصراعات المزمنة تجد أرضية لها في بلادنا منذ غابر الأزمان فليس من السهولة إطفاء هذه الحرائق في أفئدة الناس لانحدار مستوى الوعي والتعليم وعملية الغسيل الدماغي منذ ماضٍ طويل...والسبب الأساسي هو غياب الحوار يبن هذه الطوائف والمذاهب والأعراف وشيوع مفاهيم رسختها الشمولية والديكتاتوريات على مدى عقود طويلة.. ومن الصعب أن تجد قناة من الفضائيات في بلدانا يتمكن فيها المتحاورون من النقاش بهدوء وبما يتناسب المناخ الحضاري المدني وهذا ما يؤدي إلى القضاء على أي فرصة لطرح أفكار جديدة، وفي هذا الصدد يقول الكاتب (جون كالهون(: "الفترة الفاصلة بين موت القديم وتشكل وتأسيس الجديد هي فترة انتقال تتسم دائما بالضرورة بالحيرة والالتباس والخطأ وبالتعصب الجامح العنيف" والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو مصير الحوار الذي يمكن أن يتم الآن بيننا وبين الآخر في ظل القضايا الداخلية التي لم تحسم بعد؟ الكاتب (ديفيد هارفي) يرد على هذا السؤال قائلا في كتابه (حالة ما بعد الحداثة) بإحالة الأمر كله (إلى مجرد ألعاب لغوية) فالحوار محكوم عليه بالفشل في ظل الاحتراب وعدم قبول الآخر وفي عالم تتحكم فيه علاقات القوة غير المتكافئة.
إن ما يقوله (ديفيد هارفي) يلفت الانتباه إلى أن الغرب في محاولته الإغلاق على تعددية الصوت كأنه يدعم تكون المزيد من الأقليات والاثنيات والعرقيات.لابدّ أن تتجاوز الكثير من العراقيل من بينها الوعي بالمعوقات الخاصة بتمثيل الحوار الداخلي على مستوى النخب والإعلام من خلال تسليط الضوء على عناصر إعاقة الحوار الداخلي وكشف مخاطر التقوقع والانكفاء على الذات. واختيار النماذج صاحبة الصوت العاقل والهادئ وانتقاء الموضوعات التي تثار فيها القضايا الجوهرية والحيوية وألباب المخاطر... فالأجهزة الإعلامية بدورها أن تتجنب بث البرامج من إثارة النعرات الطائفية وأن تتحلى بالمسؤولية المنوطة بها وتتجنب تقديم برامج الشعوذة والخرافة وتفسير الأحلام التي تسهم في ترسيخ إشاعة العقلية الغيبية اللاواقعية...
كما أن المؤسسات التعليمية مطالبة بإعادة تقييم مناهجها التي تعتمد على التلقين والحفظ الفطري وذلك لتغيير الذهنية التقليدية وتكوين ذهنية نقدية قادرة على تمييز الغث من السمين وخلق وعي جديد يتماشى مع تحديات العصر القرن الحادي والعشرين. وكذلك المؤسسات التعليمية مطالبة بإلقاء الضوء على العقائد الأخرى لكشف النسيج الواسع للتنوع البشري والتأكيد على قيمة التنوع والاختلاف والبحث عن سبل توجيه المجتمع تأكيد قيمة العقل والتسامح كقيمة أساسية في جوهر العقيدة وحث الجمهور على نبذ الشقاقات وتطوير مناهج البحث في العلوم الدينية في الجامعات المختصة بدراسة الفقه وعلوم الدين .. والمراكز الثقافية مدعوة إلى ابتكار برامج حوارية بين الأجيال القديمة والجديدة لتخطي العراقيل .. وأن يتحلى الشباب المثقف بالموضوعية القادرة على التحليل والنقد العقلاني في عمر مبكر ومؤسسات النشر مطالبة بنشر ثقافة التسامح بين شتى جوانب المجتمع وتكريس الحوار البناء بين الطوائف والاثنيات والأعراق وتكريس الترجمة في الأعمال الفكرية الأوربية والغربية لإشاعة المعرفة بالآخر على مستويات عديدة..
وأن نعلم الناشئة الجيل الصاعد أن الاختلاف ليس هو الشقاق إنه فطري في الإنسان منذ النشأة الأولى وأن الاختلاف لا يبعث على الاحتراب والتفريق من خلال هذه العناصر والمقومات يمكن لنا أن نشكل أرضية صالحة لإقامة الحوار من موقع الندية أولا ً وبهدف تحقيق الاتصال بين الأفكار والقيم بين الثقافتين المتحاورتين مما سيكسب المصداقية في القول والفعل مما يتمخض عنه نموذجاً إيجابياً لحوار حضاري بين شعوبٍ تعرف معنى التسامح والتواصل مع الآخر والبحث عن صيغ التعايش بين الأفراد والمجتمعات والأمم .. فقبل أن نحاور المستعمر علينا أن نحاور بعضنا بعضاً لأنّ كل مواطن له سهمه في وطنه ومتى وجد المستعمر بيننا ثغرة أو فجوة دفعته شهوة الاحتلال لاحتلال ديارنا ، ولقد دّشن الاسبان لهذا التقليد المروع حينما غزوا ما عرف لاحقاً بالعالم الجديد في نهاية القرن الخامس عشر إذ جرى اجتثاث السكان الأصليين وإبادتهم وقد عرف هذا الأمر في الأمريكيتين على نطاق واسع إذ تعرض العرق الهندي لشبه إبادة من طرف القوى الغازية ، ونجد أمراً مناظراً لذلك في استراليا حيث جرى طمس وجود السكان الأصليين وكذلك الوضع في جنوب إفريقيا ، وأشهر الأمثلة وأكثرها حضورا في شرقنا هو اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه . فالمستعمرون البيض الذين قتلوا ملايين الهنود الحمر ونهبوا ثرواتهم من الذهب، هذه المفارقة في التاريخ الأمريكي، فقد ذهب كثيرٌ من المستعمرين البيض إلى أن الهنود الحمر بالرغم من كونهم ضمن مخلوقات الله فإنهم لم يخلقوا بروح المسيح وإنما خلقوا بروح أخرى ناقصة وشريرة وأكد آخرون بثقة أن الهنود الحمر مثل الحيوانات مخلوقات بلا روح ولا ضمير. وبفضل هذه النظريات أصبح بمقدور المستعمرين أن يقتلوا ما شاءوا من الهنود بلا أدنى ظل من ندم أو شعور بالذنب ومهما بلغت بشاعة المذابح لم يكن ذلك ليفسد نقاء القداس الذي يقيمونه كل ليلة قبل النوم. فأمريكا قوة كونيالية جديدة ترفع شعار العولمة وفرض سيطرتها على العالم بمزيج من الاستعمار القديم القائم على الاحتلال العسكري ومد نفوذها السياسي بوساطة الشركات المتعددة الجنسيات والقواعد العسكرية المنتشرة في شتى أنحاء العالم لحفظ مصالحها ولهذا لم يعد المبدأ الاستعماري القديم متفرداً لوحده إنما ترافقت معه وجوه أخرى مثلتها أمريكا بأفضل ما يمكن تمثيله.
وأخيراً أنهي مقالي بقول لشوبنهاور :" كل حقيقة تمر بمراحل ثلاث تكون في البداية مثار سخرية ثم تواجه بمقاومة عنيفة وتنتهي بأن نقبل بوصفها حقيقة واقعة". فالمنتصر هو الذي يصوغ الحقائق الكبرى فهناك علاقة جدلية بين مفهومي القوة والتاريخ ، فإذا لم نرسخ بناءنا الداخلي ترسيخاً قوياً لجبال وطننا الشامخ ستصبح العولمة الغازية حقيقة ً واقعة مقدّسة .....
الأدب السرياني كان يعرف ما قبل الميلاد بالأدب الآرامي .. فالآراميون ظهروا منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ولم يستطيعوا أن يشكلوا امبراطورية كبيرة ذات شأن كالإمبراطوريات الرومانية، والفارسية، والآشورية، وكانت الآرامية منقسمة إلى قسمين: الشرقية والغربية. فالشرقية تشمل السريانية، والرهاوية، والبابلية، أما الغربية: وهي النبطية، والتدمرية، والسامرية، وترجع الآرامية إلى آرام بن سام ابن نوح عليه السلام وذلك في الكتاب المقدس العهد القديم (1) وحافظت اللغة الآرامية على كيانيها ورغم النكبات حتى القرن السابع الميلادي إبّان الفتح الإسلامي وحلّت اللغة العربية محلها ومن جرَّاء الأحداث انزاح قسم من الغربيين إلى بابل في عهد داوود الملك بألف عام قبل الميلاد.. وأما الشرقيون فقد يمّموا وجوههم إلى شمال دجلة واستقروا في الزَّابين الأعلى والأسفل.. وما تزال اللهجات السريانية: الشرقية والغربية محلية لدى الجماعات المسحية القاطنة في كردستان وقصباتها. وعلى ضفاف أورمية وسفوح جبال طور عبدين(2) وسبب اندثار الدويلات الآرامية اصطدامها بالقوة الآشورية الهائلة بقيادة ملكها سلمنصر وسرجون الثاني في عام 721 ق.م وامتزج في هذه الأثناء أغلبية الآراميين بالكلدانيين، وتشكلت على أثرها المحكمة الكلدانية الحديثة وانتشرت اللغة الآرامية في جبال أرمينية وكردستان وتعتبر مدينة الرها مهد الآرامية في زمن الإمبراطور سلوقس عام 304 ق.م(3) ومن روائع الأدب الآرامي التي سميت ب ملحمة (أحيفار) إنها أحداث رائعة ومشرقة كتبت بالآرامية في القرن الخامس ق.م وكان أكثر الآشوريين يتحدثون باللغة الآرامية .. وكانت الآرامية لغة البلاط الآشوري وبطل الملحمة (أحيفار) هو الوزير لدى سنحاريب ملك نينوى ثمَّ أسر حدون عام 681 ق.م.. والملحمة هذه مليئة بالحكم والأمثال وأصبحت هذه الحكم على مر العصور فاكهة المجالس تسرد على الأسماع في المناسبات. (4) ومنحت الآداب السريانية صورة مشرقة للشعوب ما بين النهرين فالأدب السرياني هو تحول جديد في الآداب الآرامية والبابلية القديمة والصور التي تتكرر هي الصور نفسها في الآداب الآرامية كقصة أحيفار وملحمة كلكامش وأساطير أنانا وقصة (عشتار) التي نالت شهرتها في أربيل وبابل ونينوى ومناطق اخرى في بلاد ما بين النهرين(5) واتخذ الأدب السرياني هذا الاسم بعد ظهور المسيحية في القرن التاسع قبل الميلاد لأنه ينتمي إلى الأدب الآرامي.. ولما انتشرت الآرامية في ذلك العهد في بلاد الرافدين عُرّف آنذاك بالأدب السرياني.والكتاب المقدّس العهد القديم نقل إلى السريانية.. والآداب السريانية تتضمن النحو والصرف والعلوم الاجتماعية واللاهون والمنطق والفلسفة والحكمة وشاعرهم الكبير بريصان أول من كتب الشعر باللغة السريانية، وأنشأ مدرسة في مدينة الرها وقد استمدّ الفلسفة والمنطق من الفيلسوف سقراط، ولمح نجمه في بلاد الشرق وبلاد الرومان وألف كتاباً سمّاه (الثابت والمتحول ) إلى جانب مئة وخمسين قصيدة عرية من النوع الروحاني ..يحاكي شعره مزامير داوود وألف كتاباً آخر سماه (شرائع البلدان ) عن تأثير الأديان بحرية الإنسان الفرد(6). ومن الأدباء البارزين في الأدب السرياني في القرن الخامس الميلادي نرساي الذي ولد في عين دلبي قرب مدينة دهوك في كردستان عام 412م وعندما تعرضت المنطقة لاضطهاد بغيض في عهد الشاه بهرام الخامس أقام فيها عشر سنوات ثمّ التجأ نرساي إلى مدرسة الرها تلقى تحصيله العلمي ثم أصبح مديراً لهذه المدرسة على مدى عشرين عاماً أبدع نرساي في مؤلفات جمة، شعراً ونثراً، وألف اثني عشر بحراً من بحور الشعر وانثي عشر مقطعاً صوتياً وقدم تفسيراً جديداً للكتاب المقدس وأشعار أشعيا وارميا ودنيال وحزقيال.. وكتب ثمانين قصيدة شعرية في شتى الموضوعات.. هذه القصائد التي ترجمت إلى اللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية من قبل نخبة من المستشرقين واستعمل نرساي في شعره التشابيه الفنية والصور زالأسلوب المجازي المرسل والسلاسة وعناصر التشويق(7) وفي عام 637م تراجعت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية عن حكمهما وتدهورتا في بلاد الشرق وبلاد مابين النهرين. وفتحت بلاد الشرق عن مصاريعها أمام طلائع الزحف الإسلامي واستفاد الأدب السرياني آنذاك من التسامح الإسلامي وألّف الأديب سهدونا سنة 649م أدباً رفيعاً سامياً في كتابه ( السيرة الكاملة ) الذي نشره بولس بيجان في باريس 1982م.. والكتاب مقالات في الإيمان والحكمة والعفة والمحبة والوفاء ويُعَدُّ القرن الخامس الميلادي من أزهى العصور في الأدب السرياني حيث ازدهر هذا الأدب بظهور أدباء أفذاذ في الأدب السرياني أمثال: برديصان، ومار أفرام، ونرساي، وماروثا الميافارقين وهذا الأخير قد كتب ملاحم الشهداء البطولية في ميادين الشرف والكرامة، وكتب الفلسفة اللاهوتية، والمناظرات العقائدية.. فساهمت فلسفته في إثراء الأدب السرياني..
ووضع باباي الكبير كتابه (الاتحاد ) وحيود يعقوب السروجي الذي ساهم في ازدهار الأدب السرياني. وجاء القرن السادس الميلادي ويحمل معه نهضة متقدمة ..حيث ازدهرت الترجمة في هذا الوقت من اليزنانية إلى السريانية فألّف يوحنا الأفسي كتاب التاريخ السرياني، وألّف ( سهدونا ) مجلدين كبيرين في الحياة الكنسية وكتب الشيوعياب الحديابي كتاباً في دحض الآراء الداخلية.
ووضع توما المرجي كتاباً في اللغة السريانية بسبب تزاحم العربية على السريانية، وكذلك سليمان المصري للغرض ذاته في كتابه ( النحلة ) وكتب خاميس القرداحي وردة قصائده الشعرية وبلغت قصائده خمسمئة قصيدة في أغراض متنوعة ..
وألّف عيد يشوع الصوباوي كتاباً بعنوان ( فردوس عدن ) في أغراض شتى وعناوين متنوعة.. وفي القرن الثالث عشر الميلادي ظهر مؤرخ آخر وهو مار ميخائيل السرياني في ثلاثة مجلدات منذ آدام وحتى القرون الوسطى. (8) ويقول روفال في هذا الصدد في كتابه تاريخ الأدب السرياني أن الدراسات السريانية بدأت في أوروبة منذ أواسط القرن السادس عشر.. وفي بداية القرن الثامن عشر برزت نصوص سريانية في الغرب تفسر الكتاب المقدي وأسفار العهد القديم.. وجمعت كل هذه المخطوطات والنصوص حتى بلغت مئة وأربع عشرة مخطوطة وذلك في عام 1683 وغدت الحجر الأساس في بناء المكتبة السريانية في مكتبة باريس الوطنية.. وفي عام 1768 شُيّدت المكتبة الشرقية في أورقة مكتبة الفاتيكان وذلك على يد يوسف السمعاني.. وقسّم المؤرخ ( دوفال ) كتابه إلى قسمين: الأول، مجموعة الأعمال الأدبية للكتّاب والأدباء والشعراء- والثاني، لدراسة الأغراض الشعرية والأجناس الأدبية للأدب السرياني (9) فالأدب السرياني يستمدّ مادته من الأساطير الميثولوجية الموغلة في القدم من الجضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين التي ما زالت معالمها شاخصة للعيان منها التراث الديني في الحكمة والفلسفة..
ذلك التراث الثّر في الحكمة اللاهوت والروحانية الباطنية حتى انجلى ذلك التراث من مخاضه العسير إلى يومنا هذا. (10) وفي العصر العباسي ترك لنا الأدب السرياني ميراثاً ضخماً من الكتب اللاهوتية والفلسفية والعلمية والأدبية والتاريخية لأنه ازدهرت في تلك الحقبة التاريخية الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة السريانية، وأشهر المترجمين آنذاك. وفي خلافة منصور بالذات- الطيب السرياني كوركيس بن بختيشوع الذي كان يتقن لغات عدة: اليونانية والفارسية والعربية فضلاَ عن السريانية.. وفي عهد الأمون ترجم يوحنا بن ماسويه كتاب ( اقليدس ) من اليونانية إلى العربية ... وظهر آخرون في الترجمة أمثال: عبد المسيح عبد الله واسطيفان بن باسيل، وسرجيس الراسمي ويحيى بن عدي السرياني، ويعد حنين بن اسحق شيخ المترجمين في عصره، ورئيس الفلاسفة والحكماء والأطباء.. وازدهرت الترجمة بين عامي ( 750- 900م ) ونقلت كتب الفلاسفة اليونانيين أرسطو وسقراط وأفلاطون إلى اللغة السريانية، وبلغت الكتب المترجمة ثلاثة آلاف كتاب تضم سبع خزائن من مكتبات أوروية. (11) وانحدر الأدب السرياني إبان غزو المغول إلى مرحلة الانحطاط وذلك بسقوط بغداد واحتلال الشرق فامتد هذا الانحدار من منتصف القرن الثالث عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، حيث عمّ الفوضى والاضطراب والمجازر الدموية وحرق الكتب ورميها في نهر دجلة.(12) وبعد انتهاء الحروب المغولية وابتداء الدور العثماني من عام 1640- 1917م واحتلالهم معظم مناطق الشرق وأوروبة وحتى ( فينا ) وذلك في منتصف القرن السابع عشر.. ففي هذه الفترة التاريخية المظلمة بالنسبة للأدب السرياني.. انحدر الأدب السرياني إلى الحضيض ..
عاش الأدب السراني في انحطاط وتقهقر ومن مطلع القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين بدأت النهضة السريانية بإرسال بعثات تبشيرية إلى أوروبة ولعب ( الدومينيكان ) دوراً بارزاً في إحياء الأدب السرياني من غفلته الطويلة وذلك بتأليف الكتب وجلب أول مطبعة إلى الموصل حيث طبع ثلاثمئة كتاب في عام 1856م.. وكذلك أسهمت المطبعة الكدانية في الموصل بطبع مئة وعشرة كتب.. ونشطت الحركة الأدبية السريانية بإصدار جرائد ومجلات.. فأخرجت مجلة ( زهرة بغداد ) عام 1915م وكذلك صدرت مجلة ( دار السلام ) للأب أنستاس الكرملي، وأصدر داوود صلبوا عام 1913 مجلة ( الغرائب ) وصدرت مجلة ( الزنبقة ) لصاحبها عبد الأحد بولس عام 1922.
وأصدر رزوق عيسى مجلة ( المؤرخ ) عام 1932 وأصدر الأب نوئيل أيوب مجلة ( الفداء ) عام 1951 وهي مجلة دينية تراثية .. وتعتبر مجلة ( بين النهرين ) عام 1973 فاتحة عهد جديد في الأدب والتاريخ والثقافة السريانية وكان صاحب امتيازها الأب جاك اسحق ورئيس التحرير الأب يوسف حبني وصدر منها مئة عدد وهي مجلة شهرية تراثية أدبية تاريخية ساهم في إغنائها نخبة من الأدباء السريانيين وما زالت تواصل مسيرتها الثقافية في بغداد .. وصدرت مجلة ( الاتحاد ) من قبل الأدباء السريانيين ثم صدرت مجلة الكاتب السرياني عام 1986 باللغتين العربية والسريانية ومجلة ( السورث ) عام 1975 وهي مجلة سنوية ذات بحوث تاريخية أدبية.
أما المجلات الدينية فمنها ( أكليل الورد ) ومجلة ( نشرة الأحد ) بين عامي 1902 – 1922 ومجلة (النجم) التي استمرت في الصدور بين عامي 1928. 1938 واستأنفت الصدور بين عامي 1950 – 1956 ومجلة النور التي كان يصدرها المفكر المسيحي إلياس يوحنا عام 1949 (13 ) وظهرت حركة أدبية ناشطة في الآداب السريانية والعربية والكوردية في كردستان: أربيل دهوك وكركوك(14) ففي أربيل صدرت مجلة ( رديا كلدايا ) عام 1999 وصاحبها بولس شمعون ورئيس تحريرها د. سمير خوراني وفي دهوك ( الصوت الكلداني ) عام 1997 وصاحبها عبد الواحد أفرام وتصدر باللغتين العربية والسريانية وفيها مقالات باللغة الكردية.. وأما في مجال القصة القصيرة فازدهرت في كركوك عام 1957 وكما أصدر توما أودو مطران أورمية ( مائة حكاية ) بأسلوب شعري جميل ظهرت لأول مرة في أورمية ثم طبعت في مطبعة كلكامش في طهران عام 1956 وتشهد كردستان نهضة أدبية رائعة يساهم فيها أدباء أكفاء بارزون مثل سركون بولص وجان دمو وغيرهما. وما تزال مسيرة الأدب السرياني في تصاعد وازدهار. (15)
الهوامش
1- ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، القاهرة، 1929، ص115.
2- ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، بيروت، 1990، ص47.
3- وقد سماها الترك الرها أورفة أوديسا في القرن الخامس عشر.
4- بولس بهنام، احيفار الحكيم، بغداد 1976، مقدمة الكتاب نصوص الكتاب.
5- د.يوسف جيني، الإنسان في حضارة وأدب وادي الرافدين، مجلة ما بين النهرين، العدد100 ، عام1998.
6- د. لويس ساكو، آباؤنا في الإيمان، زد. لويس ساكو، آباؤنا السريان، بغداد، 1998.
7- سليمان الصائغ، فرساي الفيلسوف وشاعر الأدب الآرامي الكبير، مجلة النجم، 1953، العدد السادس.
8- مجلة الكاتب السرياني، العدد 2، لسنة 1958.
9- روفال، تاريخ الأدب السرياني، ترجمة: الأب لويس القصاب، بغداد، 1985.
10- الكرملي انستاس ماري أرض النهرين، بغداد، 1944.
11- سهيل قاشا، لمحات من تاريخ نصارى العراق، بغداد، 1982، ص 97 – 100.
12- حضارة العراق، الجزء السابع، بغداد، 1985.
13- الفكر المسيحي، العدد 248 لسنة 1989، عدد خاص بالصحافة السريانية.
14- الصحافة الكلدانية: نشأتها تطورها، مجلة المسيحي، العدد 13 لسنة 1977، عدد خاص ( كنيسة العراق).
زيا نمرود بين نهرين، العدد 21، عام 1998
أرصفة المدن السورية... ملتهبة بنار الحريق، وهجير السعير... تتلظّى بشظايا الموت الرهيب... تنعي الأرصفة السوداء بألسنة حدادِ هول الفاجعة، وجهنّم الكارثة... الموت يحمل في ذراعيه مناجل الحصاد يحصد بها رؤوس الأهلين والأحبّة والأبرياء، شوارع المدن يعقد فيها الموت أعراس الفناء بدويِّ القنابل وقصف الراجمات، وتُحيلها رماداً ملطّخاً بأشلاء الموتى، تنطق بمقابر جماعية... وجثث متفسّخة ترتّل صحائف المآسي الدامية إنها أسطورة الملحمة الباكية... يرقص الموت في شوارعها وزواياها رقصة الوحش الكاسر حينما يصطاد قطعان الخراف.. إنها مأساة شعبٍ طيّب نشيط متسامح ووطن شامخ عزيز مقتدر... إنها سوريا الحبيبة...
ويا درّةً بين المزابل أُلقيت ويا جوهرةً بيعت بأبخس قيمة
خُضنا من القرن الماضي ثلاثة فصول من الملاحم الدراماتيكية وباءت أغلبها بمسرحيات هزلية هابطة مضحكة حيناً ومُبكية حيناً آخر...
وفي الهيجاء ما جرّبتُ نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال
إنه قدر أحمق الخطا، إنه سوريا تكابد مرارة الخذلان ووصمة عار...
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد
إنها قتال داحس والغبراء التي دامت أربعين عاماً...
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث بالحديث المرجّم
لقد حوّلت الحروب العربية والنزاعات الأهلية المواطنَ إلى فأرٍ مذعور هدفه الوحيد هو البقاء على قيد الحياة، وهي حياة مريرة يقضيها بين الاختباء في الملاجئ والهجرة من مكان لآخر، والرعب من القصف الديماغوجي والقتل على الهوية واللهاث المستمر للبحث عن الطعام والدواء قبل أن ينفد كل شيء، وهو يتحوّل بذلك من مواطن إلى كائن بيولوجي تحرّكه غريزة البقاء فقط. إن المواطن السوري يكفي لمائة مليون إذا طبّقنا ميزان العدل والإنصاف... ألم يقل الشاعر القروي –رحمه الله- ذات يوم في حبّة قمح بأنها مشطورة إلى نصفين: نصف لك ونصف لأخيك:
من حبّة الندى اتّخذ مثل الندى يا من صرفتَ عن الندى يمناكا
كأنما الشق الذي في وسطـها لك قائل نصفي يخصّ أخاكــا
وحالتنا المأساوية تعبّر عن الانفصام بين السلطة والجماهير، ولو أن الإنسان الوطني خلال هذه العقود الماضية استطاع إلى حدّ معقول أن يشارك في صنع القرارات السياسية التي أثّرت في مصير حياته لتغيّر كثيرٌ من معالم الصورة التي نعيشها... دماءً ودماراً، إن لدينا ذاكرة مثقلة بكل مرارات الماضي، وثارات التاريخ محتشدة بأسباب العصبيات والطائفيات والنزاعات العرقية والإثنية والطائفية الدينية... وكلّما وقفنا على أبواب المستقبل ردّتنا هذه الذاكرة إلى الخلف... وإذا كنّا نستخرج من هذه الذاكرة حلم الوحدة بشكل عاطفي فإن هذا الحلم كان مثالياً راديكالياً متطرّفاً. وكباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. علينا أن نسأل أنفسنا... لماذا قتلنا عمرَ الفاروق الذي ملأ الأرض عدلاً وعثمانَ الذي ضحّى بماله ونفسه في سبيل بناء دولة العدل، والإمامَ علي الذي حمى الحمى وطبّق المبدأ على نفسه وأولاده، وعمر بن عبد العزيز الذي عاش في عصره المواطنون وقد تخلّصوا من الفقر نهائيا؟ ولماذا فشلت كل أنواع الوحدات التي قامت: الثنائية والثلاثية والرباعية؟...
لماذا ترتفع شعارات الوطنية والحب والعدل في لحظة ونلتجئ إلى التباغض والأحقاد وحمل السلاح؟...علينا أن نتخلّى عن هذا الحلم المثالي، هذا السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً... ونتجاوزه إلى تفكير واقعي يحقن دماءنا ويصون كرامتنا وثروتنا ووطنيّتنا... إنها مهمة المفكّرين والحكماء من شتّى المكوّنات السورية في نسيجها البديع... دعوها لهم دعوة إلى أهمية التكامل رغم الاختلاف وأهمية التنافس بشرط أن لا يصل إلى مرحلة العداء، وتحت الأشكال الظاهرة تقبع تناحرات القبيلة في أقطار شتّى...
إن الصهاينة الذين هاجروا إلى فلسطين أتوا من بقاع الأرض ومن ملل مختلفة متنوّعة، لا تجمعهم اللغة والجنس والعرق والتاريخ المشترك، وهم رغم ذلك متّفقون موحَّدون لا يختلفون، وإن اختلفوا فلا يتقاتلون... في الهند شعوب كثيرة متباينة ولعات عديدة، أكثر من مائتَي لغة... وأديان لا تُعدّ ولا تُحصى، وفوق ذلك هم مخلصون للهند ومدافعون عنها دفاعاً مستميتاً... وفي السويد وسويسرا والدانمارك والنمسا... هؤلاء جميعاً يجمعهم وطن واحد، وهدفهم بناء وطنهم وتعميره والعيش فيه بالمحبّة والعدل والإخاء...لأننا بأمسّ الحاجة إلى ثقافة المحبّة والتسامح والإيثار وإزالة الضغائن والأحقاد... وكلّ هذا مدوّنٌ في صحفنا السماوية المقدّسة، ولكننا نردّدها بألسنتنا لنصب الفخاخ لأخوتنا ومَلء الجيوب وتجويع الآخرين... يساورني الخجل الجمّ الغفير حين أرى القصف العشوائي في مدننا وأريافنا بعنجهيّة ماكرة... وإنه ليؤرّقني هدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وقتل الأبرياء من الولدان والشيوخ والنساء من الشعب البائس المسكين...
حينما هوجمت سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي، وكان البطل الشهيد يوسف العظمة وزيراً للدفاع وهو من أصول كردية ومن البديع السوري الخلاّق، عقد العزم أن يتوجّه مع رفاقه إلى ساحة ميسلون لمواجهة العدو وجهاً لوجه، نصحه الحكماء من ذويه بالتخلّي عن المواجهة لأنه لا تكافؤ في القوة العسكرية من حيث العدّة والعتاد، وخاطب البطل جنوده قائلاً: لا يجوز أن نقاتل بين الأبنية والمساكن لأنها تتعرّض للقصف... وقتل الآمنين وهدم مساكنهم... علينا أن نقاتل في ساحات البطولة وإني ذاهب إلى حتفي، إلى الاستشهاد، لكي لا يكتب التاريخ أن فرنسا دخلت دمشق بدون مقاومة... وسنقاتل في ساحة ميسلون ونرويها بدمائنا، ولن أسمح لفرنسا أن تجعل دمشق منتزهاً لها... وتَقَدّم إلى ساحة ميسلون وبأسلحة بدائية... قاتل حتى استشهد...وأنشد الشعراء الوطنيّون عنه بأعذب الألحان وأدقّ الكلمات وبقوافٍ تقطر دماً ودمعاً تخليداً لبطولاته:
كم لنا من ميسلونٍ نفضت عن جناحيها غبار التعب
إن التراجيديا السورية لا تُحلّ في أروقة الأمم ولا في المحافل الكولونيالية...إن السوريين هم الجديرون بحلّها... فالأولى أن تجتمع النخبة الممتازة الوطنية النزيهة التي تحبّ سوريا وشعبها قولاً وعملاً وتضحيةً، أن ترفع شعار السلام لأن السلام أقوى من قعقعة السلاح ودويّ المدافع... ونسعى جاهدين بدون تلكّؤ لحقن شلاّل الدماء... أما كفانا قتلاً وتدميراً... زوراً وبهتاناً؟... على كل فرد في هذا الوطن الغالي أن يكون وطنياً قبل أن يكون سياسياً حزبياً أو مصلحاً أو كاتباً أو شاعراً، أن يتحلّى بالوطنية... وأن يُؤْثر وطنَه سوريا على نفسه وعلى أهله وبنيه... لأن سوريا هي الأشمل والأرحب...لأن سوريا هي الرحم، وسكّانها ولدوا من رحمها. سوريا هي السور الذي يحمي كرامة الأمة، وهي الحصن الحصين لأهلها... وأن نتمثّل بقول الإمام علي : "لو هاجمنا الروم لصافحتُ معاوية."
إننا في سوريا أسرة ضمائر الرفع المنفصلة (أنا، أنت، نحن) لنرفع وطننا إلى أعلى الأعالي حباً وسلاماً وتسامحاً ونبلاً.
قادني هذا البحث الديناميكي إلى مسائل شائكة في تاريخ أمتنا، ما الحاضر إلا مولود وُلِدَ من رحم الماضي والتاريخ هو محفوظات الأجداد، والأمة بلا تاريخ كالجثة الهامدة بلا روح... والتاريخ لا يغفر لأحدٍ لأنه يسلك مسلك القاضي العادل، ويستند إلى الوثائق والبراهين، والحجة البالغة...والتاريخ للعظة والاعتبارية... نقرأ التاريخ لكي لا نقع في الأخطاء كما ارتكبنا من ذي قبل...!!!
أُقلّبُ صفحات تاريخنا كباحثٍ نزيهٍ مستقلّ أرى فيه أخطاءً جسيمةً في الفكر والتأويل والتطبيق، والذين ركنوا إلى التأويل الخاطئ، إما لقصورهم الفكري أو اتّبعوا مآربهم الذليلة البخسة... ففي التنزيل الحكيم: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}/آل عمران127،الأنفال10/. تشير الآية أن النصر يعود إلى مشيئة الله وإرادته، وهناك من فسّر الآية حسب فكره المزاجي والوقوف بجانب فئة دون أخرى ووظّفها لمصالحه... ولكن النصر بدون أسباب القوة والتهيؤ لا يفعل شيئاً إلا أنّ الآية تطلق صفة المطلق بأنَّ الله على كلّ شيء قدير ، فعّال لما يريد وبيده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو... ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب... فإنَّ للنصر أسباباً... فمن لم يأخذ بالأسباب سيكون حظُّه الفشل والخسران تأكيداً لقول الله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...}/الأنفال60/.
إن المشرك أو الملحد إذا أخذ بأسباب القوة سينتصر على خصمه الذي أهمل استعداده للمعركة أو استهان بعدوّه واستخفَّ به أو تكاسل... والقوة الحربية تتألف من الجيش المنظّم المسلّح بالسلاح القويّ... والتدريب المستمر المتواصل... والخطة الذكية والاستراتيجية العسكرية والصبر والثبات والشجاعة والإيمان بالتضحية والفداء ابتغاءً لهدف أسمى وأعلى... إن المسلمين الذين خسروا في غزوة أحد بقيادة الرسول الأعظم لأنهم خالفوا خطة قائدهم الأعلى... فكان النصر للمشركين، لأن المشركين قاتلوا قتالاً شديداً... ونفذوا خطتهم الحربية بجدارةٍ... وخسر المسلمون في أُحد ليعتبروا للدرس ومراجعة الذات... إنَّ إهمال شرط من شروط المعركة سيؤدي إلى الهزيمة والاندحار... وإنّ الله سبحانه من خلال تنزيله الحكيم يريد أن يعلّمنا أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه وأن عقله صُدِرَ من علمه الأزلي...
وبهذا العقل الذي وهبه الله إياه أن يعمّر الأرض والتمكين فيها... وحمل الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً... وحيال هذا الموضوع الذي أثيره تنهال عليَّ أسئلة صريحة تزحزح كيان الأمة كيف يمكن أن نفهم انتصار معاوية على الإمام علي... ؟؟؟ وانتصار يزيد على الحسين بن علي في كربلاء ... ورأس الحسين معلَّق في بلاط يزيد في الشام لثلاثة أيام بلياليها... واللعنة على عليّ على المنابر في المساجد... وقتل ذرية عليّ بلا هوادة ولا رحمة ؟؟؟ وكيف نفسّر قصف الكعبة وهدمها بالمنجنيق من قبل حجاج بن يوسف الثقفي عام/73هـ/ واستباحتها وهدمها مرة أخرى بقيادة أبو طاهر الجنابي زعيم القرامطة وسفك دماء من فيها... وألقوا الحجر الأسود في صحراء/ الجوف / مدة /22عاماً/ ... واحتراق المسجد النبوي مرتين ضربته صاعقة من السماء عام/654هـ/ و/886 هـ/ ، وكيف انتصرت أمريكا على العراق وليبيا ؟؟؟ وكيف انتصرت الطائرات الفرنسية على حركة المريدين بقيادة الشيخ إبراهيم خليل التركي في جبل الكرد/منطقة عفرين بلاليكو/ ؟؟؟ وكيف انتصرت أمريكا على حركة الطالبان بقيادة ملا عمر في أفغانستان عام 2002م وانهزم هو وأتباعه أقل من شهر ؟؟؟ ولماذا انهزم العرب أمام إسرائيل في حربين 1948 – 1967م ؟؟؟ ولماذا انتصرت حركة الفيت كونغ في فيتنام على أمريكا رغم أنها حركة إلحادية ؟؟؟ وأمريكا تدين بالديانة المسيحية؟؟؟
إن ربط النتائج بالأسباب ذلك هو الواقع الحي المجتسد الذي يؤدي إلى بناء القوة وصنع النصر.. إن الإفراط في الفضيلة تهوّر وإسراف، وإن الشحّ يؤدي إلى سلوك مهين... وإن الصواعق والطوافين والزلازل تمكّن الأرض وتعمل على توازنها وترميمها وتحديدها وصلابتها...!!! إنَّ العنصر الذي جعل ينتصر معاوية على عليّ وذريّته فقد استباح الأول كل غالٍ ومقدّس في سبيل الوصول إلى الخلافة... بينما الآخر لم ينزل إلى مستوى الاستهانة بكرامة أمته وبيت النبوة الذي تربّى فيه وآثر مصلحة الأمة على حقّه ... كان شاقّاً عليه أن يستعمل المكر والخديعة والاحتيال، فأضحى هو وذريته من بعده ضحية الغواية والمراوغة ... فلو أنَّ إمام علي حكم وذريته من بعده لتغيّر وجه تاريخ الأمة أحسن ضياءً وبهاءً وعدلاً وإخاءً وكنا على حال حضاري إنساني بهيج ونبيل لأنَّ الإمام كان قدوةً في الحقّ والعدل والتسامح، ولأنه فُطِرَ على الخلق النبيل واستقى مبادئه من فيض النبوّة الطاهرة والجدير بالذكر فلم ترفع اللعنات عن عليّ على المنابر إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس ودام حكمه عاماً ونصف عام ومات مسموماً... قتله الأعراب المفسدون وهم الذين غدروا بعليّ وأبنائه ... والأعاجم هم الذين اخلصوا لعليٍّ وأولاده... لأنه كان إنساناً عادلاً قلّما يجد التاريخ مثله في الحقّ والعدل والمحبة والشجاعة النادرة... وكان يُقدّم لقمته للفقراء ويبيتُ طاوياً... {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}/الحشر9/.
الأمويون الذين استلموا الخلافة جعلوا الإسلام شعاراً لهم للتستر على جرائمهم ومظالمهم فأبعدوا القواد الكبار من قصورهم ليتفرّدوا بالسلطة ويبيحوا لأنفسهم إصدار القرارات التي تخدمهم وخلق فئات تؤيدهم وتهْزُج لأهازيجهم... وذلك باسم الفتح المبين أرسلوا جيوشهم بقيادة قتيبة بن أبي مسلم الباهلي وموسى بن نصير وطارق بن زياد لإقصاء هذه الجيوش وقوادها عن مصدر القرار وإلهائها بالزحف المقدس والجهاد في سبيل الله... والذين التفُّوا حول القيادة الأموية هم جماعات منافقة هجروا الحقّ وتوجّهوا إلى الباطل المزهوق...والإنسان إذا خَبُثَ تحوَّل إلى إبليس مارد... وما الصواعق والنوازل التي نُزِلت على الكعبة والمسجد النبوي إلا غضبٌ من الله نزل على المقدستين لأنَّ المنافقين فسدوا فيهما والمعتكفون فيهما هم نجسٌ... ولذلك انتقم الله منهم{وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}/آل عمران4/.
بنزول الصاعقة عليهم... وقتل الحجّاج لعبد الله بن الزبير وصلبه... ورأت أسماء بنت أبي بكر الصديق هذه الجريمة الوحشية النّكراء والتي تندى لها جبين الإنسانية فقالت قولها المأثور الذي ردّدته الألسنة إلى يومنا هذا:(أما آن لهذا الفارس أن يترجّل).وكانت نهاية الحجاج مرعبةً مفزعةً أثناء احتضاره يظهر أمامه شريط أشباح الموتى الذين قتلهم... وهو يصيح بين الفينة والأخرى مرتعشاً أمام جرائمه في مسلسل إجرامي فظيع...!!! وإذا فسدت الأمة ينزل عليها عقابُ الله... وتصديقاً لقول الله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}/الإسراء16/.
فنزول الصواعق على الكعبة وتدمير المسجد النبوي مرتين غضبٌ من الله لأنّ المسلمين وقفوا مع الباطل وتركوا الحق... فكان جزاؤهم وعقابهم نزول صواعق السماء عليهم...{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}/الرعد11/. وسلّط الله عليهم طغاةً مستبدين يذيقهم ضروباً من الخزي والرجز والعقاب... وتصديقاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...}/الممتحنة13/. ثمّ إنَّ الأمويين لاحقوا أئمة الفلسفة وطاردوا المعتزلة وأودعوهم في السجون، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر... إنهم حرّموا الفلسفة: قولهم" من تفلسف تزندق " لأنّ الفلسفة هي أم العلوم ولأنَّ الفلسفة تكشف عوراتهم وأسرارهم المختبئة خلف شعاراتهم المزيفة والزائفة في تضليل الشعوب وإغوائها... ولأنَّ الفلسفة تعتمد على الجدل والقياس والتجربة والبرهان... وهي تحليل وتركيب للوصول إلى الحقيقة المُثلى والمثل الأعلى... والفلسفة تبني الأمم على أسس من المعرفة والعلم والمنطق والحق والعدل... وتعرّي وتفضح نواياهم المخبوءة ما وراء الكواليس...
وقد صدق الشاعر جبران حين قال:
والعدل في الأرض يبكي الجنَّ لو سمعوا
وقاتل الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
به ويســتضحك الأمـوات لـو نظــروا
وقاتلُ الرّوحِ لا تدري به البشرُ
وما أحداث اليوم إلا تراكمات لأخطاء الماضي الجسيم المظلم الذي استبدّ به الحكّام وتفرّدوا في الاستئثار لمصالحهم البالية... وزجّوا بجيوشهم في معارك هامشيّة بعيدة عن تطلعات الأمة وطموحاتها، فهذا الطاغي المستبد صدام حارب شعبه أولاً من الكرد والشيعة ولم يتورّع عن قتل أقرب المقربين إليه إذا شكَّ فيه أو قدّم اقتراحاً لا يوافق مزاجه... وحارب إيران ثماني سنوات بتحريض من أمريكا، ثمّ غزا الكويت بموافقة أمريكا وقد أحسن الشاعر وأجاد في تشخيص علة الحمية القبلية العشواء:
وما أنا إلا من غزيّة إنْ غوتْ غويتُ وإنْ تُرشَــد غزيّة أَرْشُـــدِ
في حلبجة وحدها راح ضحية الغاز الكيميائي خمسة آلاف من الكرد ما عدا الجرحى والمشوهين وإلى اليوم لا ينبت فيها لا زرع ولا نبات ولا عشب... وأخذت أمريكا تحشد الحشود من أوروبا والعالم العربي لطرد صدام وجيوشه من الكويت وعقد حلفاً عسكرياً من الناتو والدول العربية لمحاربة صدام... وجرّبت التقنية والتكنولوجيا الحربية على العراق أولاً، والتجأ صدام إلى حفرة مختبئاً فيها مع حارسه الغادر الذي خانه ولم يستنجد بشعبه لأنه ظلمه، والشعب يكرهه، فأصبح بين عدوين الغرب وحلفائه والشعب الناقم عليه، فدفع ثمن استكباره الإعدام خنقاً بعد أن قضى بظلمه على شعب العراق، وأتى بالمستعمرين يحتلونه لاكتمال عملية الهدم والخراب... وفعل الغرب ذلك من أجل النفط وامتصاص خيرات الكويت والعراق والعرب جميعاً... وليس من أجل الديمقراطية وحرية الشعوب وبيع ديمقراطيتها ببرميل من النفط...
أما هزيمة العرب مرتين في القرن العشرين تعود إلى قياداتهم الهرمة المنخورة والمتناقضة والمتنافرة... فلم تجمعهم وحدة الكلمة والمصير الواحد... ودخولهم في صراعات عقيمة...!!!
ويوم نصح غاندي الرئيس عبد الناصر... لو أنَّ كلّ عربي أطلق رصاصة نحو إسرائيل وحرّم التعامل بالدولار الأمريكي لانتهت إسرائيل ... وصارت كلّ فئة تلعن أختها بأنها الأجدر وطنية وقومية وتنطبق عليها الآية الكريمة:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}/الحشر14/... وكلّ جماعةٍ ترتدي ثوباً وطنياً مزخرفاً، والمعصومة من الأخطاء وتتشدّق بشعارات أكبر من حجمها وأوسع من فمها وأعلى من شأنها...!!!.أما بشأن " ملاّ عمر " في أفغانستان الذي يريد أن يعيد الإسلام إلى عصره الذهبي المتمثل في الرعيل الأول... إنه ليس ملا عمر إنه العبد الذليل الاستخباراتي المرتبط بالاستخبارات العالمية، إنه صنيع الأجهزة الأمنية الإقليمية والدولية سخّرتها لأهدافها وأغراضها الذاتية...
الإسلام ليس ملكاً لأحد، وليس حزباً سياسياً بل هو دستورٌ للعالمين أجمع وسلوكٌ عملي يرسِّخ مبادئ الحقّ والعدل والمحبة بين الناس جميعاً، ويزوّد الإنسان بطاقات إنسانية نبيلة نحو أواصر وروابط اجتماعية متينة مبنية على الإيثار والتسامح والعدل والخير والرّخاء والنفس المطمئنة...
الإسلام دعا إلى بناء القوة للتمكين في الأرض وربط بناء القوة بالإيمان بالواحد الأحد الصمد الإيمان وحده لا يحقق النصر... والإعداد بالقوة وحدها لا يحقق انتصارات لأنه ينقصه الإيمان بالواحد القهار... ولو أنَّ هذين البندين متوفران للملا عمر لانتصر على أمريكا... وأعتقد جازماً أنه فاقد العنصرين ... ولهذا فرَّ من المعركة ولم يصمد إلا أياماً معدودات...
أما بخصوص فيتنام وانتصار سان تياغو على أمريكا كانت أسباب وأركان القوة متوفرة لدى الفيتناميين الذين تمرَّسوا على فنون القتال في الجبال والأدغال معلنين حرب عصابات طويلة الأمد، تجمعهم الكلمة والإخلاص وروح التفاني في الكفاح الثوري... وكانوا يتلقون إمدادهم العسكري من الاتحاد السوفييتي سابقاً ورغم أنهم كانوا ملحدين... وأمريكا تدين بالديانة المسيحية... فانتصر الإلحاد على الإيمان الظاهري الزائف وذلك بتوفر شروط بناء القوة والإخلاص الذي كان شعارهم الرائد بقيادة بطلهم الرّمز " غيفارا " الذي كان عنواناً بارزاً للفداء والتضحية في سبيل مبدئه الذي آمن به عقيدةً ومنهجاً، وبهذه الروح الثورية والإخلاص بالمبدأ استطاعت فيتنام أن تهزم أكبر إمبراطورية في الأرض في القرن العشرين لأنها اجتمعت فيها عناصر القوة وربط النتائج بالأسباب...
أما بخصوص الشيخ إبراهيم خليل زعيم المريدين في جبل الكرد بعفرين حيث عملت فرنسا وجهدت على تقسيم سوريا إلى مناطق إدارية بمنح الحكم الذاتي لمناطق النفوذ، لكن الزعماء الوطنيين ادّاركوا هذا التقسيم فلم تفلح فرنسا في مخططها الاستعماري الهادف، فأرسلت المخابرات التركية الشيخ إبراهيم الخليل إلى قرى عفرين بهدف ضم المنطقة الشمالية إلى تركيا وقد درّبته على أن ينشر رسالة الإسلام فيها على المذهب السنّي...
فجاء الشيخ إلى قرى" ميدانا " وهي سبعة قرى على الحدود التركية عام 1937م، ويتميّز أهلها بالطيب والبساطة وحبّ الإسلام وإكرام الضّيف وبقوة البأس إلى حدّ التهوّر والصِّدق في التعامل والكلمة الفاصلة إلى درجة السذاجة...
فاستطاع الشيخ بدهائه ومكره اختيار هذه البيئة... فدخل على مسجد القرية فأمَّ المصلّين وتلا الآيات جعل الدموع تنهمر من عيون المصلين ثمّ خطب بالمصلّين قائلاً: فررتُ من تركيا من ظلم وإلحاد كمال أتاتورك (الدولة الكمالية) وجئتُ إليكم لأعلِّمكم الدين الحنيف ولا أُريد منكم شيئاً... سأُقيم في المسجد ومن أراد أن يتصدَّق عليَّ بطعامٍ فجزاه الله خيراً. وكان الشيخ كما رواه لي والدي كان يتمتع بطاقة جسديّة رياضية هائلة... وهو شاب في الثلاثين من عمره... أشقرٌ جميل... فارسٌ متمرّسٌ مقدامٌ... متمرّن على كلّ أنواع الأسلحة من المسدس إلى البارودة الألمانية والرّشاش المتوسّط... فاستطاع الشيخ ببلاغته المعهودة وذكائه الحاد أن يجمع حوله التلاميذ من أتباعه وسمّاهم " المريدين " وأخذ الشّيخ يتجول في القرى الجبلية في منطقة عفرين... ويخطب في الناس الخطب النّارية، فأجمع حوله حشداً كبيراً من المريدين... وأمرهم أن يحمل كلّ مريد سلاحاً، وفرض حمل السّلاح لأنّ المسلم يجب أن يملك سلاحاً... ودعا إلى الجهاد بأناشيد دينية حماسية... وخاطب الأتراك بأنهم أعداء الإسلام ووجوهم كوجوه الخنازير... وأوعز الشيخ إلى مريديه بمقاتلة الإقطاع هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة... والجهاد ضد الاستعمار الفرنسي... وفرض النكاح... بدأ بنفسه أولاً... نكح بنات مريديه ...فكان يتزوّج بناتهم ثمّ يطلّقها ويتصدّق بها على أحد أتباعه، ثمّ أصدر فرماناً مفاده:" كلّ من لم يلتحق بحركة المريدين يعتبر مرتداً وآثماً... وحلالٌ قتله ولو كان شقيقاً له"... وإزاء هذه المناورات المشبوهة تحوّلت منطقة عفرين إلى جماعات وعصابات... فالإقطاعيون جمعوا حولهم أنصارهم وحمل كلّ فرد من أفراد المنطقة السلاح للدفاع عن نفسه وفُقِدت الثقة بين الأسرة والعائلة وأصبح القتال سيّد الموقف... فلا تمييز بين العدو والصديق... وأصبح الجار يحسب ألف حساب لجاره الملاصق لبيته... وكان الشيخ يذهب إلى حلب ويجتمع بالقادة الوطنيين بأنه ضد فرنسا وقتاله في سبيل تحرير سوريا... فاحتدمت المعارك بين الشيخ والثوار الذين قاوموا المستعمر الفرنسي... فكان الشيخ ينوي قيادة جميع الحركات الثائرة ضد فرنسا تحت قيادته وأن يكون هو الشخصية الأولى في الحركة الثورية الكفاحية... وكان بعض قادة الإقطاعيين مع الثورة السورية وبنفس الوقت كانوا في صراع دموي مع المريدين... فأحرز المريدون تقدماً في المعارك... ويبدو أنَّ المستعمر الفرنسي أدرك خطورة تحركات الشيخ وأنه ينافسه في مخططه العدواني فقصف بطائراته الحربية معاقلهم الجبلية في قرية بلاليكو ومواقع أخرى... وكان الشيخ قد سَحَرَ المريدين بكلماته بأنهم سوف يتلون الآيات القرآنية وتسقط الطائرات الفرنسية في الجو ولكن (هيهات هيهات لما توعدون )... فتمزّقت حركة المريدين كلّ ممزّق وتشتّت وقضي عليها والتجأ الشيخ إبراهيم خليل إلى تركيا واغتيل هناك في ظروف غامضة... وهكذا انتهت حركة المريدين بفرار الشيخ والتجائه إلى تركيا وأسدل الستار عن مسرحيته الدمويّة... وفي نهاية المطاف أقول باختزال: ليس الإسلام كياناً سياسياً... ولا حزباً... ولا مذهباً
ولا طائفةً كما أسلفنا... !!! الإسلام أعلى وأسمى شأناً... وأرقى نظاماً... الإسلام هو تشريعٌ كامل لأهل الأرض جميعاً... قانونٌ عمليّ تطبيقيٌّ وعدلٌ وإخاءٌ وقوّةٌ وبناءٌ وعلمٌ وأخلاقٌ وإخلاصٌ ووفاءٌ وتسامحٌ وتواضعٌ وقد صدق الشّيخ محمود شلتوت حين زار الصين وهي دولة شيوعية ملحدة فقال: الصّينيون مسلمون ستة أيام في الأسبوع ... أما نحن مسلمون يوماً واحداً "يوم الجمعة"...
المراجع:
1- قصة الحضارة – ديورانت
2- مذاهب الإسلاميين- عبد الرحمن بدوي.
3- تاريخ المذاهب الإسلامية- محمد أبو زهرة.
4- حركة المريدين في جبل الأكراد – رشيد حمو.
في عالمنا اليوم معارك إيديولوجية سياسية و اقتصادية وثقافية حول مفهوم العولمة التي باتت لغة العصر فهناك من يرفضها شكلا ومضمونا وغيرهم يتلقاها راضيا بها, فالعولمة بمعناها الشامل ترتكز على الجانب الاقتصادي والعامل الثقافي والاجتماعي والإنساني فهي نزعة أو حركة تاريخية تقودها الرأسمالية تستهدف إضفاء طابع عالمي أو كوني على نماذج وأنماط العلاقات في هذا العالم بمظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والمالية بغية تحقيق التفاعل المتبادل بين جميع أنحاء العالم من خلال تحرير التجارة وتبادل السلع والخدمات المختلفة : المالية والمواصلات وفتح الحدود والعلاقات الثقافية وحرية الانتقال عبر الحدود, فالعولمة تطور كيفي وكمي ووظيفي في تاريخ المجتمع البشري والنظم السياسية.. وإنه من المفيد جدا لا يوجد مكان أهم من الشرق الأوسط لحفظ التوازن للقوى السياسة الخارجية للغرب الأمريكي فيها مصالح اقتصادية وسياسية وحتى روحية فأمريكا هي أرض المستقبل كما قال الفيلسوف (هيغل) في كتابه فلسفة التاريخ ومما قاله روزفلت (قدرنا أمركة العالم) 1898، وقال شاتيليه : (نظرية لاهوتية توسعية بإستراتجية كونية مقصودة ) ثلاثة أقانيم جديدة يتوسل بها التبشير بالولاية الإلهية (أمرك نوّر جدّد)، إن الرئيس الأمريكي روزفلت صاحب شعار أمركة العالم وعبّر عن دور أمريكا وهو الدور البوليس الدولي بامتياز إذ يقول : (كل بلد حسنت سيرته يستطيع الاعتماد على صداقتنا الودية وليس لأمة تخشى أي تدخل أمريكي إذا برهنت على تعقلها ولياقتها في الشؤون السياسية والاجتماعية وتمكنت من حفظ النظام في أراضيها غير أن أي تراخ يمكن أن يستدعي تدخل أمة متمدنة تضطر إلى ممارسة حكم بوليس عالمي ) .
في مثل تلك الأحوال فأمريكا تدعي أنها هي القوة العظمى في هذا المضمار وبحسب ادعائها بأنها أحرزت نصرا كبيرا في سحق الشيوعية واحتلال العراق في نهاية القرن العشرين, يقول (كولن باول):( نحن الآن القوة الأعظم نحن الآن اللاعب الرئيس على المسرح الدولي وكل ما علينا ان نفكر فيه الآن هو مسؤوليتنا عن العالم بأسره ومصالحنا التي تشمل هذا الكوكب برمته). وأمام هذا الخطر الداهم أن نخلق فينا المقاومة الفاعلة حيال العولمة المستفحلة التي تطرح على الشعوب بمظاهر خادعة كشعارات ديمقراطية والحرية والرفاهية .. والحقيقة أن الركيزتين للعولمة هما الديمقراطية واقتصاد السوق وهما متناقضان كلياً، فالديمقراطية تسعى للارتقاء بالفرد أما اقتصاد السوق فيعمل على تهميش الفرد وهذا التناقض كفيل بتدمير النظام الكومبرادوري المنصوبة هنا وهناك, فعلى الشعوب النامية والفقيرة استغلال التناقضات بين الكتل الدولية اقتصاديا كالصين وأوربا وأمريكا من خلال فرص الاستثمار والتجارة لإضعاف الغرب الأمريكي والأوربي وأيضا مقاطعة البضائع الأمريكية والتمسك بالهوية القومية لكل شعب وإحياء التراث الروحي والفولكلوري وتعميق دور الأسرة والمنظمات الاجتماعية والأحزاب والنقابات .. وكذلك ترسيخ الوحدة الوطنية ومصالحة الأنظمة الشمولية مع شعوبها فلا مجال للخلافات الثانوية في مواجهة المخاطر التي تستهدف كياننا القومي والوطني..وكذلك تطوير البحث العلمي للتفاعل مع الحضارة الإنسانية .. والإسراع في البحث العلمي المتطور ومنح الأوسمة المادية والمعنوية للمبدعين والمخترعين وتكريم الأدمغة الكبيرة .. والإلمام التام بالوعي والتفهم للعالم الخارجي والتواصل معه وتعميق وشائج العلاقات الراسخة مع جميع الأحزاب والخروج بموقف مصيري واحد ، وقراءة متأنية وإعادة النظر في تاريخنا والوقوف على بعض ما كتبه المستشرقون والمندسون عن تاريخ وطننا وحضارته..وأخيرا التشبث بهويتنا القومية والوطنية والروحية ..
المصادر:
1-الصراع على القمة لستر شاور ترجمة فؤاد بلبع.
2-الرأسمالية تجدد نفسها للدكتور فؤاد مرسي.
3-فخ العولمة هانس بيتر ترجمة: د.عدنان عباس.
4-دراسات حول المفكر العربي ادوارد سعيد.
5-مجلة الوحدة العدد 98.
عرش الفلسفة يتزحزح يوماً بعد يوم... تحت أثقال مطارق دكتاتورية الشمبانزي التي تتهاوى عليه ضرباً وتقريعاً... إنّ من أراد الحقَّ فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه... في عصرنا هذا ... الحقّ ضائعٌ تائهٌ مسكينٌ بائسٌ... يأكل ويشرب ويلبس على حساب الباطل المكابر... الحقّ في الحقيقة عالمٌ قائمٌ بذاته يملأ الأرض والأكوان...
جديرٌ بنا أن نطلب الحقّ الحقيق عن طريق النظر وليس في صورة أعمى مقلّد (الحكمة ضالّة المؤمن يلتقطها أينما وجدها ). فَعَاْلَمُنَا الأرضي ميزانه محكومٌ عليه بـ{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}/المطففين1-3/.
فالمنهج الإلهي العقلي المتدبر هو أعدلُ القضاة المنصفين لتمكين السعادة الإنسانية طُرّاً...!!!والوصول إلى الكمال النسبي، والنعيم المنشود نحو فردوس أرضيٍّ قائم على الحقّ والمحبة والإخاء... والفيلسوف يعاني الاغتراب النفسي والروحي والأخلاقي في حياته من جرّاء الحملات الغاشمة عليه من أوزارٍ ثقيلةٍ ويلمزون له بالهمز واللمز... وبعد موته يستيقظون من غفلتهم البلهاء... ويصبح ضريحه مزاراً وهادياً يقصدونه من كلّ حدبٍ ينسلون... والفيلسوف هو الذي يدرك الحقائق المعرفية الحياتية بعقله الظاهري والباطني... ويعرض منظومته الفلسفية القائمة على حقائق الوجود، ولمجلس الأعيان من أهل البصائر النافذة... ويرى الفيلسوف ميزان العدل الإلهي هو ميزان مطلق... وعقل الإنسان جزءٌ من العقل الكلي الفعّال... وهو تابع إلى العقل الإلهي الأعلى{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}/العلق5/. ويدعو إلى مداواة النفوس... فصاحب الحاجة أرعن... والهموم إذا تراكمت ضاق بها صاحبها فإن لم يفضِ بها لم يسترح فيبادر إلى الشكوى على من يعزّ عليه وإن لم يطلقها يموت غيظاً وهمّاً وغمّاً... ولذلك قيل:(أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) فإنك لا تجد اثنين يتحابّان إلا بينهما خيوطٌ حريرية تجمع بينهما من المحبة والقواسم المشتركة فكلّما زادت اكتملت المودّة والمحبّة والوصال... وأقصى غايات الأخوة الصادقة من شاركك بنفسه وبماله لغير علّةٍ توجب ذلك، وآثرك على من سواك... ولا تكلّف أخاك مالا طاقة له بها... فإن طلبت فوق إمكانياته فأنت ظالم... والفيلسوف يتجاوز الملل والنحل والمذاهب الاجتهادية فهو يبدع ببيّناته خدمة الإنسانية... فهو يكتب للايستمولوجيا والهيولى الكونية... أينشتاين رفض تكريم الملوك وتقديم الهدايا له، وأبى ترشيح نفسه للرئاسة فقال: أنا خادم الإنسانية... فالنزعة الفكرية تعتمد على التفكير الاختياري المستقلّ... والتأمل الصامت والإشراق التلقائي الذي يفجّر عيون الإبداع.... والمفكرون الحقيقيون في المجتمع المتنوّر قادرون على اكتساب السعادة المنشودة بفعل تفاعلهم العقلي الوقّاد... وتطوير الذات الإنسانية عقلياً وأخلاقياً... وإصلاحاً وتهذيباً... وذلك بتحقيق الوجود الإنساني المتميّز بأجلى مظاهره... عن طريق الواجب الأخلاقي والوازع الضميري... واجتياز تلك المعوقات الضالّة عن طريق سيادة العقل، والفيض الداخلي المبدع كما حدث لإسحق نيوتن...
حينئذٍ يشعّ نور المعرفة والجمال من نمارق محاريب الكشف الباطني البديع... والعلم الحديث القائم على الاستقراء والاستنباط والاستنتاج والمشاهدة والتجربة يعترف في صراحة بأنَّ للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس... وأنّ هناك إلهامات روحيّة غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التهكم بها...
فمسألة العقل الباطني ضربٌ من الضروب السابحة في أعماق بحار الفلسفة التي يمكن الأرواح البشرية أن تلتقي بها وترشف من ينابيعها متى شاءت ..!!؟؟الشاعر " موسيه " في هذا الصدد يقول: ( أنا لا أعمل ولكني أسمع فأفعل فكأنَّ إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني ). ويقول " لا مارتن ": ( لستُ أنا الذي يفكر ولكن هي أفكاري التي تفكر لي )، أما سقراط فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه الروح عليه )، وأرسطو الذي كان واقعياً في بحثه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته... فقد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام... فالفلاسفة أثقب ذهناً ونظراً... بدءاً من زرادشت ومروراً ببوذا وسقراط وكونفوشيوس وديكارت وكانط وفخته ونيتشه وسارتر وابن خلدون وابن سينا والخوارزمي وفارابي وبراتاند راسيل واسبينوزا وليبنتز وغيرهم من الأدمغة الاستثنائية الفريدة...
تقول الفلسفة: جميع لذّات الدنيا مقرونة بالنفس البشرية وهي تبطل بموت الجسد... وبهجة معرفة الله مرافقة بالعقل والقلب فلا يبطلان بالموت أو الفناء الجسدي... وتكتمل المتعة الروحية بهذين الركنين الركينين... تلك متعة الخلود الروحي، والحياة السعيدة هي معرفة الله وعبادته ومحبته{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}/الذاريات56/...وهي الغاية العليا أو غاية الغايات لأنَّ كلّ لذةٍ سواها فانية... وكلّ غايةٍ سواها لاغية...!!! فإن كان شوبنهور لخّص الفلسفة في كلمةٍ واحدةٍ هي جماع رسالته إذ يقول:( إنَّ الحياة إرادة ) وإذا كان نيتشه جعل آيته الذّهبيّة قوله: ( الحياة هي القوة )، فإن رسالتي الفلسفية التي أقدّمها للعالمين هي محبة الله وعبادته ونشر رحيق المحبة، ونعيم الإخاء الإنساني بين مختلف الأجناس لبني البشر وذلك ببهاء وبسحر السلام ووميض شعاع بريقه اللمّاع... والمختوم بروح الحقّ والعدل والمساواة...
الفلسفة الحقّة الصائبة تخترق حدود الأحساب والأنساب والإيديولوجيات وكلّ فلسفة مؤدلجة تنحاز لخدمة إيديولوجية معينة هي فلسفة دوغماتية كُتِبَ عليها الفشل والعصيان لأنها تساهم وتشارك في موت الفكر لأنَّ الفلسفة تخدم الإنسان والحياة، والكائنات بأعراقها ومذاهبها...
الفلسفة تخدم الإنسان والحياة والكائنات بأعراقها ومذاهبها... الفلسفة تبحث عن ملاذ لسعادة الإنسانية وتأمين حياة هانئة مطمئنّة... الفيلسوف البريطاني والروائي الشهير " دانييل ديفو " في روايته " روبنسون كروزو " في نقد المجتمع والقضايا الهامة التي كانت تقلق عصره... تلك رواية فلسفية عميقة تلخص تاريخ الإنسان وولادته وسعيه الدؤوب... روايته سيكيولوجية وسوسيولوجية وهيولانية وروحية باطنية للغاية يرمز فيها إلى أنَّ أغلى ما في الوجود هو الإنسان وأنه بعقله النيّر يستطيع البلوغ إلى الكمال عير مسيرة شاقة وعسيرة ضارباً أروع العبقريات بآيات النبوغ والإبداع... فاتحاً دروبه من خلال عقله الجدلي الديناميكي الوقاد... هي رواية روحية نفسيّة بانورامية شاملة استمدّها من فلسفة ابن طفيل في حيّ بن يقظان... ويومئ إلى أن الأجسام الحية العضوية قد تكون جُبِلَت من مادّة غير عضوية... وهنا يرمز إلى السيد المسيح... فهو في روايته يتدرّج من المحسوس إلى المعقول ومنه إلى الإلهام والإشراق الروحي إلى الحاسّة الباطنية، واكتشاف المجرّد من بطون الدماغ...
تقول الفلسفة أنّ الإنسان يتألف من أربعة هياكل: " العقل والروح والنفس والبدن ".
فالروح مبدأ الحياة... والنفس موطنها ومسكنها القلب، والنفس أنواع: / النفس اللوامة، والنفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسّوء /، والنفس جوهر مفارق مستقل بعد وفاة البدن الميكانيكي الآلي وتتّحد بمجموع النفس الإنسانية وبموكب النفس البشرية في الملأ الأعلى أو العالم السفلي... فعلاقة النفس بالجسد هي علاقة مادية محضة والشهوات بأنواعها هي حاجات الجسد والنفس...وحينما يموت البدن ينتهي زمنه بالنسبة إليه، وتنتهي دنياه... والعقل والنفس الطاهرة يبدعان منجزاتها من خلال الجسم الحي الهندسي والمركب الفيزيائي... وعقل الأفراد لا يمكن الاحتفاظ بشخصيتها بعد وفاتها... أما الذي يُخلّد هو العقل الكلّي الفعال المقتبس من العقل الأعلى وفي كلّ مادة قوّةٌ كامنةٌ أو قدرةٌ روحيةٌ لدى فلاسفة الميتافيزيق، وهذه القوة هي التي تدفعها في تطورها الدائم المستمر... فالفلسفة بحرٌ على خلاف البحور فمن وقع في شواطئه فقد غرق ومن غاص في أعماقه فقد نجا... وصدق ابن رشد حين قال: ( تموت روحي بموت الفلسفة ). وقال فولتير: حينما زاره ملك الموت في مرضه الأخير: أيها الجبار والمبعوث من قبل الله فإن كنت مرسلاً من الله فقدّم أوراقك المعتمدة... إنك تقهر جسدي ولكن لن تقهر روحي الثائرة المتمردة... ستلتحق روحي بالملأ الأعلى ولن تقهر عقلي سينضمّ عقلي إلى العقل الأعلى... وستخلّد روحي وعقلي بخلود الأزمنة المتعاقبة في المجرات العلوية...
ترى الفلسفة أنّ القانون الجامد الثابت يوقف تطوّر المجتمع لظروفه الذاتية والموضوعية... والقانون الذي يخدم المجتمع يجب أن يساير مع تقدّمه، ويوافقه بموجب رقيّة وازدهاره...وتتأمّل الفلسفة بعقلها الراسخ الرصين أنَّ ما يسمّى بالشهداء هم عاطفيون حمقى متهوّرون يخدّرونهم المراوغون الساسة بمورفين العاطفة العمياء ويلقون بأنفسهم في أتون المعارك... تدفعهم هلوساتهم المريضة المصطنعة من قبل مخابر التحليل النفسي الديماغوجي ما وراء الكواليس المظلمة بمكر واحتيال من الغسل الدماغي والقلبي... خدمة لهرطقة أسيادهم المارقين...!!!
إنَّ الفلسفة تدعو المقاتل إلى القتال دفاعاً عن القيم المثلى النبيلة السامية الذي آمن فيها في سبيل حياةٍ حرّةٍ كريمةٍ للعائلة البشريّة وجهاً لوجه فإما الشهادة وإما النّصر...ذلك المقاتل الشهيد الذي عزم على القتال مؤمناً بأهداف القتال وليس مرغماً عليه ذلك هو الشهيد الحقّ ذوداً عن مبادئ الحق والعدل والكرامة الإنسانية... فالشهيد هو ذلك المقاتل الذي يلتحق بطلائع الزحف المقدس حراً مختاراً لا مكرهاً مرغماً يدفعه إلى ذلك واجبه الوطني وقيمه الإنسانية الفاضلة دفاعاً عن المبادئ التي آمن بها، واعتنقها حباً وكرامةً وسلوكاً حياتياً...
ليس الشهيد الذي يبلع العقاقير المصطنعة في مخابر الإرهاب التي تخدّره، وتُلقّنه أساطير الخرافات من هلوسات جنونية طائشة رعناء... ويُرمى به إلى ساحات الموت هذياناً واستهتاراً وفضاحةً...وترى الفلسفة: أنّ الانتحار طيشٌ وجنونٌ مطبقٌ وجُبنٌ ومرضٌ عصابيٌّ... وليس بطولةً وإقداماً وشجاعةً إنه منتهى الغباء والحمق والانحراف الخسيس المهين... إنَّ تاريخ الفلسفة يذكّرنا بأفلاطون العظيم وبعربته السيارة التي يقودها جوادان بهدوء واستقرار... أحدهما يمثل العقل وثانيهما يمثل العاطفة " القلب " وإذا تجاوز أحدهما الآخر اختلَّ توازن العربة واضطربت وتدهورت...!!! فالعاطفة وحدها هلاكٌ، والعقل وحده بدون مشاعر الدفء والحنان جامدٌ باردٌ مجرّدٌ من القيم... فلا انفصام بينهما... كلاهما جوادان ماهران لقيادة العربة نحو المحطات الآمنة السعيدة... فالتوازن العقلي والقلبي هما يقودان العائلة البشرية نحو الفردوس الأرضي المأمول... وإنه ليُشرّفني أن أذكر في بروق فلسفتي ما قام به الفيلسوف " مارتن لوثر " الذي حطّم صكوك الغفران أولئك الذين اتخذوا الدّين بضاعةً مزجاةً واحتكروه لمآربهم الشخصية... وملء جيوبهم ثراءً فاحشاً وشحّاً كالحاً...إنّ الفلسفة تحتضر احتضار الموتى وذلك في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين... من عفاريت الاستكبار العالمي والغرور البشري... تتفاقم في كلّ لحظة وفي شروق كلّ شمس وغروبها... فالفلسفة في أنفاسها الأخيرة... {كَلا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ}/القيامة26/. أين أولئك الفلاسفة الذين يقبضون على النواصي لوقف هذا التمادي في الجبروت والاستعلاء الفاضح المقيت ... وهدر كرامة الإنسان... إنها نهاية الفلسفة..!!!
فتشتُ عن معاجم الفلاسفة فسمعتُ هتافاً خالداً صارخاً... قد هزّني من الأعماق... إنه نداء الفيلسوف البريطاني وأحد أئمة الفن الساخر إنه" برناردشو " العظيم الكبير... الذي أطاح بالحكومة البريطانية إبان حادثة مجزرة " دنشواي " عام 1906م حيث قال: إنّ بريطانيا ستدفع ثمناً غالياً من الغليان والفوران وأنها بارتكابها هذه المجزرة الوحشية تنحدر شمسها نحو المغيب، وستفقد سيرتها الحسنة ومصداقيتها التي لا تعوّض... فأدركت بريطانيا عواقب أفعالها وانحطاط سلوكها فتراجعت عن بغيها وزيفها واعتذرت ...!!! وإنه ليسعدني ما نطق به سارتر بأنّ فرنسا تقيد الحرية الشخصية المستقلة للفرد بذريعة حججٍ سفسطائية واهية...!!! واعتقلت السلطات سارتر فثار تلاميذه والصفوة المثقفة احتجاجاً على ما أقدمت عليه الحكومة... فصرّح أحد القادة الكبار فقال: إنَّ اعتقال سارتر يعني اعتقال الأمة الفرنسية مما اضطر الأمن الفرنسي بالإفراج عنه...!!!
إنّ الفلسفة تقول: لا رصيد للأمم سوى الفكر... والفكر هو باني الحضارات الشامخة في العلوّ والعمران المادي والإنساني... إنَّ الغنى الذاتي أو الثراء الشخصي من المال والقصور هو كسبٌ ماديٌّ نفعيّ وليس انجازاً... إنما هو شحٌّ وجبنٌ وانطواءٌ وسلوك أنانيٌّ متطفّلٌ على حساب أقوات الآخرين... التقنية الحديثة في تطوّر وسباق مذهل، والبشرية تقف على حافة الهاوية السحيقة بسبب إفلاسها من قيم الفلسفة... والفلسفة هي التي توجه موكب العلم نحو القبس المقدّس... والعلم يبقى يتيماً بائساً إذا غاب عنه الفلسفة... كان العقل عبداً مملوكاً وبدوياً تائهاً شارداً في البراري والهضاب فَدَجنته الفلسفة وأتت به إلى محراب بيتها العتيق فَعَلَّمَتْهُ وهَذَّبَتْهُ وأرشدتهُ إلى أمراء البيان، وأسياد المنطق الصّوري الرياضي... وأساتذة العلم والأخلاق والخير والجمال... فاكتمل بناءً وصرحاً ممرّداً من قوارير...
فالفلسفة أمّ رؤوم لعلوم السابقين واللاحقين...!!!
أي بُني: غالباً زواج الشّرقي تقليديٌّ جامدٌ لا روح فيه...تزوّج بنيَّ غادةً ذكيّةً تنظرُ في سيماه وجهك... تدرك ماذا تُريد، وتغوص في أعماق وجدانك... تهدّئك، وتذهب روعك، وتصرف عنك القلق، وتأتيك بطمأنينة النّفس وراحتها... ليس المهم أن تكون طبّاخة جيّدة، وترتّب أثاث البيت، ولكن الأهم أن تطبخ ما في قرارة نفسك من هدأة البال، وراحة النّفس... والخلود إلى متاع الراحة...
بُنيّ: قد يصدفك الحظُّ في عمرك مرّةً أو مرّتين... فحاول استثماره بعقلانيّة... وتواضع... وحكمة...
بُني: عامل أهلك وأولادك بالحُسنى... مهما بلغ السّيل الزّبى... وطفح الكيل كما عَاملَ سيدنا يعقوب أبناءه إخوة يوسف...
بُني: قادة الفكر والثقافة لا يهتمون بعمرهم الجسدي الميكانيكي الآلي، يُبصرون ما بعده... من عمر عقلي وروحي...
بُنيّ: إذا عشتَ عمراً طويلاً ستذوق مرارة الفراق والوداع... ستشهد رحيل أبيك، وأمّك وأحبابك المخلصين... فروّض نفسك لتودّع الأهلين والأصحاب... ولسوف يأتيك يومٌ وأنتَ ضيف التّراب... وتشدّ الرّحيل...
بُنيَّ: في بلادي يقدّسون المال والجنس، ويهرقون على قدميهما كرامتهم وشرفهم... ويُقاس المرء بما يملك من مال ولا يسألون من أين له هذا ؟؟؟!!!
بُنيّ: إذا جالَسْتَ جليساً، ولم تضع ملاحظاتك عليه... فأنت ناقص الرّشد... وسيكون الفشل حليفك في علاقاتك مع النّاس...
بُني: حتى تكون قوياً اعتمد على الأركان الثلاث: العلم، الأخلاق، الاقتصاد...
بنيَّ: لا تكره أحداً، ولا تتسرّع في قرارتك... واصدر قرارك عن بيّنة وبرهان...
بُني: العظماء يعلون ويسمون على القلاقل والهموم والأكدار، فهم المسيطرون على حوادث الليالي الظّلماء... ويقارعون قوى الظلام، وجحافل الاضطرابات النفسية بأسلحة المعنويات العالية المدعومة بأنوار العقل... وسراج الفكر...
بُني: عندما تتولّى مصير شعبك ووطنك... عليك أن تتحلّى بالشّجاعة والقول الحق...والعطف والرحمة والصدق والعدل والمحبة لشعبك ووطنك... إنّ المراوغة والخداع... والمكر... سيختم حياتك بالخزي والعار والفضيحة الكبرى...
بُني: إذا لَدَغَتْكَ أفاعي الأيام ستتحمّل الآلام بمرارة الصّبر الحزين...
بُني: إنَّ المدرِّس النّاجح هو من يغرس المحبّة في نفوس طلاّبه...
بُني: إنَّ السّجين مهما أوتي من رغد العيش يظلُّ مقموعاً مقهوراً...
وكذلك النّسر في القفص يظلُّ عبداً مُكبّلاً بأغلال العبودية...
بُني: عشْ مع العاقل الألمعي ولو على شظف العيش خيرٌ من أنْ تصاحب وتجالس سفيهاً وقد أغدَقَ عليكَ طيبات العيش...!!!
بُنيّ: اقرأ عن العظماء لتستفيد من علومهم وحكمهم وتجاربهم... واسلك سبيلهم
بُنيّ: الساسة الكبار من الأوربيين والأمريكان يضعون لنا ما وراء الكواليس حكومات مستبدة متناحرة ومتنازعة فيما بينها تغزو بعضها بعضاً لكي تكره شعوبها قيمها القومية والدينية والوطنية... وتنبذ مقدّساتها... وعندئذٍ تؤثر المستعمرين على حكامها المستبدّين وتلوّح بمقدمهم... وترحّب بهم بأكاليل الورود وتيجان الزّهور...
بُني: إنّ معظم المرضى النفسانيين هم أُناسٌ طيّبون صالحون...!!! المجتمع الشّقيُّ الفاجر هو السّبب في دائهم الذين ابتلوا به...
بُنيّ: الدّيمقراطية ثقافةٌ نظريّةٌ وبراغماتيّة وسلوكٌ عمليٌّ بعيداً عن الذاتية المتطفلة وقريباً من الموضوعية المتنورة... ولا تترسّخ في الأفئدة والألباب بين ليلة وضحاها ولكن من خلال أجيال متعاقبة...
بُني: صراعنا في شرقنا الجميل... هو صراع الخلافة على السلطة، وضحايا هذا الصراع هم الأبرياء المسالمون والحكماء الصّالحون...
بُني: في المجالس الرسمية أتقن علم الكلام وفنونه... وحسن آداب الحديث... فاحذر الثرثرة فإنها تنزل من قدرك وتسقطك في زلات اللسان أشنع من زلاّت الأقدام.
بُنيّ: الطّيبون والصالحون والنبلاء كالبحر صفاءً ونقاءً وطهراً... وإذا خالفتَ قوانينه وسننه فإنه يغضب عليك، ويبلعك من حيث لا يدري ولا يُبالي...
ولا تضع نفسك أمام مواجهة العاصفة والإعصار والطوفان... تنحَّ قصيّا... حتى يهدأ... ويستكين... ويخمد...
بُنيَّ: الطريق المجهول لا تمرّ فيه فإنها تجرّك إلى الغربة والضياع والهلاك...
بُنيّ: لا تصاحب أهل الفسوق فإنهم ليسوا بأصحاب لك...
بنيّ: اطلب رغيف خبزٍ من فقير شريف ولا تطلب من غنيّ فاجر فاقد الإحساس
بني: الهمّ ينخر الجسم كما ينخر الدود الشّجر.
كان القرن العشرون تمهيداً لبناء تقنية هائلة في القرن الحادي والعشرين وذلك في مطلع الألفية الثالثة وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 كل ذلك يستدعي وقفة تأمل ولحظة مراجعة الذات.
فسيرورة التاريخ الإنساني قد استطاعت تحديد هوية كل أمة وميّزتها بمزاياها وخصائصها.. تلك السيرورة توعز إلينا إعادة صياغة منهجنا بأسلوب جديد يتلاءم مع واقع عالمنا اليوم- عالم التقنية المذهلة والشركات الرأسمالية الاحتكارية ذات الأسواق الحرة التي يبتلع فيها الكبير الصغير .. فحركة التغيير التي هبّت ريحها العاتية من الغرب المتمثلة بأمريكا وحلفائها والتي تسلّحت بفلسفة القوة الفائضة اقتصادياً وعسكرياً ومعرفياً ..تلك الريح الآتية من الغرب الأمريكي كادت تعصف بأوتاد الخيام العربية المتفرقة والمشتتة هنا وهناك..هذه الخيمات لم تكن بنت اليوم..هي امتداد لمعاهدات استعمارية ابتداءً من معاهدة سايكس بيكو في 9-5-1916 وباركتها الأنظمة الحاكمة أنذاك وسوقتها إلى إصدار قرار من هيئة الأمم، فمن يقرأ التاريخ قراءة تأملية يدرك بأن الأنظمة الحاكمة التي كانت تدور في فلك المؤامرات الدولية تساهم في صنع وصياغة الأحلاف الاستعمارية ضد وجودنا التاريخي في أرضنا المعطاء وعجزت تلك الأنظمة المتواطئة مع المستعمر عن حماية مصالح شعوبها إبان المشروع النهضوي رغم نداءات السّاسة والمفكرين والمؤسسات الثقافية والعلمية لايقاف التدهور الذي لحق بالبنيه التحتيه.
إنه الواجب الوطني و القومي والروحي يدعونا إلى التعاون الفاعل والمتكامل بين كل قطر من أرجاء هذا الوطن الكبير وخلق تنمية غرسات جديدة من ثقافية وفكرية وتربوية وإلغاء المهاترات والمنازعات والاختلاف الاقليمي والطائفي والمذهبي وذلك دفعاً لنهوض الأمة والتمسك بلغتنا العربية التي هي لسان حالنا وإقامة حوار ثقافي وعلمي ومنهجي يعتمد على المساواة والتكافؤ ..
وإقرار مفهوم الحوار الايجابي يعترف بالآخر ويؤمن بانحداره وأصوله الحقيقية ..فالوضع الفكري في واقعنا أزمةٌ مستعصية وقد انحلت عراه لعدم وجود رغبة صادقة عند الأنظمة الحاكمة التي تمجّد عروشها والتي ليست لها رغبة حقيقية لتغيير واقع الأمة ومحاولة تطويرها (إنّ الله لا يغيّر بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد..فانعقاد المؤتمرات السياسية والثقافية والعلمية والرئاسية ولقاءات الوزراء الخارجية لم تغير شيئاً ..يزداد الجهل والفقر وانعدام الروح الوطنية والمصداقية ..
لحقت هذه الأزمات كلها الهزائم الساحقة بدءاً بنكبة فلسطين 15-5-1948 وانتهاءً باحتلال العراق في 9-4-2003.
واعتماداً على سيرورة الأحداث التاريخية ثبت لدينا بالدليل القاطع أن الاستشراق الاستعماري قد مهّد للاستعمار الأوربي، واستلمت أمريكا زمام قيادة الغزو الثقافي وقد نضجت لديها القوة الفائضة مادياً ومعرفياً وتقنياً واقتصادياً في الوقت الذي تضخّمت في بلادنا أفكار التجزئة بأيدي الأنظمة الحاكمة على حساب هويتنا وانتمائنا القومي .
وحينما كانت أمريكا تقود العالم إلى تعزيز القرية الكونية خلف شعارات طنّانة مزيفة باسم النظام العالمي الجديد في الوقت الذي كان وطننا الكبير يرزح تحت كوابيس الأوهام والفقر والجهل ، ففي مثل هذا المناخ السيّء كانت مفاهيم العولمة تتعزز وتتقوّى في السيطرة على موارد العالم بواسطة الشركات الاحتكارية الكبرى المسيطرة على الثقافة المركزية الغربية ونشر مفهوم العولمة على الشعوب الفقيرة بوجوه جذابة ولمّاعة واعتماد مبدأ (وحّد تسد) ويؤكد(بريجنسكي) أمركة العولمة فيقول : (يمارس النفوذ العالمي الأمريكي من خلال نظام عالمي مصمم أمريكياً وفق التجربة الأمريكية).
فأمريكا لم تنظر إلى الأنظمة الحاكمة نظرة تقدير رغم مساعدتها لها ولم تهتم بشعوبها باعتبارها الحلقة الأضعف في حساباتها ، فعولمة أمريكا هي منظومة ٌ من التسلط على الشعوب والتحكم بمقدراتها، فهي الصورة الساطعة للهيمنة على التجارة العالمية التي نسجت خيوطها الشركات الاحتكارية الكبرى يطلق عليها (الجات) GATT فعولمة الغرب هي سيل جارف للقضاء على ثقافتنا تحت تأثير فلسفة الثقافة الغربية الجديدة، وتسلّحت بتقنيات متقدمة لم تتوافر للاستعمار القديم.
إنها تعصف بالثقافات باسم تحرير الشعوب وإعطائها الحقوق الإنسانية ..فهي تمارس عملية الدمج في ثقافة واحدة أي انصهار جميع الثقافات في بوتقة الثقافة العولمية الأمريكية فإنها تمارس عملية إلغاء الآخر ومحوه وضياعه بين أمواج ورياح العولمة العاتية ..من هنا نتدحرج إلى عالم التناقضات الفكرية والاجتماعية والثقافية والروحية ..إنها تحدث خللاً بعيداً في الذات الفردية والقومية على السواء..
فثقافة القوة العسكرية تنطلق من (واشنطن) واستثمرت استثماراً ناجحاً في الحرب الباردة حين أسقطت ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي عام 1991 وأخذت تزحف إلى مناطق العالم وتتسلل إلى نفوس أبنائها فضلاً عما تتزين به من مبادئ إنسانية تدغدغ عواطف المرء وعقله فهي تصوّر من نفسها الأمل المرتجى والمهدي المنتظر..
من هنا أن الطاغوت الأمريكي المستكبر قد مدّ ظله في الأرض فما علينا أن نغير أنفسنا ونبدأ من جديد حسب معطيات الزمن..
أن ننهج منهج الصدق والعدل والثبات واستثمار عقول النابغة للاسراع في التقنيات والمعارف والعلوم وأن نبدأ بعملية التغيير الحرة والإنسانية والفاعلة والمتكاملة مع الآخر هي هدف كل مواطن مخلص وشريف وهي السبيل الأمثل إلى النهوض والانتقال من الوضع الموضوعي المجزأ والبائس إلى رحاب الهوية القومية الإنسانية ورفاهيته ..
وهي ضرورة عصرية واستجابة لظرف استثنائي متوحش وأمتنا بحاجة إلى هذا التفاعل مع الآخر على أساس الحوار الإنساني المتبادل والمتكافىء ونحو تغيير مثمر ومنتج في النظم الادارية والتربوية ..
ونحن أحوج إلى مراجعة تأملية دقيقة لحياتنا وعاداتنا لتحطيم آثار التخلف والتجزئة والفقر ولن يتحقق ذلك إلا بتبني مناهج علمية تلبي حاجاتنا الاجتماعية والسياسية وندرك جيداً بأن الغرب الأمريكي يعمل على إقصاء عقول لا تلبي مصالحها ويحاول إلغاءها في مخططاته(المستقبلية الصنع).
فالقوة هي فوق الحق كما قال ميكافيلي في كتابه الأمير ، والمفاهيم العولمية الأمريكية تحرّم على العقول حرية الاختيار أو التصرف.
فنحن لفظنا القرآن الكريم بأننا أمة(إن هذه أمتكم أمة واحدة) الأنبياء92، ما نفع كوننا ننتمي إلى أمة واحدة وبعضنا يمعن في العداوة للآخر ويتآمر عليه ؟! وما نفع اتنمائنا فكرياً وتاريخياً وجغرافياً وثقافياً إلى جوهر واحد ونحن أبعد ما نكون عن إخوتنا وأصالتنا في سلوكنا وحياتنا وسياستنا؟!!
تشكلت أوربا بإرادة الآمال وحدتها الثقافية والمعرفية والسياسية على نحو متشابه ألا يمكن أن نأخذ منها ما يفيدنا ؟ أم هي الرغبة في استمرار الجهل والفقر والتجزئة ، فالمجتمع صار وهماً والتشتت صار مبدأ ً!!!
إن أكبر تحدٍّ تواجهه ثقافتنا راهناً-ذات الجذور التاريخية الأصيلة يقع منها في العمق أي في هويتنا ..هوية تفاعلت وتتفاعل مع الزمان والمكان والمجتمع واللغة والعاطفة والمصير المشترك لأنها تكونت وتتكون بالممارسة والسلوك العملي والعاطفة والثقافة. هويتنا التاريخية ليست محلية وليست خرافاً أو وهماً أو مفاهيماً جامدة سكونية ..وهي لا تشيخ بشيخوخة أبنائها أو شيخوخة الجنس البشري.. وهذا (جون غولد فليتشر) يتخوّف من نهوض الشرق فيقول: الشرق يحيا تحولات سريعة يمنح نفسه حق منازعتنا في التسابق بغية إلحاق الهزيمة بطموحاتنا أن نكون أسياد العالم .
والكاتب (وايتمان) مؤلف كتاب (أمريكا المسيحية العظمى) الذي قال فيه: (طبيعة أمريكا هي قدر محتوم يسير إلى الأمام لا يقاوم ولا ينخرق في وسط التهديدات وصياحات المناوئين) ، وقال ريتشار نيكسون أثناء حرب فيتنام: (إن الله مع أمريكا إن الله يريد أن تقود أمريكا العالم). و(ريتشارد بيرل) يصف الاسلام بأنه همجي متخلف استبدادي أثناء مقابلته مع برنامج لقناة الجزيرة بتاريخ 26-5-2006 وهو أحد اليهود المنظرين لحرب العراق . من هنا نجد أن ثقافة التغيير الأمريكية قد طالت المحرمات الفكرية والدينية في شرق أوسطنا الغالي..
فلا سبيل أمامنا وأمام شرقنا المترامي الأطراف أن نقوم بتغيير نفسه طوعاً حسب ما يؤمن به من استقلالية عقلية نابغة من جذور الأصالة التاريخية وذلك من إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي وحقوق الانسان، وأخيراً إذا لم نفعل ذلك سندفع جميعاً الثمن باهظاً وستبتلعنا العولمة الأمريكية إن عاجلاً أو آجلاً والعراق أكبر تجربة تاريخية لنا عِبَراً ودروساً والبقاء للأقوى.....!!!
المصادر:
1-مقاومة العولمة مجلة الكاتب العربي ص99.
2- الهويات والتعددية اللغوية –عز الدين المناصرة .
3-الأمير ميكافيلي.
4 -الهوية القومية في الخطاب الحداثي د.محمد لطفي اليوسفي.
ورد في الأساطير الميثولوجية أن سيّدنا موسى مرّ في طريقه إلى طور سيناء ليكلم الله وجد رجلاً يرمي الأحجار صوب السّماء ويشتم الذات الإلهيّة بشتائم غريبة تعبّر عن شقائه في الحياة بأنه خلقه الله فقيراً ويتيماً وقميئاً، فلم يلقَ من الحياة الدّنيا إلاّ مرارة البؤس والشّقاء... يرجم السّماء بالأحجار ويقول: لماذا خلقتني لأبٍ ضعيف ميئوس وأم سوداء ذات حظّ سيء وعائلة مفكّكة الأوصال... وأقارب عقارب... وفي بلدٍ خاوية على عروشها كأنّها أعجاز نخلٍ منقعر... وأصدقاء منافقين لهم أقنعة مزيّفة... وأنّ يوم ولدتني أُمي لم يجدوا ثوباً ليلفوني فيه... وولدتُ أسوداً هزيلاً نحيفاً...
بينما ابن جارنا وُلِدَ على كومة من ذهب ولفّوه بأقماط من استبرق وسرير نوم من الآرائك والبساط السّندسيّ... فماذا جنيتُ ؟ وما هي جريرتي ؟... وجئتُ إلى هذه الحياة رغماً عنّي وصفحتي بيضاء ولم أرتكب إثماً ولا ذنباً... وابن جارنا مراوغٌ ماكرٌ وأنت تمنحه المكافآت والأوسمة... فمنحته السعادة... ووهبت له مالاً كثيراً وجاهاً عظيماً.. فكلّما تمادى في غيّه... أعطيته بلا حساب... وأنا صلّيت لك بإخلاص... ولم أغشّ أحداً من بني البشر... أذقتني علقم الفقر والإملاق... ولن أصلّي لك ما دمتُ حيّاً...
استغرب موسى من هذا المتمرّد الأبله... وكاد أن يبطش به ويقتله.. ثمّ فكّر وقال في نفسه إني ذاهبٌ إلى ربّي وأسأله عن ارتداد هذا الرجل وتصرّفه الهستيري، ولماذا يتحدّى الله في عنته وركوب رأسه ... ؟؟؟ تركه سيّدنا موسى في تصرّفه الشّاذ المقيت وسلوكه الباطل المهزوز... ووجد في مسيرته نحو طور سيناء رجلاً آخر... وقد اعتكف في صومعة يعبد الله ليلاً نهاراً... فسلّم عليه وسأله ماذا تفعل هنا ؟ قال: إني انهزمتُ من أهل الشّقاء والكفر جئتُ إلى هنا لأعبد الله... هذه خلوتي مع الله فراراً من أهل الشقاء والنّفاق... يا موسى عليك أن تنظر أمامك لكي لا تدوس بأقدامك نملة لأنها هي مخلوقٌ مثلك... فقال موسى في نفسه: ما أعظم هذا الرّجل وما أرحمه !! إنه رجلٌ صالحٌ، ثمّ ودّعه موسى وأثنى عليه.. وقال في غيهب قلبه: سأسأل الله عن هذا العابد الزاهد التقي النّقي، وتوجّه إلى طور سيناء، وهناك كلَّم الله تكليماً فقال: اللهمّ إنّي أسألك بمعاقد العزّ من عرشك وبمنتهى الرحمة في كتابك الأعلى... يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار... يا بديع السموات والأرض... أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبرحمتك التي وسعت كلّ شيء... أن تخبرني عن الرجل الذي يرميك بالحجارة، وعن ذلك العابد في صومعته...
الأول يا موسى إنّ مثواه الجنّة لأنه صريح وصادق مع نفسه ومع معتقده الذي آمن به، فهو لا يشكو لأحد... يلتجئ إليَّ في شكواه باحثاً عن الحقيقة لأنّه يدرك أنا مغيّر الأحوال... أرفع من أشاء وأذلّ من أشاء... فأنا سأجزيه الخلود الأبدي لقاء شقائه في دار الدّنيا الفانية.. أمّا الثّاني فهو في الجحيم... إنّه مكّار ودسّاس فهو لا يؤمن بي تقنّع بقناع الإيمان ليصطاد الحمقى من النّاس... إنّه عَبْدٌ لشهواته الجامحة ونزواته الطّائشة ونفسه الأمّارة بالسّوء... تمهّل يا موسى... رأيتُك قلقاً مضطرباً... أنت تنظر إلى الشّكل دون المضمون وَكِدتَ ترتكب جريمة بحقّ الرّجل الذي تجرّأ عليّ بالشّتم... فأنا أكافئه بالفردوس الموعود ابتغاء مرضاته وجزاء عذابه وشقائه...!!!
قرأتُ منذُ عًقود مسرحيّة للأديب المفكّر رئيف الخوري ( العصفورة والفخ ) رأيتُ فيها تشخيص الداء ووصف العلاج، هناك أفخاخٌ منصوبةٌ بأقنعة مغرية وتتباهى بأنّها حاملة لمبادئ السّماء السامية ومبادئ الشعوب المناضلة في سبيل حقوقها المشروعة في الحياة الكريمة، لكنّها هي حبلى بالدّسائس والفتن، وإشعال نار الحريق بين الطوائف والمذاهب والقوميّات لتُبيد بعضها بعضاً خدمةً لأسيادِها الأعداء... فهي أذناب الأعداء المارقين لسحق الشّعوب ونهب خيراتها... والعصفورة هي الشّعب البسيط العاطفي الذي يعمل بقلبه الأبيض النّظيف، ويهمل حكمة العقل وبصيرة الفكر وموازين الألباب... فالكاتب منذ نصف قرن تنبّأ بالفتنة الكبرى وخاف على أمّته من أن تقع بين فكّي كلّ فخّ من هذه الأفخاخ المذهبيّة والطائفيّة والعرقيّة، ودعا إلى تنبيه الشّعب وتثقيفه وتعبئته فكريّاً واجتماعيّاً وسياسياً، وإقامة موازين العدل في بلداننا ليعيش مجتمعاتنا في مأمن من أخطار الفخاخ العرجاء .. وأدرك الكاتب ببصيرته الثاقبة أعداء الأمة هم أصحاب الفخاخ النكراء، وأنّ الأمة الحيّة لا تحيا إلا تحت ظلال العدل والمحبّة والإخاء... توخّى الكاتب من وراء عرض مسرحيّته توعية الأمة وبنائها بناءً ثقافيّاً حضاريّاً لدرء مكائد هذه الفخاخ المرصودة هنا وهناك... إنّ الشّعوب العاطفيّة الغائبة عن موازين المحاكمة العقليّة وانعدام الثقافة الذّاتيّة والموضوعيّة تقع في حبائل هذه المكائد التي تعبث بمصائر الشّعوب والأمم، وبتنا نكره عناوين المقدّسات.. ونكره كلّ من ينصب نفسه خليفة الله في أرضه.. وحتى نكره أهل العمامات وصولجانات رجال الدّين.. ونكره المتشدّقين في القوميات العرقية ذوات الأقنعة الحرباء.. وصرنا نشكّ في هؤلاء وهؤلاء الذين نفخوا في سعير الحرائق ولهيب اللظى ليس في المدن والأرياف والسّهول والبراري والجبال فحسب، بل أحرقوا كنوز القيم ما في الصّدور وأوقدوا في مواقدها الأحقاد والأضغان والثارات.. تلك ثقافتهم الكارثيّة الماحقة التي تلقوها من طواغيتهم أعداء الإنسانيّة ضد الشّعوب المستضعفة...
إنّ داء السّرطان لا يهاجم المريض دفعةً واحدةً.. يتحيّن الفرص حينما المريض يستكين إلى إهمال صحّته فيبني السّرطان بخفاء وحين غفلةٍ يبني أعشاشاً مدمّرةً في رواق هيكل الخلايا، يزرع فيه عبوات ناسفة، وينصب الفخاخ المفخّخة لهدم الجسم وتخريبه في عقر داره...وهكذا ثقافة التّخريب هي امتدادٌ لماضٍ مزمنٍ مريض وبيئة ملائمة قذرة فاتحة ذراعيها للتّرحيب بخليلها الحميم... وما ينفكّ ينخر جسم الأمة حتى العظام...
وهذا ليس صراعاً.. إنّما هو فتكٌ ودمارٌ...! وُجِدَ الصّراع من أجل البقاء وصيرورة الحياة.. هناك صراع الخير مع الخير في سباقٍ نحو الأفضل.. وصراع التّضحية مع التّضحية نحو العلوّ السامق والفضيلة مع الفضيلة في ساحات الخير والعطاء التي تبتغي تطوّر حياة الفرد والمجتمع والوطن إلى غدٍ مشرقٍ جميل... وها نحن أولاء في وطننا الغالي العزيز علينا أن ننشر في أعماق وجدان مجتمعنا ثقافة الحكمة والمودّة... وهويّة الإنسان الحضاري المتميّز المتنوّر.
ثقافة التنوير... إنّها ثروة ضخمة لأمتنا، ونادى بها قبل عقود من الزمن عمالقة الفكر وأقطاب العقول النيّرة، ولكننا أغفلناهم واليوم ندفع الثّمن باهظاً... واخترنا سلوك الارتداد ليشمت بنا الأعداء ويحزن علينا الأصدقاء... لسنا فقراء وبؤساء في مخزوننا الفكري عبر حقب تاريخية طويلة... ولكنْ مناجمنا " العقلية والروحية والمادية " الهائلة غشَّاها عجاج أكدَر وريح السّموم فحوَّلتها إلى سمّ قتّال وأوهام مضنيّة وحياة كدراء... فالبؤس في أعدائنا والإفلاس في المتربّصين بنا... ستنطلق سفينة النجاة عندما نسمع لحكمائنا وعظمائنا ونجعلهم في موقع اتّخاذ القرارات الصالحة العامرة... وننتقي انتقاءً ذوي السّير النّظيفة والأيادي البيضاء والأنفس الطاهرة النقيّة التي تتخذ من ثقافة الصّدق والصّراحة والشّجاعة سلوكاً حياتياً لقيادة الأمة نحو الإصلاح والرّقي في هندسة البناء والتعمير... واتخاذ النّهج الإنساني عنواناً واضحاً لأصالة أمتنا وعراقة وطننا... فأي وطن وأيّة أمةٍ لم تمهر بخاتم الإنسانية تتعثّر في وهاد الخزي والإذلال...
النهج الإنساني يجب أن يكون عنواننا البارز في محفل الحياة الصاعدة قبل أن نكوِّن قوميّة أو وطناً أو أمّةً يجب أن نكون إنساناً قبل كلّ شيء... نحترم إنسانيّتنا ونحترم إنسانيّة الآخرين... إنّ الأمة الحاقدة والوطن الحاقدلا يدوم ولا يستمر كُتِبَ عليه الزّوال... وتاريخ البشريّة مثقلٌ بهمومها وأوضارها وتاريخنا أكبر شاهدٍ على انتكاساتنا وانتصاراتنا... والتّخطيط لمستقبل أجيالنا أن يعيشوا إخوة سعداء محبّين متسامحين، ولكي يرحمونا في مستقبل الغيب المكنون وأن يقولوا عنّا إنّ أجدادنا كانوا أذكياء أكفّاء في مسيرة حياتهم، وكانوا جديرين بجسد الحياة وروحها... الخطر أنْ لا نورّث أحفادنا ميراثاً قلقاً متداعياً متزحزحاً يزيد من حملهم أوزاراً وأثقالاً...
إنّ الأب المناظر لمستقبل أولاده لا يورّث مشاكله لهم وعلقم الحياة ومرارتها بعد رحيله... يترك لهم بصمات واضحة في عفّة النّفس ونزاهة اليد وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان، والتّسامح الصّادر من قرار النّفس والثّقة بها، وقول الحقّ والفصل بين الفضيلة والرّذيلة...وتوريث أبنائه سعادة الحياة في العدل والحبّ والخير والرّخاء... والشّعوب تتحضّر بقياداتها وقادتها المخلصين الأوفياء... علينا أن نعلّم أبناءنا وأحفادنا سيرة أولئك العظماء في تاريخنا المعاصر والسابق... هذا القائد الكردي البارز صلاح الدّين (يوسف) يفتح القدس في حطّين المشهورة يفكّ أسر ثلاثة آلاف أسيلا... رغم أنهم شاركوا في إذلال الأمة وتمادوا في الذّبح والتنكيل وسفك الدّماء... هذا التسامح النبيل أذهل مفكّري أوربا وأدهش رجالاتها جعلهم يفكّرون بسلوكهم الأهوج، وأفعالهم الرعناء التي تلطّخ جبالهم بوصمة الخزي والعار.. هذا الرّجل العظيم لم يفكّر في يومٍ من الأيّام بوطنه الأم... إنّما كان باحثاً عن العدل في العائلة البشريّة... لا يرضى لنفسه ولأمته الذلّ وحتى يأبى الذلّ لأعدائه... ولذلك سمّاه أعداؤه بالخصم العادل...
إنّ سواقي الدّماء التي جرت وآلاف الأرواح التي أزهقت رسّخت الأحقاد في أنفس أمتنا... فلا سبيل أمامنا إلاّ اتّخاذ التّسامح علاجاً لإطفاء نيران الأحقاد السّوداء في سويداء قلوبنا وذلك عرفاناً منّا وخدمةً لأجيالنا القادمة من رحم غيب الغيب... إنّ حضارة الجسد أو حضارة التّقنيّة تزداد يوماً بعد يوم... أما حضارة الإنسان تتخبّط وتتقهقر في أغوار الانحطاط... والغرباء والدّخلاء والزوّار الثّقلاء لا يحلّون مشاكلنا.. وأزماتنا المستعصية الشّائكة..
نحن أبناء هذه الأمة أدرى بها... ونحن أطباؤها وحكماؤها علينا أن نغيّر أنفسنا ونبذرها ببذار العدل والتسامح والمحبّة... أن نبهت خصومنا بمرام أفعالنا قدوةً واحتذاءً في حاضرنا ومستقبلنا لنفوز بشهادة المصداقيّة والميثاق الوثيق تطهيراً لكلّ الهواجس والوساوس ذات النفاثات في العقد... لنبني وطناً يرفرف عليه علم العدل والتّسامح والمحبّة والإخاء... تلك مهمّة ليست بشاقّة لأنّ أمتنا ليست عقيمة... إنّ الأمة التي أنجبت من رحمها أولئك الأفذاذ وصناديد الرّجال ليست عاجزةً عن الإنجاب...!! في بلادنا جنودٌ مجهولون يعملون بصمتٍ ونحن غافلون عنهم... وأن نعود إلى محكمة الضّمير هو أعلى المحاكم... والضمير هو الذي يؤنبنا في أخطائنا، ويحمّسنا نحو نُشدان الحقّ والنهج القويم ظاهراً وباطناً...!! الأمانة التاريخيّة تقتضي أن نمدّ جسور الثّقة بين بعضنا بعضاً قولاً وعملاً شكلاً ومضموناً في سلوك عملي جاد... وأن نقيم أعمدةً وأوتاداً من المحبّة المتمثّلة بالتّضحية والعطاء لتوطيد أركان الأمن والسّلام والعدل والرّخاء في ربوع وطننا المثخن بالجراح... ورحم الله امرئ عاين زللاً فسمح أو رأى خلالاً فأصلح...!!
يولد الإنسان، ويولد معه الموت ويعبث به كما يشاء، ثمّ يحمله على آلة حدباء محمول ويلقيه في قاع قبرٍ سحيق ويرميه إلى عالم الفناء... الباحثون عن الحقيقة لا يملون عن السعي ولا يستسلمون... جاء فرويد بنظريّة مفادها: أنّ الكبت جريمة نكراء والأسوأ هو القمع، إنهما يجديان ضرراً أكبر... إنهما سبب الإشفاق على النفس الإنسانيّة... ولو سُمِحَتْ لليد اليسرى أن تحارب اليد اليمنى.. فماذا تكون النتيجة ؟ حتى ولو انتصرت عليها... وكلتاهما هما يداي... هذه هي حال من يحاول نكران ذاته، وقمع مكبوتاته، وكبت مشاعره وأحاسيسه إنه كمن يُقدم على الانتحار...!!!
اختار الإنسان منذ غابر الزمان الحروب ليفضّ خلافاته بدلاً من لغة التّخاطب والحوار السّلمي... اختار مسلكاً وحشيّاً، ورفض لغةً حضاريّةً، لو اختار أسلوب السّلم لوفّر على نفسه الكثير من دروب المعاناة والأحزان... إنّ قادة صنّاع الحروب هم مسبّبو التّعاسة والشقاء والخذلان...إننا سرعان ما نبكي عندما نصادف من بذرف الدّموع، وكذلك نتألّم برؤية متألّم... ولكننا لا نشعر بالسعادة التي يشعر بها الثريُّ السّعيد... إنّ القتال كُتبَ على الذين يحملون القيم الإنسانية من أجل القيم إذا دعت الحاجة... فالحرب مشرعة أبوابها إذا انهارت القيم والمبادئ الإنسانية التي تحافظ وتحمي الإنسانية... فلا بدَّ اللجوء إلى القوة لتحصين الإنسان وحمايته... فاستجابة للظروف التي لا مهرب منها لأنّ الحرب المقدّسة هي السبيل إلى الحياة الكريمة العزيزة... والحروب هي بمثابة فعل خير أحياناً... قد يتحول السمّ إلى الترياق يشفي العلل... وقد يتحوّل الترياق إلى سمّ قاتل... هناك في تاريخ الفلسفة عظماءٌ أمثال:
بدوا لا تزو ...شوانغ تزو... فيثاغورث... هيراقليطس... زارا توسترا... لكن سقراط يتصدّر الصّدارة... حكم على نفسه وضحى بحياته إكراماً للبحث عن الحق والحقيقة ... أكثر من خمسة وعشرين قرناً... قُتل سقراط والحقيقة لا تقبل ردعاً ولا حجاباً... تخطّى القدّيسين بتقديم نفسه قرباناً للحقّ وتواضعه النادر جعله أكثر احتراماً في العالمين القديم والحديث... ما آمن سقراط بأيّ إلهٍ، لكنه لم يقل لا يوجد إله... فقال: بناءً للأبحاث لا دليل لوجود الله لكن من يدري قد تثبت أبحاث المستقبل عكس هذا... وحين تكتشف وجود الله وتتأكد من ذلك يصبح ذلك حقيقة... كذلك لم يصرّح سقراط أنَّ هناك حياة بعد الموت... بل قال: عليَّ الانتظار حتى أموت حينها أكون قادراً من التأكّد أنّ هناك حياة بعد الموت أو لا...!!! الموت العادي لا يكتشف سرّ الموت... والسمّ يقتل ويميت ببطء سأخبركم بكلّ ما أشعر به... وكان هناك إغراءات تدعوه ليعلن نفسه إلهاً أو نبيّاً ولو استجاب لعبده الكثيرون من أتباعه...
فأجاب المغرضين: أنبياؤكم مجرّد أوهام... وسرعان ما تقعون في مصيدة الأوهام... هم يساعدونكم في بقائكم في زنزاناتكم الموهومة ويطلقون عليكم أجمل الألقاب... وهكذا تنشرح أساريركم وتبتهج نفوسكم...
أثينا الدولة التي احتضنت سقراط طفلاً وقتلته فيلسوفاً باحثاً عن الحقيقة... نظر سقراط من نافذته، وحامل السمّ وقال: إنّك لإنسانٌ غريبٌ عجيب... إنّي أُحبّك... تأخّرت لتتمتّع بالحياة... قدّمتُ السمّ للكثيرين إنها وظيفتي، ولكني لستُ أدري، ولكنَّ يداي ترتجفان، ونفسي حزينة... صدّقني بمقدوري لا أقدّم لك مهما كانت العواقب ولكن...!!! وبهدوءٍ أجاب سقراط: هذا هو واجبك، دع أحاسيسك ومشاعرك جانباً... بصدقٍ أقول لك إني مشتاقٌ إلى الموت لأكشف لغزه... أرغب اختيار الموت لأنه ما يزال مجهولاً... أسرع واعطني السمَّ...!!! همس كبير القضاة في أذن سقراط... جريمتك أنك إنسانٌ جريٌ وباحثٌ ومتواضعٌ... لا أرغب الحكم عليك بالموت... ما عليك إلا الهرب...!!! قال سقراط: هذا قمّة الجبن... فالموت آتٍ فإن لم يكن اليوم فغداً... واقترح عليه ثانياً: لا تتحدث عن الحقيقة تعش في مأمن وسلام. قال سقراط: إنك تطلب مني أسوأ من الموت... ثمّ قال كبير القضاة: ما عليك إلا تناول السمّ...
قال سقراط: لا مشكلة عندي... هاتوا السمّ وأنا مستبشرٌ فرح فخور... لأكشف سراً عجز عنه الإنسان... أموت من أجل قضيّة ذات أهداف سامية، وأمون قد عشتُ مرفوع الرأس... وأعلن في نهاية حياتي إني لا أعرف شيئاً... وهذا شيمة كلّ عظيم إنه التّواضع الجميل... وبهدوئه وتواضعه الجمّ تحمَّل تصرفات امرأته الرّعناء ذات السّفوك العدواني... وصفها بأنها عنيدة وغبيّة وحرون... لم تتوانى يوماً عن ضربه فيما هو يبقى هادئاً مبتسماً...
قال سقراط عنها: إنها مشكلتها، تنفعل في حدود الغضب... فماذا بإمكاني أن أفعل...!!! كانت تغضب لأنني لم أعطها وقتاً كافياً للاهتمام بمشاكلها، إنها معذّبتي تعذّب نفسها ولا خيار أمامي إلا الصّبر على تصرفاتها، وعليّ البقاء بجانبها... إنها مسكينة... يجب أن أواسيها... هذا هو الباحث عن الحقيقة يكشف معدن الرجال والنساء... هناك ظروف ولحظات تتحوّل النعمة إلى لعنة، واللعنة إلى نعمة... فالحياة في تحوّل دائم وحركة غير مستقرّة... فما هو الآن ليس هو هو بين عشية وضحاها ينتكس ميزان الحياة... والحكيم من يدرك ذلك، وإذا أدرك الحكيم أنّ الحرب واقعة لا محالة دفاعاً عن القيم وصوناً لكرامة الإنسان... يكون في مقدمة المقاتلين، ولم ينهزم أبداً... لأنه يدرك أنه لا مفرّ حفاظاً لمبادئ الخير وحرصاً لبقاء الإنسان الأصلح وكلّ الأبواب مشرعةٌ بحبّ الله... والدخول إليه بدون استئذان لأنّ القتال في سبيل محبة الله وخير الإنسان هو الباب الأوسع في التقرب إلى محراب الله... ومحبّة الله لا يستدعي الخوف منه بل الشّوق إليه... فالإنسان كالمرآة... ونحن كاليدين بالنسبة للجسد... نحن الدّاء والدّواء... إننا الشيء ونقيضه... يونان بلا سقراط هي لا شيء... أما يونان سقراط هي كلّ شيء... يواختاوت اليونان دسّ السمّ لسقراط لم تقتل سقراط وحده... قَضَتْ على روحانيّة اليونان... قَضَتْ على نفسها وأنهت مجدها الآفل... لو أصغت أثينا إلى ما كان يقوله سقراط لكانت معلّمة العالم بلا منازع.
قَتْلُ سقراط كان انتحاراً لليونان... إنّ الباحث عن الحقيقة تنكشف له الأسرار وتحلّ الألغاز... إنّ اختفاء قارة أتلنتيس من خلال المحيط الذي اتّخذ اسمها... اختفاؤها أي اختفاء شعبها... شعبها وصل إلى قمة الحضارة التكنولوجية المتقدّمة جداً... إنه قانون الطبيعة... يعني الاقتراب من خطر الانهيار... وهذا ما تواجهه البشريّة اليوم من خطرٍ داهم... امتلك إنسان قارة أتلنتيس قوة خارقة... ولا يعرف كيف يتصرّف وتحولت هذه القوة إلى مصدر خطر... أبادت القارة عن بكرة أبيها... تماماً كإنسان هذا الزمان امتلك القوة النوويّة فإذاً بهذه القوة يريد القضاء على كلّ ما بناه الإنسان... إنه الانتحار في رابعة النهار... هذا ما حصل لقارة أتلنتيس أقدم قارات الأرض، وسرّ اختفائها مدوّن في كتب مكتبة الاسكندريّة في مصر...!!!
الفلسفة تعني الحكمة... والفيلسوف يعني صديق الحكمة... والحكمة أعلى شأناً من القدّيسين... إنّ وجود القدّيس هو سبب وجود الأشرار... الخطأة... وكلّما ازداد احترامك للأولين زاد احتقارك للآخرين... إنهما وجهان لعملة واحدة... ونقيضهما: هما الليل والنهار... وأنّ اليوم يتألف من الاثنين... أعتبر نفسي تلميذاً للحقيقة والمعرفة وأبحث عنهما في كلّ زمان ومعان... أمضيتُ حياتي باحثاً عن حقيقة الفلسفة جامعاً بين النقيضين... (السالب والموجب) ذلك هو قِمّة الحكمة... إنّ الحكمة تتطلّب الاستعداد... تصميم الإنسان على التوجّه نحو الله نحو الحقيقة المطلقة... يتدفق نهر القوة في داخله يدفعه للمضي في طريقه نو الله... والنّقاء شرطٌ جوهري لتفجّر الحكمة... والتجرّد من سموم الحياة والتخلّي عن الأيديولوجيات التي تكبّل فكرك وتحدّ من آفاق خيالك... وعن كلّ الفلسفات التي أورثَتْك التزمت والجمود العقلي... النقاء هو أن تكون صفحةً بيضاء... والله يبحث عنك كما أنك تبحث عنه... إذا أصغيت إليه فالله مصغٍ إليك...
وحتى تكون صادقاً مع ذاتك الداخلي، وذات الله أن ترمي الأقنعة المصطنعة... عن وجهك الحقيقي عليك أن تكون أنت أنت... وحين تصبح مرآة للتجلّي تخطو نحو مرحلة البلوغ... وستجد ذات الله ومرحلة الكمال يدنو منك من تلقاء ذاته محتضناً...!! كلّ شرير تخبئ فيه نواة الخير... ولكلّ صالح يخبئ فيه عنصر الشرّ... فالحكيم يدرك الاثنين معاً... يجتمع لديه المتناقضان...ولكن مع مرور الزمن ساد السفسطائيون حيزاً من الفلسفة بأنّ الإنسان مرغمٌ على فعل الخير أو الشرّ... وهذا هو السفسطائيّة الثرثارة عينها... ولكن الحقيقة تقول: إن المعرفة مكتسبة، والحكمة هي ثورة الذات تنبع من ذاتك تلقائياً... إنها تعبّر عن جوهر وجودك... أما إذا كنت تردّد ما يقوله الآخرون فهذه هي السفسطائيّة العبثيّة...
الجدال للجدال دون هدف... الحبّ النّقيّ تجربة حياتيّة رائعة بين الجنسين لأنه نابعٌ من القلب وإحساسٌ متفجّرٌ من الذات... ولكن هذا لا يحدث مع بائعة الهوى. والبغاء يعني بيعاً وشراباً... من هنا الفلسفة هي المعشوقة... والبغاء هي السفسطائيّة الثرثارة...من هنا الكون هو الانتظام والبديع والتجانس والعلوم الوضعيّة... هو وليدة النظام الكوني اكتشفت من خلال التجربة والملاحظة والبحث العلمي والاختبار... فالحقيقة تُكتشف ولا تُخترع... وحتى عالم الرّوح خاضع لقوانين ثابتة أزليّة غير محدّدة بالزّمان والمكان... الذي هو واحدٌ أي "عالم الروح" من القوانين التي تتحكم من وراء مفاتيح الغيب والشهادة... على هذا الكون وَمَنْ في محتواه...!!! العلو الوضعية، والديانات السّماوية هي جناحا الفلسفة... إنهما متكاملان... فلا عداوة ولا شقاق بين الكنيسة والمسجد من جهةٍ وبين المختبر العلمي من جهة أخرى... إنَ على الجميع العمل موحَّداً من أجل إغناء الإنسان... فالإنسان بحاجة إلى الاثنين معاً...
اختار الغرب التقدم العلمي لكن بقي الإنسان تعيساً لأنه خسر روحانيته... وأنه بحاجة إلى نور داخلي يشعُّ من ذاته ... أما الشرق فقد اختار الدين المتزمت الجامد لمقاومة العلوم العصريّة... فقد اغتنى داخلياً أحسّ بالسكينة والاطمئنان نوعاً مؤقتاً... لكنه كاد يموت جوعاً وتمزقاً... اهتمَّ بالذات الروحيّة... ونسي حقّ الجسد البيولوجي...والحقيقة الفلسفيّة تقول: الروح والجسد في كيان واحد وهما متآلفان... ويمكن للماديّة أن تتحد بالروحانيّة في تناغمٍ وانسجامٍ واحد... فعلى الإنسان أن يجمع بين الاثنين معاً... وبذلك يكسب الغنى الماديّ والثراء الداخلي...
قرأت" نيتشه " فقد استمدّ حكمته ليس من العقل فحسب بل من فسيفساء قلبه... كان يحلم إلى مستوى النّجوم وأبعد... إنه الفيلسوف الوحيد الذي اعتبر إرادة الإنسان هي مصدر قوّته... إنه الفيلسوف الأوحد الذي جمع في شخصيّته روحانيّة " بوذا " وعبثية " زوربا " اليوناني وحكمة " زرادشت " فاستخلص نفحةً إنسانيّةً نبيلةً رائعةً... اختار الوعي لمقاومة اللاوعي، أي محاربة الظلمة فسلك سلوكاً جريئاً... إما العيش في أودية سحيقة عاتمة... وأما القِمم حيث نور الشمس تسطع... إنها إرادتنا... إنه قدر العبقري الألمعي لا أحد يفهمه... أدولف هتلر كان متخلفاً عقلياً وعنجهياً أرعن... إنه من الصّعب أن يفهم " نيتشه " ورغم ذلك اعتبره نبيه الأوحد وراح يفسّر أفكاره على هواه... وهكذا كانت الحرب العالميّة الثانية... رأى نيتشه أنّ الحقّ للأقوى وإرادة القوّة نقيض كلّي لمفهوم الهيمنة واحتلال الآخرين وسلوك دنيء من الأنانيّة الطاغية... عند نيتشه الإنسان القويُّ لا يحتاج إلى إثبات قوته... وهل من أحدٍ طّاْلَبَ من الزّهور والورود إثبات جمالها ؟؟؟!!! وهل القمر بحاجةٍ لإثبات أنه قمر ؟؟!! والقويّ مَنْ يحاور النجوم، ولا يهتمّ بإثبات دونيّة الآخرين واحتلالهم، والسيطرة عليهم... إنّ إساءة فهم نيتشه يشبه ما كان يبشر المسيح وكهنة الأغريق بقتل سقراط ودسّ السمّ له... ولا اليهود استوعبوا صلب المسيح... فكان صلبُ الأول، ومات الثاني مسموماً...وجد النازيون ضالّتهم المنشودة في التأويلات الخاطئة لفلسفة نيتشه لتبرير حروبهم... فوجدوا الإنسان الخارق سوبرمان يملك قوة فوق طاقة البشر... فأوّلوها إلى الهيمنة على العالم... رغم أنّ نيتشه في كتاباته كرّم الإنسان وحرَّم عليه عدوانيّة الإنسان للإنسان... مسكين نيتشه لم يتصوّر أن سيأتي بعده من يُسيء فهمه وتأويل أقواله انحرافاً واعوجاجاً وبهتاناً... لغايات تدميرية لبني البشر... ولم يدرك نيتشه أنّ أفكاره ستتحوّل إلى كابوس يؤرّق حياة العالم... إنه بريء ممّا أُلصق به حين أعلن نيتشه موت الله لم يكن يعني موت إله فعلاً، بل موت الأفكار القديمة... فالله لا يموت أبداً ولكن رجال الدين هم الذين أماتوه... فالله الذي كُنتَ تخشاه مات... إذن أنت الآن حرٌّ... أنتَ سيّد نفسك، فأنتَ إلى جانب الإله الخالد المخلَّد الأزلي الباقي... والبريء من الكهنة والقديسين والرهبان... الله هو الرافض لكلّ ما هو عنيف وهيمنة وعدوان... وهو الدّاعي إلى السّلم وإخاء الإنسان للإنسان... إنّ الإله الذي يؤمن به نيتشه وهو روح الوجود وجوهره... يمنحك البحث عن الحقّ والحقيقة... ووحدة الوجود الإلهي الربّاني... إنّ الله خالدٌ... لا بداية له... ولا نهاية... إنما الإله الذي مات هو الذي أوجدوه الكهنة وعبدوه لنزواتهم الجامحة واستغلال عقول أغبياء البشر فأحجموهم عن رؤية الحقيقة المثلى... ولكن الفلاسفة المنطوين تحت راية القديسين والكهنة والرهبان اتّهموه بالجنون... وهذه طبيعة كلّ سفسطائي سفيه هزليّ... إنه حقاً علينا أن نفهم " نيتشه " جيداً لم يكن داعياً في يوم من الأيام إلى استعمار العالم واحتلاله... أو متعالياً أو مستكبراً في الأرض... والإنسان القويّ عنده القوي بين الأقوياء... وليس بين الضّعفاء الفيلسوف الحقّ يجمع بين المتناقضات في مكنونات مداركه... وهو عاديٌّ جداً، واستثنائيّ جداً مبتسمٌ دائماً... متفائل... ولا يكون حزيناً في قسماته ولكنه يخفي حزناً خفياً في داخله... حتى رنين ضحكاته يحمل أنين وجعٍ أليم...!!! وكلّ شيء فيه متناسق ومتناغم، وكأني به قطعةٌ موسيقيّة الألحان ... متناغمة الأوتار... ورجل الدّين الحقيقي هو إنسان واضحٌ شفّافٌ ولا أهداف له سوى روح الإنسان وقيمته وإكرامه، والإنسان بذاته بحاجة لغذاء الروح ليبقى مزهراً بذاته... والإنسان الحيّ اليقظ يحضّر نفسه للصراع من أجل المستقبل... وإلا لن يكون جديراً به... والسير مع النهر الجاري... وكأنه جزءٌ منه من خلال ذلك يحقق وجوده... والتواضع الإنساني هو حبّ الحياة وحبّ الجمال وحبّ الآخرين والتسامح البريء النّبيل هو الاعتزاز بالذّات والثقة بالنفس... وهذا يقود الإنسان إلى العيش مع أخيه الإنسان بمودّة طاغية وأمن وسلام واطمئنان وإلى الشعور بالراحة الداخليّة... (اتّضع ترتفع ومن ارتفع اتّضع) الإنسان الحقيقي هوهو ، ويتجرّد من الأقنعة المسبقة الصّنع... الإنسان الحقيقي كالشّجرة... رفضها النجّارون لأنها لا تنفعهم في المواقد التي تدفئ... الإنسان العاقل يُطارد الهمّ بضروبه... الذي يقضّ مضجعه ويقلق باله... ويشغل عقله... والتمثال الذي برع به النحاتون في إبداعه يبقى حجراً... إنه عملية ثنائية المعنى... أن لا قيمة للعاشق والمعشوق بدون رهبة العشق ... إنه رابط ثالث... إنه الحبّ الذي بدونه لا يوجد حبيب وحبيبة... إنّ رابطاً متيناً يدفعنا إلى الله ... إنه الإيمان بالحبّ الإلهي... فالحياة سلسلة متناقضات... فمن يؤمن بالحياة فهو يؤمن بالموت الذي هو آتٍ لا ريب فيه... والحياة والموت هما وجهان لعملة واحدة... إنهما كجناحي لطائرٍ لا يستطيع الطيران بدونها والموت بداية حياة جديدة وسيرة جديدة نحو برزخ عالم آخر... وهذا هو اللغز المحيّر الذي أدهش العقول وأربك الألباب...
ففي كلّ صديق بذرةٌ عدوانيّة... وفي كلّ عدوٍّ نواةُ خيرٍ... وهذا سرٌّ من أسرار الله أودعه الله في الإنسان... فأنت تحبُّ الصّديق وتكره العدو... وهذه هي الحبكة المثيرة للجدل...!!! الحياة تغييرٌ باستمرار... انتقالٌ من مرحلةٍ إلى أخرى ... بدليل التناغم الخفيّ...!!! فمن عادة النار الاتجاه نحو الأعلى... والماء نحو الأسفل... وحينما نسأل الوردة لماذا تزهرين ؟؟ فتجيبك قائلة: لا أعرف...!!! الإزهار من طبيعتي... وكذلك سيهزأ بك العصفور... إنْ سألتَهُ: لماذا لا تغرّد ؟ سيعتبر – لا شكّ – سؤالك تافهاً... لأنه يغرّد لينتشي هو وليس أنت...!!! فلماذا لا نكون كالوردة تزهر دون مقابل وهدف... ولماذا لا نكون كالنهر الجاري غير آبهٍ بتعليقات الآخرين...
يصبح الإنسان معدوم الراحة إذا ركع وسجد لرغباته ونزواته... ولن يكون حراً إذا لم يتنوّر بنور الله... قد يسأل سائلٌ لماذا الأشجار خضراء ؟ فيأتيه الجواب لأنها خضراء... وقد تنبري قائلاً: إنها خضراء بسبب التحليل الكلوروفيلي...! ولماذا أخضر اللون ؟. سؤال يبقى بدون جواب...!!! وهكذا هي الحياة... تدّعي البحث والمعرفة... وأننا بحاجة إلى الاغتراف من عيون المعرفة... ومَتى تملكْتَ دور المعرفة تصبح فيلسوفاً... فالحياة أغنيةٌ... ترتيلةُ صلاةٍ إنما بصمتٍ داخلي...!!! وآخر كلمةٍ يطلقها المحتضر عند سكرات الموت انطلقي أيتها الأوزّة البيضاء من تلك كلمات الوداع الأخير تتجلّى المتجلّيات وداع الرّوح للجسد...!!!حين تشعر بالسعادة، واعلم أنّ الحزن مختبئ في زاوية مظلمة من حياتك ينتظر الفرصة ليطلّ برأسه... إن أردت ذلك أو رفضت... فلا حقيقة بلا حرية وتأمل وتفكير سليم... والحب الإلهي يحتاج إلى التحرر من استنفار الغرائز الشخصيّة لكي ينمو... وكلّ ما يسمو باسم الحب من دون حريّة ليس إلا شهوة غريزيّة...!!! وإنّ الإنسان ليبتهج عندما يرى النّاس يزهرون من حوله فلست بشجرة وحيدة أزهرت فعندما تزهر الغابة بكاملها معك تصبح سعادتك أكبر... والفيلسوف يغيّر مجرى الوعي البشري والحب والرحمة والعدل والاستقامة يصل الإنسان إلى مراتب عالية من السّعادة... وأن يكون الإنسان نوراً لنفسه أولاً ولا يقلّد الآخرين لأنّ التقليد والتبعيّة يولدان الغباء المستحكم المقلِّد انفضه قليلاً وستفاجأ أنه شخصٌ مختلفٌ كليّاً من الدّاخل على عكس ما هو عليه من الخارج... فعشْ بنور وعيك الذّاتي واجعل شمس الحقيقة تشرق من جديد على حياتك إنه على الإنسان أن يتقبّل الحياة بكلّ مشاكلها، وتحمّل المسؤوليّة هو الذي يخلق الحكمة ... فالحياة فرصةٌ للبحث عن أنفسنا وأنفس العالمين... فإن كنَّا نوراً لأنفسنا نقرع أبواب الحكمة والحقيقة البيضاء...
إنّ إقرارنا في البقاء لأسرى الأنا السّفلى فهذا يعني البقاء غارقين في الجهل والظلمة... نعم في الظّلام الأسود الذي هو ليل الرّوح الحالك... وهكذا تحتفل الرّوح بتحرّرها من الأنا وتتعرّف إلى النّور الصّافي النّقي... إنّ الأنا من صنع خيالنا السّقيم، فالتنور والأنا نقيضان لا يلتقيان، وحينما يبلغ المرء إلى مرحلة اكتمال الوعي تتلاشى الأنا وتزول... إنّ نوبة اليأس الخطوة الأولى على طريق الأمل والأنا لا ينكسر ولا يتحطم إلا إذا وقع من أعلى القيم حينما يصل المرء إلى وعيه الإنساني... إنه في استعدادنا وتحضيرنا لمعرفة الذات الإلهيّة فالله يحضر تلقائياً ولا يستحضر فتنكشف الأسرار الإلهيّة بغتة بدون سابق تبليغ... كلمات جبران خليل جبران هي الموسيقى النقيّة تغرس الأمل في نفوس البؤساء، والبسمة على شفاه الحزانى إنها لغز يصعب حلها... عظمة جبران انبثقت من خزان روحانيته الطافحة بالبعد الإنساني... تتخطى برامج العقل والمدارك تعتمد على الحواس والخيال الواسع... تكلم جبران باسم المصطفى في كتابه النبي... فكم أُريقت وسفكت دماءٌ غزيرة باسم الدّين... وكم من ملايين الناس قُتلوا ظلماً وفالدين حينما يتحول إلى منظمة متطرفة ينعكس على خطر الحياة ويكون سبباً في سفك دماء الأبرياء فقرّر جبران أن يستبدل اسمه بالمصطفى حتى لا يعبدونه الناس طارداً عن نفسه القداسة والنبوّة... يقول السيد المسيح عن نفسه: أنا ابن الإنسان وأنا ابن الله حسب ما ورد في الأناجيل الأربعة ويعتبره بعض المحللين أنه يناقض نفسه بنفسه... والحقيقة تقول: لا تناقض بين هذين القولين لأنّ يسوع المسيح هو جسر العبور من الموت إلى الحياة... من الجسد إلى الروح... إنه السبيل إلى الحياة اللامنتهية، والتعرف على حقيقة وجود الإنسان... لكن يعتبره العقلانيون أنّ المسيح إنسان عادي ولد من أبٍ وأمٍ نتيجة علاقة جنسيّة... ويرفضون المعجزة الإلهيّة... وهؤلاء كمن يقول أحدهم: أنّ الشّمس ستشرق وتمطر معها النقود... لكن السّماء لم تمطر نقوداً حين شروق الشمس... وإنهم ينكرون شروق الشمس لأنهم مهتمون بنزول النقود... يبقى الإنسان جاهلاً حتى تحلّ به الموهبة الإلهية أو الإلهام الإلهي إذا كان مستعداً لنزوله إليه... إنّ الذين يبحثون عن الله... والله يبحث عنهم ويبقى الإنسان حزيناً حتى يغمره الله بمحبته ورحمته... أثبتت التجارب العلميّة أنّ هناك نوابغٌ ومبدعون لا صلة فيما بينهم ولا تواصل حتى أنشتاين قال: لو لم أكتشف النّظرية النّسبيّة لكان من الطبيعي أن يكتشفها إنسان غيري وفي مهلة زمنيّة قد لا تتعدّى السّنتين... يمكنني الجزم أن لا أحد استعار من أحد لكن الجميع نهلوا من نبع واحد، فمن شرب ماء المحيط عند الشّاطئ الهندي أو عند الشّاطئ الصّيني سيجد أن طعم الماء هو نفسه... هذه هي الحقيقة لها طعم واحد ونكهة واحدة أسلوب التعبير هو الذي يتغيّر أو اللغة التي نكتب بها... دعِ الحياة تجري على سجيعتها... وكلّ الأمور تحدث لما هو مخطط لها... أنت ولدت... ما هو الجهد الذي بذلته لتنمو وتكبده كلّ شيء يتحرّك من تلقاء ذاته... فلا تحاول محاولات السّباحة ضدّ التيّار... كن غيمة بيضاء هائمة في السّماء... أنت جزء لا يُرى بالعين المجرّدة بالنسبة للكون الهائل... أنت مجرّد خليّة ضئيلة جداً... والطبيعة تتمتع بطاقة جنسيّة جبارة لأزهار تزهر والأشجار تزهر... وكلّ هذا بفعل الطاقة الجنسية... كن طبيعياً لا شكّ ستزهر نفسك... الصحة هي السعادة ... هي الحبّ... هي الجنس... كن ابن الطبيعة، فأنت كائن حيّ... والبساطة هي الطّريق نحو الصّواب لأنك ابن الطبيعة- هي بسيطة – كن طبيعياً عفوياً تلقائي التصرّف والسلوك لتعيش سعيداً محبوباً... شكّل تسلق جبال الأفريست تحدّياً كبيراً لمئات البشر، ووصل أدمون هيلاري إلى أعلى قمة جبل أفريست... سُئل أدمون هيلاري ما الذي دفعك إلى خوض هذه التجربة الخطيرة ؟ فأجاب: لأنّ الأنا كانت تدفعني، ولأني أحبّ تسلّق الجبال، وكنت أعتبر نفسي ذليلاً لأني لم أصل إلى قمة الجبل... ولا يعتقدنّ أحد أنّ اكتشاف أمر ما هو بغاية البساطة بل هو السّعادة بعينها هو الإحساس بالوجود وبالقيمة الإنسانية... أوصى والدٌ ولده: يا بني قد لا تفهم ما سأقوله لك الآن... لذا ما عليك إلا أن تتذكّره دائماً، وسيأتي يوم تتمكّن من فهمه... لا أملك شيئاً أورثك إياه لا مال ولا عقارات... كلّ ما هو بمقدوري أن أزوّدك به هو الحكمة إن أَقْدَمَ يوماً ما إنسان ما على شتمك... اصغِ إليه بصمتٍ واعرف السّبب الذي جعله يوجّه الإهانة إليك، لا تنفعل ولا تغضب، بل اشكره وقلْ لهُ: لن أُجيب الآن بل غداً، أما الآن فأنا غير قادر على فهمك وفهم السّبب الذي أجبرك على شتمي... وأنت إنسان معذّب، وأنت الخاسر والفادم في النهاية... إنّ التحرّر من زنزانات الأوهام التي زرعوها في رأسك... تحوّلت السّلاسل والقيود إلى حليٍّ وزينةٍ... لقد حوّلوك إلى شبه منوّم مغناطيسيّاً... إنّ الطّاقة الكونيّة هي القادرة على صنع المعجزات... كثيرون يأتون ويرحلون دون تخطّي أسرار المرحلة الكونيّة الأولى... فالكون في تجدّد مستمرّ... والحياة تتغيّر بتغيّر الأزمان والحادثات...!!!
عرّف الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسة تعاريف شتّى وآخرها إنها فن الممكن. وأنا أعرّفها منذ أن وعيت ذاتي ومنذ صحوتي الأولى في أواسط الستينات من القرن الماضي وخلال مراقبتي للأحداث العالمية والتغيرات التي طرأت على عالمنا هذا، وحصيلة دراساتي واطلاعاتي وتجاربي الحياتية الغنية بالآيات والعبر... فالسياسة هي صراع العقول. يقول دنكان بل: لا أحد يحبّ أي واقعي في السياسة. ثمّة ما يدعو إلى الاعتقاد بأنَّ سوفوكليس تعمّد جعل قصّة أوديب محاكاة لأثينا بريكليس، ومع أوديب براعة أثينا الفائقة من الناحية الفكرية صارت تهوّراً، وتصميمها غدا طيشاً، وشعورها بالسيادة أصبح تعصّباً وتطرفاً... كان سقوط أوديب ينذر بسقوط أثينا، وللأسباب ذاتها أمريكا عليها أن تحسن صنعاً إذا ما عكفت على معاينة المدى الذي لا يمكن للسياسات الخارجية الأحادية الفوضوية التي دأبت على اتباعها منذ انتهاء الحرب الباردة أن توصلها هبوطاً على طريق أوديب وأثينا الانحدارية... فسياستها الخارجية الأحادية المصحوبة غالباً بخطابات عدوانية أدّت إلى إحداث فجوة وهوّة سحيقة بينها وبين أسرة الأمم الديمقراطية التي سبق لها أن مكّنتها من ترجمة قوتها التكنولوجية إلى نفوذ بطرق مقتدرة قوية... وما إن تصبح واشنطن خارج هذه الأسرة مجرّدة من هويّتها حتى تغدو متزايدة الاضطرار لاستخدام التهديدات والمال من أجل بلوغ مآربها مثل أثينا وأوديب... قد تصبح الأهداف التي تلتمسها قصيرة النّظر... فإنَّ ذلك سيكون برهاناً تراجيدياً لحماقاتها المتغطرسة واستكبارها في العالم الكوكبي... فالصداقة وقوة الاقناع ذانك برهانان للمسار الصّحيح يجلبان الألفة والانسجام والرّوح الجماعية، والجماعة بدورها تمكن وتعزّز الهويات التي تسمح بالصوغ العقلاني للمصالح في الملاذ الأخير، فالعدالة والسلطة " القوة " هما تتبادلان التأسيس المتين... ما هو مطلوب للإمساك بزمام السياسة الدولية لا يتمثل العقلانية بالمهندس بل بحكمة رجل الدولة...
كان الإغريق يؤمنون بأنّ الناس لا يكتبون هويات بشرية إلا عبر عضوية الجماعة الإنسانية فممارسات الجماعات الإنسانية وطقوسها هي التي تضفي على الأفراد قيمهم وتؤدي على أعمق المستويات بوظيفة معرفية جوهرية ويميزوا أنفسهم عن الآخرين تثقيفاً وأكثر تهذيباً عقلانياً ودون العضوية مع الأمم والجماعات الإنسانية لم يكونوا قادرين على هذا لافتقارهم إلى مرجعية وموسوعية... تلك كانت مشكلة أوديب بسبب أصله المجهول لم يكن يعرف من يكون أو المكان الذي يتقدم نحوه... ومحاولته الرامية إلى اجتراح هوية منفصلة مستقلة وتدعيمها عن طريق العدوان... كانت محكومة بالإخفاق.
الأحداث في عام 2018م إنها وميض تنين جديد في القضية الكوكبية في أخطر مهماتها الراهنة... في الايستمولوجيا المعرفية والسياسية التي ترجمها بسمارك وبرأي كثير من منظّري السياسة تشكل الواقعية الأخلاقية...
أما اللاواقعية السياسية لها أتباع في كواليس السلطة... كسنجر الذي امتطى الجوادين أحدهما جواد أفلاطون وثانيهما جواد طائش... السياسة الواقعية بالارتباط مع النظرية السياسية الجذرية والراديكالية والليبرالية تتمثّل في قوى عظمى قائمة على الريبة أكثر بدائية في عمليات جيوناسيد إبادة الجنس البشري في راوندا والصراعات الاثنية في المشرق عامة وفي الصّومال وتيمور الشرقية ويوغسلافيا سابقاً وغيرها ومع بزوغ الألفية الجديدة جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول وما أعقبها من حروب في أفغانستان والعراق من أهوال العنف السياسي الناجمة عن رأسمالية ليبرالية جديدة أماطت اللثام عن الوجه المظلم للعولمة، وفي الوقت نفسه نجح العداء الواقعي المطّرد للحرب ضد بلدان الشرق الأوسط... فالتركيب الاجتماعي القائم على التسلّط وحتى اليوم لم نتخلّص منه من شيخ القبيلة أولاً وإلى الإقطاعي وإلى رجل الدين والحاكم المستبد...
السياسة هي أعلى القمم في هيكل المجتمعات البشرية السياسة الواقعية ولاسيما مبدأ انتصار القوة على الحقّ.. والسلطة على العدالة.. بقي توسيديس مصرّاً على ضرورة مزاوجة القوة مع الأخلاق ولا تغريب إحداهما عن الأخرى غربة... كتابات اسخيلوس وسوفوكليس وأفلاطون تنطوي على نوع من الاعتراف بالأسس الاجتماعية للسلطة كما على نوع من الوصف المتقن للشروط الضرورية من أجل تأمين العدالة وتوفر سبيلاً أكثر إقناعاً لفهم العلاقة بين الذات الفردية والجماعة... كتب مورغنتاو ذات مرة وقال: إنّ الأمم تلتقي تحت سماء قد غادرها الآلهة. كان الهدف انتهاء الأوهام وهذا ثمّة خطر احتمال انزلاق الواقعية السياسية وسقوطها في مستنقع القذرية الباعثة على الشلل والنزعة التشاؤمية وصولاً إلى قوانين الفوضى الخلاّقة. مورغنتاو كان عقعقاً ثقافياً، وانخراطه في العشرينات من القرن السالف في الدوائر السياسية لم يفقد شفرته النقدية إلا بعد انتقاله إلى أمريكا، ولعلّ انشغاله بالوسواس السياسي المخنّس بالقيادة ذلك برأي توريز علامة فارقة لواقعيته السياسية المرتجلة.. كتب مورغنتاو عام 1948م إن تقسيم الحالي للعالم السياسي إلى دول قومية سيجري إبداله بوحدات ذات طابع مختلف تماماً وتطوير الأسلحة الحديثة النووية إلى إضفاء التفكير الواقعي الكلاسيكي في اللاهوت السياسي... وحشدٌ كبير تصدّوا للعواقب السياسية لهذه التكنولوجيا المدمّرة والراديكالية الجديدة والعولمة وُلدت من رحمها... أصبحت حتمية وضرورية... في كتاب مورغنتاو الإنسان العلمي في مواجهة سياسة القوة يدحض النظريات الكوزموبولوتية أي النظريات الأممية أو نظريات السياسة الأممية إنها لا تستطيع استيعاب التناقضات العالمية ويردّ عليها يجب إضفاء الصفة التعددية على الهيمنة والاستبداد...
إنَّ دور المثقف السياسي متمثل برفع راية روح النقد التقويمي الدائم الصائب في الواقعية الليبرالية والموازنة السياسية اللوكية نسبة إلى الفيلسوف البريطاني لوك وفوق أسس وقواعد هوبزية نسبة إلى الفيلسوف البريطاني توماس هوبز وذلك في مواجهة أخطار الحياة السياسية غير القابلة للاستئصال تدرج على أوتار ليبرالية الخوف وعلى فضح غليان الأنانية والنفاق والحماقات المشلولة في السياسة الداخلية والخارجية إنه سلوك ديماغوجي قائم على الريبة والشكّ واغتيال العقل حول مدى العقل المغدور والسعي الدؤوب الذي لا يعرف معنى الرحمة لامتلاك القوة والسلطة...!!! والسؤال المفتاحي هو إيجاد رؤى سياسية متماسكة ومقنعة في ظلّ الموارد الفكرية المتوافرة من أجل تحسين المحاولات ابتغاءً لتأمين سعادة الأمن البشري...في منظوري القريب والبعيد أمريكا على مفترق الطرق الديمقراطية... ديمقراطية التقنية المذهلة المروّعة... والتركة الموروثة العفنة والمحافظون الجدد والصقور الطاغية... كل ذلك ينذر بكارثة إنسانية ماحقة قد تحلّ بصنّاع القرار أنفسهم...
ولد الإنسان شغوفاً بالسلطة غير أنّ وضعه الفعلي يجعله عبداً للسلطة... وتحققت نبوءة تشرشل حين قال: أمامنا خطران... خطر الإسلام الحقيقي وخطر البلشفي العادل، يمكن تحويل الإسلام الحقيقي إلى إسلام إرهابي، والبلشفي إلى دكتاتورية الحزب الأوحد وذلك بدعم وتنصيب المستبدين وخلق بؤر متوترة بين المذاهب والاثنيات ودعم كليهما معاً وخلق الفوضى العارمة ليبيدوا بعضهم بعضاً...!!! وأنهي مقالي للأمير الشيخ حسن مكزون السنجاري:
موصوفة لا يراها بالأنام بها وقد تفرّدت بين الخلائق بي
وغبت عنها بها من شدة الطرب
في عرف الأُسُوْدِ الضواري... لا يفترس الأسد قرينه الأسد... أما في عالمنا الإنساني... الإنسان يفترس أخاه الإنسان بدافع غرائزه الهائجة مُتَمتَرْساً خلف شعارات مبهرحة بدافع العرق أو المذاهب والطوائف أو التحزبات الممسوخة في مصانع أعداء الإنسانية والتي تلوَّح بأنها على حق وغيرها على الباطل وبأن قتل خصمه سيكافأ جزاءً أوفى، ومنزلةً عاليةً في الفردوس الخالد... إنَّ الإنسان هو أكرم المخلوقات في الكوكب الأرضي... فلماذا نتخاصم ونأكل لحوم بعضنا، ونسفك دماء أخوتنا وكلنا نبوح بحبنا ( الله ) فلماذا لا نحب بعضنا بعضاً...؟؟؟ وتكرّر ذكر الإنسان في الذكر الحكيم مرات ومرات... وحتى أنَّ فيه سورة خاصَّة للإنسان... وأنه من الأنبل ومن انطلاقنا من قمة الصفاء والنقاء الإنساني أدعو إلى نبذ الخلافات العرقية والمذهبية والجلوس على مائدةٍ مستديرة نلغي هذه التعصبات المقيتة... ( وكنوز الأرض تكفينا جميعاً إذا تجاوزنا وتخطينا التعصبات والانحيازات المذهبية والعرقية ) ونطبّق مقولة الرسول الأعظم والمعلم الأول للبشرية ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) إن من يتباهى بحضارته، ويغضّ الطرف عن الحضارات الأخرى فإنه ليس جديراً بحضارته فيصبح المعول الهدّام لحضارته، وإن دراسة التاريخ مليئةٌ بالفكر والتأمل والعمق... وإنَّ الحضارات التي سادت في حقبةٍ أو في أخرى... إنما قامت استجابة للتحديات الخارجية طبقاً لنظرية التحدي والاستجابة... حيث بقي هذان العاملان الأساسيان فيهما يتأرجحان في كفتي ميزان مضطرب... وفي شرقنا الأدنى والأوسط ترقد الحضارات الواحدة فوق الأخرى... القلاع... المعابد... الآثار كلها في بقعةٍ واحدة... حضارات فارسية وكردية ويونانية ورومانية وبيزنطية وفينيقية... ولماذا ذابت هذه النظم السياسية الواحد بعد الآخر...
إننا نعيش في قلق على مصير البشرية... والنظم السياسية التي استولت على سدة الحكم اضطهدت شعوبها في آسيا وأفريقيا وأمريكا... غَرَسَتْ في نفوس هذه الشعوب الغضب المقيت، والحقد الدفين وسعير الانتقام... علينا أن ندرس التاريخ بذكاء ليس تاريخ البشر فحسب بل تاريخ الأرض والبحار والنباتات، والمستحاثات العضوية... وأن نفلسف التاريخ ونتوغل في أعماقه بأسلوبٍ جديد... بدلاً من حكاياته التراجيدية والكوميدية...!!! إن الأنظمة المستبدة مهما قُوِيَتْ وتقدّمت تكنولوجياً لن تلبث أن تزول من تلقاء نفسها وسط هذا الزحام المضطرب لأنها قامت على نظام خاطئ وفاسد... لا يمكن أن تعمّر كثيراً وتدفع ثمناً باهظاً لجبروتها وعربدتها... وإني أتنبأ مستقبلاً أنَّ ميزان القوة سوف يميل لصالح دول الشرق الأوسط، والدول الآسيوية... لأنها سوف تعود إلى ينابيعها الأصيلة، وسبحات فكرها العميق... ولو اجتمع حكماء العالم في منصّةٍ واحدةٍ من العدل والمحبة والسلام... واتفقوا على عائلةٍ بشرية واحدة... ونبذوا الأحزاب السياسية الزائغة التي تبتغي العروش وليس الإنسان... واخترقوا ملاعب المذاهب والطوائف... والتحزّبات العرقية... ودعوا إلى احترام الإنسان... والبحث عن سعادة أخيه الإنسان لازدهرت الأرض وأثمرت ثمار النبوغ والقطوف الدانية... والغلال الوفيرة، والجنة المرتجى التي كانت يحلم بها عمالقة التاريخ، وفلاسفة الكهوف.....
الشرّ هو القاعدة، والخير استثناء... وغريزة البقاء هي التي تسيطر على العقل... علينا أن ننبذ الافتراضات الموهومة المزعومة بالوسواس الخنّاس... أولئك الأوغاد الذين يركبون الموجة الغوغائية الشعبوية الجاهلة منطلقين من فلسفاتهم الدوغماتية من اللاهوتية السياسية مستندين إلى بوتوبيا تفاؤلية زائفة حالمين بقلوبهم السقيمة بأحلام النسور بعيداً كلّ البعد عن الأفق الليبرالي الحليم المعتدل... والقراءات النخبوية المغروسة بسنديانة الروح... الشخصيات الاحتيالية هي التي تنفث بسمومها في أدغال القلوب... وقلائل هم الذين يعرفون النهايات المروّعة والنكبات الفظيعة...!!!
أخاطب الروح الإنسانية عبر كلماتي المغسولة بماء الطهر والنقاء عصيّاً عن خائنة الأعين وما تخفي الصدور... فمن الضروري والواجب الوطني والإنساني أن يُطهّر كلماتنا وعقولنا وقلوبنا من الضغائن والأحقاد لولادة كلمات جديدة بريئة عذراء... نزرع وردة النيلوفر بنبع الرحمة والتسامح والغفران أن نبتسم لإشراق الصباح ونعانق شروق الشمس الحزين مودّعين ترانيم أرواحنا تصدح على أبواب الرّجاء والأمل...
علينا أن نقذف العاطفة العمياء إلى هاويةٍ سحيقةٍ لأنها كانت المعول الهدّام في تقويض أعمدة عزّتنا وكرامتنا فهي التي أودت بنا إلى أودية عميقة من الإذلال والانكسار والفضائح العارية الشحطاء... ندفع ثمنها دماءً غالياً وأنفساً عزيزةً غاليةً وخراباً هاوياً في مهاوي الاندثار والاضمحلال...
حجر الرحى يطحن طحناً كلّ الغلال بدءاً من القمح وانتهاءً بالأشواك... وهكذا قادتنا العاطفة الحمقاء إلى جبل الأحزان فتمخّض فأنجب فئراناً ملوثين بداء الخبث والرّياء، لكلّ واحدٍ منّا له سهمه في هذه النّكبات، ولكن على مستويات ودرجات متفاوتة... ألم نتّعظ بعد هذه الزلازل التي زلزلت وطننا روحاً وجسداً ؟؟؟ فلنعدْ إلى صوت العقل هو خليفة الله في أرضه... دعوا خطابات الأوثان البشرية وآلهة الأرض واركنوا إلى طهر النفس وإزالة الثارات والنّقم والتباغض والأحقاد، وارفعوا رايات المحبة والإخاء والعدل والرّخاء...
الثقافة نهرٌ يجري من نبعٍ دفّاق لا ينقطع يتفجّر ماؤه زلالاً.. نقياً.. صافياً.. في ديمومةٍ لا تعرف الجفاف.. تحيي القلوب وتسقي العقول بماء العطف والحنان والحبّ والريحان..
الثقافة الناقدة هي أعلى درجات القيم والعطاء تزول في بحرانها الأحساب والأنساب والملل والنحل والطوائف والاثنيات.. وتبقى الإنسانية في جنّاتها هي الأعلى، وهذا هو حلم كلّ إنسان نبيل على هذا الكوكب الأرضي الصغير..
الغرب الأوربي يتّخذ من الأسباب الأرضية للبحث والكشف عن عوامل وعناصر التقدم التقني.. والبحث عن الرّخاء المعيشي للمجتمع في بلاده.. والقانون هو الحاكم الأرضي فوق الجميع.. أما الشرق البائس المسكين ينتظر معجزة السماء والعصا السحرية ليتسابق الغرب الأوربي في مكاييل القوة ليثبت كيانه في الحسبان.. فما السرّ الخفيُّ في تقدم الغرب وتأخّر الشّرق ؟؟؟!!!
فالتقدّم الأوربي هو نتاج العقل الكوني.. حينما أنجزت أوروبا قطيعتها المعرفية مع العصر الوسيط اللاهوتي المسيحي الذي غلب العلم التجريبي من الأدمغة الكبيرة ومن خلال فلاسفة العلم مروراً بـ: بيكون ولايبنتز ونيوتن وكانط وديكارت وهيجل وبرتراند راسيل وغيرهم من عباقرة الفلسفة ولهذا المعنى التجريبي أو الطبيعي أو العقلي.. أما العلم في شرقنا العربي.. ظاهرة التأويل السطحي والاجتهاد القاصر والشرح على الشرح والتكرار العقيم.. وخلق المذاهب كزعامات دينية غارقة في الغلو والتطرف...
إنّ التقدّم هو إيديولوجيا هذا العالم المصنوع السيطرة على الطبيعة وإخضاعها لمصلحة الإنسان وغرس بذور المعرفة في مفاصل المجتمع وتنظيم دولة المؤسسات.. فالإنسان بقدراته الكامنة، وبملكاته العقلية يستطيع أن يؤسس مجتمعاً عتيداً ووطناً حصيناً...
الثورة الفرنسية هدمت الزعامات الدينية وقصور القياصرة.. وأتت بمعارف التقدّم ما نشهدها اليوم من البناء والتصنيع وغزو الفضاء الخارجي.. لا يأتي التقدّم من عبث.. النموذج العلماني في شخص روبنسون كروزو الذي استطاع بقدرته الإنسانية العجيبة بناء العمران بالمعنى الخلدوني..
استطاع في وحدته في جزيرته المقفرة أن يعيد العناصر الأولى للحضارة البشرية وأن يقوم بدوره صياد العنز، ومربي الماشية، والنجار، والمعمار، والحفّار، والسلال... وبالمقارنة تذكرنا هذه الرواية الأسطورية برواية حي بن يقظان لابن طفيل فمنذ قبل خمسة قرون من ظهور رواية دانييل دي فو في جزيرة قريبة من الهند فشبَّ عن الطوق، وتدبّر أمر نفسه بنفسه في حين أنَّ همّ روبنسون كروزو كان إعادة هندسة بناء العمران البشري..
أما حي بن يقظان انصرف بكلّ تدبيره بالحفاظ على حياته أولاً وتغذية جسده للحفاظ على قوته والبحث عن وجود الله وإلى معرفته بفطرته وبقدرته العقلية وأعلن عن روحانيته بأنه هو الداعية وهو المبشر الديني..
أما رواية روبنسون كروزو الإنسان يستطيع أن يعيد للبشرية مادتها بفكره الخلاق وجهده المضني.. فنحن بين نموذجين أو طرازين من العقلانية عقلانية الإنسان الصانع وعقلانية الإنسان الكامل وثمة قاسم مشترك بين الروايتين.. كلتاهما من الأسطورة.. فالتقدميون يضعون العصر الذهبي للبشرية في مستقبلها بينما يضعها السلفيون في ماضيها وهذا ما تترتب عليه نتيجة خطيرة.. فالزّمن عند الأوائل تقدّم بينما عند الآخر نكوص وانحطاط ..
فالسلفيون على الرغم من الخواء الفكري والاجتهادات الهامشية الخاوية فالإيديولوجيا التقدمية تسعى لصنع المستقبل في إيديولوجيا التقدّم أكثر صعوبة من عبادة الماضي وتقديسه.. فهناك أربعة عوامل في تخلف الشرق..
أولاً: السلفيون اعتمدوا على العلم الديني وأطلقوا اسم عالم على كلّ من درس العلم الديني من فقه وتفسير ومصطلح الحديث.. وغيرها، والحال أنَّ كمية هائلة من الأحاديث قد وضعت وضعاً، وكان يتفاقم طرداً مع الابتعاد زمنياً عن عصر الصحابة.. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كونه جعل من الثوابت الضمنية واللاشعورية للعقل العربي فرضيّة مؤدّاها أنَّ العلم فعل إجرائي لاتقاء شرّ عوادي الزّمن، والحقيقة أنَّ الزّمن لا يحمل في طيّاته
إلاّ تحريفاً وتدليساً وتشويهاً لنقاء المنابع الأولى.
والثاني عامل اللغة: فرضية اللغة في مسألة اللحن فجعلوا من الزّمن عامل تحريف وتشويه لأصحاب النحو واللغة فكانت مهمة النقد لغوياً ونحوياً فقط فقد كانوا يحصون سقطات المتنبي لا تجديداته ولا إبداعاته.
ثالثاً عامل التاريخ: السلفيون أوغلوا في الزمن أكثر من اللازم فأرجعوه إلى العهد الجاهلي ورأوا في حركة التاريخ إلا حركة نكوص وانحطاط ووصولاً إلى عصر الدول المتتابعة والانحطاط الكبير واتخذوا من العصر الجاهلي نقاء اللغة بعيداً عن تلوّثها بلغات الأعاجم.
والعامل الرابع هو عامل الاستعارة: السلفيون اعتمدوا على الاستعارة، والاستعارة هي لغة اللاشعور فإنّ دورها في تكوين العقل الجمعي لا يزداد إلا خطورة عندما ترتبط بإيقاعات كونية بيولوجية ذات طابع دوري كقولنا: ( ربيع الحضارة العربية ) و( صيف الحضارة العربية ) و( خريف الحضارة العربية ) و( ربيع الشباب وخريف العمر )، فالكون محكوم لدى السلفيين بأنه الأول والفساد هو المآل، فالزمن لديهم قانون للفساد والزوال لا للنمو.. قانون للتآكل.. وحبّ الذّات هو الجرح النرجسي..
فالعوامل الأربعة قد عزّز الجرح النّازف الذي لا يتوقف عن السيلان وقد زادته عمقاً منذ عام 1948 حتى عام 1967 فكلما بدا الحاضر متشابكاً مستعصياً على الأنا القومي وأشدّ تجريحاً رَكَنَ هذا الأنا القومي إلى التشبّث بعظمة الماضي.. ولا غروَ تراكم الاحباطات..
الأنا القومي تبدو لنا السلفية المسرفة استجابة مرضية حيال موقف معتل ومُمْرِض وكل استجابة مرضية فإنها تمثل استجابةً كاذبةً عن نظرية عملية صحيحة..
فالسلفية بأنواعها الدينية تستمد أقوى عوامل برهانها وحيويتها من شبه الجزيرة العربية مهد ثالثة الديانات النبوية الكبرى ومن كون العربية هي اللغة التي نزل بها القرآن فصحيح أن سلفياً أفغانياً مثلاً يمكن أن يتطرف في نزعته السلفية تطرف السلفي العربي، ولكن أدوات هذا التطرف ومقوماته تظل تعوزه فهو لن يستطيع أن يكون سلفياً صافياً ما لم يتعلم العربية حتى لو تعلمها فإنه سيظل يفتقد رابطة الانتماء الجغرافي..
وفي منظار السلفي العربي أنّ كل تقدم هو ابتعاد عن صفاء الأصول الأولى مثله في ذلك مثل النهر الذي تزداد مياهه تلوثاً كلما تطاول مجراه وتباعد عن ينبوعه..
أما السلفي القومي عنده أنَّ العصر الذّهبي للأمة العربيّة كان الجاهلية أي العصر الجاهلي وكلّ ما تلاه كان انحطاطاً بدأ مع بداية الرعيل الأول من الصحابة وبداية الفتوحات الإسلامية حيث أدخلت الفتوحات الإسلامية على الصفاء القومي أو شاباً وعناصر عجماء تشوّه الأصل فكان عصر الانحطاط فلا سبيل إلى الاستنهاض إلا بتطهير الذات العربي من مظان الشّكوك والهجين والدعوة إلى تضخيم الشعارات للعودة إلى الأصول الأولى..
أما السلفية الرومانسية وجدت في التقنية الغربية الحديثة من طائرات وبواخر وسيارات و.. و.. و.. و.. دماراً رهيباً لثروة النفس، والقيم الفاضلة واحتجوا بأنّ الناس قطرات ماءٍ في نهر الحياة وفضّلوا الرحلات الطويلة على ظهور الجياد والتمتع بالطبيعة العذراء..
ونالت السلفية النرجسية العربية الشرقية عوامل التقدم ومقومات النهوض بالماركسية والاشتراكية أو تمزيق الحجاب المتخلف وتحرير المرأة من لباسها التقليدي ثمّ ارتدَّت عن المفاهيم الماركسية وانتقلت إلى الليبرالية الخادعة وارْتَدَتْ لبوساً لها.. وفي هذا الجو من الاحباطات..
ووجدت العصا السحرية في هذه الجولة من الاخفاقات الذليلة الديمقراطية المستوردة من الغرب الأوربي..
الإسلام الحقيقي يرفض العصا السحرية وهو ضد السحريات والخوارق ولا يتعارض مع موقف عقلاني من الطبيعة ومن القدرة الإنسانية على تحويلها من دون وساطة إلى منظور فلسفي..
إنّ ذلك سرّ التقدّم والتقدّم مثله مثل التخلّف نتيجة مركبة لعوامل تستعصي على الحصر والإحصاء، كلّ ذلك يستوجب العقل الشرقي العربي أن يقف من نفسه موقفاً نقدياً أي ثورة عقلية في كلّ المضامين والأشكال..
إنَّ الشرق بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية .. وهذه الثورة بحاجة إلى الانتلجانسيا أي وظيفة الثقافة الناقدة..
فثقافتنا كانت موزّعة بين الانتهازية القطرية وتقدم التنازلات تلو التنازلات للنزعة السلفية بأنواعها وتتخذ من الماضي موضوعاً للعبادة وليس للدراسة وتغرق نفسها في ثقافات تافهة..
إنّ الغائب الكبير في ساحة الشرق العربي ليس الديمقراطية وإنما الانتلجانسيا نفسها.. فاستقراء تجارب الأمم اليابان ألمانيا وغيرهما يدلّ على أنه حينما وجدت أوضاع كارثية متخلفة وجدت انتلجانسيا متقدمة استطاعت من خلال مضاعفة دور العامل الذاتي الوعي الثقافي يعوض عن قصور العامل الموضوعي والحال أنّ القانون الذي يحكم تطور الانتلجانسيا العربية يبدو معكوساً فهي تتخلف طرداً مع التخلف..
إذ كيف نستطيع أن نكون تقدّميين بالمعنى الصحيح للكلمة فنحافظ على إيماننا بالمستقبل الزاهر على الرغم من قانون التدهور الذي يحكم حركة الحاضر..
إنّ الدور التاريخي للانتلجانسيا العربية لا أن تكون مدَّاحة كما كانت بالأمس أو نائمة باكية اليوم فإذا اتخذنا انتلجانسيا الغد نقّادة طليقة ذلك سرّ تقدّمنا مادياً تقنياً ومعنوياً صالحاً عادلاً..
في أوربا قاطبة غرباً وشرقاً لا تدور دوائر الحروب فهم متفاهمون.. والقانون سيد الجميع.. فمواطنيهم يعيشون في أمن ورخاء مادّي ومعنوي وحتى من يلتجئ إليهم لا يتمنى العودة إلى دياره يمضي حياته هناك رغم أنه لما كان في وطنه يوجّه إليهم كلّ النّعوت البغيضة..
فلماذا الحروب في شرقنا العربي قائمة.. على الهدم والخراب والإبادة المذهبية والاثنية في أغلب بلداننا والنخبة الثقافية في بلداننا ما زالوا يتخاصمون على تاريخنا ويتقاتلون عليه لأسباب شخصية فردية نرجسية حيناً وطوباوية تارة أخرى.. ولكلّ واحدٍ من هؤلاء له مريدوه وكورسه في المسرح الهزلي والعالم الغربي يغزو الفضاء الخارجي مكتشفين خارج مجرة شمسنا..
إنهم لا يريدون لشرقنا الخير والاستقرار والرّفاه لأنهم عاينوا أمراضنا السريرية بأننا أمم لا نحبّ الخير لبعضنا لأنّ الجينات الوراثية في تاريخنا البيولوجي تنتقل من جيلٍ إلى جيل.. نتقاتل على الأجداد هذا جدّي كان أفضل من جدّك.. وهكذا دواليك مسرحية سفك الدماء تنهي فصولها بتراجيديا مروّعة.. ديمقراطية الغرب الأوربي لهم ولبلدانهم.. الديمقراطية لا تستورد ولا تتصدر.. ديمقراطيتنا مرهونةٌ بالثورة العقلية والانتلجانسيا بالثقافة الواعدة الناقدة.. وهذه الثقافة التقويمية الثائرة على التخلّف هي التي تنجب ديمقراطيتنا الواعدة..
أوروبا تتناطح كالكباش أو الذّئاب ولكنها تخرج من الحلبة دون خصام..
تفعل ذلك كي نصدّق ذلك التهريج في مهرجانات عديدة من الساحات المصطنعة.. إنهم يتفقون في تقسيم حصص شرقنا لامتصاص خيراتنا وتصدير المبادئ لنتقاتل ونبيد بعضنا بعضاً لأسباب وهمية رخيصة بخسة..
إنّ الأمة المتحدة على الدستور والقانون وصنع التقنية والأسلحة وتصدر مبادئها للأمم المتخلفة لهي أمةٌ جديرةٌ بالحياة..
أما الأمة المتخلفة التي لا تصنع شيئاً وتستورد الديمقراطية من غيرها ولا تخترع لنفسها الأسلحة وتستورد أسلحة غيرها هي أمةٌ راقدةٌ كرقود الجثث في القبور..
يا أيها الحقّ الحقيق...! تحية واحتراماً كالظل العالي...، وحبّاً نابعاً من ينابيع الصراحة والصدق والوفاء... وشوقاً عارماً... كشوق الأمّهات لأفلاذ أكبادهنّ... وسلاماً كنسيم الهواء الذي يرتّل سيمفونية الحياة البهيجة عبر الدهور والأحقاب...
يا سيّدي ويا سيّد الأسياد في أعلى الأعالي، كم أخرجتَني من جنّات وعيون؟ وكم هجّرتَني وأذقتَني ويلات الشقاء، ومقابر الأحزان، من بلدٍ إلى بلد؟... وكم أفقرتَني وأنا أقسم باسمك، ومن أتباعه الخلَّص، ورغم ذلك ألبستَني لباسَ الجوع والمسكنة، وجرّدتَني من الصحاب والخلاّن، وتركتَني وحيداً في براري الوحشة والعزلة والانفراد...
وجعلتَني عبداً للناس جميعاً، وأنزلتَني من عرش القصور إلى سراديب الأطلال الدارسة، وأعماق الزنزانات المرعبة... وقذفتني إلى الصحارى العطشى تائهاً... حائراً في جزر المنافي الآسنة؟ وكم وكم نفيتَني إلى ممالك القلاقل والهواجس والوساوس، وجعلتَني أندب حظّي العاثر عبر ومضات جبران الرائعة:
أعطِني الناي وغنِّ فالغنا سرّ الوجـود
وأنين الناي يبقـى بعد أن يفنى الوجود
سيّدي الحق: لا تؤاخذني فيما إذا أخطأتُ معك أو تجاوزتُ من خلال فلسفتي الضحلة حدود الممكنات متجاوزاً الأسباب والمسبّبات... محلّقاً في الميثولوجيا والميتافيزيقا إلى عوالم الغيبيّات والقوى الخفيّة التي تحرّك هذا الكون المجهول ما وراء الحجُب، وإني أعتقد أن بيني وبينك الثقافات والوشائج، وقربى كقربى الأرحام على تباعد الديار، واختلال الأزمنة والأعصار، فهل النسب إلا نسب الروح؟!!
أرجو أن تتحمّل أخطائي وأوزاري وتغفر لي تجاوزاتي الممنوعة وشطحاتي الغوغائية... وأن تستوعبني كما يستوعب البحر ويخفي ما بين جوانحه الحيتان والحشرات وعناكب الفساد وفضلات البشر... وأنحني أمامك يا سيّدي، وأنا خادمك في كل الأحوال، فاغفر لي تطفّلي... وما أبوح به وفيما أعرضه عليك... كلّ ذلك ليطمئنّ قلبي ولتهدأ هواجس نفسي وليستيقظ الإيمان الباطني، ويخرج العقل من عقاله إلى سدّة الخلافة في الحكمة.
والآن يا سيّدي الحق، وإن أسأتُ الأدب معك، أرجو أن تصغي إليّ ولو بأذن واحدة أو بربع أذن... فيما أعرضه من جدليّتي التي استقيتُها من اطّلاعاتي المتنوّعة ومن ملاحظاتي، وتجاربي الحياتية... يا سيّدي، وأنا خادمك الأمين... سيّدي، الضدّان المتناقضان يصنعان مسيرة الحياة الطافحة ببديع الزينة والازدهار... فأنت موجود بوجود خصمك... وخصمك موجود بوجودك، وكلاكما من مشكاةٍ واحدة...
فلولاه لم تكن، ولولاك لم يكن... لولاه لم يكن لك أتباع من الحشود الهائلة الذين يلتفّون حولك، ويتسابقون قُدُما نحو الفناء ذوداً عنك. فلولاك لم يكن هؤلاء الجمهرة من الأنصار يهرعون خفافاً وثقالاً للدفاع عنك من خصمك اللدود...
فأنت يا سيدي موجود بوجوده، وفانٍ بفنائه... سيّدي، السالب والموجب في صراعٍ مستمر، والسالب مع السالب لا يعجن عجيناً ولا يصنع خميرة، ولا يبتكر مادّةً؛ والذّكر إذا لم يتّحد مع الأنثى لا يُنجب ولداً؛ وكما أن إشارة (+) وحدها لا تحلّ مسألة رياضية ولا تبني نظريةً، فهي بحاجة ضرورية وحتمية لإشارة (-) ناقص وكما أن الصفر وملايين الأصفار لا يشكّل قيمة عددي ما لم يقترن بالأعداد... ويبلغ الصفر أو المعدوم حدوده القصوى إذا وقف في صفّه العدد... والعدد كذلك يرتفع بسرعة فائقة جداً إذا أدخل وصُفّ بجانبه الصفر، يقفز العدد إلى رقم هائل جداً يعجز الرياضي ويربك أولي الألعاب لا أولي الأزناب...يا سيّدي، وأنا على أعتاب بابك طارقاً... أريد أن أثير الجدل حول مفاصل أسرارك الباطنية الخفيّة وأنا أحد أتباعك الأوفياء...
إن الأرض الجرز إذا لم تُحرث ولم يمسّها الماء ينبت فيها الشوك والعوسج... والخير إذا ركن إلى العجز والكسل والاستسلام وتقاعس عن واجبه، وأخلد إلى الغفلة والسهو تمادى الشرّ وتجبّر وطغى على حساب ضعفه واعتلى الشرّ وتسنّم المجد والكبرياء وبات يصول ويجول في ساحات الكَرّ ضارباً أروع البطولات في ميادين الانتصارات... ومنذ الجبلة الأولى... هذا خصمك الباطل سجّل عليك نصراً تلو نصر... وأنت المهزوم المنكسر...
يوم طرد آدم من الجنّة وقتل قابيل هابيل ومصرع الأنبياء بأيدي عناصر الشر اللئيم... واضطهاد المسيح... وقتل عمر وعثمان وعلي وذرّيته من بعده... ويوم قُتل عمر بن عبد العزيز مسموماً... ويوم لبّى أبو مسلم الخراساني دعوة أبي جعفر المنصور السفّاح، حيث قُتل في عقر بلاطه غدراً ولؤماً ووحشيةً...
ويوم قتل ابن المقفّع (روزبة)، ويوم حُكم على جُنيد والحلاج وابن عربي... وغيرهم وغيرهم بالموت والرجم بالحجارة حتى الرمق الأخير... ويوم نكبة البرامكة الذين قُتلوا ظلماً وطغياناً... ويوم قتل وصلب عبد الله بن الزبير...
ويوم قُتل سعيد بن المسيّب بسيف الحجّاج لسؤال سأله الحجّاج: هل أنا ظالم أم مظلوم؟ فردّ عليه أنت لستَ ظالماً ولا مظلوماً، بل أنت الظلم بعينه... وإلى يومنا هذا وأنت المهزوم أمام جبروت خصمك فما السرّ يا سيّدي الحق؟
هل أنتما الخصمان ممثّلان بارعان في مسرحية الحياة، تؤدّيان دوركما كما يمليان عليكما في الدراما التراجيدية والكوميدية الأزلية عبر صراع لا تنتهي فصوله؟! فهل أنتما طلسمٌ مجهول في هذه الهيولى الكونية؟
وقد التفّ حولكما أنصاركما لعقدة هذا الصراع الذي بدونه لا تستمرّ الحياة وليس لها من مذاق ومتعة ولذّة!!! أم أنتما خاضعان لامتحان وابتلاء لمشيئة إرادةٍ صمدية في المسطور اللوح الأزلي؟... هذا كل ما في جعبتي من غموض واستفسارات جنونية راديكالية أقدّمها إليك يا سيدي الحق الذي أنحني أمامك طول حياتي فأرجو أن تردّ عليّ بقولك الحق البليغ، وحسبي سفاهةً وحمقاً وبلادةً يا سيّدي !!!!
وحينما جاء دور الحق في القول الفصل أشرقت السموات والأرض بنور ربّها، وجاء البرهان الساطع منذ خلق الكينونة الأولى، واستفتح الحق بقول الحق: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتَنا إنك العليم الحكيم." إن من يعترض على مقتضيات إرادة الحكمة الإلهية يعِش مخذولاً مثل المستحاثّات العفنة، والرؤوس الخاوية والأفئدة الضريرة...
إن ما ذكرته من انتصارات... إنها انكسارات وهزائم متلاحقة... فالأحداث التي سردتها هي جميعاً خادمة لأولي النهى...!! إنها تجارب حياتية مستقاة منها الدروس ليزدهر العقل البشري لآفاق جديدة، واجتهادات بازغة، فأولئك الضحايا هم شهداء للمثل العليا لبني الإنسان وبرهانٌ دافع لتزويد الإيمان الإلهي بطاقةٍ روحية هائلة لتغذية التجربة الإنسانية بزاد الاجتهاد والاطّلاع والتثقيف... ويستمدّ العقل إيمانه بتجلّيات الخالق في كائناته ومن خلال ذلك يبني إيمانه ويدرك الله... إن آدم خرج من الجنة ونزل إلى الأرض لأن الأرض أمه فوُلد من ترابها وصلصالها فعاد إلى أمه وإلى وطنه... فأنت يا أيها المغفّل الأبله قراءتك للأحداث ضحلة مبتذلة، وهستيرية أحياناً أخرى. أما القراءة الباطنية الصائبة فهي عودة الجنين إلى رحمها... فعلّمه الأسماء كلّها... وهذا تشريف وتعظيم لآدم... وهذا الشابي العظيم يسأل الأرض:
ولمــا ســألت الأرض يا أمُّ هل تكرهيـــن البشر
فقالت أحبّ في الناس أهـ ل الطموح ومن يستلذّ الخطر
أما بخصوص الذين ذكرتهم ولاقوا حتفهم ظلماً وبغياً من الأنبياء والصدّيقين والشهداء، فقد فازوا درجات أعلى وأرفع من قصور الدنيا وزخارفها... فنزول الوحي الإلهي كان بالحق، وخلق الميزان والصراط المستقيم كان بالحق... وخلق قوانين الكون ودساتيره كان بالحق من نجوم ومجرّات وشموس وأقمار كان بالحق... ألم تعلم أيّها السفيه أن اسمي ورد في البيان الحكيم ثمانياً وتسعين مرّة؟... فبالحقّ منشأ الكون، وبالحق خلق الحياة والموت، ومعقود على جبينه الظَّفَر والفوز المبين... فإن خسر جولةً للعبرة والدرس فإن النصر له في نهاية المطاف. والرسول العظيم خسر معركةً واحدة وانتصر في جميع المعارك الأخرى التي خاضها. أين عاد وثمود وأرم ذات العماد؟؟!!! أين الذين ظلموا وطغوا وبغوا؟؟!! الفوز الكبير لا يناله إلا الصابرون والعلماء العاملون يدفعون جسدهم البيولوجي الترابي ابتغاء المكاسب الروحية في السموات العلا. فتأمّل في الإشراق الألمعي لأمير الشعر والشعراء:
وليس الخلـد مرتبـةً تُلقّى وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همـمٍ كــبارٍ إذا ذهبت مصادرها بقينـا
وسرّ العبقرية حين يفسرني فينتظم الصنائع والفنـونا
وآثـار الرجال إذا تنـاهت إلى التاريخ خير الحاكمينا
وأخذك من فم الدنيـا ثنـاءً وتركك في مسامعها طنينا
في معركة حطّين كان النصر الكبير لأن مبادئ الحق تمثّلت في القيادة المخلصة:
قل للملوك تخلّوا عن عروشكمُ فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
لقد كان صلاح الدين يتمنّى الشهادة لكنه لم يظفر بها، كما كان خالد بن الوليد يتمنّاها لكنها لم تُكتب له، فوصف نفسه بأنه يموت كما يموت البعير.... فيا أيها المغرور المصاب بجنون العظمة كفاك سفسطة وثرثرة، وُلدت من مني يمنى ومن نفايات مهترئة ومن كهوف وهام لم ترَ الشمس واضحاً في رائعة النهار فحقّ عليك قول الشاعر:
أيا حجر السن أما تستحي تسنّ الحديد ولا تقطع
إن الغرور وجنون العظمة نهاية كل مبتلٍ بهما في الخزي والعار... فستدفع الثمن غالياً عاجلاً أو آجلاً لآفاتك الخطيرة:(ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله) إن ظاهر الأحداث لا يوحي لك بمضمونها ولا يفهمها إلا الراسخون في العلم. أنت تنظر بحضارة الجسد وليس بحضارة الروح يا قاصر البصر والبصيرة ولكنّ النابغين من أصحاب الألباب ينظرون في الاثنين معاً... من أنتَ؟ وماذا تشكّل في هذا الكون المترامي الأطراف الخاضع لموازين وقوانين دقيقة... لا تشكّل إلا جزءاً ضئيلاً من ذرّةٍ في الغبار الكوني... وأنت تُقاد في سفن علاّم الغيوب من حيث لا تشعر ولا تدري إلى أين يؤول مصيرك!!! يا أيها الغافل جئت إلى هذه الدنيا بدون استشارة منك، ووُلدتَ لأبوين ولعرقٍ وطائفةٍ لا يؤخذ رأيك، وولدتَ في موطن ليس باختيارك...
وهل تستطيع درء النوم والموت والشيخوخة عن حياتك؟؟!!! اعلم أنك صائر إلى عالم الغيب والشهادة، فمصيرك أنت أجهل الناس بجهله، وناصيتك بيد الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فعُدْ إلى الحق،ومن أصدق من الله قولاً: "تلك آيات نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين." ، "ولتعلمنّ نبأه بعد حين ".
وإليك هذه الأبيات التي صاغها الشافعي بقلم الحق:
دع الأيـام تفعـل مـا تشـاء وطِبْ نفسـاً إذا حكم القضاءُ
ولا تجـزع لحادثـة الليـالي فما لحـوادث الدنيـا بقـاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشـيمتك السماحة والوفـاءُ
ولا ترجُ السماحـة من بخيلٍ فمـا في النار للظمآن مـاءُ
ومن نزلت بسـاحته المنايـا فلا أرضٌ تقيـه ولا سمـاءُ
كشف النّقاب عن جراحاتنا
أعجبني قول روزفلت حين قال: " تكلّم برفقٍ، واحمل عصا غليظة ". تأويل القول: كن حليماً ودبلوماسياً ناجحاً رصيناً حصيفاً.. وكن قويّاً في مواقع القوة.. ويقول بوشكين: العبقرية والشرُّ لا يجتمعان.. وإنَّ من يخدم الأشرار فهو أدنى دركاً منهم، والتّعصّبُ هو هرطقةٌ ساقطةٌ واعتقادٌ باطلٌ لأنهُ يُعادي الحقيقة ويعتبر غيره على باطل مهما أوتي الآخر من المحجّة البيضاء، والبراهين الدّامغة.. خُلقتْ الغريزةُ لحفظ البقاء البيولوجي وفُطرَ الضّمير الإنساني لتحقيق العدل الإنساني والارتقاء القِيَمي... والحياة تتدحرج بين المتناقضات... وتتزحزح بين السلبي والإيجابي بين الحقّ المشفوع بالقوة والشرّ الذي يتلظّى دخاناً أسوداً... إنَّ اعتماد العقل على القيم التي يصنعها ينتج سلوكاً عقلياً أخلاقياً، واعتماد العقل على الدوافع ينتج سلوكاً عقلانياً ولكنه غير أخلاقي...
السلوك العقلي القويم هو الالتزام بالقيم... وذلك لأنّ العقل هبة الله... فالكون قائمٌ على التّوازن والتنسيق المحكم بدءاً من الكواكب والمجرّات الهائلة.. وانتهاءً بالكائنات... والإنسان عيّنةٌ أو نقطةٌ في دائرة الكون المركزي... فكل خلل في جسم الإنسان يؤدي إلى فقدان توازنه... فكلّ خليّة في جسمه يؤدي مهمتها بإتقانٍ دقيقٍ...
فولتير في القرن الثامن عشر عندما قال: " لو لم يكن الله موجوداً لاضطررنا لاختراعه ". إذ أنَّ فكرة الإله ذات حيوية فائقة من أجل الحفاظ على القانون والانضباط في قوانين استمرار الحياة البشرية... والحفاظ على الارتقاء نحو حياة سعيدة مطمئنّة...
يُروى أنّ تشرشل سُئلَ عن توقعاته إبّان الحرب العالمية الثانية فقال: لن نُهزم ما دامت العدالة قائمة في بلادنا. قال هذا القول في الوقت الذي كان فيه الألمان في زهوة انتصاراتهم، وطائراتهم المحلقة في سماء لندن تدكُّ بلادهم دكّاً شديداً..إنّ الصديق الحميم الذي لا يفارق صاحبه بعد الموت هو العدل والإخاء والمحبة... وكلّ شيءٍ سواه يفنى بفناء الجسد...
هذا عمر الفاروق بوحيٍ من ضميره الحيّ وإيمانه القوي يقول: " لو ضاعتْ شاةٌ على شاطئ الفرات لكان عمر مسؤولاً عنها ".
فالعدل أساس الملك وعماد الأخلاق، ودليل رقي الأمم.. وغيابه وفقدانه يعني انتشار المفاسد من:/ رشوة، وسرقة، ومحسوبية، وتباغض، واعتداء على الأعراض وقتل الأبرياء، ونهب الممتلكات، والعودة بالأمة والوطن إلى غابات موحشة قاتلة/... وتحقيق العدل ينطلق من الخلية الأولى في الهرم الاجتماعي للأمة ذلكم وهو المؤشّر الأول في بناء المجتمعات نحو الإعمار والبناء، فمن خلال أسفاري في ربوع وطننا العزيز ألتزم الصّمت وأسمع حكايات المسافرين ألاحظ نماذج شتّى من التناقضات... نساءٌ بأيديهنَّ الهاتف المحمول... يتحدّثن عن الموائد والمال والملذّات ومدح الذّات وكشف عيوب الآخرين... والغيبة والنميمة والأكاذيب المزخرفة... والإسراف في الحديث الخاوي من كلّ المعايير الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية... وألاحظ في النّوع الآخر مصلحته الشخصيّة ولا يستيقظ ضميره في نكبات الآخرين... ويعتبر كلّ واحد منهم سياسياً بارعاً يدافع بفهلويته عن مصالحه الشخصية ومريديه من أتباعه... يقدم نفسه السياسي الذي لا يشقّ له غبار بأنه حامي الديار... ومن خلال اجتماعي مع الكتّاب المخضرمين والمعاصرين أجد لفيفاً منهم كان بالأمس غائباً واليوم حاضراً يميل ما مال الميزان، وفئةٌ أخرى جُفّت قريحتها تعيش في عوالم الخيال الدونكيشوتي متجاوزاً ظروف الزمان والمكان تحيا في عوالم مجهولة... ونخبة تالية تكتب وتنشر في الصّحف المحليّة والخارجيّة يملي عليها واجبها أن يكتب قول الحق إن نشر أو لم ينشر عسى أن تكون كلماته نبراساً للتائهين... وجماعة أخرى تنفخ في ذاتها وتضخم نرجسيتها بأنها هي المعصومة عن الأخطاء وأنها هبطت من ملكوت آخر بأنها الأجدر في قيادة راية الثقافة... وفئاتٌ أخرى ترى نفسها بأنها المخلصة والمتفانية لأمتها ووطنها غير أنها تنظر بمنظار قريب وليس ببعيد تُؤثِر مغانمها على الآخرين...
إنّ الكنز الثّمين والجوهر المشع اللؤلؤي الذي فقدناه خلال تاريخنا الطويل هو الثقافة، والثقافة تعني أولاً إيثار الهوية الوطنية ومحبة السوري للسوري ومحبة الإنسانية فوق الاعتبارات الأخرى ذلكم الوعي الوطني الإنساني الناهض وترسيخ الصّدق الوطني في الصّدور والثقة بالنفس وبالآخرين ونبذ وجوه الحرباء واستئصالها من جذورها في قعر الأفئدة... إنّ سعادة الفرد جزءٌ من المجموع الكلي لا يمكن للفرد مهما أوتي من علم ومال أن يكون سعيداً إذا كانت الأمة في بؤس وشقاء.. وراقني ما قال أحد الشعراء في وصف الواقع الذي نعيش أشباحه فيقول:
ما كان في ماضي الزمان محرّماً
صاغوا نعوت فضائلهم لعيوبهم
فالفتك فنٌّ والخداعُ سياسةٌ
والعريُ ظرفٌ والفسادُ تمدّنٌ
للناس في هذا الزمان مُباحُ
فتعذّر التمييز والإصلاحُ
وغنى اللصوص براعةٌ ونجاحُ
والكذبُ لطفٌ والرّياءُ صلاحُ
إنّ إصلاح واقعنا مرهونٌ بسلوكنا إذا التزمنا العدل والتّسامح واحترام الملل والنحل من المذاهب والاثنيات. سُئلَ أحد الفلاسفة السؤال التالي: تقولون بأنّ الله قد خلق آدم على مثال صورته، فهل أنت في الله أم الله فيك ؟ فأجاب العالم قائلاً: هذا السؤال باطل الأباطيل أحدهما يؤدي إلى الشرك، وثانيهما يفضي إلى الاتحاد والحلولية... وتابع قائلاً: هل معك مرآة ؟ فانظر في تلك المرآة... ألا ترى صورتك ؟؟!! فقل لي: هل أنت في المرآة، أم المرآة فيك، فذلك مَثَلُ الله في آدم وصلته بعباده، فليس كمثله شيء، لا يحلّ في شيء، ولا يقارن به شيءٌ، فهو الخالق البارئ المصوّر فتبارك الله أحسن الخالقين...!!! فأخذ السائل يهرطق وذكّرتني أسفاري الشّاقة في هذا الواقع الشّائك بقول الإمام علي: مالي أرى رؤوس الفحول طوامح. حينما مرّت امرأةٌ ذات روعةٍ وجمالٍ أمام معسكره ثمَّ نطق شعراً فقال:
لَنَقْلُ الصخر من قُلل الجبالِ
يقول الناس في الكسب عار
بلوتُ الناس قرناً بعد قرنٍ
وذقتُ مرارة الأشياء طراً
ولم أرَ في الخطوبِ أشدّ هولاً
أحبّ إليَّ من منن الرّجالِ
فقلت العار في ذلّ السّؤالِ
ولم أرَ مثل مختالٍ بمالِ
فما طعمٌ أمرُّ من السؤالِ
وأصعبُ من مقالات الرّجالِ
العظماء يتركون بصمات ناصعة على مسيرة الإنسانية المعذّبة، ويصبحون منارات تهتدي بهم الأجيال... أمّا الإمَّعات إلى مزابل التاريخ ليتجرّعوا اللعنات... أصحاب العقول المضيئة والنفوس الطاهرة يطلبون العدل والإخاء... فالعدالة هي أمّ الفضائل والصدق أبوها... والظّلمات هي أم الرّذائل والكذب أبوها... أنا لا أحصر اللوم في أولئك النّماذج من الكتاتيب الذين لامستُ واقعهم والمنظّرين والمفكّرين والأدباء والشّعراء المزيّفين الخلّبيين بل اللوم الأكبر في الحاضنة التي توافقهم قولاً زوراً وعملاً مأجوراً تقبل التزوير والتزييف وغالباً عن دراية أو عن غير دراية والمصيبة حينها أمرّ وأكثر استفحالاً... وفي الوقت ذاته تعيق كلّ فكر أصيل وتحاول خنقه بطغيان الرّياء والنّفاق المستشري في مجتمعنا...!!! ذلك الاحتضان البخس الذّليل الذي يعتلي صدارة الواقع حتى هذه اللحظة... إنّ الرّكض وراء المال بغير حقّ والسّعي نحو الشّهرة الزّائفة وتلوين الوجوه بالمكر والخديعة لابتغاء المال والمناصب... ذلك سرابٌ كاذبٌ... ومحصّلةٌ خاطئةٌ ومخزية...!!! العاقل الحكيم يفضّل رخاء أمنه وسعادتها وحلاوة وطنه على إنجازاته الشخصيّة... فالله درُّ من قال:
لا تعجلنّ فليس الرّزق بالعجلِ
فلو صبرنا لكان الرّزق يطلبنا
الرّزق في اللوح مكتوبٌ مع الأجلِ
لكنّهُ خُلق الإنسان من عجلِ
ويقول الإمام علي: لو ركبت الريح هرباً من رزقكَ لركب رزقك البرق وجاء إليك... وقال أحد الشعراء:
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه
يزيد الفتى في الناس جودة عقله
فقد كَمُلتْ أخلاقهُ ومآربهُ
على العقل يجري علمه وتجاربُهُ
وإن كان محظوراً عليه مكاسبُهُ
ذلكم هو الترياق الشّافي لإصلاحنا واستنهاضنا من كهفنا المسحور وسكراتنا الهستيرية التي هدمت صروحنا وقلاعنا... وإنْ تمادينا فيما نحن فيه سنلاقي الأجل المحتوم إلى ربّك يومئذٍ المساق والعاقبة للطاغين، وينطبق عليهم قول أحد الشعراء:
إنّ الطبيب له علمٌ يداوي به
فإذا ما انقضت أيّامُهُ
إذا كان في أجل الإنسان تأخيرُ
حار الطبيب وخانَتْهُ العقاقيرُ
القانون يعلو ولا يُعلى عليه، وتحت راية العدل فلا أحساب ولا أنساب، يحيي الشعوب والأمم ونزدهر الحضارات.وفي إحدى الروايات التاريخية للإمبراطورية الفارسية في عصر الإمبراطور الفارسي كسرى أنوشروان رغم أنه كان صارماً ومستبداً.. كان يركع الناس أمامه غير أنه كان يسجد للقانون إذا دخل على القضاء ينحني أمام القضاء ولا يتورّع عن تنفيذ القانون لأقرب المقرّبين إليه... أمر بإنزال أقصى العقوبات بأحد أبنائه الذي ارتكب جريمة القتل بحقّ أحد الفقراء... فالقانون هو العدل عينه يحمي الأمة من التفكّك والضياع والانهيار... وهكذا بقيت إمبراطورية الفرس قائمة إلى يومنا هذا لأنهم ورثوا من أجدادهم ميراث العدل الحضاري، والوعي الوطني والتراث الحضاري التليد... وختاماً: في كلّ خريفٍ بائسٍ حزين تُحكى حكايات الأوراق المتهاوية... ونباتات الأشواك الدّامية... وتنهار الويلات في أعماق القبور... ويُلوَّح لي من بعيد مدينة ذات العماد الذين جابوا التوابيت من أخاديد التماسيح... ورهطٌ من الجنّ يتلو ما تيسَّرَ من عبير الورد والحبق من الكهنوت والتابو الكلاسيكي المقدَّس...!!! واقعنا الشقي التعيس، ومشهدنا الحزين الدّامي... أَحْدَثَ تبدّلات جذريّة هابطة أسكن قوماً القصور... وأورثَ غيرهم القبور...!!! إنّ مقارعة النّفاق بقوّة الحقّ والثبات على الهوية الوطنيّة السّوريّة ورسوخها برسوخ اليقين هي الضّماد لجرحنا البليغ...!!!
كلَّ ما في الكون لقانونٍ لا يُرَدّ هو قانون الكون والفساد... فالأشياء تكون أو توجد ثم تفسد وتبلى لتولد أشياء أخرى تفسد بدورها وتبلى، ومن الموت تولد الحياة...، ومن الحياة يولد الموت...لا شكَّ أن الحضارة الإسلامية قد عرفت بداياتها الطاهرة، وينابيعها المثالية الصافية في عهد الرسول الأكرم بعد أن اكتملت الأسس والقيم والمبادئ... فهذا ابن الخطاب يفتح القدس، ويرفض الصلاة في الكنيسة حتى لا تختلف الأمة من بعده عليها، وصلّى بجوار الكنيسة حيث يقوم مسجده الصغير ملاصقاً للكنيسة... وحتى اليهود الذين طردوا من القدس، وحرّم عليهم دخولها على يد روما المسيحية لم يسمح لهم بالعودة إلى زيارتها وسكناها إلا في ظلَّ خلافة عمر بعد أن حُرِموا من ذلك بقرون... إن التاريخ في المنطقة لم يخل بعد ذلك من الاضطهاد بكل أنواعه... الاضطهاد الديني، والاضطهاد العرقي... والحروب الدينية أو بالأحرى الحروب باسم الدين... ولا شكَّ أن الحضارة الإسلامية الأولى عرفت كل ما عرفته الحضارات الأخرى... بعد ذلك من عهود الاستبداد ومن الصراعات السياسية التي ارتدتْ ثياباً بأنها الأحق في القيادة حتى دخلت مراحل الجمود ثم الاضمحلال والتحلل والضعف حتى تبارى في نهبها الطغاة... فكما أن هناك أمثلة كثيرة على الإقدام على قتل العلماء والعظماء من الأمة الذين كانوا هداةً لأمتهم... ك – سعيد بن المسيّب، وابن تيمية الذي مات مسجوناً، ومحنة أحمد بن حنبل أيام فتنة (( القرآن هل هو قديم أم مخلوق ؟؟ ))... وراح ضحية الفتنة غيره من الجهابذة الهمام، وأعلام الفكر والبيان... ففي أذهان أجيالنا المتعاقبة ما حدث خلال أربعة عشر قرناً هو كتلةٌ واحدة مضيئة من التاريخ الزاهر...نعم جاء الإسلام، ونهض أهله في حماس، يبنون دولته، وفي غمرة التفاؤل حسبوا أنهم يقيمون على الإيمان، والعدل، والخير دولة تدوم أبد الدهر وّمّضّتْ دولةُ الراشدين في طريقها فإذا هي في عنفوانها اقتحم الفساد دارها، وقطعت الفتنة مسيرتها وسقط ثلاثةٌ من الخلفاء شهداء الغدر والخيانة، وفساد الحياة الذي لا مهرب منه، وعندما استشهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رمز الإيمان والعدل والبيان والفروسية، وانتقل الحكم إلى معاوية... أيقن الناس بأن فساد الزمن جزء من الزمن نفسه، ولا مفرّ من دورة الحياة والموت... فجاء ابن خلدون في مقدمته 1332 – 1406 هـ يقيّم المجتمعات بأدوارها الدائرية، وَفَلْسَفَ التاريخ... وأتى بقوانين الطبيعيات والكيميائيات على كل ما يقع في الكون من تحولات... وقال: بأن التاريخ يتألف من دول... ولها أعمار كأعمار الأحياء... فكما يولد كل حيّ ثم ينمو ويشبّ ثم يهرم ويموت، أما دورة العمران عند ابن خلدون: أنَّ البداوة هي المرحلة الأولى من مراحل تطور كل جماعة إنسانية... وأن البداوة أصل العمران والأمصار... وعند ابن خلدون أن الجماعة البشرية تبدأ بدوّيةً ثم يشتدُّ عودها، وتتزايد قواها فتتّجه إلى غزو ما يجاورها من بلاد الحضر للاستيلاء عليها... فإذا تمكنت من ذلك، واستقرت في بلد متحضر وحكمته فقد بلغت قمة ما يسميه بالمجد أو قمة القمم ثم تؤول إلى النهاية... فللدول أعمارٌ كأعمار الأشخاص... وكما أن الشجرة تزهر وتثمر ثم تذبل... وهكذا دورة الحياة... وعند ابن خلدون المرحلة الأخيرة هي الترف بداية الفساد أو هو الفساد كله... ونظرية ابن خلدون رغم جاذبيتها فليس لها حظٌ من الصواب الكامل بأن الترف يفسد الأمة... غير أنَّ هناك ترف جسدي، وترفٌ روحيٌْ، وترف عقلي، فإذا اكتملت الثلاث اكتملت الحضارة والمدنية في أعلى مستوياتها، وأما إذا تشبثت الأمة بالترفين الأخيرين كُتِبَتْ لها الصيرورة والبقاء... وكلَّ جيل يسلّمُ الرّاية لجيلٍ بعده... فليست الحضارة عيباً اجتماعياً، ولا سبباً لفساد المجتمع بل هي قوّةٌ ودعامةٌ تشدُّ بنيانه... أمّا فساد الترف يأتي من سوء استخدامه... كما هو في دول الخليج... تحوَّل الترف إلى البذخ والتبذير والإسراف في غير موضعه... فانقلب الترف إلى داءٍ سقيم بدءاً من الملك ثم الأمراء ثم المسئولين ثم الرعية... فالعيب ليس في الحضارة نفسها وإنما في موقف الإنسان منها... فالترف ليس مستوىً مالياً أو حضارياً وإنما هو خُلُقٌ وسلوك... هناك أغنياء غير مترفين... وهناك فقراءٌ مترفون... يتقنون جلب السّعادة لهم والعيش الكريم... ويمكن تحسين أحوال البشر وتحريرهم من الكثير من عوامل الفساد عن طريق العلم والثقافة والكشف عن أسباب العلل والأمراض التي تصيب البدن، وتسرع بفساده...
من هنا يقول الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جيوفاني 1668 – 1774 م إن تقدم الإنسانية حقيقة ولكنه يتم في حركة لولبية أي أنَّ دورات التاريخ المتعاقبة يتحقق معها شيءٌ من التحسن المطرد... وهذا ما جعل المفكر الفرنسي تورجو 1727 – 1781 م يقول: إن التاريخ يسير في خطٍ متقدم وأن دولابه يتقدم إلى الأمام بخط مستقيم... ويؤكد المفكر الفرنسي كوندروسيه ( أنطوان كاريتا ) 1743 – 1794 م أن سبل التقدم مفتوحة أمام البشر إلى ما لا نهاية... ويهاجم السفليين الذين يقولون بأن العصور الماضية خيرٌ من الحاضرة... وأكد أن الثورة الفرنسية حطّمت الأغلال، وأطلقت النشاط الإنساني من عقاله... والفيلسوف الإنكليزي سبنسر 1820 – 1913 م في كتابه المسمى ( التقدم قانونه وسببه ) يدعو إلى التفاؤل وإلى مستقبل باهر ويسوده روح الانفتاح والتنوير في تاريخ الفكر العالمي... ولكن أكبر المتفائلين دون شك هو سان سيمون 1760- 1825 م فقد كان شعلة من الذكاء، وطاقة من العمل، وآية في سعة الاطلاع والطموح... وكان إيمانه بالبشر، وبضرورة التقدم... وكان عالماً طبيعياً يسير في آثار اسحق نيوتن... وقد ألّف عشرات الكتب وقال: إن العلم وحده هو طريق الإنسانية إلى التقدم وإن حكومة الغد ينبغي أن يتولاها العلماء حتى يضمن أطراد التقدم... ومن فكرة التقدم تنبعث نظرية التطور والنشوء والارتقاء وصراع الحياة والبقاء للأصلح... وروح التقدم هو الذي دفع الناس إلى الابتكار والاختراع فانتقلت البشرية الواعية من تطور البخار إلى الكهرباء إلى عصر الذرة... وإلى غزو الفضاء الخارجي وإلى و إلى... فالجماعة الإنسانية على أرقى المستويات حينما يتصل بإطار حياتها المادي ولكنها تتعثر في النواحي الاجتماعية والإنسانية... وهذا ما يعرف عند علماء التاريخ والاجتماع باسم الركود الحضاري... إنَّ في تاريخنا محطّات ظهر فيها: محمد عبده... والأفغاني... والعقاد... والكواكبي قاموا خلالها بجهود فردية في هذا المجال... وكانت ميزتهم أنها قد تهيّأ لهم رسوخ القدم في دراسة التاريخ من جهة ورسوخ القدم في فنون النقد والكتابة والفكر الحديث من جهةٍ أخرى... بعدهم جاءت أجيالٌ قلَّ فيها من يجمع بين الأمرين... فهو إما خريج الدراسة الدينية المحضة وإما نتاج التكوين الأوربي الصرف الخالص... فوقع الانقسام الفكري، ونقص عدد القادرين على التكامل... ولكن الأمر صار أكبر وأهم بحيث يحتاج إلى جهد جماعي مؤسساتي ترعاه هيئة أو دولة تدرك قيمة هذا النبوغ والاجتهاد الفكري الخلاّق... وقيمة هذا المجهود المبذول الثمين.....
كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامتُهُ يوماً على آلةٍ حدباء محـمول
لمّا رُزق أفلاطون بولدٍ بكى...!!! سأله تلاميذه: لماذا البكاء يا سيّدي ؟؟؟!!! قال أفلاطون: آلهة الخير ضعيفةٌ، وآلهة الشرّ قويّةٌ جبّارةٌ...!!! إنّ ولدي هذا سيتعذّب، ويلاقي أنكاثاً وآلاماً مريرةً، وحياةً دميمةً... لأنَّ قوى الظلام طاغيةٌ... وأنا السّبب في مجيئهِ إلى هذه الدّنيا الغاشمة... ! ودعا له قائلاً: يا آلهة الخير ! امنحيه حظّاً سعيداً ليخدم به أصحاب العقول خيرٌ أنْ تمنحيه له عقلاً بازغاً يخدم به أهل الحظوظ...!!!
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله وأخو الجهالة في الشّـقاء ينعـم
وهذه تصريحاتٌ من حياتي الفكرية... أنا لستُ من أنصار التّعصب العرقي والمذهبي... تجاوزت هذه الأخاديد الملتوية... مذهبي هو الإنسان... ومبدئي هو الإنسانية المعذَّبة... !!!
ولدتُ عام/1950م/ من رحم جبال الكُرد في قرية ماسكا- راجو – عفرين.. ومعناها في لغة الأم مصطبة الجبل، ومن أبٍ وجيهٍ في الصّدق والوفاء والفضيلة والمروءة والشّجاعة النّادرة ومحبَّة البؤساء من أهل المسغبة... وكان والده في العشرينات من القرن الماضي أحد الثوّار البارزين في مقاومة الفرنسيين... وقد جُرحَ في إحدى المعارك، وقُبِضَ عليه، وحُكِمَ عليه بالإعدام رمياً بالرّصاص وأُلقيت جثّتهُ في النهر الأسود الفاصل بين الحدود السورية والتركية... وافترستها الوحوش الضواري ونسور السّماء... كما قال الشاعر الخارجي:
ولكنَّ قبري بطنُ نسـرٍ مقيلُهُ بجوِّ السَّماءِ في نسورٍ عواكفِ
وكان والدي ينصحني يا بُنيَّ: كُنْ من أولي الألباب، ولا تكن من أصحاب الأزناب لا تكُن زَنَبَاً يا بُنيّ حتى للأسود...!!! وكنْ رأساً ولو كان الرأس رأس حمارٍ...!!! عشتُ في بيتٍ توارَثَ الرّجولة، وقول الحقّ... والوقوف بجانب الذين ينامون على الأرصفة السوداء في براري الفاقة والحرمان...كنتُ توّاقاً للجلوس مع رجالات من أصحاب الفكر والقيم والمبادئ ورجال الدين والسّاسة الكبار...ودفعتني عاطفتي السّاذجة... أن أعقد مع هؤلاء سجالاً منَ الصّداقات، وأُضحّي بنفسي وحياتي ومستقبلي فداءً وقرباناً لهم... وعندما هبَّتْ عليَّ عواصفٌ هوجاء، وحلّت بي الأنكال والأكدار، تركوني وحيداً أواجه مصير حياتي منفرداً في قفار الفقر والوحشة القاتمة... وبعد هذه التجارب والنوازل التي ألمّتْ بي خرجتُ بفكرٍ صائبٍ... أنّ هذه الرايات المرفوعة هي تضليل وخداع وأفخاخ لاصطياد الحمقى من أمثالي وإقحامهم في مدارك تخدم مصالحهم الغرائزية المنحطّة... إنّ الثمن الذي دفعته علَّمني أن أكون حذراً من اليافطات الفخمة البرّاقة... وبعد مطالعاتي لكتّاب التّاريخ ورجال الفكر وعمالقة السّياسة ورجال البيان والشّعراء الكبار...
تبيّن لي أنّ الشّرق كلّه ليس قادراً ومؤهلاً أن يقيم دولاً يسودها دستورٌ عادلٌ وصراطٌ مستقيم... ويربّي شعوباً على الحقّ والخير والنّماء والرّخاء والازدهار... لأنّ مورّثات الدّراماتيك التّاريخي التّراجيدي تنتقل من جيلٍ إلى جيل... ولا بُدَّ من تلقيح الأجيال الحاضرة والقادمة بمقوّيات العدل وحريّة الاختيار والحوار البنّاء والفكر المتنوّر والعقل الطّليق والحبّ النّبيل الإنساني...
إنّ الرسول العظيم بنى إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ في تلك الجزيرة الجرداء خلال ثلاثة وعشرين عاماً... فكانت معجزةً في التّاريخ البشري... واستطاع بعدله الإنساني أن يستقطب حوله أقطاباً من كلّ الملل والنّحل والطّوائف والأعراق... وبنى دولة العدل في فترةٍ قصيرةٍ من حياته... وبفضله دخل العرب في محراب التاريخ فقدَّرهم الشّعوب واحترمهم احتراماً جمّاً بقيادة معلّمهم الأوّل الرّسول الملهم... وحينما التحق الرّسول الأعظم بالرّفيق الأعلى استيقظت العصبيات القبلية من رقادها... واستفحلت في هذه الجولة أكثر خطراً من العصبيات القبلية من ذي قبل... وبَرَزَتْ إلى ميدان الواقع المنازعات والمخاصمات الدّموية مهرولةً نحو من هو أجدر بالخلافة... وزلزلت كيان الأمة ودكّت دكاً دكّاً من قواعدها وأصولها... فتفتّت الأمة وانقسمت إلى شيع وأحزاب متناحرة... فذهبَ عليٌّ وأولاده وذريّته ضحيّة هذه العصبيّات الدّسيسة المقيتة...حدث أول انشقاق في كيان الأمة... واستلم معاوية الخلافة، وطفق يلاحق معارضيه ويضرب بمقامع من حديد كلّ معارضٍ وكلّ من لم يقدّم الولاء له...
الأمويون أثاروا النَّعرات القبليّة لإحياء التّباغض والأحقاد ليتمكّنوا من استمرارهم في سدّة الخلافة... وظهر شعراء النّقائض/ جرير وفرزدق والأخطل / وخرج الشّعر من مساره الصّحيح وهبط إلى الحضيض في الهِجاء والكلام المبتذل الرّخيص... فأصبحت الأنانيّة والسفسطائيّة الفارغة هي سيّدة المحفل الشّعري والأندية الثقافية الأدبيّة... ومارس الأمويون ذلك لإلهاء الأمّة وإقحامها في اللغو والهذيان والثّرثرة الجوفاء...
وجاء العصر العباسي ردّاً عنيفاً وثورةً ناقمةً على الأمويين والذين فجَّروا هذه الثّورة من الأعاجم وعلى جبهتها الأولى القائد الكردي البارز أبو مسلم الخرساني إذ أعلن نجاح الثّورة... وكان العباسيّون مختبئين ومتوارين عن الأنظار، فخرجوا من مخابئهم واستلموا الخلافة في بغداد، ومن هؤلاء أبو العبّاس جعفر المنصور الملقّب بالسّفاح... وكان أبو مسلم قد قضى على التمرّد والعصيان الذي قاده عمّ أبو العباس السفّاح في حلب... وحرّك السفّاح التّعصّب الغوغائي واستدعى أبا مسلم إلى قصره وقتله غدراً في رواق قصره...
ووزّع الدّنانير لحرّاسه الذين رافقوه بأنه تخلّص من شعوبيٍّ لئيم..!! ولهذا تفرّغ لتصفية أعدائه من الأمويين ومن الموالي والأعاجم الشّعوبيين ليتفرّد في السّلطة بنفسه ولبني العبّاس... وهم الصّفوة الممتازة لحكم البلاد...
والأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام بنيّة صالحة وبإيمان قويٍّ ثابت أجدر من العرب الذين كانوا يفكّرون باعتلاء المناصب... وظهر منهم علماء كبار في مختلف جوانب العلم ومنهم: / ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي وابن تيمية والإمام أبو حنيفة وابن خلكان وأبو حامد الغزالي.../ وغيرهم من نوابغ العلماء الأجلاء... الذين خدموا الإسلام بصدقٍ وإخلاص وتفانٍ منقطعِ النّظير... ولكن تعرّضوا للاضطهاد والتّنكيل والقتل الوحشي... ومنهم الكاتب الكردي البارز ابن المقفّع " روزبة " الذي قُتلَ أشنع قتلة بحجّة الزندقة والارتداد... وغيره أمثال: / أحمد بن حنبل، وسعيد بن المسيب وابن تيميّة والحلاّج وابن جنيد وابن عربي / وغيرهم من قوافل طلائع الفكر الإنساني...
تميّز الحكم الأموي بالذّكاء الخارق، ووظّف للتشبّث بالسّلطة للأمويين وتصفية كلّ من يعارضهم والتّنكيل بهم... وشجّع الأمويون المذاهب التي تخدمهم والنّظريات الدّينية منها نظريّة الجبر الإلهي التي تقول: بأنّ الخلافة هبةٌ من الله وصادرة من اللوح المحفوظ... أمّا النّظريات التي تحتكم إلى العقل والمنطق كنظرية المعتزلة حاربوها حرباً شعواء بلا رحمة، وتوارت هذه النّظرية عن ساحة الفكر، واضمحلّتْ بجبروت الاضطهاد... أمّا العصر العباسي فقد تجلّى فيه التنوير المقرون بالتعصّب والانغلاق والانتقام منَ الذين اضطهدوه... فلم يبادروا إلى تلاوة قوله تعالى:{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}/الأنفال60/.
فلم يوفّروا للعلماء طقساً ملائماً ومناخاً مناسباً للإبداع والاختراع والإسراع في بناء التقنيّة الحديثة...إنّ الأوربيين عانوا مطاحنات دمويّة بين المذاهب المسيحيّة من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت... وأُهرقت دماء غزيرة، وعاشوا في ظلمات الجهل والمرض والفقر من جرّاء المخاصمات والاحتراب فيما بينهم... وبعد هذه المآسي والآلام استيقظوا وركنوا إلى حكمائهم وانتبهوا إلى مفكّريهم وأدبائهم وشعرائهم... ففي بداية القرن السّادس عشر في العالم الغربي قامت النّهضة الأوربية بشكل عفوي من إبداعات علميّة واختراعات تكنولوجيّة:
" جيمس واط " اخترع المحرّك البخاري وبنى مصنعاً لتصنيع المحرّكات. والعالم سوهر في بريطانيا، وأديسون المصباح الكهربائي والمولّد الكهربائي وجهاز تسجيل الصّوت، وباسونز الإيرلندي صنع التوربين البخاري عام 1884م وأسس شركة لاختراعه وإنتاجه في بريطانيا، واخترع أوتو الألماني محرّكاً يشتغل بالغاز ثمّ طوَّر دملر ما صنعه أوتو وبعدئذٍ صنع كارل بنز محركاً يعمل بالنّفط... واتفقوا جميعاً بإقامة مصنع مرسيدس المشهور بصناعة السيارات... وبدأ تفجير الذرّة من قبل العالمين الألمانيين أوتوهان وستراثمان في برلين العاصمة الألمانية عام 1938م ممّا أثار حفيظة الغرب وقلقله من إمكانية حصول هتلر على صنع السّلاح النووي...
وفي عام 1940م بادرت أمريكا بصناعة القنبلة الذريّة جلبت لصناعتها علماء من أوروبا أمثال " نيلزبور الدانماركي، وفيرمي الإيطالي، وهانزبيت، وجيم فرانك من ألمانيا، وجورج كوستيافسكي من الاتحاد السوفييتي " وأسست أمريكا وأنتجت شركة " جنرال داينمكس "، وصنعت أحدث الطائرات الحربيّة واختراعات نووية والصواريخ عن طريقة الإلكترونيّات الصناعيّة الحربيّة... ووصلت أمريكا في القرن العشرين في مجال العلم والتقنيّة الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة ما لم تخترع البشريّة في تاريخها الكوني في مضمار التفوّق التّقني والعلمي...فالعباقرة يحققون أحلامهم... أما السّاسة الغاوون يسخّرونها لمآربهم القذرة... وأنفق الرئيس الأمريكي السابق ترومان في بناء المفاعل النووي عام 1940م بتصنيع القنبلة الذريّة بجهود علماء من بلدان العالم، وتمَّ تفجيرها بنجاح، وصرف ترومان أموالاً باهظة لنجاح القنبلة الذرية بدون علم من الكونغرس... ليكون عمله في غاية السرية متحمّلاً المخاطرة في محاكمته إذا فشل، ومغامراً بسمعته في سبيل بناء القوة لأمريكا... وأبلغ الجنرال كروفر الرئيس ترومان الذي كان في بوتسدام لتوقيع معاهدة استسلام ألمانيا ببرقيّة التهنئة بنجاح تفجير القنبلة الذرية في تموز عام 1945م وفي زمن الرئيس روزفلت بنى مصنعاً للمفاعل النووي وسمّاه مشروع " يانهاتن "ألمانيا بخبرة عالمين ألمانيين هما " أتوهان وفزتز ستراثمان "...
في عام 1907م كان كامبل بنرمان قد تولّى رئاسة الوزراء البريطاني، وكان يومها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس... وكان كامبل أديباً ومفكراً فجمع حوله حشداً من كبار العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء وحاورهم وطرح عليهم سؤالاً: كيف ننقذ بريطانيا من الانهيار والسّقوط كما سقطت وانهارت إمبراطوريات عظيمة في التّاريخ كإمبراطورية ميديا وآشور والإمبراطورية الإسلامية والعثمانية... وبعد نقاش طويل وحوار مثير اتفقوا على قرار واحد هو: أنَّ هناك خطراً يأتي من جنوب وشرق البحر المتوسّط... هؤلاء القوم لهم تاريخٌ واحدٌ وأرضٌ واحدةٌ... ولهم قيمٌ عظيمةٌ ويحاولون أن يتّحدوا فقرّر كامبل مع اللجنة إقامة دولة غريبة في فلسطين تفرّقهم وتمزّقهم وترتبط بأوروبا بروابط مصلحية فبعد عقدٍ من الزمن استعمرت بريطانيا فلسطين 1917م... والرئيس الباكستاني السابق " علي بوتو " عندما علم أنّ الهند صنعت القنبلة النووية تحمّس وقال: سنصنع قنبلة نووية حتى لو أكلنا أوراق الشجر وقاسينا الجوع...
الدّول النفطية عام/1976-1977م/ صرفت /188/ مليار دولار في القصور وللملك والأمير وحاشيته... !!! تعاني هذه الممالك والإمارات عجزاً مالياً من الفوائض الهائلة لم تصرف في التقنية العلميّة...!!! يتوفّر لدينا جلّ المقوّمات لتصنيع القنابل النووية الحربيّة من أدمغة... ومواد... ومال... ولكن نفتقر إلى الإرادة والهويّة الوطنية والعدل وسيادة القانون...!! الحاكم المستبد يجمع حوله هياكل ذات أقنعة مزيّفة من المنافقين المأجورين... ويلاحق المخلصين الوطنيين من المبدعين... إنّ التقدّم والبناء تابع لإرادة الدولة الحاكمة... فإنّ ما يبنيه حاكم معين قد يهدمه خلفاؤه من بعده كما فعل خلفاء محمد علي باشا في مصر...!!! إنّ مرض غرور العظمة يدمّر البلاد...!!! رفض نابليون الأول اقتراح أحد المهندسين بإدخال البخار إلى سفن الأسطول الفرنسي... وهذا سبب تأخّر وتخلّف الإمبراطورية الفرنسية عن الإمبراطورية البريطانية... وساهم السلاطين العثمانيون في تخلّف الشّرق كلّه... والحكام المستبدّون يصرفون أموالاً هائلة على أجهزة الأمن ليحفظوا أنظمتهم مع أنّ مهمّة الأمن أن يراقب تحركات الأعداء... !! هؤلاء المستبدّون يحيطون أنفسهم بأجهزة أمنية تحت مسمّيات متعددة... ويعلم المستبدّ أنّ شعبه يكرهه لأنّه يهين شعبه...
النّظام الدّيمقراطي يزيح الحاكم بسبب أخطائه كما أزيح نيكسون بسبب أخطائه وذلك في عام 1974م، وفي عام 1993م أُحيل قادة الدولة في إيطالية إلى المحاكمة بتهمة الفساد... إنّ الأنظمة الدّيمقراطيّة توفر الشّروط المناسبة والملائمة لعلمائها المهاجرين وعباقرتها التّائهين للعودة إلى وطنهم... وتدعو أصحاب رؤوس الأموال إلى وطنها ومساهماتها في بناء اقتصاد بلادها... والعالم المصري أحمد زويل هو الذي حقّق إبداعه في أمريكا لأنّ ظروف بلاده مضطربة... إنّ الأنظمة التي تعتمد على مُبدعيها ومخترعيها وعلمائها هي تتقدّم في مراكب التقدّم والتفوق التكنولوجي العالمي... وتوفّر لشعبها الأمن والأمان والاستقرار وسيادة القانون وحريّة الكلمة والحوار الهادئ الرزين الرّصين في أجواء من المحبّة والاحترام... تدفع بشعوبها إلى الكرامة والمحبّة والمهابة وسيادة الوطن... والإمبراطوريات تنهار حينما تخرج عن مبدئها الإنساني كما تنبّأ العالم الأمريكي بول كيندي عام 1989م في كتاب " صعود وسقوط القوى العُظمى " وقد تحقّقت نبوءته في الاتحاد السوفييتي... وستتحقّق نبوءته في أمريكا... " {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}/ص88/.
ما هو البحث العلمي وما الفائدة منه ؟؟؟
البحث العلمي هو المحاولة الدقيقة الناقدة للتوصل إلى حلول المشكلات التي تؤرّق البشرية وتحيّرها... والبحث العلمي يقوم على أساس من حب الإطلاع والشوق إلى المعرفة وكشف الحقيقة... وحينما يصادف الإنسان مشكلة معقدة لا يجد لها حلاً وحينئذٍ يبدأ بطرح الأسئلة : لماذا ؟ متى ؟ كيف ؟ أين ؟... والبحث العلمي يشاطر هذه الأسئلة لغايةٍ نظرية وعملية معاً وأن الطريقة العلمية واحدة وإن اختلفت أشكالها من علم إلى علم بسبب طبيعة المادة العلمية المدروسة... وكلّ علمٍ على حدة... وكما يقوم البحث العلمي على أساس من ذكاء وتدريب ودراية معرفية خاصّة... ولا بدَّ من تدريب هؤلاء الباحثين في مختبرات جامعية في أرفع مستويات ( المختبرات العلمية الدقيقة )... فهؤلاء الباحثون العلمانيون هم ثروة ثمينة لأمتهم ووطنهم... وهذه المراكز والبحوث العلمية إذا لم تتحرر من الروتين والبيروقراطية... أصبحت أدوات للتعويق والتقهقر إلى الخلف بدلاً من أن تكون وسائل للتقدم والازدهار... وتكون وسائل للتنسيق والتنظيم والتوجيه.
يبدأ البحث العلمي الشعور بالمشكلة، ويكون هذا الشعور بناء على ملاحظة والملاحظة أمرٌ ضروريٌ للبحث العلمي ولا تنفصل عنه دقيقة واحدة، وتصاحبها في كل مراحله... والملاحظة قد تكون عشوائية وقد تكون منهجية منظمة هادفة... وقد تكون عملية إرادية ومسلحة ومنهجية مثمرة... ويتفق علماء النفس أن الإلهام لا يهبط إلا من استعدّ له، وتهيّأ له بالعلم والمعرفة... ودقة الملاحظة، وحسن الربط بين الوسائل والغايات، وبين الأسباب والنتائج... وتأتي بعد الملاحظة صياغة الفرضية...
يفترض الباحث، ويفترض فرضاً أو أكثر من أسبابها وعللها ومراميها وحلولها... وإنه من واجب الباحث الذكي الدقيق الموضوعي أن ينظر في فرضياته دون تحيز أو تعصب... وبعده يأتي دور التجريب وهو لبُّ البحث العلمي وجوهره.. وهو الأساس المتين الذي يقوم عليه البحث العلمي... وعلى الباحث أن يتأكد من صحة التجربة... ( فالكلس يفور إذا صببنا عليه حامض الكبريت ) وذلك بأن يجرب لنفسه صبّ الحامض على الكلس، ومشاهدة فورانه بنفسه... ويرى العلماء أن التجريب ليس إلا ملاحظة في المخبر... وهي ملاحظة منهجية في المخبر تقوم على أساس من حصر العوامل المختلفة للمشكلة المدروسة... ثم تثبيت كل العوامل باستثناء عامل واحد يحرك ونلاحظ النتائج... ثم تأتي بعده مرحلة التعميم... والحق أن التجريب حين يثبت صحة الفرضية يكون قد توصل إلى قاعدة أو قانون وذلك بحسب درجة اليقين التي تتمتع بها النتيجة التي تمَّ التوصل إليها... وكل باحث وكل إنسان حريص على التواصل إلى قواعد عامة، وقوانين ثابتة ونظريات تفسيرية... ومن نافلة القول: إنَّ هذه القواعد والقوانين تسهّل الحياة، وتمكّن الإنسان من التعامل مع الطبيعة والناس تعاملاً ميسوراً يقوم على أساس من علمٍ ويقين... والتوصل إلى القوانين والعلوم الإنسانية أصعب من العلوم الطبيعية والبيولوجية... في حين أن الحادثة الإنسانية شديدة التعقيد ومتداخلة الأسباب... وبعد التعميم يأتي دور التطبيق... وذلك حينما يدرك الإنسان أن المعادن تتمدّد بالحرارة... فقد أفاد من هذه الحقيقة إفادات نظرية وعملية شتّى، وفي مختلف ميادين العلم والتطبيق... والتطبيق العملي غاية كبرى من غايات الباحث العلمي المقتدر وهدف من أهداف العلم والحياة... وأن العلوم النظرية على خطرها وجلال قدرها إنما تكون في النهاية لخدمة العمل، والتطبيق العملي...هذه النظرة الوجيزة التي أسردتُها على البحث العلمي حرصاً منّي على تبصير القارئ بالمقصود من البحث العلمي.......
مَنّ الخاسر في هجرة الأدمغة ؟؟؟!!!
هناك سياسةٌ مدروسة خلف الكواليس المعتمة لإبقائنا ضعفاء أمام التحديات والأعداء... هجرة العقول بين دول العالم المختلفة ليست وليدة هذا العصر ولكن منذ عهود طويلة... وهجرة الكفاءات ذاتها ليست لحناً من ألحان هذا الجيل بل هو لحنٌ عزفته المملكة المتحدة مثلاً عندما شعرت أن العلماء لديها بدأوا يهاجرون من وطنهم إلى الولايات المتحدة بعد أن شعروا أنَّ الأخيرة قد فتحت لهم ذراعيها... وفرشت لها ولغيرها من السوفييت الطريق بالورود والرياحين... واستقطبت علماء ألمانيا أمثال( فون براون ) أبو الصواريخ في أمريكا كان في ألمانيا الهتلرية... وشرقنا المتوسط كان مصدراً خصباً لتزويد الولايات المتحدة وغيرها بالعلماء، وبشتى الاختصاصات العلمية... ولعل الأسباب التي تدفع بالعلماء إلى الهجرة أسباب مادية ومعنوية وفكرية... فالولايات المتحدة تعطي بسخاء من الرواتب ما هو كفيل ببقاء هذه العقول لديها... ومن أسباب هجرة العلماء ما ذكره الدكتور محمد عيد مصطفى أستاذ ورئيس قسم المحاسبة بجامعة كاليفورنيا إن سبب هجرته إلى الولايات المتحدة هو تحقيق الذات، وردّ الاعتبار، والبحث عن الكينونة والإحساس باحترامها وتقديرها... وكان من أسباب الهجرة ضياع وطن... ولعلَّ للهجرة حالاتٌ... فهناك فئةٌ تعلّمت في وطنها لكنها اصطدمت بعد تخرّجها بعقبات قد تكون مالية اقتصادية أو فكرية أو اجتماعية أدَّت بها إلى هجرتها خارج وطنها الأم... وفئةٌ أخرى تعلّمتْ في الخارج ثم عادت لخدمة وطنها لكنها شعرت أنها لم تعط الاهتمام المناسب لتخصّصاتها فعادت إلى حيث أتت لتقدم خبرتها إلى وطن غير وطنها وفئةٌ ثالثةٌ تلقَّتْ علومها في جامعات الخارج، وطاب لها العيش هناك، والإغراءاتُ كثيرةٌ فأحبَّت العيش هناك وفضَّلتْهُ على العودة إلى وطنها...وكيفما تكن حالة هذه الهجرة ودوافعها... فإننا نصل إلى نقطةٍ واحدةٍ تتلخّصُ في أن الوطن وطن المهاجر هو الخاسر الوحيد في هذه الهجرة المرغمة هرباً من شبح الاستبداد وغوائل الجوع وديدان الفساد... وعندما نصنع من وطننا جنَّةً من العدل والمحبة والإخاء... تتلهف الأدمغة للعودة إلى وطنها المزدهر... علينا أن نسعى جاهدين لإعادة هؤلاء المتنوّرين إلى أوطانهم... وتوفير سبل العيش الكريم لهم...
الحكايات والوقائع المتفرقة التي كانت تثير الدهشة والاستغراب ظَّلت مستمرةً منذ قرون... وكانت جزءاً من حكايات الميثولوجيا والأساطير ومعجزات الأنبياء والأولياء والقدّيسين... فإنسان القرن الواحد والعشرين حينما يقرأ حادثة ( زرقاء اليمامة ) التي كانت تستطيع الرؤية بوضوح على مسافة مسيرة ثلاثة أيام... وقيل إنها رأت علائم غزو صوب قبيلتها... فلما حذَّرتهم سخروا منها ثم وقعت الواقعة وأتاهم الغزو ولات ساعة مندم يشعر ابن هذا القرن بمبالغتها أو أنها خرافية... أما في نظر علم النفس تعتبر واقعة محتملة... هذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى لم تمر على الباحثين مروراً عابراً بل دفعتهم إلى تجميعها وتدقيقها بالطرق العلمية وبمناهج البحث هذه الدراسات تتعلق بالعقل والنفس والروح... فعلماء النفس الذين تخصّصوا بالخوارق نظروا إلى هذه الحوادث باهتمام وحرصٍ شديدين... مستندين على حقائق دامغة فانتهجوا سلوك الدرب الوعر...
فشرع البروفسور ( وليم باريت ) أستاذ الفيزياء في كلية العلوم الملكية في دبلن عام 1876م يعلن عن تجاربه حول قضايا تواصل، وقراءة الأفكار ثم تأسَّستْ في لندن عام 1882م جمعية أبحاث خوارق الإحساس، وامتدت الأبحاث والشُّعَبُ والأقسام إلى جامعات كبرى كجامعة كمبردج واكسفورد، ونيويورك... ولندن... وانتقال موضوع الخوارق إلى الجامعات العلمية قفزة كبيرة في إزالة الالتباس والغموض والريب...
فعلم النفس المتصل بالخوارق توصّل إلى الكشف عن الخوارق المتصلة بالأحاسيس بالتخاطر وتواصل الأفكار وذلك بإمكان الشخص أن يتعرّف على أفكار الآخرين من مسافات بعيدة بدون أن يمتلك واسطة الاتصال به... تنكشف لصاحب الخوارق ظاهرة التجلي أو الاستبصار وهي القدرة على رؤية الأشياء والناس والحوادث خارج نطاق البصر وهنا تغدو قصة زرقاء اليمامة شيئاً محتملاً جداً لأنها كانت ترى الأشياء بقوة الاستبصار وليس من خلال العين، وأعصاب الشبكية بالأضواء والظلال التي ينقلها الجهاز العصبي... والظاهرة الثالثة هي التنبؤ أو الإدراك المسبق وهي قابلية الفرد على استباق الحوادث وتوقع ما سيحدث قبل وقوعه بساعات أو أيام أو أشهر... وعلم النفس الحديث المختص بعلم الخوارق يؤيد ذلك فالناس ليسوا سواء في إدراك الشيء الواحد... إنَّ حدود الإحساس لدى البشر لها معدل طبيعي... ومن المحتمل جداً أن يمتلك بعض الأفراد قابليات حسية تتجاوز الحدود الطبيعية وهي التي تبدو لنا من جملة خوارق الإحساس والملاحظ أن الأحاسيس الخارقة تولد أو توهب لأناس منذ الولادة يمتلكها عقلٌ موهوب، وجهازه العصبي دون تمرين أو تعلم... فخوارق الإحساس إذاً غير شاذة، وغير فرضية بل هي تجانب الطبيعة المألوفة كما أنها لا تأتي باليوجا والتدريب والتمرين وليست لها علاقة بالجهد والإرادة وهي تتصف باللاشعورية أو غير المتعمدة... لا يزال من العسير وضع صيغة علمية أو تفسير لهذه الظواهر يتلاءم مع منطق العلم المادي الحديث وهنالك مجموعة من النظريات والفرضيات التي تقول إحداها بوجود موجات مخية تختلف عن الموجات المعروفة وأنها أشبه بموجات الراديو وتقوم بعملية نقل الأفكار... تلك نظرية أستاذ ( كروكس ) ونظرية أخرى تقول : باحتمال انتقال جزيئي الذرة الإلكتروني من دماغ لآخر... تلك نظرية الأستاذ السويسري ( فوريل ) ونظرية أخرى تقول : بوجود قوة روحية متنقلة...
نظرية الألماني ( اوستوالد )... والمتفق عليه أنه ليس بمقدور علم الفيزياء وحده في مجال التفسير المادي أن يقدم تفسيراً كاملاً لظواهر خوارق الإحساس كما لا يمكن القول إنَّ التجارب العَلمية لعلم النفس الروحيات ستسد الطريق أمام علم الفيزياء... بل إن الأفضل للاثنين إيجاد تفسير يجمع بينهما يوماً ولا يناقضهما... ويحق لنا أن نتساءل ماذا يفيدنا هذا النوع من البحث... وإلى أين سيقودنا؟؟؟ إنَّ ما أثبته علم النفس الخوارق من الحقائق التالية يمكن أن يفتح أمام الإنسان أبواباً أخرى من المعرفة... فقد أثبت أنَّ بإمكان العقل أن يتصل بعقل آخر دون واسطة مادية معروفة... وأن بإمكان العقل بموجودات أو مخلوقات أخرى يشعر بها دون واسطة وأن بإمكان العقل تخطي المسافات الشاسعة وإن بإمكانه سباق الزمن، وتوقع الحوادث وإن بإمكانه التأثير في حركة الجماد والحيوان دون أثر لواسطة مادية، وإن هناك شيئاً لا يدخل في صفات المادة قد يكون طاقة أو روحاً، ويدخل في تلك العمليات العقلية...
وإن العقل أو الروح و المادّة يتفاعلان بعملية واحدة ذات اتجاهين أو يسيران في طريق واحد ذي ممرين... والحادثة التالية تثبت ما سبق...
مات رجل ثري في إحدى مدن أمريكا وترك وصية تجعل من أحد أبنائه الأربعة الوريث الوحيد لثروته، وبعد تنفيذ الوصية بأربع سنوات رأى أحد الأبناء الأربعة حلماً يقول له والده فيه أن وصيةً أخرى موجودة في دارهم القديمة فإذا ذهب هناك وجد في جيب جاكتة القديم لوالده ورقة مكتوبة فيها وصيته... وقد عثر الابن على وصية والده فعلاً وقد جاء فيها : إنَّ الثروة توزّع على الأبناء الأربعة بالتساوي وحكمت محكمة كارولينا الشمالية في مقاطعة ( دافي ) بتنفيذ الوصية بعد أن تأكد لديها بأنها صحيحة ومكتوبة بخط الميت مما تقدم نرى أن علم النفس الخوارق يرسم خطوطاً جديدة على اللوحة الهائلة للكون وموقع الإنسان منه... كما يضع في ذهن الإنسان مسألةً تقول : إن الحقيقة لا تحددها القوانين الفيزيائية السائدة فحسب بل لابدّ من وجود قوى أخرى لا تخضع لقوانين المادّة بل لقوانينها هي... إذن فمن الجهالة الجزم بأنَّ كل ظاهرة خارقة أو غير مألوفة تعتبر خرافة أو تدجيل أو بالأحرى إن بعض المعجزات الدينية شيء يقبله العقل والمنطق والعلم الحديث النفسي الخارق...
إن الإنسان لا يزال عالماً غريباً معقداً فهو والكون المحيط به مجموعة أسرار عالمية تستوجب التواضع البشري والحماس العلمي لكشف المجهول والإيمان بعظمة الخالق فعلم النفس الخوارق يحاول تفسير كيفية التوافق بين العقل والبناء العضوي للدماغ بأسلوب يختلف عن الإطار العلمي السائد وبذلك يمكنه أن يسلط أضواء جديدة على علاقة الفكر بالمادّة.... الكون في ذاتنا وفي الفضاء حوالينا... وما علينا إلا أن نتدبر وأن نستعد لمزيد من البحث والتواضع والإيمان... ولا شك أن علم النفس الخوارق هو الذي يحمل راية الروحيات وهو الذي سيكون أقرب العلوم إلى الفكر الروحي بل إنه فعلاً يتلاءم مع الروحانيات ويسير معها جنباً إلى جنب والمستقبل وحدة كفيلٌ بجلاء الحقائق...
وما علينا إلا أن نردّد مع ( سوفوكليس ) قوله : كثيرةٌ هي عجائب الدنيا... ولكن أعجبها هو الإنسان... وأن عظمة الخالق تتجلّى في كائناته ومخلوقاته...
إنَّ هذه الجلبة والضوضاء في كلَّ مكان جعلت أعصابنا متوترة... وتلك ظواهر لم يعهدها الأجيال من قبلنا التي كانت تنعم باستقرار الحال، وهدوء البال... إنَّ التقنية الحديثة من السيارات والطائرات والبواخر... انتقلبت من نعمه إلى نقمة وأن الأيام المقبلة تحمل في طياتها بشرى المستقبل الآتي من مفاجآت سارّة...
يخاف العالم اليوم من نفاذ البترول في الصحارى... ولولا الطاقة الهائلة المخزونة في جوف الصحارى لتوقفت كل وسائل النقل، وتوقفت الحياة... والطاقة نحصل عليها من مصادر شتّى منها أخشاب الوقود، والفحم الحجري والبترول، والغاز الطبيعي، والمعادن المشعة كالراديوم واليورانيوم... وهذه كلها مصادر مهدّدة بالنفاذ... وقد اهتدى الإنسان الباحث الألمعي إلى أن الشمس مصدر الطاقة لا تنفد مادامت الدنيا تسير على حالها... والشمس كما نعلم تشرق على كل جنبات الأرض مع اختلاف في فترات الشروق والغروب... ففي المناطق الباردة والقطبية يضعف الإشعاع الشمسي، ولكن في المناطق الحارّة... المدارية يطول الإشعاع الشمسي، ويشتدُّ حرارةً... وفي الصحارى حيث تكون السماء صافيةً... والأرض قفراء وجرداء... تبلغ الحرارة أقصاها وذروتها... والعلماء المتنورون بعلم الفضاء يعملون في الاستفادة من الطاقة الشمسية على نطاقٍ واسع... والاستفادة من الطاقة الشمسية قديمة قدم الإنسان في توليد النار بعد أن استطاع تجميع الأشعة الشمسية بواسطة عدسات محدبة... وأن هناك بلداناً في العالم تستفيد من هذه الطاقة عن طريق عمل سخانات ضخمة ذات مرايا كبيرة وضخمة تعكس ضوء الشمس وتجمعه فتحصل على حرارة تسخن المياه وهذا معمولٌ به في استراليا واليابان و فلوريدا وغيرها... ويؤدي هذا إلى رفع التكلفة الاقتصادية... وتمَّ تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية وذلك بواسطة امتصاصها بطرق فنية ( سلكون ) بلوري مقطّع ولامع... وعبارة عن نوع خاص من بطاريات الوقود... ولكن هذه الطريقة غير شاملة تعتمد في استعمالها على تكنولوجيا الفضاء... إنَّ علماء اليوم يفكرون بإقامة محطات ضخمة للطاقة ذات مرايا كبيرة تستقبل الأشعة وتجمعها وتحولها إلى طاقة يمكن تصديرها إلى المناطق الباردة والمستهلكة للطاقة... ويكون هذا التصدير عن طريق أنابيب وأسلاك ضخمة أشبه بأسلاك الحمل الكهربائي... أو عن طريق الموجات على غرار موجات البث الإذاعي والتلفزيوني واللاسلكي وأن الأقمار الصناعية تستقبل الطاقة من المحطات الصحراوية وتقوم بإرسالها إلى المناطق المحتاجة إليها ستصبح الصحارى مخزوناً كبيراً للطاقة الشمسية يوم أن كانت من ذي قبل مخزوناً كبيراً للنفط وأنواعه... غير أن الطاقة الشمسية تفوق عليها بأنها لا تزول ولا تحول ولا تنتهي إلا بانتهاء الشمس... ستقوم مستوطنات في الصحارى، ويشرف عليها مهنيون ومحترفون، وأصحاب المهن وستنشأ فيها مشافي ومدارس وبنوك وغير ذلك من مرافق الحياة... ويمكن للإنسان أن يستغل بعض الأراضي للزراعة... ويمكن في هذه الحالة تحليه مياه البحر لأغراض زراعية... وإنه إمكان تطبيق وتنفيذ المطر الصناعي في المناطق الجافة لم تعد مستحيلة أو مستعصية لدى العلماء الباحثين... وبهذا ستشهد الصحراء نشاطاً بشرياً لم تشهده من ذي قبل... وسوف يكون شكل مستوطنات الصحراء بسيطاً جداً... فالمساكن ستبنى من المواد العازلة للحرارة... وسيشيع نمط ونموذج المباني الجاهزة وبأقل قدر من التكاليف... وبسرعة فائقة... ويمكن أن تحاط مدن الصحراء بغطاء كامل وبسور منيع يقيها من العواصف الترابية، ويسهّل تكييفها مركزياً... وتصبح المدينة بأجمعها مكيّفة للهواء الطلق... وسياراتها لا تستعمل النفط بل تعمل على الكهرباء بعيداً عن التلوث... وستتحول الصحارى إلى مدن نموذجية رائعة... يشدُّ إليها الرحال للإقامة فيها....
الولادة الأولى يأتي الإنسان من رحم أمه مشحوناً بالدّماء والقاذورات... وهي ولادة آتية من أوجاع المخاض مُبكيةً ومُضحكةً في وقتٍ واحدٍ... ويكون قد تحرّر من أسر قفصٍ ضيّقٍ إلى قفصٍ أرحب في هذه الدّنيا المليئة بقتام الآثام ودخان الآلام... والولادة الأولى هي أصعب الولادات لأنّه أتى من وطن يألفه إلى وطنٍ لم يألفه وسيكدّ ويتعب بهم حتى يستكين ويألف...!!! " والله أنبتكم من الأرض نباتاً " وعندما ينمو ويكبر ويصبح شاباً قويّاً وطموحاً يختار شريكة حياته ويتزوّج... ذلك ولادة ثانية، لأنّه انتقل من شكل الحياة إلى شكلٍ آخر من الحياة... إلى حمل الأمانة... ولمّا يُرزق بمولود يتخيّل بأنّ حياته لا تتوقّف بموته، بل يستمر ولدهُ من بعده فيدرك أنه ليس عقيماً فتخصب الحياة وتخضرّ وتورق لحياة بعده...! ويوم يتخرّج من معاهد العلم ومن الجامعات يشعر بالولادة الثّالثة بأنه أصبح رجلاً منتجاً وشجرةً مثمرةً يقتطف من ثمارها العابرون والمقيمون والرّاحلون والمسافرون... وحينئذٍ يشعر لولادته المرتقبة بأنّه سبيلٌ للظامئين والجائعين والمحبّين... ويدرك باعتزاز أنّ له كياناً ذاتيّاً يخدم نفسه ويخدم الآخرين, فيشعر بالغبطة والابتهاج في جداول قلبه... ويدفعه الإصرار والسّعي إلى مزيد من الإنتاج والإنجاز، ويتفاءل بحياة واعدة وبولادة أخرى...وعندما يتقاعد المرء يولد ولادة أخرى... يتخلّص من أعباء الرّوتين والالتزام التقليدي إلى نمط مريح وقد أثقلته التجارب الحياتية وارتوى من شرابها الحلو العِذَاب، والمرّ المرير، والرّمد المرمود... فأمسى قويّاً متسلّحاً بحكمة الأيّام والسّنين ويدخل إلى مرحلة الشيخوخة بكلّ معدّاته وعتاده... وطفق يتأمّل بأسرار الحياة وبأطوارها وفصولها الدراماتيكية منذ أن كان وليداً وحتى أمسى شيخاً هرماً قد ضعف جسمه وهدر طاقاته البيولوجيّة وحلّتْ محلّها طاقاته الباطنية والرّوحية ويحلّق في فضاءات الخيال الحقيقي ما بعد الموت... بأنّ الموت قادمٌ بلا مواربةولا شكّ...!! فماذا قدَّم ليولد ولادة أخرى حتى يعيش حيّاً في الضّمائر الخيّرة اليقظة لبني قومه ولبني الإنسان... وما أصدق الشّاعر حين قال:
سـيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظّلماء يفتقـد البـدرُ
وكما تنبّأ سقراط ذات يوم بحياة أخرى وبولادة جديدة بعد الموت فقال: إمّا الموت لقاءٌ مع الله وهذا أعلى اللقاءات...
وإمّا الموت نومٌ عميقٌ لا تخالطه الأوهام والهواجس والقلاقل...وإما حياةٌ أرقى من هذه الحياة التي نحياها فيها:( الحقّ والعدل والخير والجمال ) فلا تخافوا من الموت... إنه ولادة إنسانية جديدة مبدعة وبأسلوب مغاير أجمل...
يولد الشهيد من رحم القيم والمثل العليا من أقحوان نكران الذات... ومن عبق زيزفون الترائب... ومن أرائك العشق الروحي والمحبّة والعطاء... إنّ الشّهيد يؤمن بطاقاته الباطنية بمعارج الخلود في الحياتين فيدخل في أتون المعارك ليبني على جسده الفاني قصور الحياة وأبراجها المستقبلية في الحياة الحرّة الطليقة الكريمة، فهو حيٌّ في أدمغة المفكّرين والكتاب والأدباء... فهو مقيمٌ في أفئدة الشعراء المنشدين:
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيهـا غبـار التعـبِ
وكما يقول الجواهري الكبير:
تزهو الحياة بألمعـي ثائـرٍ يهـب الحيـاة كأنّـه لا يفهمُ
شعبٌ دعائمه الجماجم والدّم تتحطّـم الدّنيـا ولا يتحطّـمُ
والشهيد ينال مقاعد الصّدق في جنات الفردوس، فهي ولادة ميمونة مباركة... فهو حيٌّ يرزق... ويتمتّع بحياة تفوق حياة الدّنيا بمضاعفات لا تعدّ ولا تحصى... في جنات الفردوس هم فيها خالدون... والكتّاب والمفكّرون والأدباء والشّعراء والعظماء الحقيقيون يولدون ولادة جديدة بعد ما يتخطّون حدود الموت بلا خوفٍ ولا وجلٍ إلى حياةٍ ساميةٍ ينالون جوائزهم العالية من شعوبهم أولاً والحياة التي استقبلتهم واحتضنتهم في ملكوت عالم الغيب والشهادة...
أما الأشرار من بني البشر فهم منذ الولادة الأولى فهم موتى الأرواح في جلود الأحياء ولو عاشوا عمراً فيزيائياً وجسداً بيولوجياً فهم ولدوا ولادة عقيمة... ومسخوا مسخاً بأشكال كائنات مخيفة وضارّة... تفترس الإنسانيّة بأنفاسها المسمومة ولهاثها المقيت الكريه النتن... فالشّرير هو الأب الرّوحي للإرهابي المحترف فهو الذي يولد مشوّهاً كالحاً ضالاً... هو ذاك الذي يُعكّر راحة حياة الآخرين ويفترس أخاه الإنسان في ظلمة الليل وفي البراري الموحشة... وفي رابعة النهار... وفي المحافل الآهلة وفي القصور والسرادقات وأمام أعين النّاس الأبرياء...
يولد المولود في رحم أمه بريئاً نقيّاً... ولكن يلوّثه أهل النفاثات في العقد، ونافخو الوساوس الخنّس في التطرّف المنحرف والبيئة المتخلفة المتفسّخة...إنّ الذي يحوّل حياة الإنسان إلى جحيم هو الإنسان الشرير الأبتر الذي لا يولد إلاّ مرّة واحدة, ويموت موتاً أبديّاً, وتلعنه الأجيال الحاضرة واللاحقة وبئس الورد المورود. الدولة تولد من صلب الشّعب إذا كان انتخابها نزيهاً... والدولة هي ملك للجميع... وهي أنا وأنت ونحن...
وكما قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر: أنا الدّولة.. والدّولة أنا... فاستقم تستقم الدّولة... فالدّولة هي النّموذج الأرقى لثقافة الشّعب... والدّولة هي ابنة الشّعب، فإذا كان الشّعب جديراً بالأبوّة والصّلاح كانت الدّولة صالحةً... وإن كان ظالماً جاهلاً كانت الدّولة جائرةً... فالدّولة هي خلاصة ثقافة المجتمع وهي المقياس الذي ينعكس على وعي ومعرفة وديمقراطيّة المجتمع الذي أنجبها... !!!
*******
النهاية